فكر وثقافة

الأخلاق الجنسية وإمكان الحضارة: هل كان فرويد على حق؟

  • بوب بيركت
  • ترجمة: عبد الرحمن فتحي
  • مراجعة: الغازي محمد
  • تحرير: هياء العيسى

 

يقول (هنري فورد) فيما أُثِر عنه: «ما التاريخ إلا كلامٌ فارغ!»، وبصفته مخترع خط التجميع، ومخترع السيارة من الطراز تي؛ فإن اسم (فورد) لا ينفك عن كونه المثل الأعلى للتقدم التكنولوجي، وأحد أسباب التقدم البشري. وبالنسبة لأولئك الذين ينادون بالتقدم العلمي الحديث؛ باعتباره السمة المميزة لجيل ذكي ومتطلع فكريًا أكثر من الأجيال السابقة؛ فإن كلمات فورد الآنفة تصير بالنسبة لهم اعتقادًا لا يقبل الشك!

من العواقب -الضخمة- الناجمة عن التطورات التكنولوجية العالمية: التغيرات في وجهات النظر المجتمعية إزاء الحياة الجنسية. إذ نُبِذَت الأعراف والأخلاقيات الجنسية التقليدية (Sexual mores)؛ واعتُبِرَت قديمة وبالية -وخصوصًا- في عصرنا هذا، عصر وسائل منع الحمل الصناعية والإجهاضات التي تفصل عملية الإنجاب عن فعل وهب الحياة الجوهري؛ حتى اختزل المجتمع الجنس إلى: سعي مجرد نحو المتعة (Pleasurable pursuit)، ونتيجة لذلك؛ شاع الاختلاط الجنسي والفجور بشكل كبير.

وفي هذا السياق يمجد الحداثيون الثورة الجنسية -بوصفها حقبة من حقب التنوير-؛ إذ يمكن للناس الانخراط بحرية تامة في المتع الجنسية بلا خوف من العواقب البيولوجية. وحتى اليوم يُنظر إلى الثورة الجنسية من قبل (بعض) الناس من جميع الأجيال على أنَّها قاعدة غير قابلة -من الناحية الفكرية والفعلية- للمساءلة.

دعونا إذًا نتساءل: هل الانضباط الأخلاقي الجنسي ليس إلا «كلامًا فارغًا» على حد تعبير هنري فورد؟

تناول (جيه. دي. أونوين J.D. Unwin) -الأنثروبولوجي الذي تلقى تعليمه في جامعة أكسفورد- هذه المسألة بتوسع في كتابه: «الجنس والثقافة» ([1]) حيث تضمن الكتاب تقييمًا للممارسات الجنسية والأخلاقية لستٍّ وثمانين ثقافة مختلفة، وكان دافع مشروع أونوين اختبار صحة نظرية (فرويد) القائلة بأن: التقدم الحضاري كان نتاجًا للنشاط الجنسي المكبوت (Repressed sexuality).

تنص نظرية فرويد (النشاط الجنسي المتسامي – Sublimated sexuality) ([2]) على أن الدوافع والرغبات الطبيعية تتطلب الطاقة لتتحقق، كما أنه بالإمكان تحويل هذه الطاقة وإعادة توجيهها إلى صور أخرى -ولو كانت طاقة محدودة-.

قسم أونوين الطاقة الجماعية للبشر إلى فئتين:

– فئة توسعية (Expansive).

– فئة منتجة (Productive).

فالاكتشافات الجغرافية، والغزو والاستعمار، والتجارة كلها نشاطات ضُمِّنت تحت مظلة الأنشطة التوسعية، أما الأنشطة المنتجة فهي التي تؤدي إلى تقدمٍ وازدهار داخل المجتمع؛ مثل تطوير علم الجبر أو القدرة على تسخير الكهرباء. ومن هنا يمكن لنا إعادة توجيه الطاقة الجنسية نحو جوانب أخرى تسهم في التقدم الحضاري، مثل التقدم التكنولوجي، والفن، والعمارة، أو حتى إخضاع الشعوب الأخرى.

-ولنتحاشى الاعتراض؛ تجدر الإشارة إلى أنه بالرغم من أوجه القصور في النظرية الفرويدية، إلا أنه لا يمكن التعامي عن صحة جوانب معينة من نظرياته، والتسامي الجنسي أحدها-.

وبعد تقييم دقيق، أظهرت مجموعة متنوعة من الحضارات- بما في ذلك الرومان واليونان والسومريون والموريون ([3]) والبابليون والأنجلوسكسونيون- نمطًا واضحًا (Pattern) لأونوين وهو: أن هناك علاقة متلازمة مثالية بين الانضباط الجنسي والازدهار الحضاري ([4])، إذ وجد أونوين أن الانضباط الجنسي يسهم في رفع الطاقة الاجتماعية اللازمة لتحقيق غايات حضارية، وهذا يؤكد صحة التسامي الفرويدي على المستوى الاجتماعي، ويعقب أونوين مدلِّلًا:

«قد لوحظ أن الطبقة التي تصعد إلى مواقع الهيمنة السياسية دائما ما تكون منضبطة جنسيًا. لقد حافظت تلك الطبقة على طاقتها، وأحكمت سيطرتها على المجتمع، وكبحت جماح نفسها قبل الزواج (Pre-nuptial)، وبعد الزواج (Post-nuptial)، ولم أجد أي استثناء لتلك القواعد».

ولكن ما هي تلك السلوكيات الجنسية الصارمة التي ساهمت في ازدهار المجتمع؟

الجواب هو: العلاقة بين الرجل والمرأة: (Heterosexual monogamy) بالنسبة إلى أونوين، فإن النسيج المجتمعي كان في المقام الأول جنسيًا، والعلاقة بين الرجل والمرأة هي الترتيب المثالي والمناسب لتخطيط الأسرة وبنائها وحمايتها ورعايتها. ولو قام عدد كافي من الأزواج بهذا الالتزام؛ فستتوجه الطاقة الحضارية نحو تعزيز أقوى مؤسسة اجتماعية: ألا وهي الأسرة.

ولسوء الحظ؛ تتغير الأخلاق والسلوكيات مع نجاح كل حضارة نحو الأسوأ، ويضعف الانضباط الأخلاقي، وتبعًا لذلك تتغير السلوكيات الجنسية؛ حتى يصبح الانفلات واضحًا -هذا مع أن نجاح الحضارات مرتبط بالضبط الأخلاقي الجنسي- ويصير من السهل رؤية عواقب مقولة: أن آثار النشاط الجنسي تقتصر فقط على الجانب الشخصي؛ إذ شاعت العلاقات الشاذة، وراجت علاقات خارج نطاق الزواج وعلاقات ما قبل الزواج، وبدأ الفرد بوضع رغبته الفردية فوق المصالح العامة (Common good). وهذه الفوضى الجنسية تترافق مع الانخفاض الملحوظ في الطاقة الاجتماعية المطلوبة للابتكار والتقدم الحضاري. إلى أن تغدو –في النهاية- كل حضارة أقل تماسكًا (Less cohesive)، وأضعف بأسًا، وأقل عزمًا (Less resolute)، ثم تنهار في تلك المرحلة الحساسة، إما من:

– ثورة داخلية فوضوية.

– غزو من قبل محتلين لديهم طاقة اجتماعية أكبر.

وعلى الرغم من الفوارق بين الثقافات الحضارية، والبيئات، والمراحل الزمنية؛ إلا أن أونوين رأى دورة حضارية واضحة في كل مكان:

لقد عاشت تلك المجتمعات في بيئات جغرافية مختلفة، وانتمت إلى سلالات عرقية متباينة؛ إلا أنهم جميعًا يشتركون في تاريخ تقاليد الزواج الخاصة بهم. في البداية كان لكل مجتمع ذات الأفكار حيال القواعد الجنسية، ثم حدثت الصراعات عينها؛ ثم عُبِّر عن العواطف والميول ذاتها، نفس التغييرات حدثت، وتبعًا لذلك خلَّفت نفس النتائج. واتضح في النهاية، أن كل مجتمع ضبط طاقته الجنسية وحولها إلى طاقة اجتماعية؛ ازدهر وانتعش.

لا يخفى على أحدٍ أن أمريكا هي القوة العظمى الحالية في هذا العالم، وأن هذه المواقف المتحررة إزاء الجنس في أمتنا تماثل ما حدث في الحضارات السابقة خلال مراحل انحطاطها. ولا يخفى أيضًا أن المجتمع الأمريكي حقق تقدمًا علميًا وتكنولوجيًا، وقد يجادل البعض بأن التقدم الأمريكي أهمل التعاليم القديمة عن أهمية الاستقامة الجنسية. لقد حدد مبحث أونوين هذا الموقف بعينه؛ باعتباره رأيا بارزا في كل مجتمع من المجتمعات السابقة أيضا:

«… إنهم مقتنعون بأن العملية الثقافية عبارة عن تطور تدريجي، وأن ثقافتنا هي الأكثر تقدما بين جميع الثقافات، إننا نفترض أن كل تغيير في الحالة الثقافية مؤشر على تطور ثقافي أعلى».

إن الفكرة الأمريكية المتمثلة في كونها الحضارة الإنسانية الأكثر تقدما في التاريخ هي مجرد مثال آخر على التشابه التاريخي -غير المبشّر- الذي أشار إليه أونوين عندما أماط اللثام عن الأنماط الاجتماعية (Social patterns) فعلى مدار خمسة آلاف عامٍ من التاريخ البشري، تفشت تلك العقلية نفسها وآمنت بقدرتها على كسر الحلقة، ومع ذلك لم تتمكن أمة من تلك الحضارات السابقة من فعل ذلك.

ربما رغب البعض أن يرى عمل أونوين هذا بمثابة التنبؤ لمصير الحضارة الأمريكية الآيلة للسقوط، أو قراءته كمجرد استمرارية تاريخية سيتم التغلب عليها بوساطة التقدم العلمي والتكنولوجي. ومهما كان، لا ينبغي التغاضي عن مكانة الأخلاق الجنسية وأهميتها في حياتنا اليومية؛ لارتباطها الوثيق بالازدهار والانتعاش الحضاري. فكبح جماح النفس والتحلي بالانضباط الجنسي ليس نتاج ماض تليد يمكن للتقدم العلمي أن يحل محلها؛ بل يمكننا القول بأن الانضباط الجنسي هو أساس التقدم العلمي والتكنولوجي الذي نراه اليوم.


[1] Sex and Culture: https://archive.org/details/b20442580/mode/2up

[2] التعلية أو التسامي: حيلة نفسية يحاول بها الفرد التعبير عن دوافعه غير المقبولة بصورة أخرى مقبولة للمجتمع، كأن يحاول الشخص المائل للعدوانية العمل كملاكم أو محارب، أو حارس أمن؛ وبهذه الطريقة يعبر عن رغباته بأسلوب مقبول. وهي عبارة عن النشاطات الإنسانية التي لا صلة لها ظاهريًا مع الدوافع الجنسية، لكنها تستقي قوتها من النزوة الجنسية، وتطلق تسمية التسامي على النزوة بمقدار تحولها إلى هدف جديد غير جنسي، وتنصب على موضوعات ذات قيمة اجتماعية تظهر في شخصيات الرسام والرياضي والكاتب. ومن المنظور التحليلي الفرويدي فإن (الأنا) تقوم بتصعيد النزوات التي يسيطر عليها الـ(هو) من جهة، وتقاومها (الأنا الأعلى) من جهة أخرى، وتوجهها إلى نشاط فني أو استقصاء ذهني، وهو بذلك يُحوِّل النزوة الجنسية إلى هدف جديد غير جنسي له قيمته الاجتماعية -أي يستبدل الطاقة الجنسية بنوع طاقة آخر- (المترجم).

[3] هم سكان (مسلمون) لشبه الجزيرة الإيبيرية، أي الأندلس أو ما بات يعرف اليوم بإسبانيا والبرتغال (المترجم).

[4] الارتباط لا يعني بالضرورة السببية (Correlation does not imply causation) فمن الممكن أن يؤول الانحطاط الحضاري إلى المزيد من الاختلاط الجنسي، أو أن الاختلاط الجنسي المنفلت والانحطاط مرتبطان بمحددٍ آخر لم يتم تحديده بعد. على أن الاعتراف بحقيقة أن السببية غير متحققة، لا يعني بالضرورة كون أن هذين المتغيرين غير مرتبطين سببيا. الطريقة الوحيدة لمعرفة مدى صحة ذلك هي إجراء تحليل كمي أو إحصائي للأنماط النوعية (Qualitative patterns) أو الآلية السببية التي اقترحها أونوين بالفعل. ولكن، وبفرض إعداد بحث بهذه المنهجية، تظل تلك الادعاءات القائلة بوجود ارتباط سببي وتلك القائلة بعدم ذلك متساويتان -فيما يتعلق بالدراسة نفسها- ومع ذلك، فإن حجتي لا تفقد قوتها بغض النظر عن أي قراءة للبيانات وعن مدى جودة هذه القراءة. (ملاحظة من الكاتب)

المصدر: ethika politika

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى