- إس بارفيز مانزو
- ترجمة: سعود البويشك
- تحرير: محمود سيّد
مهما بلغت مزايا المشروع الاستشراقي للدراسات القرآنية وخدماته للعلم، إلا أنه في النهاية مشروع وُلِدَ من رحم الحقد، ونشأ في أحضان الهزيمة واقتاتَ على الانتقام؛ فتجلَّى به حقد الغالب على المغلوب، وامتعاض المناطقة من أهل الإيمان، وانتقام الوارثين المقلدين من المُحْدَثين.
بانتظام كافة النزعات الشاذة لشخصيته المتغطرسة بعنصريتها وعقلانيتها الهوجاء، ووهم التمكن من العالم والاستبداد به، وبتنسيقه القُوَى بين الدولة والدين والعلم= شَرَعَ الغرب في ذروة انتصاره المادي بهجومه الأكثر تصميمًا على لُبّ العقيدة الإسلامية بمؤامرة فاجرة لاجتثاث النصوص الدينية عن مكانتها الراسخة وإنزالها عن أصالتها التاريخية وإسقاط حصانتها الأخلاقية.
كان منتهى ما توسلَّه الرجل الغربي بهذا المشروع هو اختراق وعي العقل المسلم وضرب يقينه بإلهية الرسالة التي جاء بها الرسول ﷺ، وبذلك يتحقَّق خلاص الغرب من هاجس الإسلام إلى الأبد؛ وببلوغ هذا الهدف سينشأ مسلم غارق في الارتياب ومُترَع بالشبهات حول صحة عقيدته وعصمة الوحي القرآني وانعدام الإيمان بعالمية رسالة الإسلام. وبالتالي لن يمثل أي تحدٍّ للسعي الغربي في السيطرة على العالم. إن عدم التصريح بهذا الهدف وظهور مسوّغاته في المشروع الاستشراقي لا ينفي تضمّنه لها، بل قد يكون هو اللبنة الأساس لهذا المشروع في هجومه المُستميت على القرآن الكريم.
لقد أصبح من المُسلَّمات لدى طلاب العلوم الإسلامية أو التاريخ الحديث حقيقة أن المشروع الاستشراقي هو خطاب عارٍ عن أي سلطة أو تأثير، وأن ما أجري خلاله من دراسة نقدية للعلوم الشرعية كان مجرد مسرحية رخيصة لتشريع الغطرسة العِرقية الغربية. وبالتالي، لم تعد سطحية الطرح أو غلبة العاطفة الدينية تُهَمٌ ذات قيمة عند اعتبار المشروع الاستشراقي واجهة صارخة للهدم، بل إنها تَعمَد أحيانًا لمهاجمة نصوص القرآن من داخل المجتمعات الإسلامية. أحد مسوِّغات هذا التقييم سهولة تشخيص النزعة الانتقامية والبغضاء كسِمَة مميَّزة للمنهج الاستشراقي، ومن الجَليّ ندرة تعامل هذا المشروع مع العقائد والنصوص الدينية الأخرى بمثل هذه العداوة المَرَضية التي مارسها في دراسته للقرآن والنصوص الإسلامية.
دون مراعاة لأدنى حدود الاحترام والتقدير والتي غالبًا ما تكون مطلوبة في حقول كتلك التي يخوضها الاستشراق، باشرَ المستشرقون هجومهم على الإسلام مدجَّجين بحميَّة دينية فاقت تلك التي غزى بها الصليبيون بلاد المسلمين. بل إنه عند افتراض التسليم لمن سيدافع عن المنهج الاستشراقي في تناوله للنصوص الإسلامية باعتباره المنهج الطبيعي والمعقول لدارس عقلاني مدفوع بالهلع من الإسلام، فإنها عقلانية محمولة على أكتاف الغطرسة الأوروبية. واقعيًّا، لا مَناص من ملاحظة العنصرية الفَجَّة في قلب المنهج الاستشراقي والانتقام في منتهاه. [راجع مقال (الإسلام والاستشراق: ازدواجية التقاليد العلمية)، في MWBR، المجلد 6، رقم 1، ص 3-12]. بل إن مدى الرعب والعنصرية في هذا النهج تجاه الوحي القرآني دَفَعه لتخصيصه عن كل النصوص الدينية الأخرى بعملية تخريب هوجاء كانت محل استنكار حتى من رموز الاستشراق، فنجد أحد كبار المستشرقين الضاربين في العداء للإسلام إجناتس جولدتسيهر (Ignaz Goldziher) والذي صَرَخ مُستنكرًا: “ماذا سيتبقّى من الأناجيل -والنصوص الدينية المسيحية- إذا طُبِّقت عليها الأساليب التي نتعامل بها مع النصوص القرآنية؟”.
في هذا العصر الذي تبدو فيه الطوائف المسيحية أقرب لتحقيق المسكونية، فقد يبدو من القسوة -بل قد يكون من الخطورة- إدانة إرث الاستشراق بأكمله، أو على الأقل مشروع الدراسات القرآنية، باعتباره ثورة هدم سايكوباثية. لكن النبذ الكامل لهذا التقليد العلمي الراسخ قد يصبح سُنةً تحلّ محل التحليل النقدي الدقيق. حاليًّا وعلى أرض الواقع؛ هناك دلائل على أن بعضنا يفعل ذلك تحديدًا، يرفضون الاستشراق كليًّا، ويتوجَّسون منه بدلًا من دراسته وتحليله.
ومهما بلغت غنيمة الفرار العاطفي، فإن الموقف المعتمد هنا خالٍ تمامًا من الأهواء. في رأينا، لا بديل عن مناكفة الاستشراق، ولكن مناكفته في ساحات معارك معرفية وبأسلحته. فقط بتفكيك المعرفة الاستشراقية إلى أشلاء، ودحضها بالتفصيل= سيتمكَّن المسلم من الفعل وليس ردّ الفعل فقط. أمَا وقد قلتُ ذلك، فإنه ما يزال هناك جدل في أن أيّ قارئ جادّ، مسلم أو غير مسلم، لديه ملكة الصبر في التعاطي مع الوقاحة وسفاهة الأحلام وضِيق الأفق في المحتوى الاستشراقي، سوف يُدرك أن هناك بالفعل سُقم وقباحة فجَّة في كراهية المستشرقين للإسلام والمسلمين. هذا فضلًا عما سيجده المسلم في نفسه من استحالة أن يغفر للمستشرق تلك النبرة والأسلوب الذي استخدمه في كتاباته، لكونها ما تزال مؤلمة حتى يومنا هذا.
بالنظر الآن إلى حال الأمة يتضح أن المشروع الاستشراقي قد فشل فشلًا ذريعًا في جميع أهدافه الرئيسية؛ إذ سعى من خلال هجومه المتبجِّح على القرآن إلى إحداث خرق في تحصينات العقيدة الإسلامية، كما أمل القائمون عليه إحداث تأثير في الشخصية الإسلامية من خلال توظيف المعرفة العقلانية، وأما الدلائل اليوم فتشير إلى نفوق مثل هذه النوايا البشعة. اجتماع المسلمين اليوم ووحدتهم حول راية إيمانهم وتوحيدِهم أشدّ وثاقةً مما كان حالهم عليه قبل هجوم المستشرقين.
إذا كان هناك بعض المستشرقين الذين شذّوا عن هذا السلوك واجتهدوا بشكل مهذب لجعل الضمير المسلم أكثر انسجامًا مع شرائع الحداثة، فإن مصيبتهم في ذلك يجب أن تكون أعظم، لأن المسلمين اليوم يتحَدَّون الأسس الأخلاقية والمعرفية للحداثة نفسها. طَمَحَ مثل هؤلاء المستشرقين إلى سبر النصوص الإسلامية ونزع القُدسية عنها دون التعمّق في الملاحظة وذلك اتقاء تأثر عقائدهم، ولكنهم اليوم يقفون مُذعِنين صاغرين؛ فلا أساليبهم ولا عقلانيتهم أجدَتْ في تحقيق مسعاهم لحلّ لغز الوحي الإلهي.
ومما يُثير الشفقة، أن الهيكل الاستعماري وسلطته قد تمّ سحقه تحت أقدام القوى التحرّرية للتاريخ وقد كان هو الصرح الذي تستظلّ تحته دسائس الاستشراق، لذا لم تَعُدْ توجد تلك المساحة الفكرية ولا السياسية لتنفيذ الخطاب الاستشراقي اليوم. فلا عجب إذن أنه حتى المؤسسات الاستشراقية القديمة انسلخت من مظهرها القديم وأصبح المسلم الآن مقبولًا في جلساتها المغلقة. بإيجاز، كل ما كان المستشرقون يأملون في كسبه من خلال مساعيهم الأكاديمية لم يبلُغوه على الإطلاق. وبفضل ما بلغه العالم من تقدّم، يمكن للمسلم الآن أن يحلّل الاضطرابات المعرفية والعاطفية للشخصية الاستشراقية في بيئة عاطفية أقلّ اعتلالًا مما كان عليه الحال في ذروة الهيمنة الاستشراقية.
بتجاهل الجذور التاريخية للاستشراق الحديث التي تعود إلى ما قبل مستنقعات الجدل المسيحية في العصور الوسطى، ينبغي أن ننتبه إلى أن القرن التاسع عشر شهد ظهور عدد من السير الذاتية للنبي ﷺ، ولا سيما من قبل غوستاف وايل (Gustav Weil) (1843 م)، موير (Muir) (1861 م)، وسبرينجر (Sprenger) (1861-1865 م).
من الواضح أن أعمال السيرة الذاتية هذه تضمّنت أيضًا بعض المواد التمهيدية ذات الصلة بدراسة القرآن [83، 131؛ تشير الأرقام بين الأقواس المربعة إلى ترقيمها في قائمة المراجع] والتي تبلورت لاحقًا في فرع منفصل خاص بها. كما أن موير وسبرينجر قد وضعا القواعد في دراسة التسلسل الزمني (the Chronology) للنص القرآني، وقد أُثرِيت وفُصِّلت هذه الدراسات من قِبَل المستشرقين اللاحقين حتى بلغوا منها ما لم يكونوا يتخيّلوه، فقد قَدّمت مراجعة غوستاف فلوغل (Gustaf Flügel) للنص القرآني في عام 1834 م أحد أهم أدوات الاستشراق في هذا الفرع.
فيما يتعلق بالدراسات القرآنية، كان الحدث الأبرز في الاستشراق في القرن التاسع عشر هو نشر عمل نولدكه (Noldeke) الأساسي “تاريخ القرآن” (Geschichte des Qorans)، في عام 1860 م [88]. برعاية الأكاديمية الباريسية، وقد نشر العمل في ظل منافسة لنشر أفضل دراسة للقرآن في عام 1857 م. من بين العلماء الثلاثة الذين جَذَبهم هذا الموضوع، ألويس سبرينجر (Aloys Sprenger) وميشيل آمري (Michele Amri) وثيودور نولدكه (Theodore Noldeke) ، حصل الأخير على الجائزة، ومن رحم هذا الجهد المميز وُلدت أهمّ الدراسات الاستشراقية للقرآن الكريم.
منذ نشأة المشروع الاستشراقي، اعتُبِرَ تدوين التسلسل الزمني للنص القرآني مهمة رئيسية في هذا المشروع؛ إن هذه الفكرة تتبلور بالكامل بشكل علمي -إن صحّ التعبير- في أعمال ثيودور نولدكه. فعلى أثر جوستاف وايل [131l، اقترح نولدكه مخططًا زمنيًّا، يقسم الوحي فيه إلى ثلاث فترات مكية وواحدة مدنية، وقد حظيت هذه الدعوة بقبول واسع النطاق منذ ذلك الحين.
كذلك كانت هناك تقسيمات أخرى مقترحة أيضًا، وبالأخص تلك التي اقترحها موير والذي قسم الوحي إلى خمس فترات مكية بما في ذلك مرحلة ما قبل النبوة، ومرحلة واحدة مدنية [83]، (Grimme) ،(Hirschfeld) [51]. على الرغم من اختلافهم في ذلك عن المخطط الزمني للوحي المتعارَف عليه إسلاميًّا، إلا أن هذا المخطط الزمني الأوروبي المبكر ليس سوى لحن مكرر للمخططات الزمنية التقليدية.
الجدير بالذكر أن ريتشارد بيل (Richard Bell) [16-20] قد اقترح لاحقًا إعادة ترتيب النص القرآني بشكل أرعن وأكثر تطرفًا، مقتبسًا من هرشفلد قوله أنه عند تأريخ القرآن يجب على المرء أن يدقق في الآيات بدلًا من السور بأكملها، ومن خلال فحص الآيات بشكل فردي وتفصيلي بل حتى محاولة إعادة صياغة النص القرآن بالكامل في قالب جديد خاص به!
كانت النظرية الغريبة التي عمل هذا المعتوه الاسكتلندي طوال حياته لإثباتها تقترح أن النص القرآني تمت مراجعته وتنقيحه بواسطة النبي ﷺ بنفسه في المدينة المنورة. أحد أباطيله أنه أثناء قيام النبي ﷺ بمراجعة وتنقيح بعض نصوص الوحي، أَمَرَ كُتّاب الوحي بتدوين المراجعات على ظهر الأوراق التي تحتوي مُسبقًا على آيات تمّ استبدالها بها؛ بعد ذلك، قام كُتّاب الوحي بإدراج الآيات القديمة المنسوخة مرةً أخرى في النص كما كانت؛ بدافع حفظ كل ما يُوحَى للنبي ﷺ.
ونتيجةً لذلك، حاول تفسير كل خرق محتمل في النص على مبدأ أن هناك بعض بقايا نصوص مهملة تمّ حشوها في القرآن عن طريق الخطأ! مهما بلغت حذاقته في إعادة تأهيل وترقيع الحجة الأصلية، فإن ما جاء به ريتشارد بيل -وللمفارقة- أدّى إلى توقف المحاولات الغربية لإنشاء مخطط زمني للقرآن. كمثل الأفعى تلتهم نفسها من ذيلها، فَعَلَ الاستشراق كذلك بنفسه، فكل ما يمكن أن يُقال اليوم يتضح في الرأي الاستبدادي لدائرة المعارف الإسلامية (the Encyclopaedia of Islam) [72] (القرآن): أنه “لا يمكن رصف كل سور القرآن في مخطط زمني أو حتى تحديد الترتيب الدقيق للسور في أي مذهب رئيسي…”!
إن أسباب هوس المستشرقين بالتأريخ وتخطيط التسلسل الزمني ليست لغزًا؛ بل إنها تتجلّى في كون علم التخطيط الزمني هو بالأصل أحد أقسام التاريخ، والذي يوفر سلسلة من التفسيرات العلمانية والتي تمهّد للتفسيرات السببية لـ(ظاهرة) القرآن كما يعتبرونها. إن مثل هذا الترتيب العلماني للأحداث يجنّبهم الحاجة إلى اللجوء إلى القُدسية في تفسيراتهم وهو ما يدّعيه النظر الإسلامي، ولكن التمهيد لدراسة المقدسات طبقا لمفهوم (التسلسل الزمني) سيعيد صياغة مفاهيم النسبية التاريخية أو نسبية الحقيقة إلى صميم إدراكنا.
إذا كان القرآن نفسه قد يُفهَم على أنه تسلسل زمني للأحداث، فإن أيّ حقيقة جاء بها لا يمكن إلا أن تكون مرتبطة بأحداث هذا العالم الدنيوي، وبالتالي فهو غير معصوم من الخطأ. إن معالجة الوحي المقدس بمقياس الزمن (العلماني) هو خلط بين ما هو الخالد المحفوظ وما هو زائل قابل للتحريف. ليس من قبيل الصدفة أن المسلمين المؤمنين تمامًا بالأصالة التاريخية للقرآن كوحي منزّل من السماء لم تشتبه عليهم أبدًا الأحداث التاريخية المقدسة وبقية أحداث التاريخ الدنيوي القابلة للتدنيس والتحريف. إن القول بأن الوحي هو حدث تاريخي قول صحيح إلى حد ما، ولكن بقدر ما تدخل المقدسات كأحداث في التاريخ، بقدر ما تغيّر التاريخ ومفهوم الفناء بشكل جذري.
وهكذا، بالنسبة للمسلم، تختلف طبيعة الزمن والتاريخ اختلافًا جوهريًّا فيما يخصّ حدث تنزل الوحي، لأن الله حينئذ شرَّع أمورًا لتنظيم شؤون الجماعة بطريقة بارعة ومباشرة. إن عدم قدرة إبستمولوجيا الاستشراق على تقبّل إمكانية وجود تدخل إلهي في تاريخ البشرية خلال زمن النبوءة بلغت بنظام التسلسل الزمني الخاص بهم إلى أن يعمل فقط بالتوازي مع الإدراك الإسلامي للتواريخ المقدسة ولا يتقاطع معه. كل ما يمكن للمستشرقين تحقيقه من خلال طرقهم العلمية هو تقديم وطرح فئة (التاريخ) واستعمالها في فلك التواريخ المقدسة للنبوة دون الدخول إليها.
من الواضح إذن أن الأسلوب الاستشراقي غير قادر على الفصل في قضية (الحقيقة التاريخية): كل ما يستطيع تحقيقه هو الخلط بين طريقتين من النظر إلى الحقائق: التأريخ العلماني، والتأريخ المقدس. عند النظر إلى التزامه الأيديولوجي، لا يمكن أن أرى التجني بافتراض أن الهدف الأقصى للاستشراق من خلال ممارساته في علم التسلسل الزمني هو عدم إطلاق أيّ حكم على حقيقة القرآن، بل إثارة ونشر الشبهات حول عصمته، وبالتالي التلبيس على ضعفاء الإيمان.
إلى جانب علم التسلسل الزمني، فإن الموضوع الرئيسي الآخر لعلوم المستشرقين المدعومة بالذرائع العلمية هو ما يمكن تسميته على نطاق واسع باسم (الدراسات النصية واللغوية) (textual and linguistic studies). بما أن التحليل والتفسير اللغوي كان الدعامة الأساسية لاتجاهات التفسير الإسلامية، سيتوقع المرء أن المسلمين لن يلاحظوا أن منهج المستشرقين العصريين غير متجانس مع مزاجهم التقليدي فقط، بل أيضًا سيجدون أن المنتج الغربي سيكون قادرًا على إثراء فهم المسلمين لذاتهم وهويتهم.
والواقع أن الأمر كذلك إلى حدٍّ ما. إن الثقافة الحديثة التي تمتلك معرفة أوسع بكثير من فقه اللغة السامية المقارن وحتى اللغات الكلاسيكية الأخرى، ناهيك عن الأساليب الأكثر تعقيدًا للتحليل اللغوي الموجودة تحت تصرفها، مما جعل هذه الثقافة قطعيًّا في وضع أفضل لتسليط الضوء على الكلمات والمصطلحات الغامضة التي حيَّرت المفسرين التقليديين. في كثير من الحالات، نجد أن المعرفة الحديثة هي في الواقع نعمة وقد قدمت تفسيرات أكثر معقولية، ودراسة أكثر تماسكًا في علم أصول الكلمات (etymologies) كما تتبّعت كلمات أجنبية أكثر مما كان ممكنًا للعلماء المسلمين التقليديين.
ومع ذلك، هناك دائمًا الجانب الجدلي والازدرائي للجهد الاستشراقي. حيث لم يقتصر الأمر على افتراضهم الخواء الثقافي التامّ لعصور ما قبل الإسلام، بل يمتدّ ذلك إلى اجتهاداتهم وتقديراتهم الحذرة، بل ويجتهدون تحت افتراض أن وجهة النظر الإسلامية التقليدية المتأثرة بالاعتبارات اللاهوتية والعقائدية يجب بالضرورة التخلص منها. فدائمًا ما نجد العلماء الغربيين في حال وقعوا في موقف الاختيار بين أكثر من تفسير معقول يعمدون بشكل قهري إلى انتقاء التفسيرات الأبعد عن اجتهادات العلماء المسلمين المقبولة [60]. من المؤسف أنه لا يمكن بأيّ حال تعليل هذا السلوك سوى أنه سِمَة الشخصية المستشرقة المَرَضية المُعادية للإسلام.
مما لا يُجادِل فيه عارف، أن المشروع الأكثر طموحًا للاستشراق هو إنتاج نص نقدي للقرآن من خلال حاضنة (الدراسات اللغوية والنصية) و(التسلسل الزمني). لكن بالنسبة للمسلم المقيَّد والملتزم بلا مساومة بسلطة عُرف (المتواتر) في العلوم الإسلامية، فإن هذا الطموح المدفوع بمثل هذه الضربات المتغطرسة بحجة أنها علمية، لا تعدو كونها هجمات انتحارية، إن لم تكن زندقة سافرة. ومع ذلك، فإن ما أغرى المستشرقين بالمقاربة النقدية هو توهّمهم بأنهم سيستطيعون بذلك دحض كل ما هو معياري وبديهي بالنسبة للتقاليد الإسلامية دون ردة فعل مقاومة، حتى لو أدّت هذه المقاربة إلى إزهاق الحياد أو المنهج العلمي. على أيّ حال، كانت القوة الدافعة وراء هذا المشروع هي آرثر جيفري (Arthur Jeffery)، الذي سعى في وقت سابق إلى هذا الاتجاه من البحث بقوة [59]. جنبًا إلى جنب مع فريق من العلماء الألمان وبالاعتماد على المخطوطات الباقية من العصور الأولى للإسلام، كان جيفري مشغولًا بإعداد (النص النقدي للقرآن) (‘the critical text of the Qur’an)، وذلك عندما توقف مشروعه بسبب قصف الحلفاء لميونخ خلال الحرب العالمية الثانية، حيث تمّ تدمير جميع المخطوطات والمواد الأخرى التي تمّ جمعها بمثل هذه العصبية الدينية المُضنية وقد نعى تشارلز آدمز (Charles Adams) خسارة هذه المخطوطات بهذه الكلمات: “كانت الخسارة كبيرةً جدًّا لدرجة أنه قد لا يكون ممكنًا مكابدة مثل هذا الجهد مرةً أخرى أبدًا، ومما يزيد الأسى وفاة معظم الأشخاص المُنخرطين في هذا العمل، على حدّ علمي؛ لا يوجد مشروع نقدي شامل لنصوص القرآن قائم الآن سواء في العالمين الإسلامي أو الغربي”.
مهما بلغت صحة هذا العزاء التهكّمي بفاجعتهم، يجب على قرائنا أن يعرفوا أن البُعد النقدي الذي يحظى بتقدير كبير في مشروع جيفري لا يتجاوز كونه توثيقًا لجميع الاختلافات النصية التي عادةً لا تزيد عن الاختلافات الجدلية أو الصوتية التي لا تؤثر بأيّ شكل من الأشكال على بدهيات ومعاني الترجمة اللاتينية للنصوص الدينية المسيحية الفولجاتا (Vulgate)، والتي تسلّلت عن قصد أو عن غير قصد إلى الأعمال الإسلامية المهتمة بالقرآن.
من الواضح أن الشكوكية كسبب هي المبدأ العقديّ لدى المستشرقين، وإن الارتياب بشكل انتقاميّ بكل ما هو راسخ ومتوافَق عليه في التقاليد الإسلامية، والتبنّي الشغوف لكل ما هو شاذ ومنفّر= هو خلاصة ما استفاده المنهج النقدي الاستشراقي من الشرائع الكنسية!
من المستحيل -بالطبع- البحث عبر الفقه اللغوي والبحث المعجمي المجرد دون العمل ضمن نموذج تُحدَّد من خلاله المصطلحات والتعابير في بيئة تاريخية وثقافية، ومن هنا أطلق المستشرقون عنان عبقريتهم [4، 8، 48، 121، 128، 132، 133] في الجدلية الانفعالية [3، 13-20، 35-6، 37، 39، 41-42، 50، 52، 54-6، 59-62، 64، 68، 75-76، 80-2، 87، 90-94، 100، 109، 112، 113، 120، 122، 124-6، 132] والازدراء [90-94]، والتهكم [101]، والعلامة الفارقة للاستشراق المتمثِّلة بالخوف من الإسلام، فمن خلال هذا النموذج يكرِّس الجزء الأكبر من جهد المستشرقين لتعقب (أصول القرآن ومصادر تعاليمه). إن الأساس المنطقي وراء تخصيص كل موارد الاستشراق لهذا المشروع، هو بلا شك جدلية انفعالية بكل ما تعنيه الكلمة.
إن الاستشراق من الناحية المعرفية مُحاط تمامًا بالميتافيزيقيا المادية التي لا تعترف بإمكانية وجود تصرف إلهي في التاريخ البشري، كما أنه من الناحية العقائدية لا يمكن التسليم بأن الله لا يتحدث إلى أيّ أحد سوى شعبه المختار. وبالنظر إلى هذا الاتحاد الطارئ بين الشكوكيين وأتباع النصوص المسيحية المقدسة، فليس من المستغرب أنه في دراسة الوحي القرآني، حتى أكثر المؤمنين الملتزمين من بين أهل الكتاب سيرتدون قناع اللاأدرية (agnostic).
من جهة أخرى، العلماء الذين عارضوا بطريقة متعصبة معايرة لغز الوحي بالمعايير العقلية تعاملوا مع القرآن بمبادئ أيديولوجية وممارسات منهجية، تعتبر من كبائر المحرمات حتى في منازلهم. هذه الازدواجية لدى الشخصية المسيحية القارئة للإنجيل، هي نفسها التي يجدها جولدتسيهر مقيتة ومحل رفض؛ بالرغم من ذلك -وبالنسبه للمسلم- فإن مكابرتهم في ذلك لا تختلف كثيرًا عن التحيّز للطائفة والأتباع.
للأسف، إن التبشير (المسكوني) والذي أبقاه القرآن بلا شك تحت موضوع (ما ذُكِر عن ماضي اليهودية والمسيحية)، قد تمّ الاستهزاء به في سجلات الاستشراق، وتمّ تقديس العواطف الطائفية باسم (المنهج)، وصرف كل ما يتعلق بالبحث عن الحقيقة من حرم الاستشراق الأكاديمي. كان في صدارة هذه الاهتمامات الرغبة في إثبات أن القرآن لا يعدو كونه نسخةً ركيكةً من الكتاب المسيحي، وأن النبي ﷺ لم يكن أكثر من مزوِّر مضطرب للوحي اليهودي المسيحي!
إن كان العلماء اليهود قد جاهدوا لإثبات (الأسس اليهودية للإسلام) [انظر: 122، 13، 44، 52، 55-6، 68، 113، 120]، فقد شَعَرَ رجال الدين المسيحيون بأنهم مُلزَمون بالمزايدة عليهم في إظهار (الأصول المسيحية للإسلام) [3، 14، 20، 60، 62، 87، 90-94، 129، 132]. مركزية هذا النوع من التصور هي الحساسية العِرقية التي تمّ تقديسها باسم حصرية الدين؛ إن جوهر موقفهم هو أن الله يخاطب فقط بني إسرائيل، وبما أن النبي العربي دخيل، فإن الله لا يمكن أن يكون قد خاطبَه مباشرة. (حتى بعض المخططات الشاذة المهادنة بلغتنا من جومير (Jomier) [65] ماسينيون (Massignon) أو موباراك (Moubarac) [81-2]، تروج هي أيضًا بوقاحة للأساس العِرقي للوحي الإلهي.
فقط بمثل هذا الشعور بالحصرية الدينية العرقية، يمكن تبرير ملامة المستشرقين للنبي ﷺ والقرآن، فالعربي الدخيل استحوذَ على حقيقة الكتاب المسيحي وزوَّرها في وحي خاص به! كل ما ورد في القرآن يؤيّد الكتب السابقة، وبالتالي يُنظَر إليه على أنه استعارة لا أكثر، وأن كل ما يصحِّحه القرآن من محتويات الكتب السابقة، يتمّ رفضه باعتباره محرَّفا ومشوَّها. يبدو أن كل ما يتوجَّب على المرء فعله هو أن يتقبَّل -من ناحية نظرية وغير عقائدية- بأن مؤسس الإسلام يقف في نهاية سلسلة طويلة من الشخصيات الدينية والتي يمكن وصفها بأنها (نبوية) وفقًا لتصنيف الشرق الأدنى لنجد صرح الاسشتراق المسيحي ينهار بأكمله.
في الحالة الأخيرة، سيكون من العبث ذكر (الاشتقاقات) و(الاستعارات) و(التحريف) بل وحتى (سوء التفسير)، لأن الوحي القرآني سيُعرَف حينها أيضًا بأنه يفسِّر الحقيقة المشتركة المتمثلة في (التوحيد) -وفقًا للرأي المسلم- بدلًا من تجاوز حِمَى المسيحية واليهودية. من الواضح أن جوهر رؤية المستشرقين يكمن في إدانة عدم انسجام الوحي القرآني مع هرطقتهم العِرقية في نبي الإسلام. إنها قناعة عقائدية بكل المقاييس ولا علاقة لها بادّعاءات المنهج العلمي.
من المُهملات أيضًا في الخطاب التاريخي الاستشراقي هي الحقيقة غير المُريحة [بالنسبة إليهم] بأن القرآن يُعلن بشكل قاطع اتصاله بما أُوحي سابقًا، بما في ذلك الكتب المقدسة، وهذا بالنسبة للمسلمين مَدعاة يقين بتوافق وانسجام المحتوى وكذلك مصدر الوحي، والأدلة على أسبقية اليهودية والمسيحية من الموضوعات القرآنية لا تسبِّب للمسلمين أيّ انزعاج يُذكَر. بقدر ما يظهر من القرآن والنصوص الكتابية الأخرى من تداخل في المواضيع والأنماط والدوافع، بل حتى على مستوى التعبيرات اللغوية= فإن ذلك يرجع إلى وحدة المصدر الإلهي لهذه المعرفة، ولا يُعزى إلى أهواء مُتلقيها من الرسل والأنبياء.
إن الظهور بمظهر من يسعى لسدّ الباب أمام أيّ شخص أو جهة تدّعي إلهية مصدرها= هو في الحقيقة سعي لإبطال (مبدأ الوحي) نفسه، بل إنه بمثابة إنكار وجود كيان متسامٍ ومطلق العلم، وإنزال الوحي منزلة المستطاع والمدرك بالعقل البشري. (هل اليهودية (أو المسيحية) من الله أم أنها نتاج العبقرية البشرية اليهودية (أو المسيحية)؟) بمثل هذا الادعاء الذي يجعل من القرآن في حقيقتة مجرد استعاره بشرية، في حين أن اليهودية (أو المسيحية) هي الوحي الإلهي والحقيقة المخلِّصة= نتأكد أن المستشرق قد وقع -في رأينا- بين تبريرَيْن: فإما أن ينزع القناع ويبرز نفسه كمُناصر ومُنحاز عقائديًّا لنصوص كتابه، أو أنه في ذروة حماسه: في الوقت الذي نزع فيه سمة الإلهية عن النصوص الإسلامية، انتهي به المطاف إلى إنكار إمكانية الكشف عن المعرفة غير المُدرَكة بالحواس.
وهكذا، على الرغم من شغفه بالمقاربة وإنصاف جميع الأطراف، فإن المستشرق إما أن يدَّعي صحة كل الوحي عبر التاريخ، أو ينكره بالجملة. من هنا نجد أن إنكار مبدأ الوحي في القرآن الكريم والتمسّك به في الكتاب المسيحي يُصيب علمية المنهج الاستشراقي بمقتل. في جوهره وخلف جميع أقنعة النزاهة الأكاديمية، يبقى المستشرق دائمًا إما (دوجمائيًا) أو ملحداً! وفي كلتا الحالتين، فإن إدراكه المعرفي المُجحِف بحق العقيدة الإسلامية غير قادر على البتّ في مسألة حقيقة الوحي الإسلامي.
إن المبدأ العقائدي المؤكِّد لأصالة وإلهية النصوص المسيحية -وهو الأمر الذي يفضله المنهج الاستشراقي- لا يمكن إبقاؤه وصيانته ضمن الفروع المستحدثة في الفينومينولوجيا الدينية (phenomenology of religions) كما ذكرنا سابقًا. إن كان لا بُدّ، فإن المعرفة الفينومينولوجية تميل إلى فرض صلة قرابة نوعية وصنفية بين جميع الديانات (الساميّة) أو (النبوية) أو (الغربية) [78] (عند إدراك هذه الوحدة، فإن المذاهب الحديثة تصبح أقرب إلى المفهوم القرآني عن الديانات الإبراهيمية).
إذن، بمعنًى ما؛ أنتجت الرؤية الغربية للعالَم -عن غير قصد- واحدًا من أكثر التفنيدات المُقنعة للمنهج الاستشراقي؛ لذلك ليس من قبيل الصدفة أن الدراسات الاستشراقية للنصوص الكتابية تكره استخدام المنهج الفينومينولوجي في دراسة الإسلام؛ لكن حتى في هذه الجزئية: لا تخطئ عين الناظر العواطف المُعادية للإسلام. وهكذا، مهما كانت الدراسات الاستشراقية للإسلام القائمة على المنهج الفينومينولوجي، فإنها لم تكن خاليةً من التحيّز المسيحي [64، 79، 104]. في بعض الأحيان، لم يتمكّنوا حتى من الارتفاع فوق الدعاوى المسيحية التقليدية ضد الإسلام [37، 90]، ومع التزام الفينومينولوجيين باستعادة المعنى الديني، فقد أظهر الفضاء الجديد للدراسة الفينومينولوجية للأديان فتحًا علميًّا، وإذا تمّ التعامل معه بشكل صحيح قد نستنبط منه رؤى قد تؤدي -مع ما يلزم من تعديلات- إلى إثراء رؤية المسلم لذاته[48]. لكن حتى الآن، ما تزال هذه الإمكانات غير مستغلّة إلى حد كبير.
على الرغم من ظهور بعض المسالك الدوغمائية -إن لم تكن أيديولوجية، ومحايدة، وحتى تصالحية [45، 65، أيضًا، 35-6]- فإن المزاج (الأكاديمي) للدراسات الاستشراقية قد أمسى أكثر تشكّكًا في مناهجه مع مرور الوقت [75-6، 107-8، 125-6، 132]. واليوم، يأتي الطلب الأكثر جذريةً لمراجعة التراث الاستشراقي في مجال التسلسل الزمني، ومؤكدا على صحة النص القرآني نفسه! لقد رأينا ذلك يحدث مع إرث ريتشارد بيل -لا أقصد التورية- حيث أصبحت أبحاثه الآن تواجه خطر الموت بيد الآلة الاستشراقية نفسها. من الآن فصاعدًا، عليه أن يختار بين الخروج من أسر التسلسل الزمني اللعين دون استثناء آخرين لا يشاركونه الإيمان المسيحي، أو أن ينتظر من يكون جون وانسبرو (John Wansbrough) الجديد [124-26].
إن المنهجية الجديدة التي اقترحها وانسبرو، ورفضها الشامل للإطار الزمني التقليدي= هو اعتراف صريح بالهزيمة من جانب المؤسسة الاستشراقية، كما يعد خرقا أحادي الجانب للمزاوجة الأكاديمية بين المصادر الإسلامية والأساليب الحديثة. جوهر أطروحة وانسبرو المدهشة هو أن القرآن ما هو إلا وثيقة “مركبة” تحتوي داخلها عددا من خيوط الجدل اليهودي الطائفي، والتي تبلورت بنيتها الحالية خلال القرن التاسع من العصر المسيحي، كما أنه قد يشتمل على شيء من الوحي أو الإلهام النبوي! من الواضح أن مثل هذه التخمينات الكارثية ما كان لها أن تستمر وتروج إلا ببناء فوضى من نظام التاريخ الإسلامي. لذلك، ليس من المستغرب أن يتنكر وانسبرو للتصور الإسلامي تاريخ الإسلام جملة وتفصيلا، وذلك من أجل التوصل إلى صفقة مع تجار “التحليل الأدبي”؛ فقط بمثل هذه القفزة الكمومية يضمن المستشرق أن يصل إلى مدار جدلي ذي شحنة أعلى!
اكتمل انتصار المنهج على الحقيقة مع أطروحة وانسبرو؛ وحان الوقت لوأد منظومة التاريخ الإسلام بجوار منظومة التسلسل الزمني الاستشراقي. إن القرآن -بعد سحب دعامته التاريخية- أصبح قابلاً لأي نوع من التحريف المنهجي، مع عدم تحمل المستشرق أي مسؤولية تاريخية؛ فقد أصبح من السهل عليه الآن أن يرفض التاريخ التكويني الكامل للإسلام باعتباره خدعة، وفي نفس الوقت يتحرر من عبء تقديم سبب واحد معقول لهذا الخداع الهائل للذات؛ لقد أصبح بإمكانه أن يمارس أي نوع من المهزلة العلمية، وطالما أن قبعة الساحر الأكاديمي قادرة على إخراج أرنب المنهج، فلا توجد نهاية لخداعه، ولن يتلقى أي توبيخ على تلاعبه.
ومع ذلك، فإن طلاق التاريخ والمنهج -الذي هو بذرة التحليل الأدبي لوانسبرو- قد جلب إلى الآن حصادًا مختلطًا إلى حظيرة الاستشراق. إذا كان هناك -من جهة- عدوان سابق لسحق قصر التاريخ الإسلامي وتحويله إلى أنقاض “تاريخ الخلاص” -وعلى الأخصّ في أعمال باتريشيا كرون (Patricia Croone) ومايكل كوك (Michael Cooke)- فهناك من ناحية أخرى دليل متزايد على موثوقية التقاليد الإسلامية [85-6]. ومن الغريب أن يعلن تلميذ وانسبرو نفسه، جون بورتون (John Burton) -بصورة غريبة وبموثوقية أكثر من أيّ ادعاء إسلامي تقليدي- أن القرآن بأكمله في ترتيبه النصي الحالي هو من عمل النبي ﷺ نفسه! من المفهوم أن المؤسسة الاستشراقية قد استجابت بحذر شديد وتشكّك عميق إلى فرضية وانسبرو الاستفزازية للغاية، بل والمُغرضة.
دائرة المعارف الإسلامية، على سبيل المثال، تلخّص رأي الأغلبية من المستشرقين في أطروحات وانسبرو: “لم يقدم وانسبرو أو بورتون أسبابًا مُقنعة لفرضياتهم الخاصة، أو لتأكيدهم المشترك على أنه يجب رفض الأطروحات الإسلامية تمامًا” [72]. كما أن هناك الافتقار الصريح للأسباب الواقعية للتأكيدات الوقحة التي قدّمها وانسبرو. آر بي سيرجنت (R.B. Serjeant)، على سبيل المثال، يعبّر عن جوهر الجدل المضاد ضد وانسبرو على هذا النحو: “ظرف تاريخي علني جدًا [مثل ظهور الوحي القرآني] لا يمكن اختراعه”! (من أجل دحض حازم وقاسي وعلمي لمنهجية وانسبرو، انظر: فضل الرحمن: “مقاربات الإسلام في الدراسات الدينية”، في RC Martin (ed.): مقاربات الإسلام في الدراسات الدينية ، أريزونا ، 1985 ، ص 189 – 202 ؛ و أيضا: وأيضًا نفس المؤلف: “بعض الكتب الحديثة عن القرآن للمؤلفين الغربيين” ، في مجلة الدين ، المجلد. 61 ، العدد 1 (يناير 1984) ، ص 73-95 ، بالإضافة إلى عمله الأكثر عمومية ، الموضوعات الرئيسية للقرآن ، شيكاغو ، 1980).
من بين مجموعة واسعة من الأعمال الاستشراقية، هناك عدد قليل فقط يتعامل مع محتويات القرآن، وحتى هذه الأعمال هامشية جدًّا بالنسبة للمنهج الاستشراقي ورؤيته العالم. بصرف النظر عن بعض الأعمال المسيحية الحديثة التي تقطع شوطًا طويلاً نحو مراجعة المشاعر السابقة لكراهية الإسلام [35-6، 45، 65]، هناك عالِم واحد يوصي بعمله بشدة للمسلمين، على الرغم من جميع مناهج الأكاديميين الغربيين، فإن العالم الياباني إيزوتسو (Izutsu)، كطالب غريب على الاستشراق ولا يشارك أيًّا من التحيّزات التاريخية أو الرهاب العاطفي، سمح للقرآن بالتحدث عن نفسه [57-8]. النتيجة تتحدّث عن نفسها! يلمع الضوء الأخلاقي للرؤية القرآنية للعالم -الذي غطَّته طقوس المنهج الاستشراقي. يقدم عمل البروفيسور إيزوتسو الحجة الأكثر إقناعا ضد الادّعاء بأن حقيقة الكتاب المقدس لا يمكن الوصول إليها إلا لمن هم داخل تقاليده المقدسة.
في النهاية، السؤال غير المُريح الذي يجب أن يوجهه أيّ ناقد إسلامي جاد للفكر الاستشراقي: ألم يجلب المشروع الاستشراقي أيّ شيء ذا قيمة للإسلام؟ هل هناك أيّ شيء في إنتاجه العلمي الضخم يساعدنا على استخلاص بعض الأفكار حول وضعنا اليوم أو حول مشروعنا الجماعي في التاريخ؟ على الرغم من تخبّطه وكراهيته المَرَضية للإسلام، وتعامله الفجّ مع تراثنا، أليس لدى المستشرق ما يُسهم في نقدنا الذاتي؟
لقد تجاهلنا حتى الآن إلقاء اللوم على المستشرقين بسبب أصلهم الأجنبي، وزخارفهم التبشيرية وتصميماتهم الاستعمارية، فقد رفضنا -عن حق- الاستشراق من حيث كونه المغالطة المَرَضية للجنون العنيف الديني والسياسي والثقافي الغربي. ومع ذلك، لا يمكننا أن نبقى محصَّنين إلى الأبد من ادّعاءات منهجيته التي تُقدَّم لنا باسم العقل (العالمي) نفسه. عاجلًا أو آجلًا، سيتعيّن على جهود المسلمين الأصيلة الاقتراب من القرآن من خلال الافتراضات والمعايير المنهجية التي تتعارض بشكل جذري مع تلك التي كرستها تقاليدنا؛ من المؤكد أننا لن نسير على خطى الرجل الغربي لنصل إلى بقايا التشكّك والكفر، لكن من الأفضل أن نتعلّم من عدونا الاستشراقي أن الطريقة الصحيحة الوحيدة لدراسة القرآن هي الطريقة التي تسمح للحقيقة أن تتحدّث عن نفسها.
اقرأ ايضاً: مدخل إلى الاستشراق