تحرير: لطيفة الخريف
“التسويق شر واستغلال”! كم مرة سمعت هذه العبارة من أحدهم؟ أو كم مرة قلتها أنت أو رددتها بينك وبين نفسك؟
اقترحت عنوان المقالة للفريق المنظم لإحدى الفعاليات الثقافية، فصبّوا عليّ وابلًا من النقد والاستنكار. أتفهم وجهة النظر هذه ممن لا يعرف للتسويق معنىً إلا في نطاق السوق التقليدي والبيع والشراء، وذلك يدفعهم لاستنكار العنوان ظنًّا منهم أن المقصود منه تحويل القراءة إلى منتج نهدف من خلاله إلى عقد صفقات تجارية وأرباح ماديّة.
كل ما نحتاجه نظرة سريعة في التسويق ونظرياته، حتى نجد ما يُعرف بـ”التسويق الاجتماعي” والذي يُعرّف بأنه: “تصميم وتنفيذ ومتابعة البرامج المعدَّة لزيادة قبول الفكرة الاجتماعية، وممارستها داخل الجماعة المستهدفة، والذي يستخدم نفس المفاهيم التسويقية المرتبطة بالفكرة كمنتج من حيث التخطيط له، والترويج، وبحوث الجماهير والاتصال، وذلك بهدف زيادة معدلات استجابة الجماهير المستهدفة”[1].
للتسويق نظريات متعددة، أودّ في هذا المقال أن أشير إلى واحدة منها، لنتعرّف على أهمية استحضار النظريات في تسويق الأفكار الاجتماعية، وعدم التعويل على بدائية تلك الأفكار أو الاكتفاء بالحث الديني لها، أو حتى الاعتماد على الفوائد المجتمعية العائدة منها. فالإنسان المعاصر تتلقفه مشاغل كثيرة، وتستهدفه الأفكار والمنتجات العديدة، ولن يكون كسبه إلى صفّك مهمة سهلة.
من السمات الأساسية المميزة للأفكار الاجتماعية: العمومية، وتتابع عملية التبني. تعني الأولى أن الفكرة الاجتماعية تمتاز بالقدرة الفائقة على الانتشار الواسع في المجتمع، وبسرعة، وهذا الانتشار القوي بين الجماهير ميزة من مميزات تسويق الأفكار، ويجعل من مفهوم «تجزئة المجتمع» أمرًا سهل التحقق في مجال تسويق الفكرة الاجتماعية مقارنة بتلك الأفكار التي تنحصر أهميتها في فئات محددة من أفراد المجتمع، أما العمومية فتعني أن الفكرة الاجتماعية تُسوّق عن طريق أفراد يحظون بمكانة عالية في التنظيم الاجتماعي، أو عن طريق منظمات اجتماعية.
إحدى هذه النظريات هي نظرية مراحل تغيّر السلوك، والتي تقول إن الفرد لا يتبنى الفكرة الجديدة مباشرة، بل تمر عملية تبني الفكرة الاجتماعية الجديدة بمجموعة من المراحل، تبدأ بالإدراك، وتنتهي بالتبني المقترن بالسلوك، وتتمثل في المراحل التالية (ما بين الشرطتين مسميات أخرى لذات المرحلة)[2]:
أولًا: مرحلة الإدراك -قبل التفكير-:
وهي مرحلة استقبال الفرد للمعلومات، واختيار وتنظيم وتفسير هذه المعلومات.
ثانيًا: مرحلة الاهتمام -التفكير-:
وهي مرحلة السعي للحصول على معلومات أكثر عن الفكرة.
ثالثًا: مرحلة التقويم -الاستعداد-:
ويقصد بها تقدير الفرد لمدى أهمية الفكرة، ودرجة القبول والرفض.
رابعًا: مرحلة التجريب المحدود -الفعل-:
وهي مرحلة تجريب الفكرة على نطاق ضيّق للتعرف على مدى صلاحيتها وملاءمتها لظروف الفرد المجرِّب.
خامسًا: مرحلة التبني -المحافظة-:
وتبدأ عندما يعتنق الفرد الفكرة، ومن ثم يبدأ بتغيير سلوكه ويحافظ على هذا السلوك مدة طويلة.
إن المتابع لوسائل التواصل يجد كثيرًا من الحسابات والمبادرات التي تبنّت التحفيز على القراءة، وتحاول جاهدةً الحث على المعرفة، كلّ بحسب ما يراه مناسبًا له، حتى جعله بعضهم مشروع حياته. ولا يلبث كثير منهم حتى ينقطع؛ لضعف الإقبال وقلة العائد من نشاطه هذا، مُلقيًا اللوم على المجتمع، و “غاسلًا يده” منهم، ومعلنًا “أمة اقرأ لا تقرأ”.
الغريب في الموضوع أنّ قليلًا منهم فقط من يتجرأ ويُلقي اللوم على نفسه، ويبرر ضعف الإقبال على القراءة بسوء عمله وتسويقه، فالاعتراف بالخطأ عزيز.
من أهم وسائل تسويق القراءة تحديد المستهدف بدقة، حتى يسهل اختيار الوسيلة الأنسب لمخاطبته، والمحتوى الأفضل لمستواه، بل والصياغة الأقرب لعقليته. وسأحاول إكمال التطبيق على نظرية مراحل تغيّر السلوك، موضحًا مستوى الخطاب الذي يناسب كل مرحلة منها.
أ- الأشخاص في مرحلة الإدراك أو ما قبل التفكير، يكونون محصّنين ضد القراءة، غير عابئين بها ولا بأهلها، لا يسمع الواحد منهم ولا يقرأ أي شيء عن القراءة، بل قد يلغي متابعةَ مَن يُكثر الحديث عنها في وسائل التواصل، ويَنفِر من المجلس الذي تُتداول فيه أحاديث الكتب.
من أكبر الأخطاء أن تحفّز هذا الشخص بإهدائه كتابًا، أو دعوته إلى جلسة نقاش كتاب. سيرمي الكتاب في سيارته حتى تأكله الشمس، وقد يحضر جلستك بدافع الفضول، أو السخرية بعد الخروج منها.
هذه الفئة يناسبها النقاشات الخاصة العفوية. بمعنى أن تحاول إقناعه بجدوى القراءة من خلال حوار شخصي تفكك فيه قناعاته وتصحح الصورة الساخرة المترسخة في ذهنه عن الكتب والقراء. بيّن له فوائد القراءة في مختلف الجوانب، وركّز على الجوانب التي يهتم لها، وما سيستفيده منها مما ينقصه الآن أو يبحث عنه.
أكثر ما ينفّر هذه الفئة هو الحديث عن متعة القراءة، والتلذذ بالسهر مع الكتب مقابل الخروج مع الأصدقاء أو غيرها من الفعاليات؛ إذا هم لا يطيقون الكتاب ولا يعتقدون أي فائدة منه، فكيف تُرجى منه متعة حتى! لهذا تجد بعضهم قد يرميك بالنقد اللاذع أو السخرية في وسائل التواصل لو كتبت مقولة علي الطنطاوي: “جربت اللذائذ كلها فلم أجد خيرًا من كتاب”، لأن هذه الصورة ليست في قاموس خياله، فكيف تكون في قناعته.
ب- من لديه وعي ضعيف بأهمية القراءة، مع إدراكه لبعض فوائدها، لكن همّته الضعيفة لا تدفعه لإمساك كتاب وقراءته؛ تجده يُكثر السؤال عن “لماذا نقرأ؟”، وقد يُعجَب بالتغريدات التي تشجّع على القراءة ويعيد نشرها دون أن يطبّق ما تقول. فهذا يحتاج إلى مجتمعات القراءة لتعزيز قناعته وزيادة همته. يحتاج إلى متابعة المهتمين بالكتب، المحفزين على القراءة. القراءة في كتب القراءة. الاطلاع على سير القراء وتجاربهم. حتى يزيد من مستوى اهتمامه وتقبّله لفكرة القراءة.
يُزعج هذه الفئة أخبار الاستغراق في القراءة، وتجارب القراء الذين يستغرقون في القراءة جُل أوقاتهم، ولا يستوعب تجربة عبد الله الهدلق التي يقول فيها: “حبستُ نفسي في البيت عدة سنوات، وذهبتُ أقرأ في اليوم والليلة أكثرَ من ثلاث عشرة ساعة، لا يصرفني عن القراءة إلا دموع عيني من فرط الجهد، لم أكن في تلك الأيام أتنفس من رئتيّ، كنت ألتقط أنفاسي من ثقوب الكلمات”.
لهذا اضطّر د. علي العمران في الطبعة السابعة من كتابه الرائع “المشوّق إلى القراءة” إلى التنبيه على أن أخبار القراءة العالية التي أوردها فيه غير مناسبة للمبتدئ في القراءة الذي قد ينفر منها؛ لما يرى فيها من خيالات لا يتقبلها عقله الذي يملّ بعد عشر دقائق من جلوس الكتاب بين يديه.
ج- لم يبق أحد إلا وسأله عن خطة للقراءة، ومنهجية لطلب العلم، ولا يملّ من أسئلة المقارنة بين الكتب من بعيد دون قراءتها ومحاولة فحصها بنفسه، هذا الشخص هو المتحدث الرسمي لهذا المستوى: مرحلة الاستعداد وتقويم الفكرة.
ويحتاج إلى بعض الإجبار على القراءة، الالتزام مع أندية القراءة قد يفيده، تكليف الوالدين أو المربّي أو الصديق قد يدفعه لاختبار وتقويم الفكرة بنفسه. مشكلة هذه الفئة أنها تضيّع كثيرًا من الوقت في تلقّف أجوبة الآخرين التي لا تستحق التعميم، ويبخل على نفسه بتجربة حقيقية كاملة.
يناسب هذه الفئة إهداء الكتب التي تلامس اهتماماتهم؛ فكثير من ترددهم عائد إلى عدم اكتشاف الكتاب المناسب لهم. يفرحون بكل موقع يتيح كتبه مجانًا، ويحملونها مباشرة، وما إن يطمئن إلى وجودها في هاتفه، إلا ويذهب لتطبيقات وسائل التواصل ويتشاغل عنها معتقدًا امتلاكه لمحتواها.
يحتاج إلى من يُمسك بيده ويشاركه القراءة ويناقشه الكتب؛ حتى يكتشف متعتها وفائدتها في الواقع، بعد أن تشبّع من التنظير لها. يكثرون من الحديث عن مشاكل القراءة مثل النسيان أو الملل أو عدم رؤية الفوائد من القراءة، لهذا يحتاج إلى قريب يطمئنه، كالشيخ الذي أجاب أحد تلاميذه حين اشتكى له عدم إحساسه بفائدة القراءة، فأعطاه الشيخ تمرة وطلب منه أن يأكلها، وسأله: “هل كبر جسمك؟ كذلك هي القراءة، تغذي عقلك دون أن تشعر بهذا الغذاء مباشرة”.
د- يتنقل كثيرًا بين الكتب، يشارك في كل مبادرات القراءة، يتابع أغلب الحسابات المعرفية، يُجرّب جميع الأدوات المساعدة في القراءة (حامل كتب-أقلام تأشير-فواصل جميلة-كنبة قراءة…)، مكتبته مليئة بكتب فن القراءة، هذه بعض سمات قراء مرحلة التجريب.
كثيرٌ من القراء يقبعون في هذه المرحلة، استمراريتهم في القراءة من باب عدم وجود الـمُلهي الحقيقي عنها، أو ربما الاستمتاع بالأجواء فقط، أو حرجًا من الانسحاب من نادي القراءة الذي انضم له في المرحلة السابقة. والمؤسف أنه يُقنع نفسه أنه القارئ الحقيقي، بل والمثقف المطّلع، وقد تجده لم يُكمل كتابًا منذ أشهر، وكل قراءاته تنقلات ومقالات وفهارس كتب وسجالات ثقافية حول الكتب. ويعرف عناوين الكتب أكثر من مضامينها.
يحتاج هؤلاء إلى إرشاد حقيقي، إلى إقناع شخصي بأهمية التخطيط المعرفي، وضرورة سلوك الجادّة، وخطر الاكتفاء بالهوامش والأرصفة. إذا لم يتدارك القارئ نفسه في هذه المرحلة ستتصرم أعوام عمره ليجد نفسه بعدها لم يكتسب معرفةً ولم ينتج شيئًا ولا يتذكر من الكتب إلا الرتوش. ويتحسّر على الكتب بل وقد ينقلب على أهلها وينفّر النشء منها.
يحتاج هؤلاء إلى أخبار القراء الكبار وتجاربهم في ترشيد القراءة وكيفية البناء المعرفي السليم، وكتب كيفية القراءة الجادة. ومن ضياع أوقاتهم كثرة قراءة كتب القراءة التي هم مقتنعون بها، لكنهم يطربون لمدحها إياهم وأنهم مشاعل النور في ظلمات الآخرين، وتعطيهم مزيدًا من الاقتباسات التي يتفاخرون بها في حساباتهم.
هـ- تبنّي الفكرة والمحافظة عليها، يحتاج إلى إيمان راسخ وتذكير مستمر بالهدف المنشود، وتشجيع داخلي متوقّد. الاستمرارية في القراءة في هذا الزمن صعبة، الشح بوقتك عن أصدقائك والمناسبات الاجتماعية والفعاليات الترفيهية للاستئناس بتقليب الصفحات ليس بالأمر الهين. الصحبة الصالحة ضرورية في هذه المرحلة، الصحبة التي تشجعك على الاستمرار في عزلتك القرائية، ليست التي تدعوك للخروج معها للحديث عن الكتب بعض الوقت وعن غيرها جُلّه.
كُتب أدب طلب العلم -وليست كتب فن القراءة- وتجارب القراء النهمين محفزة لهذه الفئة، مجالسة من هم أعلى منهم علمًا وأوسع اطلاعًا يحرّضهم على الاستزادة من القراءة.
تبنّي مشروع حياة عن قناعة يقوّي الإنسان على عوائق الزمان، ويأخذ بيده في ظلمات الطرقات، ورؤية آثار هذا المشروع تؤنسه عن قلة الصديق وضعف العائد وكثرة الخسائر في سبيل القراءة. الكتابة والتأليف أيضًا وسيلة رائعة لاستمرارية هذه الفئة.
في كتابه المهم “تسويق الثقافة والفنون”، عرّف البروفيسور فرانسوا كولبير التسويق الثقافي بقوله: “فن عقد الصلة مع أقسام السوق التي يرجح اهتمامها بالمنتج عن طريق تهيئة العناصر المتغيرة للتسويق بغرض وضع المنتج في حالة اتصال مع عدد كافٍ من المستهلكين، وبتلك الوسيلة تحقيق الأهداف المحددة بناء على رسالة المرسِل”[3]. وبيّن في الصفحات اللاحقة اختلاف نموذج العمل في التسويق التجاري عن التسويق الثقافي، وأن الهدف الأول والأخير في التسويق الثقافي هو المستفيد، وليس الربح المادي.
وحتى تُعقد الصلة بين الهدف والمستهدف، على الأشخاص أو المبادرات التي تسعى لنشر ثقافة القراءة، وتعزيز المعرفة في المجتمعات، أن تراعي النظريات العلمية في التسويق الاجتماعي، وأن تحرص على تفتيت المستفيدين؛ ليسهل بناء المشاريع والبرامج وفق الاحتياج الحقيقي لكل فئة، وبالطريقة التي تناسبها.
دقة أهدافك تحدد نجاح نشاطك.
أخيرًا، يكفي أن نخرج من التشجيع على القراءة بتصحيح التصوّر لدى الأفراد تجاهها، وإلغاء النظرة الدونية المقللة من شأن الكتب والساخرة من القراء، ولو لم يقرأ الجميع. واعلم أن تسويق القراءة لا ينبغي أن يكون مشروع كل قارئ، أن تكون في عِدَاد القراء لا يستوجب أن تدعو غيرك للانضمام، أتفهَّم إيمانك بمقولة “إذا أردت أن تُسعِد إنسانًا فحبب إليه القراءة”، وخوفك من قول النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسك”، لكن يكفي في هذا أن تشجّع من هم حولك، أن تقرأ لأخيك الصغير، أو تهدي قرينك القريب، لا تحتاج لفتح حسابات مستقلة في وسائل التواصل لاقتباساتك من القراءة، وتناضل من أجلها في كل مجلس، وتتهم من لا يقرأ بالجهل والتخلف.
ذكرت في أول المقال أن الأفكار الاجتماعية تكون أكثر قبولًا إذا جاءت من أفراد يحظون بمكانة عالية في المجتمع، مما يعني أنك تحتاج إلى الكثير من الوقت حتى تصل إلى هذه المرحلة، وليس مع أول خطواتك في دروب القراءة تُمسك مذياع التشويق لها.
[1] ينظر: التسويق الاجتماعي، د. ياسر الشهري، ص28
[2] ينظر: الأفكار المستحدثة وكيف تنتشر، أفريت روجرز، ص٢٠.
[3] ينظر: تسويق الثقافة والفنون، ص33 -بتصرف-.
صدقا من ٢٠١١ ومن بداية التواصل الاجتماعي لم أقرأ مقال واقعي كهذا