- جاك مادن
- ترجمة: وفاء ناصر
- تحرير: سحر فوزي
في ليلة هادئة من العام ١٦٤٠مِ، في مدينة ليدن،هولندا،حمل الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت قلمه وكتب “أشعر بالوحدة هنا، وسأكرّس نفسي بصدق ومن دون تحفّظ للتدمير الشامل لآرائي”.
يا لها من طريقة رائعة لتمضية الليلة!
ولكن كان لديكارت أسبابه؛ بصفته عالما للرياضيات يرى أن أُسُسَ العلم إن لم تكن ثابتة ويقينية؛ فإنها سوف تكون معرّضة للسقوط لا محالة، وعلى هذا قرّر بأنه إذا كان هنالك باعثٌ للشك في حقيقة شيءٍ ما -حتى ولو كان شكًّا ضئيلًا وتافهًا- فإنه يجب استبعاد تلك الحقيقة؛ لكونها مزيفة.
وبوضع مثل هذه المعايير الصارمة للحقيقة، لم يمضِ وقت طويل -مثلما وصفه ببراعة في كتابه تأملات في الفلسفة الأولى- حتى بدأ ديكارت يصارع؛ ليقتنع بوجود حقيقة لأي شيء.
بالنسبة له حقيقة أننا نحلم ونهلوس تجعل الحواس ليست دائمًا قابلة للثقة.
هل حدث وأن استيقظت من نومك يوما ما ثم فكّرت “يا إلهي لقد بدا ذلك الحلم حقيقيًا”؟ هل سبق وأن هلوست بأنك لا ترتدي جواربك؟ هل حدث أن شاهدتَ شيئًا ما بينما يحلفُ شخص آخر بأنه رأى خلافَ ما رأيت أنت؟
عندما يخذلنا تصورنا عن العالم قد يخلق لدينا هذا تناقضًا، نحن نسلّم بأن تجربتنا أصيلة، ولكن عندما يتم إثبات زيف هذه التجربة،فقد تشعر وكأنك صُفِعتَ على وجهك. حيث قد تعتقد”حسنًا! تصوري ليس معصومًا عن الخطأ، ربما لأنني لم أجرب العالم الحقيقي”.
هل النقاط في الشكل الأعلى سوداء أم بيضاء؟ قد تكشف لنا الخدع البصرية مدى سهولة تضليل أدمغتنا بأشكال وأنماط بسيطة قد نراها في أي مكان.
لكن وفقًا لمعايير ديكارت الصارمة للحقيقة التي ذكرناها سابقًا، أين يتركنا ذلك؟
إذا كان من الممكن الشك في أصالة تجربتنا بين الحين والآخر؛ فهذا كافٍ بالنسبة لديكارت حتى يرفضها على أنها خاطئة تمامًا.
فكرة أنّ حواسنا قد تخدعنا ومن دون حتى أنْ نعلم ذلك، يوحي بأنها تضللنا طوال الوقت.
وإذا كنا لا نستطيع الوثوق بالمعلومات التي نحصل عليها من حواسنا، فكيف يمكننا إذن أن نتأكد من وجود عالم خارجي؟!
ربما تكون أدمغتنا موضوعة في أحواض في مكان ما، وتم توصيلها بكمية كبيرة من أجهزة الكُمبِيُوتِر، وكل هذه “التجربة” ماهي إلا مجرد محاكاة، ربما لا يوجد شيء مادي ملموس على الإطلاق، وهذا كله مجرد هلوسة ضخمة واحدة -كل شيء وهم،ومجرد نسج من العالم العقلي-.
لقد ضبط ديكارت المسكين نفسه بخصوص هذا كله وقال:
“إنّ الشكوك التي ألقيتُ بها نتيجة تأملات الأمس خطيرة للغاية؛ لدرجة أنني لا أستطيع إخراجها من ذهني أو رؤية أي طريقة لحلها،يبدو الأمر كما لو أنني سقطت بشكل غير متوقع في دوامة عميقة تدور بي حتى لم يعد بمقدوري الوقوف في قاعها، أو السباحة إلى الأعلى والخروج منها”.
وعند هذه النقطة المحمومة بالقلق،سعى ديكارت إلى إصلاح بعض الضرر الناجم عن شكوكه التي لا هوادة فيها من خلال ملامسة شيء ما -أي شيء- نستطيع التأكّد منه تمامًا، وبعد فترة وجدها.
أنا أفكر إذن أنا موجود
يؤكد ديكارت هنا وجوده بعبارته المبهجة (Cogito ergo sum!) يا لها من راحة! نعم يا رينيه فمن المستحيل أن تشك في وجود أفكارك؛ لأنك في فعل الشك تفكر.
إذن، لدينا قاعدتنا وأساسنا المتين: عقل مفكر يعني موجود.
من هذه النقطة في كتابه -تأملات في الفلسفة الأولى- يحاول ديكارت إعادة بناء كل المعرفة البشرية، ومن بين جميع الأشياء الأخرى أراد إقامة البراهين على وجود الله، ولكن للأسف عمله هنا لم يعوّض تمامًا عمّا قام به من هدم في البدء.
في الواقع من خلال تجريف ثقتنا تمامًا في وجود أي شيء سوى أفكارنا، يخلق ديكارت عن غير قصد مجالين منفصلين:المجال العقلي وصِنوه المادي؛ أما العقلي فإننا متأكدون منه، ولكن المادي يحتاج بطريقة ما لأن يتم ربطه بالعقلي.
ولك أنْ تصدّق أو لا تصدّق بأنّ الفلاسفة منذ ذلك الحين يحاولون سد هذه الفجوة التفسيرية.
هل توجد إجابة على شكوكية ديكارت؟
شكوك ديكارت تترك لنا قلقًا مزعجًا بمعنى: أن تجربتنا ليست معصومة من الخطأ، وأنه ليس لها تأثير على وجود عالم خارجي.
بالطبع، دفعت هذه الحالة إلى كتابات كثيرة حول ما إذا كانت الشكوك التي عبّر عنها ديكارت تستحق أن تدعو إلى القلق!
الأمر الذي أدى بدوره إلى ظهور تعليقات حول حدود ما يمكننا معرفته، وكيفية ربط وجودنا بالعالم من حولنا.
هنالك عدد من القضايا الفلسفية العميقة التي كشفت عنها تأملات ديكارت في كتابه، وقد تم اعتبارها بأنها ساهمت في تشكيل الفلسفة الحديثة في التراث الغربي.
أَضِفْ إلى ذلك أسلوبه الدرامي المستساغ مما يجعله سهل الوصول والفهم، ولا عجبَ أنّ هذا النص القصير لا يزال يملأ قاعات الدراسة لطلاب المرحلة الجامعية حتى يومنا هذا، حيث إنها من القراءات الأساسية لأي شخص مهتم بالفلسفة.