- سمية منيف العتيبي
قد تواجه مشكلةً ما تحاول جاهدًا حلها بكل الطرق، تستعين بمن تعرف، فيلوح لك بيديه الفارغة، فتعود وحيدًا تواجه واقعك، مشعثًا مغبرًا، أتعبك النبش، يخنقك اليأس، لكن في لحظة ما، تتذكر أن هناك بابًا لم تطرقه، فترفع يديك متلحفًا بالأمل إلى السماء وتدعو، فتطمئن نفسك، وتسكن روحك رغم أن المشكلة لم تنتهِ، هل هذا هو الأمل فقط أم ماذا؟ هذا ما تعرفه أنت أيها الكائن الاجتماعي حقيقةً حيث تعيش بين من تحب فهلا سألت نفسك لماذا يكتفي الُنساك بعزلتهم؟ أليس الإنسان كائنًا اجتماعيًا كما قرره المفكرون على مر العصور؟
في الفكر الغربي الحديث استقل الإنسان بنفسه على يد كوجيتو ديكارت، فواجه أهم قضاياه -المعرفة- بنفسه، لذلك ركز جزء كبير من الفلسفات على كيفية يعرف الإنسان نفسه، وكان الإنسان الفردي والمستقل يشغل الكل، ولا عجب في ذلك ففكرة الاستقلال جذابة، فما أجمل أن يعيش الإنسان متحررا، يقود حياته ويكتفي بنفسه، لكن لأن هذه الفلسفات كانت متعالية عن الواقع غير ملامسة له، ما لبث الإنسان أن عاد لشريكه الآخر، حيث كما نرى في الشارع يلتحم الفرد بالآخر بشكل لا غبار عليه، وهذا ما أدركته الفلسفات اللاحقة.
فهذا لاكان يراجع كوجيتو ديكارت ويقول إن فيه استدعاء للآخر وليس تخليًا عنه، لكن من الآخر الذي يستدعيه؟ ففي حاله ديكارت -الناسك الذي تخلى عن الآخر الظاهري المتعارف عليه ليعيش تأملاته الخاصة -هو الإله وهذا ليس حصرًا على ديكارت بل على كل مؤمن في صلاته، وكل عابد في مُعتزله.
يقول مارسيل موس أن الصلاة ظاهرة اجتماعية وهذا حقيقي ولا ريب فيه، فهي سواءً مورست بشكل جماعي كما في صلاة الجماعة الإسلامية الواجبة أو بشكل فردي كسنن، فهي تنبثق عن الدين الذي ينتقل اجتماعيًا بين الأفراد، لكنّ (موس) لم ينكر فرديتها، “فنحن لا نعتقد أن المجتمع و الدين و الصلاة أشياء خارقة يمكن تصورها دون وجود الأفراد الذين يعيشونها” والصلاة كتجربة تلامس الفرد في أعماقه، حيث المناجاة والإيماءات يقوم بها فرد وحيد كفاعل سواء كان مع مجموعة يتشارك ممارسة الصلاة معها أو وحده.
فالصلاة “هي في المقام الأول فعل” حيث “تنطوي على جهد” يقوم به فرد، فحتى و لو عرّفنا الصلاة بالدعاء بشكل عام كما في العرف الإسلامي -وهو ما أشير إليه في غالب حديثي هنا- و كما يعرفه المعجم الوسيط إلا أنها في لبها جهد يقوم به فاعل، قد يبدو وحيدًا، يقوم بتجربة ذاتية لا يشاركه فيها أحد، لكن في الواقع حين نتأمل هذه التمتمات والإيماءات نجدها موجهه لآخر، حيث يشكل وحدةً شبه اجتماعية مع الفرد المؤدي، فحتى و إن كان الآخر كائن متعال، إلا أن له حضوره المجازي.
في المعجم الوسيط أيضًا يأتي مع “دعا الله رجا من الخير” معنى آخر لدعا و هو دعاء الشيء حيث “دعا بالشيء طلب إحضاره” فالله جل وعلا نجهل ماهيته الحقيقية ونتعرف عليه بصفاته العامة، وهذا الحضور لله تعالى وتنزه حضور مجازي في نفس المؤمن ليس في الصلاة في شكلها المتعارف عليه في كل دين والتي تتخذ حيزًا من الزمن، بل يمتد زمن هذه التجربة الروحانية ليشمل حياة المؤمن الملتزم فيلعب التشريع الإلهي دور الموجه للفرد، خصوصًا كما نرى في التشريع الإسلامي، هذا التوجيه يخلق جوًا شبه اجتماعي بين الفرد والآخر الله تعالى وتنزه، وقد قلت شبه اجتماعي وذلك إدراكاً لهذه التجربة المتعالية حيث الإلهي له سياقه الخاص لكنها قد تقوم مقام التجربة الاجتماعية.
ففي دراسة قام بها باحثون عام ٢٠١٩م لملاحظة تأثير الممارسة الروحانية على الدماغ، حيث لاحظوا فيها أن منطقة الفص الجداري السفلي التي في الدماغ تنشط أثناء الممارسة الروحانية هي منطقة مرتبطة بإدراك الذات وإدراك للآخر وما يشغلانه من حيز مكاني، حيث خلصت الدراسة إلى أن الممارسة الروحية “تنطوي على مقابلة متصورة مع “حضور” واسع أو كيان خارجي عن الذات”.
وبهذا تخلق الصلاة-الممارسة الروحانية الأوسع انتشارا وأداة الاتصال مع الإله- للمؤمن الملتزم ما يمكن أن تسمى استقلالية اجتماعية، حيث يكتفي ظاهريَا بنفسه إلا أنه مرتبط بآخر متعال وهذا هو ما يفسر عزلة النساك والعباد الذين يمضون حياتهم زاهدين عن حياة البشر، حيث تمنحه قدرًا كبيرًا من معطيات التجربة الاجتماعية الحقيقية بين البشر، فباستشعار وجود الله -سبحانه وتعالى-، يرى انعكاس ذاته كعبد له كيانه و عليه واجبات كما أن له حقوق، كما تمنح التجربة الدينية بشكلها العام رافدًا معرفيًا للفرد، بحيث يمثل كما قلت في التشريع الإسلامي الشامل لكل جوانب الحياة يعرف به نفسه و يوجه سلوكه، حيث يخبره عن الصواب والخطأ.
فهذا التوحيدي في مخاطبته لربه في كتاب الإشارات الإلهية يقول “اهدنا إلينا، وأوضحنا لنا” قد يقول إنه يعني الإلهام الإلهي حين يعرّف الذات على نفسها، لكنه أيضًا كما الحالة مع ديكارت استدعاء للآخر، و بذلك يحقق الإنسان استقلاله الاجتماعي الذي يحتم بالضرورة استقلاله الذاتي، لا عن طريق فلسفته بل عن طريق روحانية الصلاة التي تصله بما فيه كفايته الذاتية، فلأمر كما يقول هنري ديفد ثورو -الكاتب المتعالي الذي يرى الدين كتجربة فردية– “لن نجد أنفسنا حتى نفقد العالم” وهي عزلة رمزية مع الآخر الذي تكتفي به أنفسنا.
وختامًا هذا المقال اتخذ منحى وصفيًا تأمليًا، حاول أن يصل للبعد التأثيري لنسك نمارسه، فحين يقر حقيقة إمكانية الاستقلال الاجتماعي للفرد، لا يعني ذلك أن يدعو الفرد أن يزهد في إخوته الحقيقين، أو ينكر لهم فضلهم عليه وهذا ما تدعو إليه كافة الأديان، وهو ما لا يمكن إنكاره.
شكرا