- عبير القرني
- تحرير: غادة الزويد
“الخصوصية قوة، فالناس لا يُمكن أن يفسدوا شيئاً لا يعرفونه”
مع اكتساح شبكات التواصل الاجتماعي وانتشارها بين مختلف الفئات العمرية، انتقل العالم بأكمله إلى الشبكة الافتراضية، العالم الواقعي بكل ما فيه من أشخاص مؤثرين وعلماء وفنانين ورؤساء دول، وكذلك المؤسسات والجامعات والجهات الحكومية موجودة على شبكات التواصل الاجتماعي. أعتقد أن مفهوم الخصوصية وحدودها في العالم الافتراضي في حاجة ماسة للنقاش، ولا أتحدث هنا عن انتهاك خصوصية البيانات التي تجمعها الشركات التقنية وتستخدمها من غير رضا أصحابها لصناعة الأرباح وغيرها، لكن أتحدث عن الخصوصية فيما نشاركه مع المتابعين وننشره يومياً على (سناب شات وانستقرام وتويتر) وكافة تطبيقات التواصل.
فيما يرى الكثيرون أن الإنترنت هو الفضاء الوحيد الذي يكشف فيه المرء عن نفسه وحقيقته ومشاعره بعفوية وبلا تحفظ، أرى أن هذا الرأي يتضمن الخلط بين العفوية والحديث عن اهتماماتنا وبين الخصوصية التي يجب أن نحميها. حساباتنا الشخصية هي نحن، وأن تكون افتراضية لا يعني أنها منفصلة عن عالم الواقع أو أنها ليست امتداد لنا على الإنترنت، فلماذا ننكشف ونتحدث بأشياء نفضل كتمانها عن الآخرين في حياتنا الواقعية؟
بدايةً دعونا نتفق على أن الخصوصية أحد الحقوق الإنسانية الأساسية وأنها قيّمة ومهمة مع اختلاف حدودها باختلاف المجتمعات والأفراد، وتشير غالباً للحياة الخاصة، تُعرّف بشكل عام بأنها قدرة الفرد على عزل بعض معلوماته عن المجتمع. ولكن لم أجد تعريفًا موحدًا لمصطلح الخصوصية، لأنها تشمل العديد من المفاهيم كالسرية والحميمية، بالإضافة لكونها أحد المواضيع التي تتداخل فيها الثقافة والقانون والفلسفة.
ونقلاً عن موسوعة ستانفورد للفلسفة(1) “عرّف فرايد الخصوصِيَّة بصورة محدودة بأنها التحكم في المعلومات الشخصية، وأنها ضرورية للتطور الذاتي للفرد والجانب الأخلاقي والاجتماعي لشخصيته وقدرته على تكوين علاقات حميمية تتضمن الاحترام، الحب، الصداقة، والثقة. الخصوصِيَّة قيّمة لأنها تمنح التحكم في المعلومات عن المرء نفسه، ومن ثم تسمح بالحفاظ على درجات متفاوتة من الحميمية. وفي الحقيقة لا يحصل الأفراد على الحب والصداقة والثقة إلا عند تمتعهم بالخصوصِيَّة والانسجام مع بعضهم.”
ما أود الحديث عنه هنا هو ثلاث محاور تتعلق بالخصوصية على وسائل التواصل:
الحميمية والنمو الذاتي والمهنية
لنبدأ بأول محور: الحميمية.
وحين أتحدث عن الحميمية، أقصد بها اللحظات والذكريات الدافئة والمريحة وحتى الحزينة والمؤثرة كالمرض والموت، ولحظات الوداع مع الاشخاص المقربين منا كالوالدين والإخوة والأزواج، وهي ما تم انتهاكه وتدميره بفعل تطبيقات التواصل.
صرّحت مرة فتاة أعرفها بأنها لا تملك أي قصة خاصة على سناب شات بل تشارك كل شيء على القصة العامة لأنها تحب “الوضوح” في حياتها ولا يوجد ما تخجل منه أو تخفيه، لكن كثير مما تشاركه -حميمي للغاية-. ما تنشره ليس مخجلًا أو معيبًا ولكنها لحظات تتطلب “الخصوصية” لتكتسب حميميتها؛ لأنها تفقد جزءًا من عفويتها وصدقها حين نكشفها للجميع.
مشاركتنا لصور يومية على (سناب شات وإنستقرام) للتعبير عن أي موقف عابر أو شخصي، وتعبيرنا عن كل فكرة وإحساس عابر على وسائل التواصل، يخدش هالة خصوصيتنا، فمجرد مشاركة هذه اللحظات والأفكار مع الآخرين نحن نخرجها من إطارها الخاص الى إطار عام تصبح فيه مُعرّضة لنقد وحكم الآخرين بشكل مطلق. ومهما حاولنا تضييق دوائرنا على وسائل التواصل، فما زلنا نشارك كل ما هو خاص وثمين وحميمي مع أشخاص لا تربطنا بهم سوى علاقة طفيفة، بالنسبة لي الخصوصية على الإنترنت لا تتحقق بضيق دائرة الأشخاص الذين يشاهدون ما ننشره من القصص الخاصة على (سناب شات) أو الحسابات المغلقة -بل بالتحكم بالمعلومات والأفكار والصور التي نقرر نشرها-
المحور الثاني: النمو الذاتي.
بطبيعتنا نفكر يوميًا بمئات الأفكار العابرة، ونطلق أحكام سريعة على كل ما يحدث حولنا وفي أوقات كثيرة نجد أنفسنا بعد مرور عدة ساعات ننظر للأمور من زاوية أخرى فنتراجع عما قلنا ونغير موقفنا من القضية.. تخيلوا معي لو أن كل فكرة عابرة مرت في أذهاننا كُتبت بشكل سريع كتغريدة مقتضبة نشرناها من دون المرور بمرحلة التفكير العميق، ولم نعطِ أفكارنا وآراءنا فرصة لتتشكل وتنضج؟ لن يفهم المتابعون لصفحاتنا التناقضات والأحكام السريعة والظروف خلف ما ننشر. ينطبق الأمر كذلك على الخطط الشخصية ورؤيتنا المستقبلية لأنفسنا، تحتاج وقتًا كافيًا لتكون جاهزة لمشاركتها والحديث عنها، أو على الأقل نكون متأكدين من رغبتنا في السعي وراءها.
المحور الثالث: المهنية
تتطلب المهنية الخصوصية، في العلاقات المهنية لا تقتحم خصوصيات الآخرين ولا تكشف خصوصيتك، وإدارة الصورة في العالم الافتراضي جزء لا يتجزأ من المهنية.
مؤخراً، اتجهت كثير من الشركات لتصفح حسابات التواصل الاجتماعي للمتقدمين على الوظائف قبل قبولهم والمفاضلة بينهم بناءً على السمعة الرقمية، من خلال تقييم سلوكهم العام وتوجهاتهم وجديتهم في العمل من خلال تحليل منشوراتهم. فلن يخاطر أحد بضم موظف يغرد يومياً متذمرًا من العمل أو يكشف أسرار مقر عمله للمنافسين بمنشورات عفوية، أو يتفاخر بالتكاسل في أداء المهام وهروبه من واجباته، أو يتسم بالعنصرية والتنمر.
ختامًا، أذكر اقتباسًا لميلان كونديرا يقول:
“فورًا فقد بروشازكا مصداقيته، فالمرء يقول كل الأشياء، في مكانه الخاص، يذم أصدقاءه، يلقي نكات بذيئة، يتصرف على نحو سخيف، يتفوه بهرطقات لن يقرها مطلقًا في العلن، يثير اشمئزاز أصدقائه بأحاديثه الشائنة، وهلم جرا. كلنا نتصرف مثل بروشازكا، نشتم أصدقاءنا عندما نكون بمفردنا، الازدواجية بين العلن والخفاء هي تجربة يمارسها كل شخص. بل إنها أساس الحياة الفردية، الغريب أن هذه الحقيقة الواضحة بقيت لا واعية، غير ملحوظة، وغامضة للأبد كأحلام مغناة عن بيت زجاجي، أن تفهم أنها القيمة التي تستوجب الحماية أكثر من أي قيمة أخرى، أمر نادر الحدوث.”
اقرأ ايضًا: لا نستطيع الحذف: لماذا نبقى على وسائل التواصل الاجتماعي؟
المراجع:
– الخصوصية – موسوعة ستانفورد للفلسفة | مجلة حكمة ترجمة: شيماء البلوشي
– الخصوصية ويكيبيديا