- د. حامد بن أحمد الإقبالي*
أثارني الحوار الذي أجراه الأستاذ حسن الشريف مع الفيلسوف الأسترالي سينغر (singer) لصالح إحدى المنصات الفلسفية، وذلك في عدد من المفاهيم الأخلاقية المادية التي أفرزتها فلسفته، ومدى تصادمها مع الرؤية الإسلامية حول الإنسان والحيوان والكون، وحتى لا يخرج الحديث عن نطاقه سوف أتعرض لمفهوم مركزي عند singer وهو (الإيثار الفعال) الذي تتمحور فكرته في محاولة جعل العالم مكانًا أفضل، من خلال أحد أهداف الناس في الحياة، ويستتبع ذلك الحصول على أفضل قيمة ممكنة من الموارد المتاحة.
وعلى الرغم من أن المحاور لم يفتش كثيراً في المرجعية الفكرية لهذا المفهوم، ربما لظروف الحوار القصير الذي لا يتحمل الغوص في تاريخ هذه الأفكار وخلفياتها، على ما في المفهوم من التباس وعمومية، إلا أنه يمكن التعرف على بعض ملامحه من خلال البحث الذي أجرته الباحثة إلهام الرخاوي على فلسفة سينجر، حيث يشير المفهوم إلى أن البقاء في هذه الحياة لذوي الإيثار والتعاون، مناقضاً بذلك الفكرة التي تقول أن البقاء للأقوى، على أن كلا الفكرتين منبثقتان من موقف الفلسفة الغربية من مصدر الأخلاق في أنها فطرة قبلية، وليست اكتساباً بعدياً، وتعني الفطرة القبلية هنا الاستمداد من النظرية الداروينية التي تنبع منها غالب الفلسفات الأخلاقية الغربية على تعدد مذاهبها وتنوع مفاهيمها.
كما نجد إرهاصات تبنّي فلسفة (الإيثار الفعال) في مطلع منشأ القصة التي حكاها في هذا الحوار الشيّق، وما استدعته الى اتخاذ هذا القرار بل وأصبحت منعطفاً رئيساً في حياته يقول: إنه التقى طالب الدراسات العليا في جامعة أكسفورد ريتشارد كيشن في اجتماع غداء جعله يغير من حياته؛ لأنه عندما عُرض عليه المعكرونة ، سأل عما إذا كان هناك لحم في الصلصة، وعندما علم بوجود اللحم رفض الأكل، وسأله عن السبب فقال له: إن (من الصواب معاملة الحيوانات كما نعاملها قبل ذبحها للأكل) يقول: (لقد فوجئت بالطبع كنت أعلم أن الحيوانات تُذبح لتوفير اللحوم لنا، لكن لم يكن لدي أي فكرة أن معظم الحيوانات التي رُبيت من أجل الطعام قد حُشرت داخل حظائر مما جعلها تعيش حياة بائسة، بشكل قد لا يتناسب مع احتياجاتها) وقد دفعه ذلك إلى إعادة التفكير في أخلاقيات التعامل مع الحيوانات، بل إنه لا يستطيع الدفاع عن هذه الأخلاقيات.
طبعاً لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بالنسبة ل(singer) وإنما دعم موقفه الانطباعي بدراستين جادتين اشترك فيها كما يقول مع اثنين من زملائه أظهرتا أن الطلاب الذين تم اختيارهم عشوائيًا للمشاركة في فصل يناقش أخلاقيات تناول اللحوم طلبوا وجبات تحتوي على لحوم أقل من مجموعة مماثلة من الطلاب ناقشوا موضوعًا مختلفًا، ولا يبدو هذا الرأي شاذاً على الفلاسفة النفعيين الذي يمثل سينجر أحدهم، فهو لا يفرق بين التعامل الأخلاقي مع الحيوان من الرفق به في حدود التسخير الرباني للإنسان وبين الغاية التي هيأها الله للحيوان لتكون ركوباً ودفئاً وطعاماً للإنسان ليتغذى به ويقوى به على عبادة خالقه، فهي علاقة مصلحة من قادر مميز مع ضعيف مسخر، وليس في هذا إثارة للاشمئزاز أو الانتقاص من قدر الحيوانات، إذ الغايات التي خلقها الله سبحانه وتعالى لكل كائن حي يجب أن تسير وفقاً لما وضعت له، وليس النظر بمثالية أفلاطونية مفرطة تتحاشى سؤال المعنى من هذه الحيوانات المخلوقة على الأرض.
إن التحقير الحقيقي للإنسان حين ينتسب إلى الحيوان وقد شرّفه الله بالتمييز والعبادة، أو حين يهوي من مرتبته التي كرمه الله بها فيخلد إلى الأرض كالحيوانات وربما أضلّ منها كما حكت الآية القرآنية ( إنْ هم إلا كالأنعام بل هم أضلّ سبيلا) (الفرقان :44) ولعل من الازدواجية الفكرية أن فيلسوف الانتخاب الطبيعي الذي ينادي بالقتل الرحيم للبشر سواء كانوا مواليد بأمراض مستعصية أو مسنّين وصلوا إلى الخرف ينادي بتحرير الحيوانات وإيقاف قتلها، على اعتبار أن ذلك يؤذيها كما يؤذيه منظر تربيتها داخل الحظائر، ويقرر أن أكل اللحوم وتصنيعها شكل من أشكال الوحشية، حتى أودت به فكرة الدفاع عن حركة حقوق الحيوان إلى فكرة أخرى لا تقل خطورة عنها وهي: تذويب الفاصل بين الكائنات البشرية وغير البشرية واعتبار الحيوان يحمل صفاتا أخلاقية رفيعة[1] فالمعيار الحقيقي لقيمة الكائن الحي لديه إذاً ليس النوع وإنما وفرة الصحة والعافية الجسدية! ولو كان في تحريره لهذه الكائنات كما يقرر إطلاق لقدراتها الحسية التي وهبها الله لكانت فلسفة عادلة وذلك لأن في صياح الديكة معنى، وفي نباح الكلاب معنىً مغاير، وهكذا..، لكن كيف تتوصل فلسفة لا تضع عالم الغيب (الميتافيزيقا) ضمن مصادرها المعرفية؟! أما الإشكالية الكبرى في اعتبار الحيوان يملك صفاتٍ أخلاقية فهو لم يفرق بين الغريزة التي هداها الله لها وبين العقل والحرية التي يملكها العقل البشري.
إن الإشكالية الأخلاقية الحقيقية هي في كيفية التعامل مع هذه الحيوانات وأسلوب استخدام الغايات التي خلقت من أجلها كما أسلفت ، وقد عالج الإسلام مثل ذلك، فإذا أردت أن تذبحها وتأكل منها فيجب مراعاة الوسيلة التي تذبح بها بل التعامل معها بغاية التلطف أو (الإحسان) كما يقول الخطاب النبوي (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحدّ أحدكم شفرته، فليرح ذبيحته[2] وفي الشراب يقول تعالى (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً ۖ نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ) (النحل :66) وأما الركوب فيجب الترفق في الحمل عليها وتخفيف المشقة عليها وإن كانت لا تشتكي ولا تبكي، وقد مرّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببعير قد لحق ظهره ببطنه، فقال: “اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة، فاركبوها صالحة، وكلوها صالحة”[3] وليست ببعيد قصة الجمل الذي رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- فحنّ وذرفت عيناه، فأتاه النبي -صلى الله عليه وسلم- فمسح ذفراه فسكت، فقال: “من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ ” فجاء فتى من الأنصار، فقال: لي يا رسول الله، قال: “أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها، فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه”[4]
لقد أباح الإسلام كل الطيبات من الرزق سواء كانت لحوما أم نباتاً، لكن واجب العبادة يقتضي الشكر، شكر المنعم الذي سخرها وهيأها، كما حددّ المحرمات من المأكولات بحيث يقطع كل اجتهاد على البشر في التحريم، فلا رهبانية في الإسلام كما لا إسراف في النعم، وقال صلى الله عليه وسلم :فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام، ومعنى ذلك أن الثريد هو أفضل المأكولات لأنه يحتوي على الخبز واللحم، ولو بحثنا في السنة النبوية لوجدنا عشرات الأحاديث التي تستحسن أكل اللحم وتستطيب أجزاء منه وطريقة أكله وهي إن كانت تتراوح بين الحسن والضعيف ، لكنه لا يوجد حديث واحد يكره أو ينهى عن أكل اللحم بل (لولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم[5] كما يقول عليه الصلاة والسلام، أي ينتن ويتغيّر، وأصل النتن أن بني إسرائيل ادخروا لحم السلوى وكانوا نهوا عن ادخاره فعوقبوا بذلك[6] ولم يحرم على المسلمين من اللحوم سوى كل ذي مخلب من الطير وكل ذي ناب من السباع، وربما كان علّة ذلك ما فيها من قسوة لحومها ونتن ريحها بل ربما تناول لحوم السباع يورث آكلها شبهًا بها، فينتج عنه الرغبة في الاعتداء على الآخرين، فإن الغاذي شبيه بالمغتذى كما يقول أهل العلم، بل وقالوا إن الإنسان تتشكّل صورة الحيوان الذي يتصف بخلقه على وجهه وهذا كلام يطول فيه المعنى.
إن الإيثار الفعال هو ما عبّر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم”[7] ولم يكن سيد الإيثار عليه الصلاة والسلام ليعجب بصنيع قوم إلا فاقهم، فهو صاحب الخلق العظيم المتسامي، ولنسمع رواية سهل رضي الله عنه حيث قال: إن امرأة جاءت النبي صلى الله عليه وسلم ببردة منسوجة، فيها حاشيتها…قالت: نسجتها بيدي فجئت لأكسوكها، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجا إليها، فخرج إلينا وإنها إزاره ،فحّسنها فلان، فقال: اكسنيها، ما أحسنها، قال القوم: ما أحسنت، لبسها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجا إليها، ثم سألته، وعلمت أنه لا يرد، قال: إني والله، ما سألته لألبسه، إنما سألته لتكون كفني، قال سهل: فكانت كفنه[8].
فتقديم الآخرين على النفس في أمور الدنيا بُعد أحاديّ لا تتجاوزه كل الفلسفات الوضعية، ولكنه يكتسب عند المسلمين بعداً غيبياً جديداً وهو رغبة في الأجر والجزاء الأخروي عند الله سبحانه وتعالى، وتستطيع أن تستنبط من ذلك أنه عن المؤمنين بالله أعظم مما عند غيرهم إذا علمت أن خلقاً مثل هذا لا ينشأ إلا عن قوة يقين وزيادة محبة، وصبر طويل.
* د. حامد أحمد الإقبالي: دكتوراه في الأصول الإسلامية للتربية ومهتم بالفلسفة الأخلاقية
[1] – الرخاوى, إلهام يحيى محمد.، النسق الأخلاقي في فلسفة بيتر سنجر، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الآداب، جامعة بنها، جمهورية مصر، 2008م.
[2] – صحيح مسلم، كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، رقم الحديث 1955.
[3] – سنن ابي داود، اول باب الجهاد، رقم الحديث 2548.
[4] سنن ابي داود، اول باب الجهاد، رقم الحديث 2549
[5] – صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، رقم الحديث 3330.
[6] -فتح الباري، (6/367)
[7] – صحيح البخاري، كتاب الشركة، رقم الحديث2486.
[8] – صحيح البخاري، كتاب الجنائز، رقم الحديث 1277.