- منَّة الله علي
- تحرير: أروى الشاهين
تعريفٌ بفؤاد سزكين، ومشروعِه
وُلِد فؤاد سزكين في الرَّابعِ والعشرين من تشرين الأوَّل عام 1925م، ونشأ وترعرع في بلده الأمِّ (تركيا)، كان ميّالًا في طلبه العلم للهندسة؛ لكنَّ مجرى طلبه العلم قد تحوّلَ إثْرَ لقائه بالمستشرق هلموت ريتر، الذي بُهِر سزكينُ به، وتتلمذَ على يديه، ليتَّجه بعد ذلك لدراسة التَّاريخ الإسلاميِّ.
ألَّف سزكينُ كتبًا عديدة؛ منها: تحقيقه كتاب (مجاز القرآن)، ودراسات حول مصادر البخاري -وهي أطروحته في الدكتوراه- وكتاب تاريخ التُّراث العربي، وقد جاء هذا الأخير في سبعة عشر مجلَّدًا، استقى سزكينُ فكرةَ هذا الكتاب من كتاب (تاريخ الأدب العربي) للمستشرق بروكلمان، وغايته من هذا المؤلَّف “التعريف بكتب التُّراث العربي، ورسم إطار للحركة الفكرية وتطورها عبر القرون الأولى من تاريخ الإسلام” [1]، فتلقَّت الأمَّةُ كتابَه بالتَّرحيب، وحاز به على جائزة الملك فيصل العالمية في الدَّراسات الإسلاميَّة، وغيرها من الجوائز، ولا يعني هذا الترحيبُ والقَبولُ خلوَّ مؤلَّفِ سزكينَ من النَّواقص؛ إذ صدر عددٌ من الكتاباتِ تستدرك على بعض ما جاء به في كتابه، ولوحظَ في كتابه تأثُّرُه ببعض الأفكار الاستشراقيَّة؛ إذ شبَّهُه بعضُهم بمن “ابتلع الاستشراقَ، ولمَّا أراد أن يتقيَّأه ما استطاع”، ومعظم هذه الأفكار متعلِّقةٌ بالدَّراسات القرآنيَّة والحديثيَّة [2].
ومن مآثر سزكينَ إنشاؤه معهدَ تاريخ العلوم العربيَّة الإسلاميَّة في (جامعة جوته) بألمانيا، الذي أخرج مئاتِ المجلَّدات من الكتب المتعلَّقة بالطبِّ، والهندسة، والفلك، والحساب، والجغرافيا، وغيرها، وقد جمع المعهدُ عددًا من الأدوات الفلكيَّة، والهندسيَّة، والخرائط التي أبدعها العربُ والمسلمون في العصر الذَّهبي للإسلام، وأعاد المعهدُ صناعةَ الأدوات والأجهزة التي تعود لفترة العصر الذهبي الإسلامي، إضافةً إلى تدشينه مُتحفًا مثيلًا في إسطنبول عام م2008، ويقول سزكين إنَّ هدفَه المنشودَ من تأسيسِ هذه المتاحف أنَّه يسعى بذلك إلى: (إكمال الحلقة النَّاقصة في التَّدوين التَّاريخي لتاريخ العلوم، والمقصود هنا: هو ذلك الفراغ الذي ينجم عن الاعتقاد الخاطئ بأنَّ النَّهضة الأوروبيَّة قد نشأت بالارتكاز مباشرةً إلى التُّراث الإغريقيِّ، إنَّنا نسعى إلى تبيين أنَّ الإنجازاتِ الخاصَّةَ بالعلماء المبدعين في البيئة الثقافيَّة الإسلاميَّة، وهذه الإنجازاتُ أوجدتِ الظُّروف اللَّازمة للإبداع الخاصِّ في أوروبا منذ الشَّطر الثَّاني من القرن العاشر)[3].
نال سزكينُ جوائزَ متعدَّدةً، من جهات مختلفة، مثل: مَجْمع اللُّغة العربية في دمشق، ومَجْمع اللُّغة العربية في القاهرة، ومَجْمع اللُّغة العربية في بغداد، وكُرِّم بالدكتوراه الفخريّة من جامعاتٍ تركيَّة مختلفة، ونال درعَ تكريمٍ من جامعة فرانكفورت، وميداليَّةَ الخدمة الاتِّحادية للدرجة الأولى بألمانيا.
توفي سزكينُ في حزيران عام 2018 م عن عمر يناهز 94 عامًا، سائلين المولى أن يتغمَّده برحمته.
تَدْوينُ الفقهِ الإسلاميِّ من منظور فؤاد سزكين
اتَّجهتِ الدَّراساتُ التاريخيَّةُ المهتمَّةُ بتاريخ علوم الشَّريعة ونشأتها، ومن ضمنها الدَّراسات الاستشراقية، وغالبُ كتب المعاصرين المَعْنيَّة بالعلوم الشرعيَّة كذلك، إلى عَدَّ التَّدوين أمرًا متأخِّرًا في الحقول الشرعيَّة جميعِها، وتكاد الدَّراساتُ تجمع على أنَّ بدايةَ التَّدوين إنّما كانت في أواخر القرن الثَّاني، وبداية القرن الثَّالث الهجريين.
أما د. فؤاد سزكين فينحو في تنظيره لتدوين التُّراث منحًى يخالف السائد القائل إنَّ التَّدوين قد بدأ متأخِّرًا قرابة القرن الثَّالث الهجري، أو أواخر القرن الثَّاني، ويرى سزكينُ بأنَّ التَّدوينَ بدأ منذ زمن الصحابة -أي في القرن الهجري الأوّل-، وأنَّ معظمَ الكتب الموسوعيَّة في التُّراث الإسلاميّ إنَّما تغذَّت على تلك الكتب، بل إنَّها نقلتها.
ويسحب سزكينُ هذه النَّتيجة على التُّراث الإسلاميِّ الدينيِّ في علومِه جميعِها: كالتَّفسير، والحديث، والفقه، غيرها، وهذه النَّتيجةُ تلقي بظلالِها على مسألة (نشأة العلوم الدِّينية عند المسلمين) بل العلوم الطَّبيعية أيضًا -بحسب وجهة نظره-، وسيُعنى هذا المقالُ بتدوين الفقه الإسلامي خاصةً، والكشفِ عن أفكار سزكين المتعلِّقة به.
يبدأ سزكين من بداية كتابه (تاريخ التُّراث الإسلامي) -من الصَّفحة الرَّابعة تقريبًا- بتعداد شواهد تدوين الفقه الإسلاميِّ في عصر الصَّحابة، بعد أن تعرَّض لإمكان دحض فرضيّته؛ بأن يُقال: إنّها مجردَ كتاباتٍ لا ترقى لأن تُعدَّ علمًا بما يُعرف به العلم من ترتيباتٍ، ومصطلحاتٍ، وفرضيّاتٍ، ونظريّات، بل إنَّ الكتب التي يعتبرها سزكين بداية التَّدوين، قد لا ترقى لاعتبارها كتبًا، وأقصى ما يُمكن أن توصف به هي كونها “كتابات غير منتظمة دوّنت فيها أشياء” -كما ينقل هو عن جولدتسيهر؛ وذلك ليبيّنَ سزكين بأنَّ هذا التفسيرَ أصبح مُستهلكًا، وأنَّ هذه الفرضيَّة وأمثالَها، ممّا سبقها – وهو كثير- لم يتم إبطالها إبطالًا قاطعًا؛ فلذلك بدأ بعرض هذه الكتابات، والشَّواهد لغاية فحصها بدقَّة.
شواهد التَّدوين في عصر الصحابة
- خَبَرُ هِشَام بنِ عُروةَ بأنَّ كثيرًا من كتب الفقه كانت في حوزة أبيه عروة بن الزُّبير يوم الحَرَّة سنةَ 63هـ، وأنَّها احترقت كلُّها، وأنَّه حزن لذلك حزنَا شديدًا.
- وجودُ مدوَّنتين، الأولى بعنوان (كتابُ الصَّدَقات للنَّبيّ)، وأخرى بالعنوان نفسه لعمرَ بنِ الخطَّاب، ولما تولَّى عمرُ بنُ عبدالعزيز الخلافة أمر بنسخهما، وقد احتفظ بالنُّسخة الأصلية أبو بكر بنُ محمَّد بنِ عمرو بن حزم ت. 120ه، وقد روى جدُّه عمروُ بنُ حزمٍ رسالةَ النبيّ إليه وفيها كلامٌ في الفرائض والدِّيَات والزَّكاة.
- تلقّي أنَسِ بنِ مالك كتابًا في فرائض الصَّدقة، كما أمر بها النبيُّ من أبي بكر الصدِّيق.
- جمع زيدُ بنُ ثابتٍ كتابًا في الفرائض-المواريث- وعرض فيه آراءه في المواريث، وهو الذي يعدُّ المرجعَ الأساسَ للمالكيَّة والشافعيَّة في باب المواريث، وهو الكتاب الذي حفظ علمَ المواريث من الضَّياع، وقد شرح هذا الكتاب عبدُالله بنُ ذَكْوَان، وله كتابٌ آخرُ بعنوان (الدِّيات).
- كتابان رُوِيا عن عبدالله بن عمرو بن العاص، أحدهما بعنوان “قَضَى رسولُ الله صلّى الله عليه وسلم في كذا، وقال رسولُ الله صلّى الله عليه وسلم بكذا”، والآخرُ بعنوان “ما يكونُ من الأحداث إلى يوم القيامة”.
يَخْلُص سزكين إثْر عرضِه هذه الشَّواهد، وبخاصَّة الأخيرة منها- إلى المشابهة بين الرَّسائل والصُّحف التي تداولها الصَّحابةُ وتلك الرَّسائل التي تداولتْها أجيالُ الفقهاء فيما بعد، كالتي كانت بين الإمامِ مالكٍ واللَّيثِ بنِ سعد، ليقولَ بإِثْر ذلك وبعبارةٍ عظيمة: (نستطيع أنْ نعتبرَ أوَّلَ رسائلَ فقهيّةٍ حقَّة تلك التي ظهرت أثناء حركة الجمع والتَّأليف، وأقدمُ مؤلِّفي هذه الرَّسائل هم شبابُ الصَّحابة) [4].
انتقل سزكينُ بعدها لبيان اعتناء جيل التَّابعين بهذه الرَّسائل والكتب، فيذكر مجموعةً من الأمثلة للكتب التي دُوِّنتْ على يد التَّابعين، التي تنتمي لنهاية القرن الأوّل الهجري.
شواهد التَّدوين في عصر التابعين
- كتاب مناسك الحجِّ، الذي أملاه الضحّاك على حسين بن عقيل.
- فتاوى الزُّهْريِّ، التي جُمِعتْ في خمسةِ أسفار.
- فتاوى الحسن البصري، التي كانت في سبعةِ أسفار.
- كتاب السُّنَن في الفقه، لمكحول بن شُهْراب، وكذلك كتاب الحجِّ للمؤلِّف نفسه.
وممَّا يمكن أن يُرَدَّ به على هذه التَّشكيكات؛ أنَّه ليس مطلوبًا إسقاطُ مسمَّى الكتب والمدوَّنات في العصر الحديث على ذلك الزمان؛ فإنَّ مراعاةَ طبيعةِ العصر، والزَّمن والمكان ضرورية؛ إذ ليس من الصَّواب ألّا يُطلقَ عليها مسمَّى الكتب، لأنَّها لا تتّفق مع مواصفات الكتب والمدوَّنات في القرن التَّاسع عشر، أو غيره من العصور، إذ يكفي اعتبارهم لها أنَّها كتبٌ في عصرهم ذاك.
وكذلك فإنَّه لا يبعُدُ على الصَّحابة أن يعمدوا إلى تدوين مسائلِ الفقه وغيرها من العلوم، خاصةً بعد أن بيّنوا نماءهم الفكريَّ بتدوينهم القرآن الكريم بعد وفاة النبيِّ في المصاحف، والذين لا يمكن إغفال محاولاتهم في تدوين السُّنَّة النبويَّة في حياته صلى الله عليه وسلم، دون أن يكون للنبيِّ أيُّ دوْرٍ أو إيماء لهم بضرورة هذا التَّدوين، فكيف بهم وخاصَّةً بعد اختلاطهم بالأمم المتقدِّمة علميًّا، وقد ثبت اطِّلاعهم على كتب الفرس وغيرها، وعليه فإنَّ من الوارد سعيَ الصَّحابة للتَّأليف والتَّدوين ، وإن كان هذا الاحتمالُ قويًّا زمنَ الصحابة؛ فهو أقوى في زمن التَّابعين الذي يعدُّ أكثرَ انفتاحًا من أزمنة الصحابة.
قد يرى بعضُهم أنَّ كتاباتِ سزكينَ عبثيَّة، أو أنَّ طرحَه جاء متأخِّرًا قليلًا، لكن ما يراه هو أنَّ تصوَّره المختلفَ لنشأة التَّدوين دارتْ عليه النِّقاشاتُ في أوروبا فورَ صدوره، وقد تأثَّر به كثيرٌ من الباحثين، وانعكس على دراساتهم وأبحاثهم، واكتفى بعضُهم بإيراده دون إبداء وجهة نظره في هذه المسألة [5].
إضافةً إلى أنَّ هذه الدراسةَ في غاية الأهمية، وخاصَّةً ما يتعلَّقُ بتدوين الحديث النبويِّ الشَّريف، الذي ذاع أنه دُوِّن متأخِّرًا، وأنَّ الرِّوايات استمرَّت بالمشافهة، وهو ما جعل بعض المستشرقين أمثال شاخت يعدُّ الرِّواياتِ الحديثيّة كذبًا، وعلمَ الحديث جهلًا، ليصبحَ هذا الرأيُ فيما بعد مسلَّمةً في الدَّراسات الاستشراقيّة، وهو ما استمر عليه الحالُ إلى أن جاءت فرضيّةُ سزكين التي زعزعت -ولو قليلًا- تلك المسلَّمة، وبيّنَتْ أنَّ هناك ما ينازعها الصحَّة في السَّاحة العلميَّة.
[1] عبقرية سزكين، عبد الله الرازقي، مجلة المدونة، ع: 20، ص4: -16.
[2] تاريخ التراث العربي، فؤاد سزكين، بتصرف كبير، أبو الفداء التوني، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، مج: 7، ع: 27، 2001م.
[3] عبقرية سزكين، مرجع سابق.
[4] تاريخ التُّراث العربي، سزكين، ج:1، ص: 5.
[5] ازدهار العلوم عند العرب، فؤاد سزكين، مجلّة أكاديمية المملكة المغربية، ع: 5، ص: 164.