عام

الإنتاجية والتشتت المعرفي في زمن الجائحة

  • سالم بن عثمان باعثمان
  • تحرير: معاذ بن محمد إقبال

في الآونة الأخيرة، أصبحت مسألة الإنتاجية العملية والتحصيل العلمي هاجسا لدى الكثير منا، وخصوصا في ظل وجود هذه الجائحة.

يسامرني صديق لي باعثا همومه قائلا: ” يا رجل!! مش قادر أنجز حاجة”، وهو يتقلب بين فريقين أحدهما يأمره بالركون والاسترخاء و”إراحة البال” ؛ والآخر حريص على التزود من العلوم أكثر في هذه الفترة، فيتلوّى صديقنا بين لظى نارين، الضياع وجلد الذات.

ولعل في مقالتي هذه يجد صديقنا وغيره ما يواسي حزنه ويشفي علته؛ وسبيلا يرتقي به في معارج المجد ليناله.

والحقيقة أن ما يتعلق بالإنتاجية في الأزمات الحرجة – كزمننا هذا- يحتاج إلى شيء من التفصيل، أبينه في مقالتي هذه.

أولا، يجب معرفة أن الاختلاف على المستوى الشخصي في نسبة التأثر بأحداث الكورونا قد يكون متباعدا وكبيرا، فقد يكون لكل شخص منا نوع مختلف من التأثر الحاصل من هذه الأزمة، قد يكون التأثر ماديا كخسارة وظيفة ونحوها؛ وقد يكون نفسيا واجتماعيا، كالشعور بالقلق والتفكير المفرط في المستقبل والشعور بالعزلة؛ وقد يكون لاختلاف الشخصيات دور أيضا، فالشخص الاجتماعي المعتاد على مقابلة الأهل والأحباب بشكل شبه يومي ربما يكون أكثر تأثرا من ذلك الأقل اجتماعيا أو المنطوي على نفسه، والأمثلة في هذا الباب كثيرة، ولكني أتمنى أني قد أوصلت الفكرة إليك.

وبمجرد إدراك هذا المفهوم البسيط، تتقد في ذهنك أمور أخرى:

(أ) إنجاز غيرك لا يلزم أن يكون بنفس مستوى إنجازك، فلا تقارن نفسك بغيرك، ويجب التنبيه هنا إلى أن الآخرين قد يحفزونني ويثيرون رغبة الإنجاز في داخلي؛ ولكن دون الضغط النفسي بحيث ينقلب ذلك التحفيز إلى تحطيم.

(ب) بالرغم من كثرة أوقات الفراغ ( للبعض قد يكون اليوم كاملا هو يوم فراغ!)، إلا أن الفتور في الإنتاجية هو أمر طبيعي جدا في ظل الأزمات الحالية، ولست هنا يا عزيزي بمقام التهنئة على هذا الفتور، ولكن بمجرد الشعور أن الآخرين يمرون بهذه الفترة؛ فإن ذلك قد يخفف عليك حدة الضغوط والهموم.

إذن، نصل هنا إلى نقطة جوهرية في مجاوزة هذا الفتور، وهي: ما هو المسبب الحقيقي الخاص بي وراء قلة الإنجاز؟

  • عدم وضوح الرؤية:

من الأسباب الرئيسة في الفتور إن لم يكن المسبب الأول هو عدم وضوح الهدف والرؤية للشخص؛ فالغاية هي الباعث الحقيقي للإنجاز، سواء كانت هذه الغاية أمرا دينيا أو دنيويا، عظيما كان الأمر أو حقيرا، فوضع خطة سنوية أو شهرية أو أسبوعية سيكون بإذن الله معينا لك على تحدي نفسك وتحمل المشاق في سبيل تحقيق الغايات. أيضا، التعرف على ذاتك أكثر في خضم هذه الأزمة، ومعرفة ما تحب وما تكره؛ وماذا تريد أن تكون؛ وما هي رسالتك في هذه الحياة؟ كلها عناصر أساسية لتكوين هذه الرؤية.

وهنا يصل بنا المطاف إلى تحدّ ثانوي، غالبا ما ينبع من السبب الأول، وهو التشتت المعرفي الحاصل من كثرة الفرص، خصوصا مع بداية أزمة كورونا.

حيث نرقب في هذه الفترة كما هائلا من المبادرات المعرفية والدورات العلمية والتطويرية، والمجالس الأدبية، وغيرها في كل علم وفن، من علوم العقيدة والقرآن؛ وصولا إلى فنون التصميم والرسم، ولا يختلف اثنان أن هذا فيه نفع عظيم وخير كبير ونعمة أكرمنا بها المولى عز وجل في ظل التقدم التقني.

