- راشيل آدامز*
- ترجمة: سيف الطلوحي
- تحرير: عائشة ناصر
تمثّل فكرة الخطاب عنصرًا مركزيًّا في أعمال ميشيل فوكو، وإحدى أكثر المصطلحات الفوكوية المرصودة بسهولة -مثلها مثل “تحليل الخطاب الفوكوي”- التي تشكّل الآن مجالًا أكاديميًا قائمًا بذاته، من أجل ذلك قصدَ هذا المنشور إلى وصف فكرة فوكو عن الخطاب وليُعرِّف تعريفًا عامًّا مهمّة تحليل الخطاب الفوكوي.
لقد تبنّى فوكو مصطلح “الخطاب”؛ ليدلّ على نظام اجتماعي مرتبط بالتاريخ، يُنتِج المعرفة والمعنى، وقد لاحظ بوضوح أنّ الخطاب المبني على التأثير، يُنتِج ما دعاه “ممارسات تُشكّل -منهجيًّا- أهداف الكلام”(1).
لذا فالخطاب وسيلة تنظّم المعرفة التي تؤسس للأعراف الاجتماعية -والدولية تبعًا- من خلال التفاهم الجماعي حول: المنطق المطّرد، والخطاب المقبول كحقيقة اجتماعية(2)، وبالنسبة لفوكو فإنّ المنطق الناجم عن الخطاب مرتبط بنيويًا بالمعرفة الأوسع (هيكل المعرفة) للفترة التاريخية التي نشأ فيها. ومهما يكن من أمر، فإنّ الحوارات والخطابات تُبنى بتأثيرٍ من السلطة المتداولة داخل نظام اجتماعي ما، وهذه السلطة تشرّع قوانين معينة وتضع تصنيفات تقرُّ معايير تشريع المعرفة والحقيقة خلال نظام منطقي، وهذه القواعد والتصنيفات تعتبر قَبْلية، أي إنّها تأتي سابقة على الخطاب(3).
وهكذا يحجب الخطاب بنيته وقدرته على إنتاج المعرفة والمعنى، وكذلك يدّعي الخطاب تجاوزًا للتاريخ لا يقبل الجدل(4). علاوة على ذلك، تعالج قواعد الخطاب معانيَ الجمل أو النص لتصبح موصلة إلى العقليّة السياسية التي تؤكد إنتاجها عبر ترسيخها في المجتمع(5)، لكن في الوقت نفسه يخفي الخطاب قدرته على تشكيل معانيه وأغراضه السياسية.
إلى الحد الذي يتقنّع فيه خطاب ما ليبدو تاريخيًا أو كونيًا أوعلميًا يفيض موضوعية واستقرارا؛ يصف ستيفن جُلّ مبدأ فوكو في الخطاب بأنّه “منظومة أفكار وتطبيقات لها ظروف وجود محددة، وتكون أكثر أو أقل مؤسسية، لكنّها مفهومة بشكل غامض لأولئك الخاضعين لهيمنتها”(6).
وكما يقيّد الخطاب نصًّا بمعنى محدد(7)، فإنه يُقصِي المعاني والتأويلات الأخرى، ويتحدّث فوكو عن هذه العملية المنطقية في تقليص احتمالات النص (المعاني الأخرى) من أجل القضاء على الاختلافات التي قد تتحدى أو تزعزع قوة الخطاب ومعناه:
في كل مجتمع يكون التحكم في إنتاج الخطاب واختياره وتنظيمه وإعادة توزيعه في يد نفر من المنتجين، يقع على عاتقهم الحدُّ من سلطته ومخاطره؛ لاكتساب السيادة والسيطرة على الأحداث العشوائية، وللتهرّب من أعبائه المادية الهائلة(8).
وإحدى السبل التي يتحقق بها ذلك تكون عبر التعليقات على خطاب الجمل أو النصوص التي تكرّس المعاني الصادرة عن الخطاب من دون خرق النموذج المنطقي، ويشرح فوكو هكذا:
إنّ التعليقات تتفادى عنصر الصدفة في الخطاب؛ وذلك بأخذه في الاعتبار، فهو يتيح لنا فرصة قول شيء غير الذي يقوله النص نفسه، لكن شريطة أن يظل النص نفسه هو المنطوق [مكررًا]، مفروغًا منه بطريقة ما، والتعدّدية المطلقة والصدفة ينتقلان عبر عنصر التعليق؛ مما شأنه أن يقال إلى العدد والشكل والأقنعة وحيثيات التكرار. لم يعد الإبداع يكمن فيما يقال بل في ظهوره مجددا(9).
ومن خلال هذه العملية التكرارية يطبِّع الخطابُ؛ شاملا الأجساد والذاتيات وما تهيمن عليه -كما اكتشف فوكو في “المراقبة والمعاقبة، ١٩٧٥” وفي بعض سلاسل محاضراته اللاحقة (10)– عبر تعديل معنى النص، وبالتحديد المسبق للتصنيفات العقلية تكّونَ الجمل من “المعروف عرفا”، ويكوّن الخطاب واقعًا معرفيًا، ويصبح تقنية للتحكم والضبط(11)، وما لا يتّفق مع حقيقة الخطاب المنصوص عليها يوصم بأنّه تحريف، وهذا ما يجعله خارج الخطاب، وخروجًا عن المجتمع، أو”العرف الاجتماعي”، وبالتأثير، برهن فوكو على هذه الممارسات الفكرية للإقصاء في تصنيفات الرشد والجنون في أول عمل كبير له “الجنون والحضارة”(12).
وعلى أية حال، ففي أحد آخر أعماله المنشورة نجد وصفًا ملزمَا لوظيفة تحليل الخطاب بوصفها تقنية النقد والإشكالية -إرادة المعرفة: تاريخ الجنسانية الجزء الأول(13)– مع تقدير الجنس والخطاب الذي ينتج معناه التاريخي؛ كتب فوكو:
“لم أصبح الجنس مثار جدل واسع وماذا قيل فيه؟ وما آثار السلطة المتولّدة مما قد قيل؟ … القضية المركزية إذن … هي تعليل الحقيقة المعبّر عنها، لنكتشف من الذي قام بالحديث عنها، والمواقف ووجهات النظر مما قالوه، والمؤسسات التي استدعت الناس للحديث عنه، التي تجمع وتوزع الأشياء التي قيلت، وما هو في الصميم، باختصار، هي “حقيقة الخطاب” الشاملة حيث الجنس “قد وُضِع في الخطاب”(14).
ما نصّ عليه فوكو بعبارات عامة هو مهمّة تحليل الخطاب إذ يجب “أن يؤخذ في الحسبان حقيقة أنّ (خطاب المعني) يجري الحديث عنه”، ويحلّل آثار السلطة التي أنتجها ما يقال، وعلاوة على ذلك، على تحليل الخطاب السعي إلى فك وزعزعة المعاني المقبولة والكشف عن أساليب الخطابات المهيمنة التي تقصي وتهمّش و تضطهد الحقائق التي تمثّل، على الأقل، مطالبات مشروعة على السواء للسؤال عمّا يمكن للسلطة ممارسته وما ينبغي عليها.
- راشيل آدامز كبيرة الباحثين في مجلس أبحاث العلوم الإنسانية في جنوب أفريقيا
الهوامش
- Michel Foucault, Archaeology of Knowledge and the Discourse on Language (1969) (trans. AM Sheridan Smith, 1972), 135-140 and 49. See also M Foucault ‘The Order of Discourse’ in R Young (ed) Untying the Text: A Post-Structuralist Reader (1981).
- في هذا الجانب ، تتداخل “أفكار” فوكو وجاك لاكان حول الخطاب، على الرغم من اختلاف تركيزهما. في حين ينظر لاكان إلى الخطاب من وجهة نظر التحليل النفسي، وبالتالي، الإعداد البين ذاتي، يركّز فوكو على الخطاب من وجهة النظر البنيوية للمؤسسات والسلطة.
See J Lacan The Seminar of Jacques Lacan Book XVII: The Other Side of Psychoanalysis (2007) (trans. R Grigg). - Foucault Archaeology of Knowledge (note 1 above).
- Foucault Archaeology of Knowledge (note 1 above) 126-134.
- Foucault Archaeology of Knowledge (note 1 above) 126-134.
- S Gill ‘Globalization, Market Civilization and Disciplinary Neoliberalism’ (1995) 24 Millennium – Journal of International Studies 399, 402.
- Following Derrida, I use ‘text’ to denote both the written and the spoken word. See, GC Spivak ‘Translator’s Preface’ in J Derrida Of Grammatology (1967) (trans GC Spivak, 1997) ix.
- Foucault ‘The Order of Discourse’ (note 1 above), 53.
- Foucault Archaeology of Knowledge (note 1 above), 221.
- يناقش فوكو في عمله اللاحق كيف يستوعب الأفراد ترتيب الخطاب ويعيدون إنتاج معناه والحقيقة ظاهريًا من خلال الاعتراف أو حتى من خلال خطابهم الخاص.
See, particularly, M Foucault On the Government of the Living: Lectures at the Collège de France 1979-1980 (trans. G Burchell, 2014). - Foucault ‘The Order of Discourse’ (note 1 above).
- M Foucault Madness and Civilization: A History of Insanity in the Age of Reason (1961) (trans. R Howard, 1973).
- M Foucault The Will to Knowledge: The History of Sexuality Volume 1 (1976) (trans. R Hurley, 1998)
- Ibid, 11.