- يسرى والشاف
- تحرير: سهام سايح
منذ أشهر فحسب أعلنت الطوارئ في بلادنا، انقطعت صلاتنا بالعالم الخارجي الملموس وبدأت حياتنا الرقمية تشكلنا من جديد، تلك الشوارع التي ألفنا المسير فيها ونحن نتحدث مع من نحب أضحت اليوم خاوية من كل تلك المناظر الإنسانية؛ فتاة برفقة زوجها وهما في حال تناغم وحب، وأولئك الأطفال المشاغبون اللذين يرمون الكرة مشاغبة فتعكس اتجاه رجل عجوز يمتطي عكازته المرتعشة… لقد خلت المدينة من عشاقها وأمست تقيم الحجر على نفسها وهي تُطل في كل مرة علَّ خبر الإفراج يحل بعد شهور وأيام من الفراغ والوحشة…
تحولت حياتنا إلى ساحة رقمية؛ نتصل بأحبتنا بالهواتف دون لمس ولا عناق مطول، تلك الجلسات التي كانت تجمعنا في ليال كثيرة، وتلك الخرجات المسائية في الشارع الكبير من مدينتنا، لم يعد لها وجود وكأنها صارت في عداد الذكريات شبيهة بمقطع فديو يتقطع بفعل الإنترنيت في كل مرة أردنا فيها إعادة عرضه لنتذكر أيامنا الماضية وحال البشر من حولنا قبل حلول هذا الوباء في مدينتا…
نعيش الآن في حال يموج بين القلق والرعب كيف لا والإنسان كان قد أنس من نفسه الخلود دون الموت، لقد هاجمنا هذا الوباء وأيقظنا من سبات أجبرنا أنفسنا على الدخول إليه والمكوث فيه، لم تكن هذه اليقظة بالهينة، لأنها كانت كمن أفرغ على وجهه كأس بارد من الماء وهو يخط في أحلامه ورؤياه، لكننا استيقظنا على أية حال؛ فمنا من خالها موجة استيقاظ إلهية كي نعيد الحياة بيننا وبين إله الكون وهو يقول لأحد أصدقائه: هذا الوباء أيقظني من حلم الخلود إلى مصير الموت… وهناك من صرخ بملأ صوته قائلا: إنها النهاية لم يعد هناك علم يحمينا من غضب الطبيعة، لم يبقَ لنا باب إلا أن نناجي إله هذا الكون لينقذنا، كما عبر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في تغريدة له يدعو فيها المواطنين للتوجه إلى الرب بمحو هذا البلاء عنا… وعدد منهم من رآها فرصة لينصت لجسده الذي كان يشكو طويلا من آثار الجري في كل صباح والعمل الدؤوب إلى منتصف الليل، وكأنه ربوت يعمل ليل نهار بدون توقف إلا لحاجاته الخاصة كالأكل والحمام في ظل عالم يملي عليه أن يكون خردة تواصل جني المال واستهلاك ما ينتج، وهكذا يبقى في سيرورة لا تنقطع لأنه إنسان الحداثة كما يصفه العالم…
غير أنني لم أكن من بين هذه الجموع لأنني لم أكن كثيرة الخروج وإذا خرجت فأنني أخرج أحيانا لأبحث عن معنى أكتب به رسائلي على قناة التليجرام ومنذ جلوسي في البيت بدأت أحاول البحث عن معان من خلال صور تترامى علي من متابعتي لمواقع التواصل، بيد أنني في البداية فقدت ذلك الإحساس بالمعنى وكأن الوباء أفقدني شهية الكتابة التي أستقيها من الوجود الإنساني والتجول في الشوارع ومراكز الأسواق والجامعة وغيرها، لم يبقَ في ضوء هذا الوباء من لمحة جمال أستطيع استقاء رؤية جمالية أدفع بها شعوري بالعجز وخيبة الأمل، لكن هذا الشعور لم يدُم طويلا فمنذ أن تذكرت شيئا لم أفكر فيه وأنا أقلب عن معنًى في الجمال المادي بان لي حينها إشراق الحياة وحيويتها… فهل أعرفك عليه؟
هذا الجمال الذي فاتني هو جمال يكمن في دواخلنا جميعا لكننا لم نعمل على تقويته وإبرازه للوجود فظل قابعا في مكانه يؤدي دوره بخفوت ورقة … هذا الجمال هو ذلك الإيمان بالإله الأعظم… قد تتساءل مع نفسك: وهل هذا يحل ما نحن فيه من ضنك وخوف؟
لن أستعجل بالإجابة وأخبرك بأن الإجابة نعم، لكن دعني أعرفك ماذا أقصد بهذا الجمال الإيماني، فهو ليس كما ربيت عليه تماما، ذلك أنه شعور قلبي يقيني يتجسد في تلك الروح التي خاضت حياتها وهي تبحث عن أجوبة لأسئلتها الممتدة حتى وجدت سفينة بداخلها عازف يرتل القرآن في تناغم وانصهار مع معاني الآيات، حينها تتجلى لها الحقائق وتشعر لأول مرة بمعنى الحب والصدق، وثم تقرر أن تمنح نفسها الارتباط بأمة المؤمنين…
إن الإيمان ثمرة عظيمة لجهاد من أجل اليقين بالإله الأعظم وأنه فوق كل شيء وأنه عالم بما تعيشه أيها الإنسان وما تعانيه في هذا الكون، إن الإيمان ثقة عمياء بعظمة الإله الذي يدير هذا الكون وهو يعلم الظلم والمرض والفتك الذي يطال بهذه الحياة، ستسائلني هنا كعادتك إذن لماذا لا يتدخل بحل ما نحن فيه من كرب وضنك ألا ترين أنه من الظلم ما نحن فيه وهو يتركنا نقاسي ما ألم بنا دون حراك؟
دعني أكمل كلامي ثم إذا بقي هذا السؤال بداخلك أعده علي لأجاوبك عليه، كنت أحدثك أن الإيمان هو تلك الثقة العمياء بعظمة هذا الإله وأنه عالم وشاهد وبصير وسميع بكل ما تحوط نفسك من خواطر وتمتمات، وهو أيضا يقين باليوم الآخر والقدر خيره وشره وبرسالة محمد صلى الله عليه وسلم وسائر الرسل والأنبياء وكتبهم وصحائفهم، هذا هو الإيمان يقين بالسابق والآخِر، يقين لا ينازعه شك ولا ارتداد…
إن الإيمان يطمئن النفس أن الوباء سيحل كراحلة جاءت ضيفة ثم ستسير إلى غايتها شاكرة لك حسن الضيافة والكرم، ذلك أن مدى معرفتك بالإله وحسن اعتقادك به هو ما يجعلك تتخطى كل ما يقف أمامك؛ فالإيمان بأنه موجود وسميع وبصير يجعلك تطمئن أنه يرى ما يحدث لك وما تعانيه من مرارة العيش والملل فيجعلك ذلك تنزوي إلى سجادتك لتسأله أن يطمئن قلبك الصغير ويضع فيه السكينة والهدوء ويرفع الوباء على البشرية أجمع، وقد تجد في الآن التي تدعوه فيها اطمئنانا لقلبك بتلك السكينة التي تملأ روحك وارتياحا قلبيا كتساقط أمطار بعد جفاف طويل. وأما الإيمان باليوم الآخر يعلمك أن الله خلق هذا الكون ووضع مقادير معينة وأرسل رسلا وكتبا تبشر عنه وعن صفاته وجماله، ليضعك في محك تثبت جدارتك كإنسان له إمكانيات ضخمة، يستطيع بها أن يدرك الحقائق ويميز بين الأشياء بواسطة هذا العقل الفريد الذي لديك، فلم يصنع كائنا مثلك إلا أنت ولهذا وضعك في هذا الكون كي تثبت جدارتك وتعرف من تكون وقوة إمكانياتك، وكان أن أرسل الديانات لتعلم بعقلك وجوده فتكون ذلك العبد الذي ما إن عرف أن للإله كون حتى أعلن إيمانه وعبوديته للإله الأعلى، وثم إذا عرفته عرفت أنه وضع للكون قوانين لا يتدخل فيما يحدث بين عباده وإن كان هو عالم بما يجري ويرى الظالم والمظلوم لكنه أرجاء الحساب إلى ذلك اليوم حتى يكون يوما يحاسب فيه كل إنسان على أفعاله وتصرفاته وهل كان جديرا بلقب الإنسانية التي جعلها عنوان لخليفة أدم في الأرض. أما الإيمان بالرسل وخاصة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فلكي تأخذه قدوة وتكون عند الأزمات كما قال العبد الصالح: ربنا إنا ظلمنا أنفسنا فاغفر لنا وارحمنا إنك أنت الغفور الرحيم، وحتى تُكَوِّن في ذاكرتك أن هناك من أفنى عمره ليكون عبدا جميلا بأخلاقه وهندامه وروحه وابتسامته في الفرح والحزن فوصف العبد تابع له في كل ما يشمله من أحداث ونوازل، كالنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يتخذ من الفأل شعارا لما يحيطه من مآس وآلام، وهو ما ينبغي عليَّ أنا وأنت أن نتخذه حتى نخرج ونحن نزداد إيمانا مع إيمان فتمر محنتنا ويذهب الوباء كما جاء. أما الإيمان بالكتاب حتى نهرع إليه ونتطلب من القصص السابقة سلوكا نحتذي به ونجعله نمطا لحياتنا، حتى إذا ما عاودنا الضنك وجدنا فيه راحتنا وفألنا. أما الإيمان بالقدر خيره وشره فلكي نتيقن أن ما يحيط بنا من أهوال هي خير لنا فهي تعلمنا الكثير كأن الوباء أعطنا وقتا لنتنعم بالقراءة ونحن قابعون في البيوت وقد قلت مرة: “إن من عجائب الحياة أن تنزوي بكتاب رفقة بعض من القهوة لتسافر إلى عوالم مختلفة تنسيك الوجود الحسي”. ويعلمك الصبر والحلم وأنت تلاعب طفلك، وقد كنت من قبل تشتكي قلة الوقت وكثرة المشاغل. وأنه أوقف العالم الذي كان يجري بسرعة حتى نتنفس طويلا ونحن في بيوتنا ومع أحبابنا. ولنراجع أخيرا أنفسنا وإلى أي اتجاه نسير بعد أن فقدنا بوصلة الطريق…
بفضل الإيمان أصبحت أرى الحياة بعدما كانت سوداء قاحلة ملونة بألوان جميلة تطفي البهجة والسرور على قلبي، فقد صار الإيمان شعار أتحدى به ضبابية المواقف وتخاذل الأحداث وسيولة الخروج… إن الإيمان كفيل أن يخرجنا من أجزاعنا وقلقنا المستمر حول مصيرنا فنحن في النهاية سنغادر هذا العالم، لأن هوس الموت والقلق من أجله يتبعنا منذ أن أعلنا الإيمان والخضوع، وأشرقنا برسالة جديدة تسمينا بالخلفاء..