عام

تجار الانتباه! حين يصبح الربح الإعلاني بيت القصيد

يناقش تيم ووه حملة استمرت لعقود من الزمن، من تحقيق الدخل من بيع الانتباه، والذي صُعّد مؤخرًا في عصر فيسبوك.

  •  بين تاريف
  • ترجمة وتقديم: عبد الرحمن فتحي

توطئة

لاحظ ويليام جيمس حقيقة مهمة مفادها أن خبراتنا الحياتية حصيلة ما حاز انتباهنا طوال اليوم، سواء أكان انتباها واعيا أم غير واعٍ. ومن هنا، فإننا نغامر –دون أن نلاحظ حتى– بمعايشة حياة لا تمت لنا بصلة.”

تِم ووه، تجار الانتباه.

يعيش نموذج منصات التواصل المعاصر منافسة شرسة على انتباهنا، بل هي حرب شُنّت للتغذي على انتباهنا وتركيزنا وعواطفنا، ومن ثم حصد هذا الانتباه وبيعه لمروّجي السلع على الشبكة. وهذا الحصد شبهه تِم ببيع صاحب جريدة ما جريدته بسعرٍ بَخس، إلى أن يكوّن قاعدة جماهيرية، ومن ثم يعيد بيع “انتباه” هذه الجماهير لأصحاب الإعلانات.

“وتخترق” هذه المنصات العقل، عبر زرع عادات “إدمانية” معينة، تتأكد في النهاية من وجودك أكبر قدر ممكن على المنصة، هذه العادات “تُعدّل السلوك” عبر المحفزات والمكافآت الوهمية [مثل اللاف واللايك والشير.] ومم يؤكد حدوث تعديل للسلوك، طُروء الأفعال اللإرادية على الفرد، مثل فتح المنصة في منتصف العمل أو الدراسة أو في خضم التركيز على شيء معين، بل وبعد الاستيقاظ من النوم مباشرةً، وقد ذهبت “جلوريا مارك” إلى أن نصف الانقطاعات في التركيز تأتي من المستخدم نفسه والنصف الآخر من الخارج.

وتتكئ هذه البرمجة على مخاوفنا من عدم القبول الاجتماعي ورغبتنا في الشعور بأننا مقبولون اجتماعيًا وتستند إلى فكرة “الخوف من تفويت الفرص” لنبقى على الدوام نلعب لعبة “الريفريش” لاهثين حول التريند الجديد ولقد شبه تريستان هاريس إعادة تنشيط النافذة وتمرير المنشورات scrolling بفكرة “آلة المقامرة Slot machine”، فأنت تضع العملة النقدية في الآلة ولا تدري ما المكسب الآتي، فتظل محفزًا على الدوام بإعادة الكرّة، والأمر نفسه مطبّق على فكرة الإشعارات، فأنت لا تدري ما “المكافأة” المنتظرة خلف فتح الإشعار. وقس الأمر نفسه على ال” reelsريلز” المتتالية. ولهذه المقاطع القصيرة وظيفة أخرى نأتي على ذكرها بعد قليل بحول الله.

إن اللوغاريتم المصاحبة لإطار عمل هذه المنصات يحدد لك ما سيظهر ومتى سيظهر، حتى يتسنى له وضع الإعلان في المكان المناسب والوقت المناسب، فأنت بصفتك مستخدم لهذه المنصات لك شبيه مصغّر “دمية قياسية” تُراقَب فيها ردود أفعالك وترصد وتعلّب وتصنّف بل وتقارن مع نماذج أخرى مشابهة قد اتخذت قرارات “شرائية” معينة في أوقات معينة، مما يعني أنه من المحتمل أنك قد تتخذ قرارا شبيهًا تحت نفس الظروف وأمام نفس المعطيات! (كما أن هذه المجموعات المتشابهة من الأفراد تمثل شريحة مستهدفة قياسية للمعُلنين).

ومن أهم وسائل هذا التعليب، والذي يضمن فعالية التنميط والتحديد ما جاء في دراسة “جلوريا مارك” عن قابلية التنبؤ بأفعال المرء، حيث وضحت ما يتعرض له المرء من “تبسيط” مقصود يصبح بعده الإنسان سهل التنبؤ بأفعاله واختياراته بشكل يفوق ما يعلمه الأقربون عنه. فسماتك الشخصية الرئيسية أصبحت تُستل من مائة نقرة “أعجبني” هُنا وهُناك!

ويحدث ذلك عبر عملية إحلال تستبدل تعابيرنا المعقدة بالرموز البسيطة (كير، أنجري، ساد..) وتحوّل تعبيراتنا الغنية عن ذواتنا الكاملة إلى أشكال سطحية تجعلنا أقرب إلى فئران التجارب. فبدلًا من الفقرات الطويلة مثلًا، سنجد أننا أمام مائة حرف لا غير. وفي مقابل هذا التبسيط، تتضاعف قابلية التنبؤ بالسلوك. كما لو كنا أمام تجارب ارتباطات بافلوف الشَرطية، ففي لحظةٍ ما سيستجيب الفأر للمحفّز، وبها نكون قد تنبأنا بسلوكه!

كما ذهب تِم ووه إلى أن هذه الشركات تسعى إلى تكييف الواقع الرقمي لخدمة الإعلانات. ومن الأساليب المتبعة الزَّج بالمقاطع القصيرة التي لا تتجاوز الثلاثين ثانية ضمن محتويات المنصة (وقد استدخل فيسبوك “الريلز” مؤخرًا) ومثلها فكرة القصة “ستوري” وكلها عبارة عن لمحات عابرة، من اعتادها سيصبح أكثر تهيؤًا لقبول الإعلان. ويعكس هذا الاعتياد القبول الجامح لمنصة مثيرة للقرف مثل “تيك توك”.

شكل آخر من أشكال بيع الانتباه هو تجزيء هذا الانتباه، كما لاحظ تريستان هاريس في حوارية مع جلوريا مارك– أنه قد وُجدت إمكانية لتقسيم هذا الانتباه إلى انتباهات عدة، تُباع بنفس السعر، يستفيد منها عدة مُعلنين. (الورقة في الأساس عن أثر تعدد المهام multi-tasking على انتباه الموظفين[1])

إننا جميعًا تحت القصف، يمطرنا وابلٌ من الأخبار والإعلانات المرئية والمسموعة، تمزقنا ألفَ ممزق، وإن أردت مثالًا على انتباهك المجزَّأ، فتذكر أنك تشغل الموسيقى في الخلفية (انتباه 1) وتتصفح فيسبوك (انتباه 2) وتتحدث عبر ماسنجر (انتباه 3).

وإمعانًا في المنافسة على حصد الانتباه، فإن أسلوب الرسائل الافتراضي يتعمد أن تقفز الرسالة مباشرةً من اللا مكان لتأخذك من وسط تركيزك مع تطلب الاستجابة الفورية؛ ليكسر هذا التواصل الإجباري كل فكرة بسيطة عن الخصوصية أو وقت “الغياب الخاص بك” مثلا. وليجد الناس أنه من الأسهل مراسلتك عبر هذا التطبيق الفوري بدلاً من انتظار فتحك للإيميل في الوقت المخصص لتفقد الإيميل لا سمح الله.

لقد ذهب زمن الإعلانات الجميل! ولم يعد الإعلان عابرا يحاول استفزازك أو الالتصاق بذاكرتك قدر الإمكان، وإنما صار لصيقًا بنشاطك، متكيفًا مع طباعك ومستغلًا لنقاط ضعفك! ومن نافل القول، ومن أكبر الدلائل على لا إنسانية هذه العملية، أن أحد المستخدمين البريطانيين يحكي أنه ما إن اكتشف إصابته بسرطان البنكرياس، حتى فاجأه بعدها سيل عارم من الإعلانات عن دور الجنائز، وأيها أفضل في تشييع الميّت وإقامة مأتمه!

إنه لمن المثير للعجب أننا نتساءل عن سبب القلق المزمن والتوتر العصبي والإنهاك والاستنزاف الذي نعايشه، رغم أننا جميعًا في غِمار سَيل لا ينتهي من التصفح الجنوني العشوائي الذي يرهق مستقبلاتنا الدماغية ويفتت ثروة انتباهنا المحدودة!
فمن الطبيعي أن يُعاني البشر أمام المشتتات المتنافسة، لأنها في الأصل تتجاوز قدرتنا على الانتباه.

والحمد لله رب العالمين.


انظر في هذا الباب:

  1. Why Do I Keep Interrupting Myself?: Environment, Habit and Self-Interruption, Gloria mark
  2. Multitasking in the Digital Age, Gloria mark
  3. Attention merchants, Tim Wu
  4. Ten arguments for deleting your social media accounts
  5.  Stolen focus, Johan Harri
  6.  Deep work, Cal Newport

وثائقيات وبودكاست وحواريات:

  • The social dilemma.
  • The burnout society.
  • Pardon the interruptions. Tristan Harris and Gloria mark.
  • The economics of attention, Tim Wu with Steve paikin.

والآن أتركك مع المقالة


تيم ووه، خبير في تركيزات القوى، ومؤلف وناشط ومحام، لمع نجمه بعد صك مصطلح “حياد الانترنت”[2] والذي يعني أن القلة المحتكرة للسوق.[3] والمالكة للبنية التحتية للإنترنت ــ يجب أن تعامل بيانات المستخدمين على السواء، فلا تختلف الرسوم (أو المعاملات) باختلاف المستخدمين. وفي كتابه الجديد: تجار الانتباه. يرصد نوعا آخر من الهيمنة؛ وهو الصناعة محتكرة الانتباه!

يرى تِم أن بداية هذه الصناعة تعود إلى الحرب العالمية الأولى. فبينما استطاعت ألمانيا تجنيد أربعة ملايين ونصف إنسان، كان قصارى ما عبأت به بريطانيا جيشها هو سبعمائة ألف جندي. فتفتق عن أذهانهم حل لهذه المعضلة، وهو تدشين أول حملة دعائية منظمة في التاريخ. فطبعت خمسين مليون لافتة ضخمة ملوّنة، تحث على التجنيد في الجيش، ومن ثم ألصقتها في كل مكان تسعه جدران البلاد، كما لم يخلُ محلٌ ولا منزل ولا حافلة ولا شاحنة من لافتة. ونُظمت التجمعات والمسيرات وانطلقت الشاحنات المزودة بأجهزة العرض “البروجكتور” في كل ربوع المدينة تعرض الأفلام البطولية. ولقد أفلح الأمر! وكان من ثمار هذه الحملة غير المسبوقة ــمن الإقناع الممنهج الذي رعته الدولة وأشعلت فتيله، أن لقى ملايين الشباب حتفهم في معارك مروّعة لا طائل منها!

يذهب تيم إلى أن هذا المشهد كان نقطة التحول الكبرى التي نتج عنها ظهور ما يعرف “بصناعة جذب انتباه الإنسان”. فلقد أثبت النجاح الساحق لبروباجاندا الإنجليز مدى محورية “انتباه الجماهير” بتعبير تيم ووه، ولقد تعلمت المنظمات التجارية درسا ثمينا من هذه التجربة، فإنك متى استطعت أن تقنع الجماهير بجدوى الموت اختناقًا بالغاز السام في بلدٍ أجنبية، فسيكون من السهل على القطاع الخاص -مستخدمًا التقنيات ذاتها- إقناعهم بما هو دونه، شراء المنتجات. وهكذا بات عندنا أول مولود “للصناعة الحديثة للإعلان”.

ومثل سائر الصناعات المدرّة للربح حينئذٍ ومُذئذِ، فقد أعاد [صنّاع] الإعلان توظيف هذا الابتكار -الذي موّله القطاع العام- لجني الأموال. فعلى مدار عشرينات القرن الذي قد خلا، ظهرت في الولايات المتحدة طبقة تجارية دعائية ذات صَولٍ وقوة. ولم تكتف هذه القوى بإثراء أنفسها وعملائها، وإنما أدى “تجار الانتباه” أولاءِ وظيفة أخرى اقتصادية حاسمة. فقد أفضت عقود مديدة من التوسعات الصناعية المتسارعة في الغرب الرأسمالي إلى فائض في الطاقة الإنتاجية. وكانت إحدى الطرق المتبعة للتعامل مع هذه المشكلة هي غزو بقع من آسيا وإفريقيا، وفتح الأسواق هنالك بقوة المستعمِر. وأما الطريقة الأخرى ]وهي التي تعنينا هاهنا[ تمت بتعزيز الطلب في الداخل، عبر خلق احتياجات جديدة للمستهلك، مع السماح بإعلاء مستويات الأجور إلى حد يمكن التصرف بناءً عليه ]مع الفلسفة الشرائية الجديدة[. إن الاستعمار الأول استعمار فعلي، أما هذا الاستعمار الثاني، فهو استعمار الحياة اليومية.[4]

وكتاب تِم يسرد لنا قصة هذا الغزو الجّواني، مع التركيز على المحاولات التي نجحت على نحو استثنائي في احتلال مساحات من انتباهنا على مدار المائة عامٍ السالفة. فالكتاب ليس في الأساس عن تاريخ الإعلانات، بقدر ما هو عن نشأة هذه الحقل المسيج، عن سؤال: كيف تمكنت التقنيات والمنصات والتنسيقات مجتمعة من محاصرة واختراق حيوات اليقظى بهذه الصورة.

وتِم لا يقول بحتمية السبب التقني، فبينما يقرّ أن اختراعات مثل الراديو والتلفاز والإنترنت قد خلقت إمكانية محتملة هائلة لجذب الانتباه، إلا أنه لا ينسى الإشارة إلى أنها لم تكن علاقة لزوم بين الطرفين. فكون الأدوات الجديدة قد سهلت الوصول إلى أكبر كم ممكن من الناس، لا يعني أن الناس سيعيرون انتباههم بالضرورة. ولتم استعارة  تقول: “لقد كان على شركات الإعلان أن تزرع الانتباه قبل أن تنشأ إمكانية حصاده.”

ولقد انطوت هذه العملية في أحيان على خلق شكل ثقافي جديد بالكلية، مثل المسلسل الإذاعي أو تليفزيون الواقع. وفي أحيان أخرى استعيض عن ذلك بتحسين المتاح، كتصعيد برنامج أوبرا وينفري الحواري الشعبي إلى مصاف برامج الصف الأول. يحشد الكتاب جمعًا غفيرًا من دراسات الحالة، موضحًا أن الوصفة الأساسية الحاكمة لها تظل ثابتة لا تتزعزع بمرور الزمن. وهو شيء جدير بالملاحظة؛ فالشركات تبتدع طرقًا جديدة لجذب انتباهنا، ومن ثم تبيع هذا الانتباه للشركات الأخرى. وبينما تتخلل وسائل الإعلام العامة وقتنا جله فإن كمية الاهتمام المتاحة والممكنة البيع تنمو. (انتقل متوسط استهلاك الشخص الأمريكي العادي من ساعة يقضيها بجوار “مذياع العائلة” إلى ساعات لا تنتهي على جوجل أو تويتر أو فيسبوك).

إلا أن هُدنة الناس في بعض الأحيان تكونُ على دَخَن. ففي ثلاثينات القرن الماضي، أجبرت إحدى حركات المستهلك الحكومة الفيدرالية على مراقبة الإعلانات ومحاصرة الوقائع المزيفة والمغلوطة. كما وسمح ظهور اختراع ريموت التحكم في الخمسينات للمشاهد بخيار “الإسكات” “ميوت Mute “. وهكذا “تسلحت المقاومة الشعبية ضد حصاد الانتباه المصنّع”. وبعدُ، فإن هذه التمردات الصغيرة لم تكن لتوقف سَيْلَ العَرِم، وإن كان لها تأثيرٌ يذكر، فقد حدث العكس تمامًا، لقد تسارعت الوتيرة! فقد لاحظ تِم ـوهي ملاحظة مثيرة للاهتمام، أن الإعلانات تتكيف مع المقاومة باقتدار عجيب، إنها عملية شبيهة بتحور سلالة البكتيريا في مقاومة المضادات الحيوية، لتكتسب مناعة مضادة في ختام الأمر. وبالمثل، تستخدم الإعلانات أعداءها لتثبت أقدامها، وذا ليس باستمالة قلوب أصحاب الثقافات المضادة، وإنما بتجنيد أشدهم كرهًا لها للعمل لحسابها.

فقد لاحظ تِم أن كلا من جوجل وفيسبوك قد أسسهما مهندسون يزدرون إعلانات الشبكة. وقد مكنهم هذا من تجاوز الإعلان التقليدي، فابتكروا إعلانات تنزلق إلى مجال الرؤية بسهولة وخُفية، وتنصت إلى عمليات البحث السابقة وإلى إعجاباتك ونقراتك هنا وهناك.

لقد آلت الأمور إلى أن تقتصر مهمة أكثر آلات العالم تطورا على تحويل انتباهنا إلى عُملات. وهي عملية تجعل شارع ماديسون في أزهى عصور دون دريبر[5] يبدو خيالا ضحلًا وليس صعب المنال مقارنةً بأساس نموذج العمل الآني.

وكتاب تِم ليس محض كتاب تاريخ، وإنما كتابٌ جدلي. إن السبب الأساسي وراء حاجتنا إلى فهم جذور صناعة الانتباه هو أنها تشكل خطرًا مميتًا على سعادة الإنسان وازدهاره. إنها صناعة تقمع الانتباه السليم، وتُبقي على الانتباه السقيم. فالانتباه السليم “عميق، وطويل الأمد، وطَوعي”، كأن تقرأ كتابًا مثلا. بينما الانتباه السقيم “سريع، وطفيف، وفي غالب الأمر مستثار وغير طوعي”، ممثلا في تفقد إشارات تويتر العابرة. إن الانتباه السليم هو المساحة الروحية الضرورية لتحقيق الذات. بينما يجعلنا الانتباه السقيم أغبى، وأكثر قابلية للتعايش مع الإعلان، “وأبعد من ذواتنا الحقة”.

هناك شكوى بالغة القِدَم، بالغة السخف. يدعي أصحابها إن كل ابتكار إعلامي جديد ــمنذ اختراع الكتابةــ يُصاحَب عادةً بذُعرٍ أخلاقي، يُفتَّش عما إذا كانت تلك المستجدات ستفسد التجربة البشرية. فلقد ارتاب سقراط من أقراص الشمع، وتوجس رهبان أواخر العصور الوسطى من المطابع الورقية. ولكن القياس لا يسعفهم هذه المرة، لأن تِم يتمتع بالخبرة القصوى في الموضوع محل النقاش. ]أي أنه ليس متهيبًا الإنترنت لجهله به[. وأشخاص يعدون على الأصابع أكثر تأهلا منه للتحليل الدقيق لآلية أسر الانتباه تلك. وبعدُ، فقد كرّس تِم الخمسين صفحةٍ الأخيرة للتنديد بسياسات فيسبوك وتويتر وانستغرام و”باظ فيد” التي دمرت الإنترنت.  ففي سعيهم المحموم لعوائد الإعلانات، قد حطوا من قيمة المجال الرقمي، وحولوه إلى بالوعة من “السيلفي”، وصور المشاهير والمقالات المصورة. وأي شيء يكثّر النقرات مغذيا «الدوافع البشرية الأساسية للتلصص واستراق النظر».

وما من شكٍ أن شهية وادي السيليكون المفتوحة للانتباه قد أثرت سلبًا على الرأي العام. ففي أعقاب فوز ترامب بالانتخابات، ألقى العديد من المعلقين اللوم على فيسبوك لنشره زائف الأخبار والقصص، والتي كان لها دورًا مؤثرًا في النتيجة. بل إن أعجل متصفح لمنصات التواصل يعلم مدى حب النازيين لتويتر. وتحت الذريعة الساخرة الممثلة في «حرية التعبير»، فإن عمالقة التكنولوجيا قد قرروا منذ وقتٍ طويل أن تراكم رأس المال مقدمٌ على أية اعتبارات أخلاقية أو مدنية. فانتباه النازيين يدرّ أرباحًا، مثلهم مثل غيرهم.

ورغم التشاؤم الذي أعقب انتخابات ترامب، إلّا أن هذا التوصيف قد غالى بعض الشيء. يرى تِم أن الحياة الرقمية المعاصرة قد فسدت في كليتها، مع استحالة إصلاح التالف في المستقبل. ونتيجةً لذلك، يبدو من المستحيل التعرف على الإنترنت الحقيقي من بين غبش صورته الكرتونية. وقد غاب عن تِم مساهمة تويتر في التنظيم السياسي، أو مساهمة “بظ فييد” الهامة في نشر حالات الاعتداء الجنسي. وقد كان من الممكن التغاضي عن هذه الهفوات لو كان المتكلم شخصَا عاديا أو قليل الخبرة. ولكنها تأتي من رجل يتمتع بسمعة طيّبة كونه واحدًا من أبرز المفكرين في مجال التكنولوجيا في الولايات المتحدة، وأراؤه تؤثر في الناس. لذا حين يدين سياسات الإنترنت المعاصر لكونها تمرّن على البلاهة الجمعية؛ فإنه يغامر بإضرار النقاش العام.

كما أن نظرته تستبعد إمكانية تشكيل استجابة سياسية مكافئة. إن الرجل على حق بدق ناقوس الخطر، فإن الإعلانات تستحوذ بالكلية على “بيئة الانتباه” خاصتنا، وهيمنة المؤسسات على الإنترنت باتت مشكلة مستعصية. وقد تجلى العوار في الانتخابات الأمريكية. ولكن عند الحديث عن الحلول المحتملة، فإن أخلاقية ووه قد ضللته على ما يبدو. إن قصارى أمله أن تنشَط مشاريع تحسين شخصية، وينصحنا جميعا بتقليل الوقت المصروف على الإنترنت، وصرف المزيد من الوقت على أشياء تتطلب “مستوًا جادًا من التركيز”. وهذا سيمنحنا القوة اللازمة “لاسترجاع ثروة انتباهنا المسلوبة”، وهكذا “نستعيد ملكية تجربة العيش نفسها”.

وحتى إذا كنت موافقا على الرأي المرجوح أن كمالنا البشري يزداد بقراءة الكتب أو يقل بتصفح باظ فيد. فإنك قد تتفق معي رأيي، أن هذا الحل غير قادر على إحداث تغيير فعلي. “فصناعة الاهتمام” سيسهل عليها ابتلاع مبادرات التمرد الفردية تلك. فالنهج القوي يتطلب حلولا جماعية. إن معلوماتنا -كما ألمح تِم- تدر بلايين الدولارات سنويا على تجار الانتباه في وادي السيليكون. فهذه المنشورات، وعمليات البحث، والإعجابات، التي ننثرها في كل مكان، تجعل منّا أيدٍ عاملة مجانية، تحرّك ترس أشد قطاعات الاقتصادات ربحا.[6] وليس من المستبعد أن نتوقع أن تعطينا هذه المساهمة الحق في أن تكون لنا كلمة مسموعة عند تلك المنصات. لقد آن لنا أن نحدد كيف يباع انتباهنا ومتى يباع ]بأقل تقدير[. وبذا نكون قد أرسينا قواعد الديمقراطية في المجال الرقمي، دون أن ننبذه بالكلية.


[1] عند بيونج تشول هان رؤية بديعة عن تعدد المهام: فهو عنده يمثل عِبء العمل المتزايد، مما يؤدي إلى انحدار قدرات الانسان إلى رتبة الحيوانات، فالحيوان عليه أن يكون متحفزًا على الدوام في أثناء ممارسة نشاطه، (فهو يأكل فريسته مثلا ويظل يقظًا متحفزا لألا يصبح فريسة لعدوه في الطبيعة)، فالحيوان مجبرٌ على تجزيء انتباهه، والإنسان مجزأ الانتباه إنسان غير قادر على التأمل والتفكير العميق، مسلوب نعمة الإنصات والتفكير، تنهشه المحفزات من هُنا وهُناك، غير قادر على كبح جماح نفسه، إنسان أقرب إلى الحيوان منه إلى الإنسان!. -انظر burnout society. P12- المترجم.

[2] يقوم مصطلح حيادية الإنترنت على مبدأ معاملة جميع بيانات الإنترنت وحركة الاتصال بحيادية تامة ودون تمييز أو تفرقة تعسف أو حجب أو الإلزام بمحتوى محدد لأن ذلك يقيد المستخدم ويحصر حريته في استخدام المعلومات المتوفرة بالإنترنت. (النبذة لويكبيديا)

[3] احتكار القلة: وهو أن يحكم السوق عدد قليل من موفري بضاعة معينة. وفي هذا الحالة يكون هناك تنسيق ضمني بين هؤلاء الأطراف لالا يؤثر قرار على بقية المحتكرين لنفس السلعة. -المترجم.

[4] ذكرني هذا بمصطلح المسيري رحمه الله “الإمبريالية النفسية”، وهي ظاهرة رصدها المسيري في أعماله متأملا المجتمع الأمريكي، فلقد رأي أن الفرد قد استعمر بالفعل، واستبطن فكرة شبه مسبقة عن “تعظيم الاستهلاك وإشباع اللذة” بصفتهما غايتين قصوتين، فهي “حضارة الفوارغ”، حضارة غير قادرة على “إعادة التدوير” الذي يحفظ التوازن مع موارد الطبيعة، في سعي محموم إلى الجديد والتالي. -المترجم.

[5] بطل مسلسل ماد مين “Mad men” وهو مسلسل تدور أحداثه في العصر الذهبي للإعلانات في الستينات.

[6] يقول هان في هذا المعنى: «يُسلّم المستهلكون أنفسهم طواعية إلى المراقبة الكلية التي توجّه احتياجاتهم وتفي بها. في هذا المستوى، لا تختلف وسائل التواصل الاجتماعي بأي قدر عن آلات المراقبة. لقد وقع العالم بأسره اليوم في قبضة نظام المراقبة. وقد غدا هذا النظام شاملاً؛ حيث لم يعد ثمة جدار يحيط به من الخارج، إذ لم يعد هناك خارج. إن محرك البحث غوغل وشبكات التواصل الاجتماعي التي تقدم نفسها بوصفها مساحات مفتوحة للحرية، توفّر أشكالاً من هذا النظام. في عالمنا اليوم لا تعد المراقبة هجوماً على الحرية، فبدلاً من ذلك، يستسلم الناس طواعية لنظرة المراقبة. يتعاونون عن قصد [أو غير قصد] داخل هذا النظام الرقمي للمراقبة عبر تعرية أنفسهم وعرضها.» تشول هان؛ مجتمع الشفافية. (ًصـ99) – المترجم.

المصدر
theguardian

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى