عام

الرواية وسردية التَّاريخ

أنا امرؤٌ مغرَمٌ بقراءةِ الرِّوايات؛ لأنها عالمٌ من الأفكار، وتاريخٌ مسطور، وأزمنةٌ تُخلَّد، وحيواتٌ متعددة تُحكى، و ميدانٌ من أخصبِ ميادينِ الأدب، يتحدثُ عن كلِّ ذلك؛ يراعٌ ماهرٌ في إيصالِ المراد، بأيسرِ طريقةٍ وأحبِّها!

ولا زلتُ أتعجَّبُ ممن يظنُّ أنَّ قراءةَ الرواياتِ هروبٌ من الملل، وتزجية للوقت، ومتعة مؤقتة للفرارِ من فراغٍ يطاردنا، ومحضُ خيالٍ سرعانَ ما يزولُ بانتهاءِ الصَّفحةِ الأخيرة!

وهذا فهمٌ قاصر، وضعفٌ في إدراكِ حقيقةِ الرِّواية، وما تنطوي عليها من أفكارٍ مثقلةٍ بحمولات مختلفة، نثرها السَّارد بطريقةٍ مدهشة يتشرَّبها العقل والفؤاد، وعادات عابرة يُرادُ لها أن تستقرَّ في أماكن أخرى عن سماءِ المكان التي خرجت من تحتها الرِّواية وكاتبها، وتاريخ حافل بكلِّ ماجرياتِ الأمور والأحداث. وإبرازٌ لـ دقائق التَّاريخ المنسي، بصورةٍ يجعلُ منها الكاتبُ تاريخًا مبسوطًا بينَ يدي القرَّاء!

ناهيكَ عن التَّصوير المدهش لحياةِ الإنسان، وتقلباته، وخيباته، وأسرار النَّفس، ومتاهاتِ الروح، وصراع الذِّكرى والنِّسيان في أعماقه, وفضاءاتِ الدَّهشة في قراءةِ حياةِ المجتمعات، وقراءةٌ للمكان، وتصوُّرٌ لهيبةِ العمران، واستحضارٌ لما مضىٰ وكان، وإسقاطه على ما حدثَ وما يكون، و استشرافٌ لما هو كائن، وقراءةٌ في الخلق، وبيانٌ للنهوضِ والسُّقوط، وإظهار لثنائية الضَّعفِ والقوة، وأثرها على الدولِ والممالك زوالًا وقيامًا. وقبل ذلك كله؛ فهي تاريخٌ للأفكارِ والثورات، وتخليدٌ للأبطال، والشُّهداء، وتوثيقٌ محكم لسننِ الخيانةِ والارتزاق ومآلاتِ الارتهان!

كل هذا وأكثر؛ يأتي في بطنِ رواية، تظنُّ في ظاهرها قصة حبٍّ بين شابٍّ وفتاة، وهي في حقيقتها أعمقُ مما نتخيل، وأكبر مما نظن، وهذا الوصفُ لا يتسق إلا مع الرواياتِ الخالدة التي تستحقُّ البقاء، ولم يزدها مضي الأيام إلا توهجًا وإشراقًا.

من الحقول الروائية التي تثير انتباهي كثيرًا, الرِّواية التَّاريخية, لأنها تجسِّد حِقبةً ماضية, يشعر المتلقي بالحنين إليها, بكلِّ شخوصها, وأزمانها, وتقلباتها, بل, ولغتها, لأنَّ الكاتبَ يجهد نفسه للارتقاءِ بلغته, لمقاربة ذات النَّمط الزمني الذي يحكي عنه, ومن هنا تشعر بفخامةِ الكلمة, وجلالها, مع روعة التَّاريخ وانعكاسه على واقعنا المعاصر.

كتبَ الرَّاحل علي أحمد باكثير رواياتٍ تاريخية عديدة، كُتبَ لها القبولُ والانتشار؛ وكذا فعل علي الجارم من قبله في روايتيه: “هاتفٌ من الأندلس” و “فارسُ بني حمدان”.. ثم تتابعَ العطاء الروائي التَّاريخي.. حتى انتهى إلى الأديبة الراحلة رضوى عاشور، فكتبتْ ثلاثيتها الشَّهيرة “ثلاثية غرناطة”، لتكونَ واحدة من أجودِ كتَّابِ الروايةِ التَّاريخية المعاصرة!

وفي لحظتنا الراهنة؛ لفتَ نظري بعض الرواياتِ التَّاريخية التي تستحقُّ الإشادة والتَّنويه؛ بعضها تحدَّثت عن شخصيةٍ تاريخية، على اعتبارها محور الرِّواية، ومرتكزها الأساس؛ ومن ثم تطرقَت برشاقةٍ إلى العصر الذي عاشَ فيه، ونقلنا معه إلى القرون الآفلة عبر أثيرِ الحرف.. ومنهم من تحدثَ عن مدينةٍ تدورُ حولها فصولُ الحكاية، وعلى ساحتها ولدَ الأبطال ورحلوا، وتوهجت المدينة وأفلتْ!

وممن كتبَ عن شخصيةٍ تاريخيةٍ بأسلوبٍ رشيق، ولغةٍ فخمة، أحمد فال الدين، في روايته الرائعة: “الحدقي”، والتي تناولتْ سيرة عمرو بن بحر الجاحظ، شيخُ العربية، وأحد أعظمِ كتَّابها.

وكذا، الروائي محمد حسين علوان، في روايته البديعة: “موتٌ صغير”، وقد كتبها حول شخصيةِ ابن عربي الأندلسي.. بلغةٍ أدبيةٍ آسرة، وهي تحفةٌ فنية، حفرها علوان باقتدارٍ ظاهر في جدرانِ الإبداع، محافظًا على الموازنةِ بينَ الحقلِ الكتابي الذي يتطلبها كاتبُ الرِّوايةِ التاريخية، وبينَ السلاسة التي يستدعيها نمطُ الفن الروائي؛ فكانتْ تحفة مدهشة.

وممن كتبَ روايةً تاريخية عن الأندلس، الروائي الشَّاب محمد عبد القهار، في  روايته “غارب”: استعادة الأندلس على صهوةِ جوادٍ أعمى. “تتناول الرواية سيرة مدينةِ غرناطة، من خلالِ الوقوف على حياة أحد فرسانِ الأندلس “موسى بن أبي الغسان” الذي يُعرَّفُ في كتب التاريخ بأنه «فارس الأندلس الأخير»، والذي قاد جيوش المسلمين قبيل سقوط «غرناطة»، ولعل البراعة تكمن بدايةً في اختيار هذه الشخصية، والعودة إلى أصولها وجذورها وحياتها للدوران حولها وجعله محور الرواية، وذلك رغم قلة المصادر التاريخية التي تتحدثُ عن تفاصيل حياته”.

تراوح الرواية بشكلٍ عام بين عدة مستويات لغوية على حدِّ قول الكاتب إبراهيم عادل، إذ نجد فيها اللغة الشَّاعرية التي تصل إلى أقصى درجاتها في المقاطع المقدمة بكلمة «أنت» وبين اللغة التوثيقية التاريخية التي تحكي طرفًا من الحروب والدسائس والمؤامرات التي كانت تحاك في تلك الفترة العصيبة من تاريخ الأندلس، وبين اللغة الحيادية التي يعرض فيها الراوي أحوال الناس ومعايشها.

رواية “غارب” من الروايات التاريخية التي بحاجةٍ إلى قراءةٍ جادة؛ لكثافتها، ولغتها الفخمة، وتفاصيلها الدقيقة، وتشعبها في أروقة وباحاتِ الأندلس، وحبكتها المتقنة، مع تمازج الحدث التاريخي، بالجانب الشرعي الحاضر في جو الرواية، وإسقاطه على الواقع بصورةٍ أو بأخرى، ومحاولاته الجيدة في الحديثِ أحيانًا بلغةٍ عامية قديمة كان يتحدثُ بها أهل الأندلس.. فظهر الحوار في الرواية؛ وكأن الكاتبَ خرجَ من رحم التاريخ يقصُّ علينا خبر «موسى بن أبي الغسّان» الذي جعل منه شاهدًا على ذلك العصر بكل تفاصيله، وأن يحمله كل أفكاره وتصوراته للفارس المسلم كما يراه، وفي النهاية يبقى هو ذلك الفارس المهزوم نموذجًا لكل عربي حالم بالتغيير، سواء كان ذلك قبيل سقوط غرناطة أو حتى بعد ثوراتنا العربية الأخيرة!

ومن الكتَّاب الذين طوَّعوا التَّاريخ لكتاباتهم المدهشة, الأديب وليد سيف, فقد كتبَ التَّاريخ بقلمِ الأديب, ونَفَسِ الفيلسوف, وقلبِ العاشق, ففي واحدةٍ من أجملِ الأعمال التَّاريخية التي قدَّمها عن فارسِ الأندلس، وأميرها عبد الرحمن بن معاوية بن هشام، الملقب بـ “صقر قريش”، . تعرَّضَ فيها لخبرِ الخادمِ بدر بشكلٍ كثيف! رغم الإهمال الذي لحِقه من كتبة التاريخ عندما ذكروه عَرَضًا بقولهم: “واصطحبَ معه خادمه بدرًا “. وهي من النِّقاط التي أثارت دهشتي من قدرةِ “سيف” في تخليدِ الخادم المنسي.

لم يقنع “وليد سيف” بهذه الجملة الخاطفة التي وردت على لسانِ الرُّواة، كخبرٍ عابر، في ذكرِ الخادم الذي رافقَ الأمير! فما كانَ منه إلا أن نفخَ في حياةِ “بدر”، ليعيدَ إليه الاعتبار، وقيمته التي أهدرها الرُّواة والتَّاريخ. فلولا “بدر الخادم” لما كان عبد الرحمن الأمير، لولا الرفيق الحاذق الذي تحمَّل المشاق، وقدَّم روحه فداءً للأمير، لما حفلت الأندلس بقدومِ “الدَّاخل”، إذ ستبتلعه الحياة بقساوتها قبلَ الوصول إلى تحقيقِ النُّبوءة المنتظَرة!

أظهر بدر قدرة عجيبة في تحمُّل المتاعب للوصولِ إلى الغاية، ومن هنا، وجد “وليد سيف” مدخلًا لنفخِ الحياة في شخصيته، وإعادتها إلى الأذهان، اعترافًا منه بالدَّور الذي لعِبه في رحلة المُلْكِ المنشود.. فجعله في بطولةٍ مشتركة بينه وبين الأمير ابن الأمراء.. وهذه إحدى سلطة الأدب في الإماتة والإحياء!

لولا همةُ الخادم لما وصلَ إلى روابضِ الأندلس، لولا تحديد الهدف مسبقًا؛ لبقي خامل الذَّكر أبدَ الدَّهر، توانى أحد الخدمِ عن مواصلةِ السَّير، وقرَّر العودة إلى حياته النَّمطية، في حين أقدم بدر وأمسكَ بزمامِ المهمة الشَّريفة التي ستسهمُ في إعلاء شأنِ الأندلس قرونًا من الزَّمن..!

نفسيًّا لم يتمكَّن “بدر” من طردِ الشعور العنيف بأنه “خادم”.. الحديث النفسي المستمر، ولغة العيون التي كانت تفضحُ الشعور الجاثم على قلبه؛ تمكَّن وليد سيف من إبرازه، وتسليط الضوء عليه.. استطاع أن يستنطقَ صوته الدَّاخلي.. الصراع المحتدم الذي كان يدور بين “بدر الخادم” و “بدر المشارك في سلطةِ الأمير عبد الرحمن الدَّاخل”، في لحظةِ ضعفٍ تغلَّبَ الأول على الأخير؛ ليعود أدراجه إلى الأصلِ الأول الذي دلفَ منه إلى حياةِ الإمارة والقصور!

لم يحفل به التَّاريخ؛ لأنَّ الخادم يبقىٰ خادمًا، والأمير هو الأمير ولو تنكبت به الطريق، وحالت دونه الأبواب… لكنَّ الأدب أنصفَ بدرًا، وقال كلمته في رائعةِ صقر قريش؛ ليعيده إلى مكانه الذي يستحق، ومن هنا تكمن خطورة الأدب والأديب!

وقفتُ مؤخَّرًا على عملٍ روائيٍّ تاريخيٍ مدهش, أخذَ بتلابيبي, وفي ظني أنه تفوقَ على كثيرٍ من الأعمالِ الروائية التي تتفقُ معه في ذاتِ النَّسقِ الرِّوائي التاريخي, لقد قدَّم لنا “أمين معلوف” حكاية الرَّحالة “الحسن الوزَّان” صاحب كتاب “وصف أفريقيا” الذي أمضى حياته متنقلًا راغبًا أو مرغمًا بين غرناطة والمغرب وعدة دول أفريقية وروما, قبل أن يعودَ أدراجه لتونس التي يُعتقد أنه ماتَ فيها.

وكم طربتُ وأعجبني مستهلّ الرِّواية, حيثُ يقول “معلوف” على لسانِ “ليون الأفريقي” موجهًا الحديث لابنه الذي تركَ له هذه الكلمات:

“خُتِنتُ، أنا حسن بن محمد الوزَّان، – يوحنا ليون دومديتشي- بيدِ مزين, وعُمِّدتُ بيد أحدِ البابوات، وأُدعى اليوم “الأفريقي”: ولكنني لستُ من إفريقية ولا من أوروبة ولا من بلادِ العرب. وأُعرف أيضًا بالغرناطي والفاسي، ولكنني لم أصدر عن أي بلدٍ ولا عن أيِّ مدينة، ولا عن أيِّ قبيلة، فأنا ابن السَّبيل، وطني هو القافلة وحياتي هي أقل الرحلات توقعًا.

لقد عرفَ معصماي على التوالي دغدغات الحرير وإهانات الصوف، ذهبَ الأمراء وأغلال العبيد. وأزاحت أصابعي آلاف الحجب ولونت شفتاي بحمرةِ الخجل آلاف العذارى، وشهدت عيناي احتضار مدن وفناء إمبراطوريات.

ولسوف تسمعُ في فمي العربية والتركية والقشتالية والبربرية والعبرية واللاتينية والعامية الإيطالية؛ لأنَّ جميع اللغات وكل الصَّلوات ملك يدي، ولكنني لا أنتمي إلى أي منها. فأنا لله وللتراب، وإليهما راجعٌ في يومٍ قريب”.

برأيي أنَّ “معلوف” حلَّقَ عاليًا, وتجاوزَ بموهبته كثيرًا ممن كتبَ في فنِّ الرواية التَّاريخية, فقد تمكَّنَ ببراعةٍ من الرَّبط بين الماضي والحاضر، الشَّرق والغرب، الإسلام والمسيحية، في رائعته “ليون الأفريقي”, ويبدو واضحًا أنه يملكُ بين يديه كل عناصر الصَّنعة الروائية؛ من اشتغالٍ واضحٍ على الحبكة، واهتمام كبير بأدقِّ المعلومات والأحداث التاريخية، وكتابة كل ذلك بلغة متينةٍ رائقة, وقبل ذلك, قدرته المدهشة في سدِّ الفجوات, في حياة حسن الوزَّان الرَّحالة الذي اتسمت حياته بالغموض في بطونِ التاريخ.

هذه نماذج عابرة لبعضِ الرواياتِ التَّاريخية.. كتبتُ ما استوقفني منها مما كُتبَ حديثًا، ولم أنوه ببعضِ الرواياتِ الأجنبية التي تناولت الفن الروائي التاريخي، وما أكثرها.

وأكثر ما شدَّني في هذه الروايات؛ لغتها الأصيلة، البعيدة عن الرَّكاكة، وفخامتها اللغوية التي لا تعهدها في غالبِ الرِّوايات التي تقذفها رحمُ المطابع كل يوم.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى