- ديفيد بنتلي هارت
- ترجمه: د. عارف بن فضل
- تحرير: أسامة خالد العمرات
إنّ الفيلسوف ذائع الصيت، والذي هو من الأنواع المهددة بالانقراض في قارة أوروبا قد انقرض بالفعل في عالمنا الناطق بالإنجليزية، حتى وإن نجح مغامر من عندنا -أحيانًا- في إحدى كليات الفلسفة (مثل دانيال دينيت، أو ديفيد تشالمرز) في تكوين ملف تعريف عام خاص به، وفي بيع عدد كبير من الكتب لتظلّ غير مقروءة توضع على الرفوف في خلفيات محادثات برنامج “زوم”. في بعض الأحيان، يلفت انتباهنا المُنظّر الأجنبي الذي يمتلك موهبة في فن الأداء من زاوية أخرى للعين (مثل سلافوي جيجك). غير أنّه منذ أيام “برتراند راسل”، لم يحقق أي فيلسوف يتحدث اللغة الإنجليزية أي شهرة شعبية حقيقية، وبالتأكيد، هذا يُعزى جزئيًا إلى التدهور الثقافي العام في الطموح الفكري، وهو ناتج بشكل أساسي عن هيمنة التقليد التحليلي بيننا، والذي غالبًا ما يكون مزيجًا مثاليًا من الضجر الرسمي والابتذال المفاهيمي، فبعد أن جعلْنا فلسفتنا مملة، جعلناها أيضاً غير واضحة.
لذلك لا يوجد اليوم في “الأنجلوسفير” -الأفق الإنجليزي- من يُعتبر ظاهرة يمكن مقارنتها بـ “بيتر سلوترديك”، حيث يستمتع في ألمانيا وفي كثير من دول أوروبا الغربية بنوع من الظهور العام، وهو الظهور الذي نحتفظ به نحن حالياً للروائيين السيئين أصحاب الشهرة، أو الفنانين من الدرجة الثانية، وعلى الرغم من أنّ هذا المنظّر يبذل القليل من الجهد لتكييف فكرِه مع قيود الثقافة الشعبية “الديموطيقية demotic”، إلا أنه غزير الإنتاج لدرجة أنه نادرًا ما يستطيع أي شخص مواكبةَ عمله، حيث يكمن جزء من جاذبيته في التوهج المطلق لأفكاره، ويستحيل -في الحقيقة- تحديد عدد قرّائه الذين يفهمونه، لكن لا ينبغي الخلط بين هذا اللمعان في أفكاره وبين السطحية، ولا ينبغي اعتبار شهرته شيئًا عرضيًا أو غير مكتسب. يطرح “سلوترديك” أسئلة مثيرة للاهتمام حقاً تدفع المرء إلى التفكير بطرق جديدة وغير مريحة في بعض الأحيان حول ذات الفرد أو ثقافته أو العالم ككل؛ والإجابات التي يقدمها غالبًا ما تكون رائعة، أو على الأقل مزعجة بشكل مثمر.
هناك أيضاً في كتاباته نوع من التباهي بـ”التململ العالمي” -world-weariness- وهو ما يمكن أن يكون مدهشاً بشكل غريب، وبمعنى آخر، فإن فكره مثقلٌ بهذا الوعي التاريخي العميق الذي يبدو أنه دعوة خاصة للفلسفة القارية في غروبها الطويل بعد “هيجل”، وعلى هذا، فهو يمتلك وعيًا تأويليًا شديدًا من السيولة والغموض والبديل الثقافي لمصطلحات ومفاهيم الفلسفة لتخطئة الخصائص الثابتة، والتي يمكن اعتبارها فرضيات خالدة وفق النهج الذي تتخيلها بها الكثير من الفلسفة الأنجلو-أمريكية. لكن من طرف آخر، فإن عبء الوعي التاريخي هذا هو بالضبط ما يضفي قوة متناقضة على مشروعه، فالعديد من كتبه تشعرك وكأنها رحلات استكشافية بحثًا عن أسرار من الماضي: سلالات ثقافية منسية، وآثار روحية مطموسة، وتيارات غامضة ضمن تدفق التطور الاجتماعي. وسواءٌ أُعجب المرء بفكره أو استاء منه أو كان لديه مزيج رأي عنه مختلط بشكل واضح، كما أفعل، إلا أنه لا يمكن لأحد أن يدعي -بشكل مقبول- أنه فكر رتيب.
لذا، فإن ظهور هذا الإصدار يثير بطبيعة الحال بعض التوقعات، وإلى حد كبير، فإنّ الكتاب نفسه -للأسف- يخيب آمالهم، وسيكون -بامتياز- كتاب “بعد الله” بيانًا مستمرًا ومركّزًا وحاسمًا حول الموضوعات الدينية التي تناولها “سلوتردك” غالبًا في الماضي ولكن بشكل غير مباشر، بل وعوضًا عن ذلك، فهذه الكتب هي مجموعة من المقالات والمحاضرات المتباينة، بعضها نُشر سابقًا، لذلك ستجد أنّ كتبه تعاني في أكثر من موقع من التكرار غير الضروري، ومن ثغرات مزعجة، ومسارات من التأمل ناقصة، ومع ذلك، إذا تمّت قراءتها بقليل من التأني؛ فإنها توفر رؤية كاملة -إلى حد ما- لفهم “سلوتردك” للوضع الثقافي والتاريخي للإنسانية الحديثة، وهي بالتأكيد صورة للعالم الذي يأتي إلى الوجود “بعد الله” وهذا يعني، بعد “موت الله”، فقدان الثقافة الحديثة لأفق شامل شكّل سابقًا المعنى النهائي للوجود البشري واستدامته، وحتى إذا كانت الصورة الموضحة هنا غير مكتملة، فإنها لا تزال مليئة بالتفاصيل الشيقة والمبهرة في بعض الأحيان.
يجب أن أشير إلى أن “سلوتردك” نفسه غير قادر على الاعتقاد الديني، وهو بشكل واضح يعتبر هذا الاعتقاد -إلى حد ما- احتمالًا مرهقًا ثقافيًا ونفسيًا (حتى لو لم يسمع الجميع إلى الآن أخبار “وفاة الرجل العجوز” Old Man’s demise، كما كتب نيتشه منذ فترة طويلة). غير أنه لا يوجد منتصر في إلحاده، فمشروع سلوتردك -المثير للجدل عندما ظهر لأول مرة في العلن- كان إلى حد كبير تقليدًا لـ “نيتشه” و”هايدجر”، وهو يدرك تماماً أن قصة نشأة الحداثة هي أيضاً سلسلة تتابعية لا مفر منها لـ “العدمية الميتافيزيقية” metaphysical nihilism. وهو مثل اثنين من أسلافه المثيرين للإشكاليات، يزدري السرد الكنسي لموضوع “التنوير Enlightenment”، ويريد أن يفكر في طريقه لما بعد “النزعة الإنسانية” المتراخية في العصر الحديث، بمركزية الإنسان المدمرة وأنانيتها وغفلتها عن سر العالم، وهو في الوقت نفسه ليس مذعورًا ولا حزينًا بشكل قتالي مثل “نيتشه” أو “هايدجر”، لكنه ربما يكون أكثر وعيًا عما كانا عليه بالخطر الحقيقي في عصرٍ تمّ فيه تفريغ العقائد التي قدمت ذات يوم نماذجنا الثقافية والنفسية من خلال قدرتها على الإقناع أو الإلهام.
إن عدم قابلية هذه النماذج للتجزئة -الثقافية والنفسية- هو مبدأ توجيهي لفكر سلوترديك، وهو يستخدم لغة علم النفس والعلاج النفسي براحة أكبر بكثير مما يفعله معظم الفلاسفة، لكن شعوره بالحرية في فعل ذلك يرجع إلى حد كبير في كونه لا يُقصر الجانب النفسي على عالم المزاج الفردي، فمسار التطور الثقافي ومسار التطور النفسي -عند سلوتردك- هما نفس العملية التي يُنظر إليها من وجهات نظر مختلفة، وهكذا هو يتحدث كثيراً من منظور التاريخ “النفسي السياسي psycho-political” أو عن فترات “الاستعباد” البشري المختلفة إنه لا يرى التاريخ البشري على أنه مجرد سرد للظروف المادية والاجتماعية المتغيرة، ولكن أيضاً كسجل للأشكال المتغيرة لدواخلنا التي تحدد “الجوهر” البشري. نحن كائنات تاريخية؛ حتى أرواحنا الداخلية هي إنشاءات تاريخية؛ وهذا في الأساس لأننا نمتلك اللغة. “إن عقيدة الإنسان باعتباره كائنًا يتم من خلاله الكلام تفترض حتمًا شكلًا متطرفًا وسطيًا”، حيث يتحدث سلوتردك بتعاطف عن الممارسة الكاثوليكية التقليدية لطرد الأرواح الشريرة، المتجذرة كما هي في “الشامانية ما قبل المسيحية”، لأنها تفترض بحكمة مفهوم الروح كمنزل أو واد مفتوح تأتي من خلاله القوى الروحية وتذهب.
بالنظر إلى أساس طبيعتنا المرنة، فإن السؤال الأساسي الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا هو كيف أصبحنا “محاصرين” كما نحن الآن؟ كيف وصلنا إلى فهمنا لأنفسنا على أننا ذوات مخلوقة ذاتيًا؟ كائنات جوهرها الصحيح هو الاستقلال العقلاني المطلق، تعيش في عالم وُجد لأجلنا فقط كهدف يتم استغلاله بإرادتنا للسلطة؟ ومن ثم يجب أن نسأل أنفسنا السؤال الإضافي عما إذا كنا -نتيجة لهذه القصة النفسية السياسية- قد دمرنا بشكل فعال قدرتنا على ما يسميه سلوتردك “الحصانة المشتركة” ضد مسببات الأمراض التاريخية التي تهددنا.
من المرجح أن يبدو أي ملخص لمشروع سلوتردك الفلسفي الأكبر أمرًا غير معقول بعض الشيء، وهذا ما كان ينويه سلوتردك تمامًا على ما أظن، لكن وراء قناع الكرنفال (الاحتفال) الذي غالبًا ما يختار لبسه، هناك فيلسوف جاد بنظرةٍ مثبتةٍ على المآزق الحقيقية لطبيعتنا ووضعنا التاريخي كبشر في أواخر العصر الحديث، إن أعظم مؤلفاته (إلى الآن، على الأقل) المجالات Spheres هو ثلاثية هائلة مترامية الأطراف، وممتعة بشكل قسري، وغريبة في بعض الأحيان، وهو عمل ذو أصالة مثيرة للإعجاب وخصوصية جائرة، على الرغم من استحالة تلخيص ذلك، إلا أنه يوجد في قلبه نوع من النسخة النفسية – الجسدية لأسطورة عدن. يبدأ وجودنا جميعًا في الرحم الآمن، وهو الفضاء “داخل الرحم” حيث نطفو بهدوء في بحارنا الصغيرة التي يحيط بها السائل الأمنيوسي، والملفوفة في مناطق الإيواء في المشيمة، فتجربتنا الأولى مع الآخر -حدسنا الأول لأنفسنا على أنه مختلف عن الكون ككل- هو في الواقع تجربة الأنسجة التي تحيط بنا وتحمينا، هذه الحالة تنجح بعد ذلك باحتضان الأم، ولكن ليس بالضرورة أن تحل محلها، ثم بعد ذلك بعدد لا يحصى من عمليات التطهير المحمية الأخرى في ظلمة الوجود، لكن هذا المنزل الأول سيبقى دائمًا ذكرى قوية تسود وتشكل حياتنا الفردية والاجتماعية والروحية.
لذلك كانت مأساة الوجود الإنساني -الشخصي والاجتماعي- دائماً البحث عن مجالات جديدة وخلق هذه المجالات التي هي أكثر ديمومة للحصانة من جوهر العالم المجرد وغير المضياف؛ وبمرور الوقت اتسع نطاق هذه المجالات، من الأكثر حيوانية ومحلية إلى الأكثر مثالية وعالمية. العرين، القرية، الدولة، الإمبراطورية، النظام الليبرالي العالمي؛ خيرات الطبيعة المتقلبة، الحقول المزروعة، القرية العنقودية، المدينة المتشعبة، مدينة الإنسان؛ التيمنوس أوالمعبد المسوّر temenos المحلي، والعبادة القبلية، وآلهة وأرواح الطبيعة، والقوى العليا في السماء، والسلطات الروحية العالمية المتزايدة، والمبادئ الروحية المتسامية “الرأسية” -الله العلي؛ كلها مجالات للمجتمع و”مناعة مشتركة”، لكل منها أسبابها ومناسباتها ومصائبها “النفسية – التاريخية” وجميعها يمكن أن تكون -في الواقع قد تم تحطيمها- خلال رحلتنا نحو حالتنا الحالية.
لا شك أن هناك أكثر من تلميح عن الانحراف المرح في تفسير سلوتردك “المشيمي” للتاريخ البشري وعلم النفس، ولكن هناك أيضًا حدس أخلاقي قوي فيما يتعلق بطبيعة الاعتماد البشري على الآخرين وعلى العالم من حولنا، أضف إلى ذلك أنه لم يكن في نيته تقديم تشخيص سريري لبعض “الأوهام” التي يجب التغلب عليها، ومثلما تبدو لغة فرويد كذلك تبدو لغة سلوتردك في بعض الأحيان، فهو لا يملك إلا القليل من الصبر تجاه اعتقاد فرويد “المستنير” بأنه يجب علينا أن ننضج بعد هذا الحنين إلى الرحم، أو ما وراء التخيلات “الطفولية” التي تدعمنا، وعلى نفس المنوال كان الحال بالنسبة لهايدجر، فمثل إحساسه بالجوهر التاريخي للإنسانية، فإن سلوتردك يشارك القليل من إخلاص هايدجر الفظيع لأسطورة اللحظة الأولى المفقودة من النقاء الوجودي، بل إن “علم الكرات الكروية spherology” الخاص به يعتبر بمثابة تصحيح لصورة هايدجر الوحيدة الغريبة عن مكانة “الدازاين Dasein” في العالم، فهي على حد تعبيره “مكانية” لرواية هايدجر عن “الرمي” البشري (Geworfenheit). لذا فإننا نصل إلى الوجود ليس ضمن “مكان هناك” عديم الملامح للرجل النازح الذي يستخدم مطرقته في عزلة معوزة أو بطولية؛ بل بدلاً من ذلك، تم وضعنا منذ البداية ضمن مواقع العلاقات، سواءً بين الأشخاص أو بين الحيوانات، تلك المواقع التي تغذي أي قوًى من الثمار قد نمتلكها، وتحمينا من “وحشية” أي عالم واجهناه، ولهذا السبب بالذات، حتى تشَرُّد البشرية يصبح في العصر الحديث مصيرًا لا مفر منه “لا يمكن إلا للإله أن يخلصنا منه”.
وجدير بالذكر، أن سلوتردك يعتقد أن الإنسانية لم تشهد انتقالًا “نفسيًا تاريخيًا” أكثر من ذلك الذي حدث في العصر المحوري، والذي كان بداية تاريخ من الاغتراب التدريجي عن أكثر أشكال البدائية والخاصة بالانتماء البشري، ومن ثمّ أيضًا بداية بحث الإنسانية المتواصل عن مجالات حصانة أكثر تبجلًا وأمانًا، إنّ وجهة نظر سلوتردك الساخرة بشكل واضح من قصة “التنوير” ليست موجهة فقط إلى الامتيازات البابوية التي تهدف الحكاية إلى إضفاء شرعية لرواتها – النوع الذي ازدهر أثناء إرهاب اليعاقبة Jacobin Terror، وكذلك في جميع الفظائع والإكراهات “العقلانية” التي تلت ذلك، بل إنه موجه أيضًا إلى سذاجة أولئك الذين لا يدركون أن “التنوير” الحديث، سواءً للأفضل والأسوأ، هو تتويج لتاريخ طويل جدًا من الثورات والتحرر الديني. لما لا يقل عن ألفين ونصف ألف سنة؛ كانت الإنسانية نتاجًا نفسيًا تاريخيًا للاندفاع القديم للابتعاد عن الخرافات البربرية نحو “ثقافة عالية” من الالتزام العقلاني ببعض المبادئ الروحية السامية والموحدة – براهمان، تاو، خير ما وراء الكينونة، الإله الواحد، وبالتالي الانتقال من مسالخ الطقوس إلى مدارس العقيدة.
فمنذ البداية، تضمنت هذه العملية دافعًا معينًا للروح بعيدًا عن ملاجئها العضوية المحلية الأولى ونحو قلاع اليقين الأكثر تجريدًا، ورغم هذا، كان حتمًا أن يأتي بعض الاغتراب عن الحياة، ولقد عبّر هذا الدافع غالبًا عن نفسه على أنه السعي وراء حكمة تتجاوز العالم، أو بحثًا عن إطلاق سراح أو (موكشا moksha)، وهو ازدراء عالمي غالبًا ما يصبح خوفًا عصبيًا شديد الحساسية من أن يتم لمسه، ويصل الدافع إلى أقصى تعبير من اليأس في هؤلاء الموهوبين الذين تعتبرهم الأديان المتقدمة مقدسين أو حكماء أو مستنيرين بشكل فريد، هذه هي نفوس أولئك الذين يعتبرون التمجيد المطلق لمبدأ واحد غير قابل للفساد من “الحقيقة” الروحية دعوة إلى تأنيب الضمير المتواصل، وعمل نفسي للتوبة لا يقاس، والبحث عن العتق النهائي فقط في عالم يتجاوز تفاهة الإنسانية المشتركة. لقد عاد الصوفي في حالة من التأمل المندمج إلى شيء مثل تلك الحالة الأصلية، داخل الرحم “العائمة” – ولكن الآن في “رحم” الإله الواحد، وهو المجال الأكثر حصانة الذي يمكن تخيله.
ويأتي الفصل من “بعد الله” المكرس للغنوصية Gnosticism، على الرغم من أنه الأكثر تفاوتًا في فهمه الأكاديمي للمواد، إلا أنه يقدم تفسيرًا قاطعًا للنبض الغنوصي كإشارة مميزة لهذا الصعود “المحوري” إلى تجاوز رأسي أكثر من أي وقت مضى، وهذا هو نفس الدافع أو الشفقة التي يجدها المرء في تمييز “يوهانين Johannine” بين أن تكون “في” العالم وأن تكون “منه”. وقد ساهمت جميع الثنائيات السامية في العصر المحوري في زيادة سيطرة البشرية نظريًا على عدد كبير من الفروق المفيدة: الروح والمادة، والروح والآلية، والذاتية والموضوعية، والغاية والوسيلة، وما إلى ذلك. وعملية “التوحيد” التي من خلالها أخضعت المستويات العليا من الألوهية بشكل تدريجي وطردت العوالم والقوى الإلهية الوسيطة – وهي العملية التي وصلت إلى واحدة من أكثر ذروتها أهمية في حساب الخلق الأول في سفر التكوين، حيث تم تصوير الله الخالق على أنه متفوق بشكل جذري على خلقه – وكان أيضًا الاستعباد التدريجي للبشر على أنهم ذوات معزولة السيادة، وأفراد على صورة الله الواحد العلي، والأشخاص المتبصرين بالكامل، وأخيرًا الذاتيات الحديثة.
تجلب القصة المسيحية هذا التاريخ إلى أحد معابد الحكمة (مستجمعات المياه) التاريخية، حيث يوجد في الإنجيل هجوم جذري على جميع الهياكل والمعابد الوسيطة للسلطة الأبوية -جميع المؤسسات الدينية والاجتماعية وجميع المناصب القائمة على أساس النسب والامتياز، وجميع المراكز المتداخلة للأقارب والشعب والمملكة والإمبراطورية والكهنوت- من خلال ادعاء الروح الفردية ببنوة فورية للإله الواحد، بالنسبة إلى سلوتردك، فإن المسيح هو “ابن الله غير الشرعي”، طفل الأب الطبيعي، كما كان، حُبِل به ووُلِد خارج جميع مسارات الإرث المشروعة وجميع الهياكل الشرعية للسلطة، وأصبحت ثورته ضد البطريركية في الوقت المناسب ترخيصًا ممنوحًا لكل روح: الآن يمكن لكل واحد منا، في إنسانيتنا الفردية، التي تحررت من خلال هذا الردة الاجتماعية والروحية، أن يصبح ابنًا غير شرعي لله أيضًا، شخصًا يسكن فيه الله مباشرة كأب، في الوقت نفسه وبنفس المنطق؛ تم زرع نظام جديد للرغبة الاجتماعية والسياسية في الطبيعة البشرية: نظام “المساواة اللانهائية”، وهو ممر من السياسة النفسية للقيادة والطاعة إلى نظام تقرير المصير المتساوي، وتحويل الفرق من رأسي إلى أفقي.
وهنا مرة أخرى، الصورة المفضلة لسلوتردك هي طرد الأرواح الشريرة، والتي يجب فهمها، كما يعتقد، كنوع من تطهير الفضاء المقدس، وتطهير المعبد، تم سابقاً تصور الروح على أنها “ليست مسرحًا ولا مصنعًا كما هو الحال في العصر الحديث، بل ملاذً لم يُسمح فيه بعرض أي صورة باستثناء صورة الإله، والتي كان يجب أن توضح صورته على أنه إله لا يوصف”. وفي ظل طرد الطاقات الروحية الأكثر عنصرية التي سادت سابقًا بمثل هذه الطفرة في الطبيعة والمجتمع والروح، أصبح المبدأ المتسامح للعصر المحوري أيضًا مصدرًا للذات السياديّة، وذلك لأن طرد الأرواح الشريرة من الروح كان يجب أن يكتمل من خلال “دخول مبدأ مزهر لاحق، وهو ما أخذ صفة مأمور الروح المطهرة، حسب دوره الرقابي الجديد، واعتباره مصدر الإلهام. وهكذا خضعت الروح لتغيير في الحيازة: فقد أصبحت روح الله بذاته هي التي تعمل داخله.
قد يكون هذا التطهير للحرم الداخلي للذات تجربة دينية بحتة، ولكنه كان أيضًا حلقة حاسمة في تاريخ التنوير، ومن ثمّ العلمانية، لأنه عندما تحطمت معظم مناطق الملاذات العلية أخيرًا -كما كان عليها أن تكون- أصبحت الذات السيادية الملاذ الوحيد المتبقي لأي أسرار قد تترك، وقد استنفدت جميع الإمكانيات الأخرى للملاذ على التوالي، ثم تم افتراضها في هذا السمو النهائي، واختفت معها أخيرًا.
ولا يعني ذلك أن الشوق قد خفت لتلك الملاجئ الأخرى؛ ففي أعقاب رحيل الله، اتخذت محاولات الإنسانية أشكالًا عديدة للتراجع مرة أخرى إلى مجال وقائي، فبالنسبة للبعض، أصبحت الحرية المقدسة لأبناء الله غير الشرعيين صراعًا مثاليًا ثم علاجًا نفسيًا لتحصين الأنا المحاصرة ضد أعماق اللاوعي الإلهي، وكل ملاجئ الراحة الدينية يجب أن تفرغها الروح نفسها الآن، من خلال التنشيط الذاتي المتواصل والامتناع عن الذات، وبالنسبة لآخرين، فإنّ إخراج الدين في المجتمعات المتقدمة جعل من الممكن أن يصبح الإيمان “إرادة الإيمان” نظامًا تجريبيًا فرديًا، يُفهم على أنه نوع من العلاج الخاص أو البنائي أو النظافة النفسية، يميل بشكل طبيعي في اتجاه التصوف، (سلوتردك يَعتبر وليام جيمس المدافع الأكثر إثارة للإعجاب عن دين ما بعد الدين، الدين الأمريكي الشبيه جدًا بمكملات الفيتامين). وأيضًا بالنسبة لآخرين، هناك تعصب إيماني وعقائد رجعية لملء الغياب الذي تركه ذبول الإيمان الحي.
وعلى أية حال، فإنّ السحر والقطع القديمة غير قابلة للاسترداد، ومع عدم وجود إله يراقبنا، لا توجد حقًا خطيئة يجب التوبة منها قبل تحديق الإله، ومن ثمَّ لا توجد قوة يمكن أن تصالحنا مع أو تنقذنا من مصير لا يمكن فك شفرته، يريد الإنسان الحديث ألا يطيع قوة أعلى، بل أن يكون هو تلك القوة، وبمجرد تصفية الله والروح، تُركنا لوحدنا مع أحداث عالم متوحش، تتكشف حولنا طاقة بلا هدف في هذه المساحة “الضعيفة”، بدون إشارات أصابع ترشدنا عبر التضاريس التي لا تحتوي على علامات، لقد أصبح العالم حقًا كوحش بالنسبة لنا، ونحن أبعد ما نكون عن إيجاد مأوى في أي مجال من المجالات المشكوك فيها من الحصانة المشتركة، نكتشف فقط أن النزوح المتحكم به نحو الحرية النهائية التي وعدتنا بها أسطورة التنوير أثبت بدلًا من ذلك أنه انزلاق متهور نحو التفكك الاجتماعي والبيئي، والتشرد النفسي، وما يسميه سلوتردك الملاجئ “غير المحمية”.
إن العلوم المختلفة قد لا تهتم أو لا تصل إلى أي تفسير لوحشية العالم، ولكن -بالطبع- هذا ما يجب على الفلسفة، حيث يجب عليها أن تسأل عما يجب أن نفعله الآن، ويبقى الجواب بعيد المنال على أية حال، ولكن من الواضح أن الدين لن يعود لاستئناف سلطته القديمة، فمثل هذه الأديان التي لا تزال موجودة بيننا هي على الأكثر-من وجهة نظر سلوتردك- نظم فرعية اجتماعية محلية تقطن أطراف الحياة المدنية، وحتى الكنائس، بدلًا من ارتباطاتها الأصلية الصادقة للذوات والتي تحتل محور الأشياء، تصبح مشاكسات هامشية هدفها الحقيقي الوحيد هو إدارة ورعاية الكآبة العميقة، وهو ما يدل على استحالة عودة الكنيسة التي كانت، وقد تزدهر المحاكاة المختلفة للدين الأساسي -الروحانية العلاجية والأصولية والطوائف المروعة والاستبداد التكاملي وما إلى ذلك- لبعض الوقت هنا أو هناك، وقد يزداد التوق الديني لفترة وجيزة في أي مكان تبدأ فيه دولة الرفاهية بالانسحاب أو يصبح المجتمع المدني فوضويًا للغاية، لكننا لم نجد مجالًا حقيقيًا للحصانة الاجتماعية المشتركة يكفي أو يناسب عصرنا من “الأنظمة السياسية المفرطة” وأزمات النظام البيئي المعولم، وحتى الحصانة الخاصة لا يمكن الحفاظ عليها بمرور الوقت إلا في إطار احتضان مثل هذا المجال.
يحدد سلوتردك ثلاثة أنواع من جهاز المناعة الذي يعتبره ضروريًا للوجود البشري: البيولوجية (الطبيعية)، والاجتماعية (التي تتكون من التضامن والدعم المشترك)، والرمزية أو الطقسية (التي تمنح البشر القوة من مصادر أعلى كلما يشعرون بأنهم عاجزون). وقد تم إضعاف الثالث منها بشكل لا يمكن إصلاحه من خلال العلمانية والفردانية، بينما تعرض الثاني لترقيق وذوبان، ولا زلنا لم نكتشف أي نظام فعال للحصانة المشتركة للمجتمع العالمي الذي يتشكل الآن، أو نبتكر أي ملاجئ جديدة ضد وحشية عالم المصير الفارغ.
وهنا إن كنت قد أعطيت انطباعًا بأن السرد الكبير لسلوتردك هو ببساطة قصة تراجع، فذلك فقط لأنني اقتصرت على نقده لسرد معياري معين لموضوع متجدد، فهو يعتقد أنه موضوع صحيح في عصر أزمة النظام البيئي العالمي والتجزئة الاجتماعية والسياسية، وأن هناك حاجة ماسة إلى شيء مثل قوة الدين لخلق المجتمع والتكافل، وهو يلاحظ بؤس الإيمان الطويل، والذي كان على مر السنين يسحب هدير الإيمان وقوته بشعور ساذج معين، فعلى سبيل المثال يكره سلوتردك بشدة النزعة الاستهلاكية غير الواضحة للسياح الذين يتجولون عبر الكاتدرائيات يرتدون ملابس الشاطئ ويلتقطون الصور، لكنه في الوقت ذاته لا يرغب في العودة إلى أساطير أو تسلسلات هرمية الماضي، كما أنّه لا يغضب ضد التكنولوجيا إجمالًا، ولا ينأى بنفسه مبتعدًا بشكل حزين في نوبة من شذوذ هايدجرية Heideggerean. فمنذ اللحظة التي قام فيها الإنسان بتكسير صخرة بأخرى، كان مصيرنا هو استخدام قوة منظمة ضد القوة المضطربة من أجل تحقيق غاياتنا، ولا يمكننا أيضًا أن نأمل في مستقبل أفضل بعيدًا عن إنجاز من البراعة التكنولوجية.
يعتقد سلوتردك أن ما نطلبه حقًا ليس محاولة التراجع إلى ماضٍ لا يمكن إصلاحه، بل بدلًا من ذلك مجال جديد للتكافل يمكن أن يشمل كل الحياة، مأوى قوي بما يكفي لخلق حصانة مشتركة قوية للكل الذي يعيش بلا حماية: المجتمع العالمي والحيوان والحياة النباتية والطبيعة والأرض نفسها، لقد فُقد الدين بشكل لا رجعة فيه كنظام ملزم للقيم، لذلك نحن بحاجة إلى ورع (تديّن) جديد مكرس ومستدام من خلال وحدة الأرض التي نعيش فيها ونتشاركها ونعتمد عليها، فيما يتعلق بملاحظة سلوتردك، قد ذهب إلى أبعد من ذلك، إلى تاريخ الوحي -إن كان استخدام هذه الكلمة- حيث يستمر حتى يومنا هذا، فهناك أشياء كثيرة تعلمناها في طريق الحداثة، مثل نبل بحث الروح الفردية “الفخر” بنظام الحرية الشخصية. هذه دروس يجب ألا نتخلى عنها أو نطرحها طيّ النسيان إذا أردنا خلق مستقبل صالح للعيش فيه، أما بالنسبة لرأي سلوتردك، فهذا هو ما يشكل “العهد الأحدث.”
وبالنسبة لي، فهنا على الأقل، تميل التفاصيل إلى أن تصبح غامضة بعض الشيء، حيث أجد أن سياسات سلوتردك غير مفهومة إلى حد كبير، على الرغم من أنني أعترف أنه قد يكون لها نوع من التماسك العميق الذي فشلت ببساطة في فهمه، كل ما يمكنني سماعه هو التنافر، فهو يمكن أن يبدو في بعض الأحيان، بجنون طفولي مثل أي ليبرالي أمريكي يتغاضى عن أحكام الرعاية الاجتماعية، وفي أوقات أخرى، يعبر عن ازدراء صحّي للعبادة الديمقراطية الليبرالية المتمثلة في الرداءة، فضلًا عن سجن الروتين الذي تحتجز فيه الدولة الحديثة والاقتصاد الحديث الكثير من الناس، وفي أوقات أخرى، يبدو أن خوفه “النيتشي” من عصر “آخر الرجال” يطغى على رؤيته للتضامن العالمي وإحساسه باعتمادنا البشري المثير للشفقة على مجالات الحصانة المشتركة، ومع ذلك، فإن تلك الرؤية وهذا المعنى، بالإضافة إلى الإنسانية الأساسية والمتواضعة لكليهما، هي التي تضيء وتوجه تفكيره في أفضل حالاته، ومع ذلك، لأنني ما زلت غير مقتنع بالوجود الحقيقي للرؤية السياسية الأكبر لسلوتردك اعتبارًا من الوجود الحقيقي للسنوارك snarks (مخلوقات خيالية)، لكل ذلك لا أميل كثيراً إلى التوسع في محتويات السابق بناءً على التكهن بعلم الأحياء الجديد.
ماذا يمكن أن يفعله المسيحيون من أي من هذه القصة؟ لماذا يجب أن يهتموا؟ بادئ ذي بدء، يجب أن يعترفوا بأن سلوترديك، بتأكيده لتشخيص نيتشه لموت الله في العالم المتقدم، لا يفعل شيئاً أكثر من ذكر حقيقة واضحة في التاريخ، إن اختفاء هذا الأفق المتعالي للمعنى والأمل الذي عاش في ظل احتضانه السلعي جميع الأشخاص والثقافات التي كانت تعيش في السابق هو ببساطة أمر واقع، إن التطرف المحموم للأصولية والقوميات الدينية وتكاملات التشفير الفاشية في لحظتنا الحالية لتشهد بشكل مؤثر على استحالة تصور الثقافة الحديثة المتأخرة لإله هو أي شيء بخلاف بناء إرادة السلطة أو الحاجة العاطفية اليائسة، وليس لأي من هذه المعاني علامة حقيقية على إحياء الإيمان، وكلها ليست سوى خيبات بشعة لقساوة الموت العميق، وبقدر ما كانت المسيحية الحية الأصلية في الماضي هي المنبع الحيوي لـ “التنوير” في العالم الغربي، فإن رحيل تلك المسيحية عن الثقافة الغربية قد أزال كل تلك الاحتمالات السابقة لـ “المناعة المشتركة” التي لُخّصت في المسيحية ذاتها.
إن أجيال الروح ليست قابلة للعكس، أو حتى عرضة للتلخيص، هذه نظرة هيجلية لا ينبغي لأحد أن يشك فيها: التحولات التاريخية والثقافية العظيمة ليست مجرد تمزيق للعلاقات، بل هي أيضًا لحظات نقد، فعقلانية التاريخ تكمن في الانتصار المتواصل للتجربة على النظرية المجردة، ومن ثَمَّ هي تنبئ أيضًا عن استحالة أي عودة بسيطة إلى سذاجة ما قبل النقد، إن كل اقتصاد ثقافي يُهزم -عاجلًا أم آجلًا- تقريبًا بسبب تناقضاته الداخلية، ويتم منع انقطاع هذه العملية الطبيعية عن طريق غزو أجنبي مفاجئ، والنظام الجديد الذي سيخلفه ربما لا يكون أكثر تحررًا من التناقضات الخاصة به، والتي سوف تنكشف بدورها، والأهم من ذلك، أن انهيار كل نظام ثقافي هو أيضًا استنزاف للتركيب الذي تجسده تلك الثقافة، وهكذا، تؤدي البراءة إلى خيبة الأمل، ولا يمكن أن تعود خيبة الأمل إلى البراءة.
فمن المؤكد أنه قد تم برهان ذلك في حالة العالم المسيحي وما تلاه من علمنة، فالمسيحية بالنسبة للإمبراطورية أو الدولة القومية، لكونهما مزيجًا من مبدأين لا يمكن التوفيق بينهما في نهاية المطاف، ولا محالة من أن يدمر هذا المزيج نفسه، لقد استمر هذا العالم المسيحي، ولطالما استمر بحكم التفاني الطائفي العضوي الحقيقي مع بنية تحتية عملية ونظرية دائمة، لكن التناقضات المتأصلة فيه دمرت هذا الأساس في النهاية، كثيرًا ما أضاءت لغة ومبادئ الإنجيل المجتمع الذي كان يعتز بهما؛ قامت مكاتب وسلطات الدولة على الدوام بإيواء وحفظ وتعزيز الدين الذي شرع لهم، لكن التحالف بينهما كان اتفاقًا انتحاريًا، فقد كان في النهاية أكثر مذيب للعالم المسيحي تدميرًا، هو الوجود اللامتناهي للمسيحية فيه، كانت القوة المسببة للتآكل الأكثر تدميرًا للمسيحية كمصدر موثوق للنظام الاجتماعي في النهاية العبء الساحق للعالم المسيحي عليها.
لقد ثبت دائمًا أنّ مقاومة هذا المصير غير مثمرة، لأنها تميل -على وجه التحديد- إلى الانطلاق من عقلانية العالم المسيحي القديم، فعلى سبيل المثال، في الثقافة الكاثوليكية ومنذ عهد مجمع ترينت على الأقل، كان النضال ضد واقع الهشاشة الأساسية للنظام القديم ثابتًا وعديم الجدوى تمامًا، لقد كان النضال بمثابة محاولة لإنقاذ منزل ابتلعه البحر بالفعل بإضافة أقفال جديدة إلى أبوابه، وعلى الرغم من الثروات الثقافية والاجتماعية التي لا حصر لها والتي أوجدها التوافق غير المستقر بين الإنجيل والإمبراطورية -وعلى الرغم من أنه ربما كان من الممكن استعادة العديد من هذه الثروات في إطار توليفة مسيحية جديدة- إلا أن المسيحية في الماضي كانت كارثة منتجة ومحطتها الحتمية كانت دائمًا علمانية، ومع مرور الوقت، كان على هذه العلمانية أن تصبح عقيدة ميتافيزيقية واعية تمامًا بذاتها.
أما بالنسبة للنظام العلماني الليبرالي الذي خلف العالم المسيحي، فإنّ ضغوطه وتقلباته الداخلية واضحة للغاية، ففي المجال الاقتصادي، خلقت العلمانية معجزات من إنتاج وتدمير الأدوات المادية، فضلًا عن أشكال من الجبروت والقمع على نطاق لم يكن من الممكن تخيله في السابق، وفي المجال الاجتماعي، أوجدت صراعات مستمرة بين رؤى الخير المتعارضة مع عدم توفير مؤشر واضح للقيم يستطيع الفصل في صراعاتها، وسواءً للأفضل أو للأسوأ، فقد ألغى هذا النظام أو همش -تقريبًا- جميع أشكال تسوية أو تبعية الخلافات للقوى الاجتماعية وقلل من النظام الاجتماعي ذي المعنى ليصبح مطالبات مترابطة ولكنها بالضرورة معادية للدولة ورأس المال والسيادة الفردية، وسلوتردك محق تمامًا في المعنى الذي ذهب إليه أنّه في ظل هذه الظروف، لدينا القليل من الدفاعات ضد الكوارث البيئية والاجتماعية التي خلقناها لأنفسنا، إذن، مرة أخرى، بالنظر إلى هذه الحقائق، ما الذي يجب على المسيحيين فعله؟
بالتأكيد، ما لا ينبغي عليهم فعله هو الانغماس في الحنين إلى الماضي وإظهار الاستياء، أو القيام بتهدئة اضطراباتهم بأوهام الاستعادة الطفولية، لقد كشف النقد الجوهري للتاريخ عما كانت عليه الكثير من الأوهام القديمة، ولا يمكن أن تكون هناك عودة بريئة إلى هياكل السلطة التي تم الكشف عن نفاقها بوضوح، وذلك لعدد من الأسباب، منها مثلًا رفض التداول الحالي لـ “النزعة التكاملية” الكاثوليكية اليمينية: رحلاتها الحمقاء الخيالية فيما يتعلق بالبابوية الإمبريالية، نموذجها الأساسي الحديث المبكر للاستبداد الكنسي؛ تكريسها لصورة النظام الاجتماعي والسياسي المسيحي الذي لا يمكن أن يكون أقل من أن يكون “تكامليًا” أو أكثر من أن يكون “خارجيًا” وسلطويًا في آلياته؛ والعنصر المثير للقلق في الخيال السادي المازوخى في تأييده لأشكال متطرفة مختلفة من الإكراه والقهر والعنف والإقصاء؛ والغياب التام لروح المسيح عن أهدافها الفعلية؛ وتشابهها الغريب مع اتفاقية عشاق Star Trek (برنامج خيال علمي تلفزيوني) والذين يناقشون بجدية استراتيجيات إنشاء اتحاد الكواكب المتحدة، لكن أعظم سبب لازدراء الحركة بأكملها هو أنها ليست أكثر من محاولة بغيضة لإعادة تمثيل تاريخ الفشل الذي تريد الحركة تصحيح نتائجه، لم تُفرض العلمانية على العالم المسيحي من قبل قوة معادية عارضة، بل إنها ببساطة هي المسيحية القديمة في مرحلتها النهائية.
إلى هذا الحد، يجب على المسيحيين تعلم الكثير من رواية سلوترديك، حتى لو كانوا يعترضون أو يحزنون على بعض تفاصيلها، وأؤكد هنا، أن العبء الجميل للوعي التاريخي الذي تحدثت عنه أعلاه يمكن أيضًا أن يعيق الخيال السياسي والأخلاقي، فالكثير من “علم الأنساب” -أو الكثير من التاريخ، كما حذر نيتشه- يمكن أن ينتج قدَرًا عاجزًا، ويدرك سلوتردك نفسه ذلك تمامًا، ولكن من الملاحظ مدى ضيق افتراضه بأن الوضع الحالي للغرب يجب أن يحدد مستقبل الدين، أو حتى مجرد “المجال” المسيحي للحصانة، وقد يكون على حق بالطبع، لكنني أعتقد أيضًا أنه يفشل أحيانًا في تقدير الدرجة التي يكون فيها التاريخ دائمًا مجالًا من المستجدات الراديكالية، يميل علم الأنساب إلى خلق انطباع بأن التطور الثقافي يحكمه قانون غير مرن للسببية الفعالة والمادية، ولكن في الواقع، يتم إعادة توجيه العمليات التاريخية باستمرار من خلال بواعث رسمية وقطعية لا يمكن ببساطة التنبؤ بها.
إن تكوينات النظام المسيحي القديم غير قابلة للاسترداد الآن، وهذا من نواح كثيرة يعتبر للأفضل، لكن إمكانيات رؤية اجتماعية مسيحية أخرى، ربما تكون مختلفة جذريًا، فلا تزال هذه الرؤية بحاجة إلى استكشاف وصقل، قد يكون المسيحيون قادرين على تخيل تركيبة اجتماعية وثقافية مختلفة تمامًا؛ مهذبةً بكل ما تعلمته من إخفاقات الماضي، محررةً من كل الحنين والاستياء، حريصةً على جمع كل الأجزاء الأكثر فائدة وجمالًا وبروزًا من الصرح المدمر للمسيحية القديمة من أجل دمجها في أنماط أفضل، يمكن للفكر المسيحي أن يعود دائمًا إلى رواية نهاية العالم لحدث الإنجيل في بدايته الأولى، ورسم قوّة متجددة من هذا المصدر الذي لا ينضب، وتخيّل تعابير جديدة عن الحب الذي من المفترض أن يعلنه للعالم، وطرق جديدة تتجاوز جمود الحاضر.
وكمحصلة نهائية، يمكن القول أنّه إذا ما تمكن المسيحيون من تحرير أنفسهم من أسطورة العصر الذهبي المفقود، فقد يكون الوضع شيئًا أكثر وحشية وغرابة مما يمكننا أن نتخيله في الوقت الحاضر، وفي وقت واحد أكثر بدائية وأكثر تعقيدًا، وأكثر فوضويةً في بعض النواحي وأكثر تنظيمًا في أخرى، ومع ذلك، سواء كان هذا الشيء ممكنًا أم غير ممكن، فمن الضروري أن ندرك أن المكانة التي نجد أنفسنا فيها اليوم ليست مصيرًا ثابتًا، وأمر المسيحية يتساوى لدينا إذا كنا غير راغبين في التمييز بين عظمة العالم المسيحي الفخمة ولكن المنحطة في كثير من الأحيان وبين المجد المسيحي الحقيقي الذي كان قصيرًا جدًا، إنّ مآزق الحاضر هائلة إلى حد ما، كما يوحي تشخيص سلوتردك، وإنّ حاجتنا إلى مجال عالمي من التضامن يمكنه حقًا حماية حياة الكل أمر مُلح تمامًا كما يدعي سلوتردك، ولكن من الصحيح أيضًا أنه ليس المقدر لنا في الواقع أن نعيش “بعد الله”، أو أن نلتمس مأوى لنا فقط في أعقاب رحيل الله، في الحقيقة، من بين جميع أشكال المستقبل التي قد نتخيلها، قد يكون هذا الأمر الأكثر استحالة على الإطلاق.