ولكن المشكلة ليست هنا عزيزي، بل هي في التشتت والحيرة التي ربما تصاحب البعض من كثرة الفرص والناتجة عن عدم وضوح الهدف. فتصبح كثرة الفرص نقمة على صاحبها بدلا من أن تكون نعمة يستفاد منها، والمحتار تأتيه الفرص وإعلانات الدورات والمبادرات فتطمع نفسه في أن يشارك فيها كلها، ثم ينتهي به المطاف إلى لا شيء، فيكون مثل ذلك المحتار الذي تزاحمت عليه الفرص فوقف أمامها حائرا

تكاثرت الظباء على خراش   ***   فلا يدري خراش ما يصيدُ

  • الخمول والضغوط النفسية:

الخمول والضغوط النفسية قد يكونان أمرين طبيعيين في ظل هذه الأزمة الملزمة للتباعد الجسدي، والجلوس في البيت، وأكثر ما يسعني قوله هنا هو أن تجاهد نفسك على إيجاد طريقة تزيح بها هذا الخمول والقلق النفسي، ومن الحلول العملية لذلك:

  • نوِّع جدولك اليومي: بإضفاء أنشطة مختلفة وجديدة قد تصنع يومك، وربما ما كنت لتعملها في حال عدم وجود الأزمة، من ذلك تجربة الطبخ، القراءة في المجال المحبب لك، كتابة اليوميات.
  • الرياضة المنزلية: في دراسة أجريت على البالغين، وجدت أن 30 دقيقة من التمرين لمدة ثلاثة إلى خمسة أيام أسبوعيا كافية لزيادة الصحة النفسية وتخفيف الضغوط والاكتئاب بنسبة ٢٥%.
  • التواصل مع الأحباب: لاريب في أن صلة الرحم والاطمئنان على الأصدقاء من الأعمال الحسنة التي يؤجر عليها فاعلها، وهي كذلك علاج فعال في الترويح عن النفس، وتسلية الهموم. شارك إنجازك مع أصدقائك إذا كنت تعتقد بأن ذلك قد يثمر ويجدي نفعا، ويجب علي القول هنا، أنه في هذه الفترة خصوصا ابتعد عن الأشخاص السلبيين الذين لا يرون الخير تحت طيات الألم وتحت ظلال هذه الأزمة، فهم غارقون تماما في خلق الأفكار السلبية والقاتمة حيال المستقبل.
  • الملهيات.. ومنصة نتفلكس:

لو أعددنا قائمة بأكبر المستفيدين وأكثرهم ابتهاجا بهذه الجائحة، لزعمت أنه سيكون على رأس هذه القائمة منصات اليوتيوب ونتفلكس وبقية المنصات التي نحاول من خلالها أن ‘نقتل أوقات الفراغ’، ولا أشك في أن تلك المنصات في هذه الفترة تنتشي انتشاء من حالنا الذين نحن عليه، وإن لم تصدقني فأطلب منك – قارئي العزيز- أن تلاحظ معدل وقت استعمال الشاشة اليومي في هاتفك الذكي، إذ لا ينتهي مقطع أو حلقة أو فيلم؛ إلا وتجد نفسك قد نقرت على ما بعده، حتى تتفاجأ أن الساعات قد تصرمت والأيام قد ولّت وأنت مكانك لم تتقدم خطوة واحدة إلى الأمام.

 تعرف على طريقتك الخاصة للتغلب على هذه العادة السيئة، فوضْع مؤقت لمدة استعمال الجوال ربما يعينك، بالإضافة إلى أن وضع قائمة بالأعمال اليومية- كما ذكرنا- قد يكون دافعا حقيقيا للتخفيف من هذه العادة، وأستحضر هنا المثل الانجليزي:

(If you keep killing the time, time will end up killing you)

(إن استمرارك بقتل الوقت، سينتهي الحال بالوقت أن يقتلك)

وختاما، فإن الإنجاز والنجاح لا يُتحصل عليهما بالراحة، وطول الأمل. وهنا أتذكر عبارة جميلة لابن القيم في شفاء العليل، يقول فيها: (قد استقرت حكمته سبحانه أن السعادة والنعيم والراحة لا يوصل إليها إلا على جسر المشقة والتعب، ولا يُدخل إليها إلا من باب المكاره والصبر وتحمل المشاق). ولو لم يستوجب على الإنسان الاجتهاد والكفاح والعمل لتحصيل المجد، لكان الناس في هذا سواء

لَوْلا المَشَقّةُ سَادَ النّاسُ كُلُّهُمُ   ** الجود يُفقر والإقدام قتّالُ

أسأل الله بمنه وكرمه أن يبارك لنا في أعمارنا وأعمالنا وأوقاتنا، كما أسأله سبحانه أن يرفع عنا البلاء والوباء، وأن يحفظنا وأهلينا وديارنا وديار المسلمين.


مراجع:

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى