- معاذ بن عبد المجيد أبو عقيل
- تحرير: إيثار الجاسر
لا زلت أتذكَّر هذا المشهد الباهر عندما كنت بجانب طفل في منتهى الجمال والبراءة يسأل أباه: لماذا نحن هنا؟ ما هو الموت؟ هل سأموت يومًا من الأيَّام؟! ماذا بعد الموت؟
عندها سألت نفسي ماذا يمكن أن يجيب الأب طفله عن هذه الأسئلة الكبرى الَّتي خرجت بريئة من قلب ذلك الطِّفل البارع؟
قبل هذا لماذا يسأل الإنسان كبيرًا كان أو صغيرًا هذه الأسئلة؟
ما مضامين المشاعر؟ ما طبيعة الأفكار؟ أين تكمن الدَّوافع؟ وكيف نُعاير الأخلاق؟
وجدت أنَّ هذه الأسئلة ماهي إلا انعكاس حقيقة البحث عن المعنى!
الفطرة الرَّبانيَّة كمعنى وجودي للإنسان!
هناك علاقة مطَّردة ومتقاربة بين الفطرة والشُّعور بالمعنى؛ لأنَّ مُوافقة الفطرة تستلزم الشُّعور بمعنى الوجود.
روى البخاري في صحيحه عن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنَّه قال: “مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ”
فالفطرة هي الإيمان بالله واعتناق الإسلام، فهذه الفطرة هي الَّتي ترسم معالم الحياة الوجوديَّة على مستوى الأفكار والمشاعر.
وسؤال ذلك الطِّفل ما هو إلا حالة فطرية للإنسان تسأل عن المعنى في خضمِّ النُّضج النَّفسيِّ والعقليِّ.
من هنا نستطيع أن نجزم أنَّه: كلَّما ابتعدت عن الفطرة فقدت معنى الوجود.
الشُّعور بالمعنى.. بين البحث والسَّعي!
إنَّ من طبائع الإنسان الجليَّة طبيعة الخوف من المجهول وأعظم مجهول لدى الخلائق، الجهل بالغيب والعلم بالغيب لا يعلمه إلَّا عالم الغيب سبحانه…
فتقع الإنسانيَّة في مأزق الخوف القاسي غير الطَّبيعيِّ من المستقبل إذا فقدت المعنى في التَّعامل مع الغيب عبر التَّسليم الإلهيِّ.
هذا التَّمهيد لهذه النُّقطة مقصود، في محاولة تجسيد جزءٍ من أهميَّة المعنى في حياة الإنسانيَّة -أعني- تحديدًا حاجة الإنسان الوجوديَّة في معرفة أنَّه لا يستطيع كلُّ شي ومثال ذلك عجزه عن معرفة المُستقبل الغيبيِّ كما بدأت.
وهذا التَّجسيد، محاولة أخرى لرؤية قوام الحياة الحديثة ومركز المعنى من هذه الحياة البالية!!
لقد وقع المسلمون في أسئلة أستطيع أن أطلق عليها غير ذاتيَّة، وأعني غير ذاتيَّة هنا أنَّ هناك أسئلة تعَرَّض لها المسلمون بشكل غير واعٍ أو بشكل غير إراديٍّ أو كلا الشَّكلين معا.
وذلك ليس لأنَّ الأمَّة المُسلمة تُعاني من ضعف حضاريٍّ من ناحية ضعف التُّراث أو ضعف المعرفة بهذا التُّراث التي يتمثَّل بالقرآن والسُّنة فتلجأ إلى التَّعرُّض لمعارف وتراث الأمم الأخرى!
بل لأنَّ العولمة الحديثة فرضت هذا التَّعرُّض وهو في جزء كبير منه: “التَّعرض لمخلَّفات ومشكلات الحضارات الأخرى”.
هذه ليست دعوة إلى الانغلاق الحضاريِّ لهذه الأمَّة بحيث يتعطَّل جزء من الدَّور الإلهي في آية (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ)
الدَّور الَّذي يولد شعورًا لدى الفرد المُسلم بأنَّ أمَّتنا أمَّة مُصلحة، سواء كان ذلك الإصلاح على المستوى الذَّاتيِّ عبر قضاياها، أو الإصلاح على المستوى الحضاريِّ عبر قضايا الآخر.
إنَّها دعوة إلى تحليل وإعادة النَّظر في مشكلاتنا كأمَّة مسلمة أوَّلًا، ثم التَّعرُّض إلى مشكلات غيرنا وفق سياق واعٍ مقصودٍ واضحٍ ومُعينٍ ينشد إيصال رسالة الفطرة للكون.
وسؤال: الشُّعور بالمعنى بين البحث والسَّعي سيعزِّز ذلك!؟
قراءة في مشهد ضياع المعنى في الوجود الإنسانيِّ الحديث!
قصَّة فقدان الإنسانيَّة للمعنى قصَّة قديمة لها تاريخ عريق، وهذه القصة لها بداية لا تنتهي إلَّا بانتهاء الحياة الدُّنيا؛ لأنَّ سُنَّة الحياة تقتضي وجود الصِّراع والتَّضاد إلى أن يشاء الله. وصراع الحقِّ والباطل صورة مُطابقة لصراع وجود المعنى وفقده!
عندما بدأت ردَّة الفعل في بلاد أوروبا تجاه الدِّين المنحرف لديهم عبر ظهور الثَّورة على رجال الدين، بدأ جزء كبير من العالم الغربيِّ يأخذ العلمانيَّة وفصل الدِّين عن الحياة بصفته أحد مُرتكزات المنهج الثَّوريِّ الجديد!
هذا التَّمهيد التَّاريخيُّ يكفي في أن نقول: فقدت أوروبا المعنى عندما فقدت الدِّين، ولا يعني هذا أنَّهم كانوا على دين صحيح وقويم، ولكنَّ المقصود فقد المعنى من حيث المفهوم، فقضيَّة فقدهم للمعنى تكمن في إغلاق أوَّل طريق للمعنى الوجودي وهو الدِّين!
وهذا الفقد تمثَّل في ردَّة الفعل المضادَّة للدِّين المُتصوَّر لديهم بأنَّه أكبر مصدر معطل للتَّعاطي مع العلم والإبداع خاصَّةً وعامَّةً، وهذا يتجسَّد تمامًا بشكلٍ واضحٍ وجليٍّ في هروب الإنسان الأوروبيِّ للمادَّة، وعدم استحضار الجانب الرُّوحيِّ للإنسان، بل تعدَّى إلى إهماله.
من هنا نصل إلى نتيجتين مهمَّتين في هذا الاستقراء المتواضع للسِّياق:
- النَّتيجة الأولى: الإنسان الأوروبيُّ فقد المعنى من باب غياب المصادر الكبرى للمعنى.
- النَّتيجة الثَّانية: الإنسان الأوروبيُّ وقع في مأزق ما بعد فقد المعنى الذي يتمثَّل في طغيان الجانب الماديِّ لديهم.
بذلك يصبح جزء من أنموذج فقدان المعنى المتسلسل عبر إقرار هذه الحقيقة: فقدت الإنسانيَّة المعنى عندما تخلَّت عن أهمِّ مصدرٍ للمعنى.
فيتشكَّل مفهوم: الإنسان يبحث عن المعنى لمحاولة الخروج من هذا المأزق الوجدانيِّ لديهم.
مشكلة المعنى لدى الواقع الإسلاميِّ الحاضر!
لنبتعد قليلًا عن قراءة السِّياق التَّاريخيِّ كما في الأنموذج الأوَّل -الأنموذج الغربيُّ.
ونعيد النَّظر في مشكلتنا، من باب استقراء الواقع ثمَّ الصُّعود من الواقع للتُّراث في محاولة الكشف عن الأدوار المهمَّة تجاه هذا المأزق الوجدانيِّ.
حينما ننشئ في صغرنا غالبًا ما ننشئ في بعد حقيقيٍّ وطبيعيٍّ عن المفاهيم الكبرى في حياتنا وإن وجدت هذه المفاهيم فمستوى فهمها بسيط ومحدود وغالبًا ما تتَّسم بالمثاليَّة.
فوجود نموٍّ طبيعيٍّ كاملٍ متناسقٍ ومستمرٍّ في الفِكر، والمشاعر، والرُّوح، والجسد تمثِّل رحمة لله بالإنسان.
لكنَّ الحالة الَّتي تستدعي التَّعجُّب هي حالة الاستمرار التَّعامل مع الحياة وفق هذا الضِّيق مع تزايد العمر ونموه -بمعنى آخر- اضمحلال النُّموِّ النَّفسيِّ والفكريِّ لدي كثير من الأفراد الأمَّة المسلمة وهذا الاضمحلال يظهر بشكلٍ جليٍّ في مستوى اهتمامات الجيل ومدى غياب المفاهيم الكبرى والكلِّيَّة لديهم.
مما سبب بوجود حالة أن يعتنق الإنسان المسلم الإسلام من جديد!
وهذه حالة طبيعيَّة، بل إيجابيَّة في سياق العصر والواقع.
ومع ظهور تحدِّيات الشَّهوات والشُّبهات على الجيل الصَّاعد والنَّاشئ بشكل أعمق، جعل عند بعض الشَّباب المُسلم حاجة الارتداد إلى الإسلام والإيمان والفطرة بمعنى آخر: الإنسان المُسلم أصبح بحاجة إلى الشُّعور بالمعنى!
وهنا مِفصل الموضوع ومُرتكز الفكرة وهو:
“بناء فكرة أنَّ الإنسان المُسلم بحاجة طبيعيَّة -من جهة الفطرة ومُلحَّة جدًّا من جهة الواقع- إلى الشُّعور والوصول إلى المعنى وليس بحثًا؛ لأنَّه يملك مصادر المعنى مجتمعةً”.
وتبدأ المفارقة هنا:
⁃ الإنسان الغربي / الشرقي يبحث عن المعنى.
⁃ الإنسان المُسلم / يسعى إلى المعنى.
وهذه الخلاصة هي أولى أبواب استقراء المنهج الإسلامي في السعي إلى المعنى والذي نتعرض له بشكل متواضع عبر مفهومين رئيسة:
– القرآن بوصفه المصدر الأوَّل للمعنى.
– السِّيرة النَّبويَّة الأنموذج الحيُّ للمعنى.
أسلمت قريش.. أسلمت قريش!
قال ابن عباس -رضي الله عنه-: “سَجَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالنَّجْمِ، وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ، وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ”
ويقول عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: “قَرَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم النَّجْمَ بِمَكَّةَ فَسَجَدَ فِيهَا وَسَجَدَ مَنْ مَعَهُ، غَيْرَ شَيْخٍ أَخَذَ كفًّا مِنْ حَصًى أَوْ تُرَابٍ فَرَفَعَهُ إِلَى جَبْهَتِهِ، وَقَال: يَكْفِينِي هذَا. فَرَأَيْتُهُ بَعْدَ ذلِكَ قُتِلَ كافرًا”
لم يستطع الإنسان في جاهليَّة قريش أن يقاوم المعنى كما في كلِّ جاهليَّة، سجد المشركون لله حتَّى شاع أن قريش أسلمت!
هذه القصَّة بحاجة إلى التَّأمُّل وإظهار سطوة المعنى على القلوب، معنى الوجود، معنى الحياة، معنى معرفة الله عبر كتابه المسطور والمنثور!
هذه القصَّة تُصوِّر مدى تأثير تدفُّق المعاني على القلوب، لدرجة أن تُخضع القلوب فتجسِّد لخالقها، والقصص القرآنيَّة والنَّبويَّة الثَّابتة في هذا كثير!
ختامًا:
لم أتعرَّض لتعريف المعنى، لاعتقادي بصعوبة ذلك؛ لأنَّ المعنى شعور ولا بدَّ للشُّعور من أحاسيس، ولا بدَّ من استظهار مظاهره وآثاره وانعكاساته لكي ندرك قبل أن نعلم!
هذا والله أعلم.
اقرأ ايضًا: معنى الحياة في العالم الحديث