هذه العنونة توحي بالعديد من المسلّمات حيال اللغة، ويمكن أن نعرض أهمها كما في المشهدين التاليين:
– اللغة هي في حقيقتها رأسمال جماعي، حيث يستيقظ وعيُ الإنسان على لغة يرثها ممن سبقوه، فلا أحد إذن يسعة أن يتصرف فيما لا يملكه ملكية خاصة، ولا أن يبدل فيه من تلقاء نفسه. واللغة حينما تكون رأسمال جماعي، فهي ليست من قبيل شركات الأموال وإنما هي شركة تضامن، تقوم على أفراد يتعارفون فيما بينهم (=مجتمع إنساني)، ويتشاركون في قالب تضامني حيال الأرباح والخسائر، فربحهم اللغوي للجميع، وخسارتهم اللغوية يتحملها الكافة، ولو غرموا في ذلك ذخائرهم الخاصة.
– اللغة ليست فِناء خاصاً في محيط بيتك، فتتصرف فيه كما تشاء، فتزيد وتنقص، وتغير وتبدل، بل هي فِناء عمومي؛ يحوطنا ويستوعبنا كلنا، فلا أحد من ثمَّ يسعه التصرف في اللغة، إلا عبر قوانينها هي، وإلا كان المتصرف جائراً، وتحمل تبعة ذلك، إن عاجلاً أو آجلاً.
قد يسأل أحدُنا فيقول: وماذا أملك من اللغة إذن؟ لا تملك منها إلا ما يملك غيرُك من أبنائها، إذ لا نملك إلا بناءها وتركيبها وذخائرها النحوية والصرفية والبلاغية وأدبياتها الشعرية والنثرية، وكأن الإنسان حين يولد يكون له حق في ملكية أسهم من اللغة وهي الملَكة اللغوية وما يصحبها وما يعقبها من أساسيات اللغة الفطرية والمكتسبة، وعلى قدر اجتهاد الإنسان فيما بعد في شراء مزيد من أسهمها يكون حظُه من الملكية أكبر، فالمتعلم لفنونها وأسرارها وطرائق تعبيرها يكون أملكَ ممن يعجز عن دفع كلفة تلك الأسهم اللغوية، ولا يكون نصيبه منها إذ ذاك إلا أنه يقدر بنحو ما على إيضاح ما يجول في خاطره أو عقله، وقد يُبين عن ذلك أو لا يُبين، فكلٌ على حسب ذخائره اللغوية وجودة نظمه.
من يمتلك حق التصرف باللغة؟
نعود إلى المسألة الأم، وهي التصرف في اللغة من حيث أبنيتها الداخلية أي قواعدها اللغوية، فإلى أي حد يسعنا تغيير هذه الأبنية أو القواعد وفق ما نراه شرطاً للمواكبة العصرية؟ هذا السؤال هو ما دفعني في حقيقة الأمر لكتابة هذا النص المختصر، حيث إنني لاحظتُ أن بعض المشتغلين في علوم اللغة يرون أن اللغة هي أداة اجتماعية يصيّرها المجتمعُ وفق غاياته واحتياجاته وأساليب عيشه، لتحقق اللغةُ التواصليةَ التي يرونها الغايةَ الأسمى لللغة، مما يجعلهم يمتلكون حق التصرف فيها وفق ما يرونه محققاً لذلك، ولو كان عبر تغيير بِنية هذه القاعدة اللغوية أو تلك. سيكون لي وقفات خاطفة حول هذا المسلك الذي لا أشك في نبل غايته عند هولاء المتخصصين أو المهتمين في علوم اللغة من أبنائها البررة، على أن هذه الوقفات هي خاصة باللغة العربية على وجه التحديد.
في البدء أقول كلمة مكثفة، وأعدها قاعدة عامة: لو تجوّز بعضنا في شيء من قواعد العربية، وبعضنا في شيء آخر منها، ما بقي منها شيء. كيف هذا؟
تخيلوا أن أحدنا يرى ضرورة تجاوز هذه القاعدة اللغوية لانتشار أساليب تعبيرية في المجتمع تخالفها على سبيل المثال (دليل الشيوع)، ثم يأتي آخر بنفس المنطق فيقترح تجاوز قاعدة لغوية، ثم يجيء عاشرُ بمبادرة تغيير قاعدة أخرى. هنا نكون إزاء تجاوز عشر قواعد لغوية، وليكن ذلك في غضون خمس أو عشر سنوات أو حتى عشرين سنة. ماذا سيترتب على ذلك؟
سنكون إزاء ما يمكننا وصفه بـ شرخ في زجاجة اللغة. الحياة موّارة بالحركة، والحركة متسببة حتماً في هز الزجاجة هزاً يفضي إلى زيادة الشرخ وتعاظمه وتشعبه، إذ سنكون في متتالية من التغييرات والاقتراحات والالتماسات لتغيير هذه القاعدة اللغوية وتلك، عبر استحسان فلان وتسامح علان، فيكسر هولاء زجاجةَ اللغة، وتفقد القدرة من ثمَّ على أن تعكس “المعنى الأسمى”. وما المعنى الأسمى؟ إنه كلام الله، إنه القرآن العظيم الخالد، الذي نزل من الخبير الحكيم ليعكس الحق والميزان، بلسان عربي مبين، لسانٍ له أصوله وقواعده، التي ورثناها ضمن رأسمال جماعي وشراكة تضامنية، فهل نضيع الأمانة، ونخون الرسالة؟
أين الحفظ الإلهي للقرآن واللغة؟
قد يقول قائل: أنت تبالغ كثيراً، ولعلك إذ ذاك قد ركبتَك حماسةُ عاطفية، ونسيتَ تعهد الله تعالى بحفظ القرآن، ولا يُحفظ القرآنُ إلا بحفظ لغته: ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9)، فكيف تقول هذا؟ حسناً، لنجعل هذه فرضية محتملة، ونرد عليها بكل هدوء وتأن، وليكن ذلك عبر فقرات متسلسلة، يأخذ بعضها بأعناق بعض:
– لنتأمل ملياً في هذا السؤال: ما الذي يجعل الإنسان المعاصر في القرن الخامس عشر الهجري والقرن الحادي والعشرين الميلادي يفهم نصاً كُتب قبل أزيد من أربعة عشر قرناً ويستوعبه ويتمثله؟ لا تفهم اللغة إلا عبر سلسلة من القواعد التي تمثل قوانينها، أليس كذلك؟ إذن، نقول بشكل قاطع، بأن الإنسان المعاصر قد تمكّن من فهم القرآن العظيم لأنه قد توفر على قواعد لغوية ترشده إلى المعاني المقصودة في الآيات الكريمات. وهذه القواعد هي من صميم اللغة وبنائها، وقد ورثناها جيلاً إثر جيل، وفق أبنية متينة متقنة متمامسكة من القواعد النحوية والصرفية والبلاغية.
– تخيلوا أن جماعات من الأمة الإسلامية قد رأوا ما يراه بعضُنا حيال إمكانية تغيير قواعد اللغة لأسباب المواكبة العصرية ومنه شيوع أساليب لغوية جديدة، وليكن هذا الأمر قبل أربعة قرون فقط. تُرى كم من القواعد اللغوية التي يمكن أن يكون قد طالها قدرُ من التغيير؟ هل نستطيع أن نُخمِّن رقماً معيناً؟ لا، لا نطيق ذلك. إذن، لنقل بشكل عام، من المرجح أن تكون ثمة قواعد ليست بالقليلة قد تعرَّضتْ بالفعل لتغييرات، وهذه التغييرات قد يكون من بينها تغييرات جذرية، وبعضها تغييرات متوسطة، وبعضها تغييرات محدودة. هل يستطيع عاقل أن ينكر أن هذه التغييرات سيكون لها تأثير سلبي كبير على فهمنا للقرآن الكريم ومدونة الشريعة والمدونة العربية بكل فنونها؟ قد يُقال كيف؟
– لو حدث هذا السيناريو المتخيل، فإننا سنكون إزاء قواعد لغوية متباينة ومتعارضة ومتناحرة، فكلٌ له رأيُه، فما قد يتسامح به فلان لا يتسامح به الآخر، وما قد يقترحه أحدهم لا يتفق معه آخرون، وهكذا. ومن المتوقع أن تتناسل هذه التغييرات اللغوية لاستمرار المسببات الموجبة لها من وجهة نظر القائلين بتغيير قواعد اللغة.
– ومن المسلَّم به أن كل قرن من القرون الأربعة الماضية المفترضة سيشهد تأليف الكتب اللغوية التي تتضمن التغييرات المقترحة في هذا القرن وما يرونه صالحاً من الاقتراحات من قرون مضتْ، إذ ترى كل جماعة لغوية أن من واجبها أن تؤلف كتباً تتضمن ما استقر رأيُها عليه حيال التغييرات اللغوية، مما يجعلنا قبالة مئات من الكتب اللغوية و”الاجتهادات” ذات الطابع الفردي أو شبه الفردي، فكيف سيكون عليه حالُنا نحن: هل نسطيع إذ ذاك أن نفهم القرآن العظيم وبقية المدونة الشرعية واللغوية؟
– ها هنا نستدعي صورة شرخ زجاجة اللغة، إذ مع مرور الزمن، ستتكاثر التباينات اللغوية، وينمو كل شرخ لغوي في اتجاه مغاير للآخر، مما يعني تشكل لغات عربية فرعية[1]، تتجذر الفروقات فيما بينها في سياق تنشأ فيه جماعات لغوية متعارضة، لا يزيدها الزمن إلا تفرقاً وتشظياً في المنهج والرأي والأنماط اللغوية من جهتي التنظير والتطبيق، فيكون من الصعب أو حتى من المتعذر إمكانية تصور تماسك “اللغة العربية الفصحى”، فقد رمى زجاجتَها أهلُها المضيعون لحقها.
– لنستمر في تخيل السيناريو السابق في لقطة أخرى معضدة لما قلناه، فنتخيل أن هذا المد قد استمر فوصل إلى عصرنا نحن، فرضينا به وأطبقنا على قبوله. كيف سيكون عليه حال العربية في هذا العصر الذي يتسم بالخفة في التعاطي مع المسائل العلمية العويصة، ويتصف باستسهال طرح الآراء في شبكات التواصل الاجتماعي، فما أفكر فيه اليوم قد أطرحه غدا أو بعد الغد ، مع قدر كبير من الجزم، وقد أُحيل في هذا الرأي إلى هذا المرجع أو ذاك ممن يتبنى فرضية التغيير المرن السريع لقواعد اللغة، وهكذا تُطرح الآراء في شبكات التواصل وتوضع التأييدات بعلامات الإعجاب ونحوها من قبل آحاد الناس من المثقفين والعوام، فنحسب أننا على شيء!
– التغييرات الهائلة الهادرة على تنوعها، ستكون مقابل اللغة العربية الصافية، بقواعدها الأصيلة، التي سيكون لها أنصارُها المتمسكون بها، المعارضون للتغييرات في قواعدها. سنحيل على هولاء الأنصار بعد قليل في جانب من التوصيف ونبين موقفهم العلمي حيال ذلك. حسناً، وماذا عن المشهد الذي يقبل بالتغييرات ويدعو لها؟
– قد يكون في ما قلتُه حتى الآن شيء من الإقناع لمن يتبنى مقولة التغيير لبِنية القواعد اللغوية لتكون مواكبة للعصر. وهذا أمر جيد. ولكن البعض قد يُعيد السؤال السابق، فيقول: وأين تذهب من الحفظ الإلهي للقرآن الذي يستلزم حفظ اللغة العربية؟ هذا استدراك جيد، وهو مثرٍ للمسألة. وهذا ما يجعلني أعالجه في الفقرات الموالية.
– إن الله تعالى حينما قال: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، فإنما كان الحفظ متوجهاً لكتابه العزيز، وهذا الحفظ قد تحقق حتى عصرنا هذا، وهو متحقق إلى قيام الساعة، فلا نشك ولا نرتاب في هذا، إيماناً وتسليماً.
– ونقر أيضاً بأن الآية الكريمة تدل على حفظ اللغة العربية بطريقة ما، بما يجعل المسلمين قادرين على قراءة القرآن العظيم وفهمه وتمثله. بيد أنني أقول في الوقت ذاته، بأن الآية الكريمة لا تُفيد حفظ كامل اللغة العربية حفظاً تلقائياً، وإنما حفظ ما يكفي منها لفهم القرآن على نحو ما، مما يجعلنا مُطالبين ببذل الجهود العلمية والبحثية والفكرية والاجتماعية والقانونية لحفظ كامل أجزائها، فاللغة لا تحمي ذاتها[2].
– وتكون اللغة إذ ذاك بقواعدها الأصيلة “هُوية ناطقة“، لا مجرد “وسيلة تواصل”، فيفهم الواحدُ ما كان يقوله الشاعر الجاهلي ومن جاء بعده في صدر الإسلام وفي عصر بني أمية وبني العباس ومن جاء بعدهم، في سلسلة لغوية حضارية ثقافية، نتحسس عبرها المشاعر والأفكار والقيم والإبداع، وتكون كلها عوناً بل شرطاً تأسيسياً لفهم معمق للقرآن العظيم، فنهتز لإعجازه اللغوي، ونقف عند دلالاته المبهرة ونظمه المدهش واستعاراته المحلِّقة، بما يُقدرنا على أن نتجاوز مجرد فهم المعنى الإجمالي للآية، وذلك أن هذا المعنى الإجمالي لا يكفي لدفعنا لتمثله في حياتنا كما يجب، شعوراً وإيماناً وتشريعاً وإلهاماً وعملاً، فلا نهضة حقيقية إلا إذا هزنا القرآن العظيم كما هز الرعيل الأول، سواء بسواء.
– وبعد هذا العرض الموجز، قد يأتي أحد المتخصصين في اللغة أو المهتمين بشأنها، فيقول: اللغة ليست جماداً، فهي تتأثر بمحيطها الاجتماعي، فكيف يمكن جعلها مرنة وفق مقتضيات العصر وأنت تقول بهذا وتتشدد فيه؟ هل تغلق باب الاجتهاد اللغوي جملة وتفصيلاً؟ هذا سؤال رائع بحق.
– كلا، لستُ ممن يُغلقون أبواب الاجتهاد اللغوي، ولا الاجتهاد العلمي في كل باب من أبوابه، وإنما أنا من المؤمنين بأن كل اجتهاد له غاياته وأركانه وشروطه وموانعه. ولعل من منظومة هذه الغايات والأركان والشروط والموانع أن نقرر بأن الاجتهاد اللغوي المقبول هو: الاجتهاد اللغوي الجماعي عبر مجامع اللغة العربية، التي تتوفر على علماء اللغة الذين سلخوا من أعمارهم عقوداً في تعلم قواعدها وتبيُن تاريخها وتفهُّم منطق تطورها، بجانب امتلاكهم للمنهج السليم الذي يحفظ حق العربية في صون قواعدها الأصيلة من جهة، وفي حق أهلها في أن تكون لغتهم مواكبة لعصرهم، ومحققة لما يرومون من الأهداف والاحتياجات من جهة ثانية، فيكون منهم الاجتهاد اللغوي الجماعي المتأني الموفق المسدد.
نداء لأهل اللغة!
ما سبق، يجعلنا نخلُص إلى القول الجازم بوجوب أن يكف الأفراد -ولو كانوا أساتذة لغة جهابذة، لهم علمهم وقدرهم ورأيهم- عن الاقتراحات اللغوية الفردية أو شبه الفردية (بعضهم يعقد مجامع لغوية صغيرة ويتوهم أنها قد حققت شروط المجامع اللغوية المعتبرة) بتغيير هذه القاعدة اللغوية أو تلك، لهذا السبب أو غيره، فاللغة ليست مُلكاً لأحد فيتصرف فيها برأيه واجتهاده الفردي، وإنما هي ملكية عامة للأمة برمتها، فيتوجب علينا إذن المحافظة عليها وصونها والدفاع عنها، وهذا داخل كله في دلالة آية الحجر، فنحن مسؤولون أمام الله تعالى، وهي والله لأمانة بين أيدينا وعلى ألسنتنا وفي أقلامنا، فلا يكون بعضُنا مدفوعاً بحماسة تطوير غير منضبطة، وهو لم يتفحص الاستحقاقات، ولم يتبين المآلات كما يجب، وما قد يجره ذلك من ويلات وتشويهات على هذه اللغة العظيمة: لغة الوحي، ولغة الماضي والحاضر والمستقبل. اللهم، هل بلغت، اللهم فاشهد.
[1] بل قد تستحيل إلى لغات متبانية مع طول الوقت، كما حصل مع اللغات اللاتينية وغيرها. ولكن، هيهات أن يحصل ذلك للغة العربية، فثمة من يقف حصناً حصيناً ضد أي تغييرات بنيوية في هذه اللغة دون وجه حق.
[2] حول هذا المعنى، انظر: عبدالله البريدي وآخرون، اللغة لا تحمي ذاتها، الرياض: مركز الملك عبدالله الدولي لخدمة الغة العربية، 2019.