- أحمد بن مقرم النهدي
من بديهيات الحياة التي يدركها الإنسان أنَّه مخلوق فُطِر على الجهل المقترن بحب التطلّع والمعرفة، ومن بديهيَّاتها أنها مُتسارعة الأحداث والحوادث والوقائع والإيقاعات؛ إذ تتبدّى وتتجلى فيها أمورٌ فترةً بعد أخرى، وليس ذلك فقط بل إن كل أمر من هذه الأمور يتشكَّل بطريقة أو بأخرى ويظهر للناس في قوالب مختلفة حسب أفهامهم أو طريقة تقديم المعبرين عنها، وإن كانت ظاهرةً وباديةً أمام عينيه إلا أنه قد يمرُّ بمواقف تجعله يدرك الحقيقة ويستوعبها ويتخذ الإجراءات اللازمة وفق هذا الإدراك والاستيعاب، وكما قال جبران خليل جبران:
“الواضِحُ هو الشَّيءُ الَّذي لا يُرى حتى يُشيرَ إليه إنسانٌ بكل بساطة”!
إنَّ عمليَّات بحث الإنسان عن الحقيقة لها نوعان:
- نوعٌ يقوم به بمحض إرادته وبجهود وأفعال مختلفة؛ قارئًا ومطلعًا وسائلًا ومستفتيًا ومسافرًا ورحالةً ومدربًا ومتدربًا؛ وذلك لقناعة مستقرة عنده ومثيرة له ومنسجمة مع طبيعته، وهي أنه لا يريد أن يبقى على معرفته الضَّئيلة وثقافته الضَّحلة سواء اتخذ ذلك نهجاً أو مارسه عَرَضًا فهو حاصل حاصل، وهذا يُحمَدُ له إذ يجعله صحيحَ العقل والرأي والفكر، ينضُجُ فترةً بعد أخرى وبشكل مُتسارع، ومثل هؤلاء يُحرص على آرائهم لأنهم متجدِّدون ويقِظُون ويتمتعون بمرونة ذهنية عالية ومتَّقدة.
- نوعٌ قائم على (صدمات معرفية) تواجه الإنسان ولا سيما لو كان بليدًا متخاذلًا يخشى الفشل والاحتكاك، يعيش وهمًا يقنع نفسه به وهو أبعد ما يكون عن الحقيقة؛ إلا أنه لا يستطيع مواجهة هذه الصدمات المتتالية التي لا تجعل البشر في غيِّهم السادر وضلالهم الهادر، بل ليس من المبالغة لو قلنا إن على الإنسان أن يتوقع صبيحة كل يوم ومساءه صدمة معرفية تجعله يعيد التفكير والإدراك!
عمليات اكتشافات الإنسان من أهمِّ مهمات حياته، وهي بحاجة لتسليط الضوء عليها ومعرفة تقلباتها؛ حيث تضطرُّه إلى إعادة النظر ومحاولة استعادة التوازن وترتيب الحياة من جديد، وليست الاكتشافات مقصورة على نفط أو معادن أو غيرها من الأمور المستخرجة من باطن الأرض أو اكتشافات لاختراعات تسهل على البشرية حياتها؛ فهذه لها منحىً آخر بعيد عن اكتشافات المقال وتوجُّهاته؛ فهي اكتشافات فلسفية إنسانية فقط تعيد محور الحياة والانطلاق فيها من جديد.
قد يكتشفُ الإنسان أنه بحاجة إلى مزيد من التَّربية والأدب واكتساب الخلق الحسن، وبناء معارف جديدة تفيده في حياته، وقد يكتشف أنه مصدوم بسنوات عمر ضائعة لم يستفد فيها شيئًا- على حد زعمه- وهذا الاكتشاف بحد ذاته هو الفائدة المثلى التي ينبغي أن يتعامل معها من جديد، وقد يكتشف أنه يفتقر إلى الراحة والاستقرار من خلال عدة مظاهر منها البعد عن أقوام قد يكونون سببًا في هذا الضيق والنّكد الذي يعيشه؛ وقد يكتشف وسط هذا الاكتشاف بعد مفارقتهم فترةً بعد أخرى أنه ارتاح فعلًا، وتمثَّل أمامه من كان عبئًا على حياته ونفسيته بحماقات يرتكبها واجتهادات غير مسؤولة يمارسها بين الحين والآخر، وقد يكتشف أنه محاصر ببيئات قامعة طاردة تحتاج إلى استلهام الفتاح العليم ليهدي العقل وينير البصيرة.
ومن أهمِّ اكتشافات الإنسان اكتشافه الادّعاء والعجب والاستعلاء والتعالم في فترة من حياته ظهر فيها ممجوجًا بمواقفه وتصرُّفاته ومعلوماته، فتؤدبه الحياة وتُحلّيه بالصمت حتى يعود ليتحدث وهو مليء ومتكامل قد سدَّ الثغرات التي فضحته وكشفت عُواره؛ فقد أدرك سابقًا أنه وصل إلى مرحلة جعلت هناك مسافة بين حقيقته الواقعية والمكانة التي وصل إليها؛ فيتعسف من جديد ليعيد الأمور إلى نصابها ولا يهرب منها.
اكتشافات الإنسان قد تكون سببًا لردات فعل غير منضبطة ولا متزنة؛ فربما تصل مواقفُه إلى الاعتداء على الفضائل والآداب والأعراف والأذواق، بل ربما شريعة رب الأرض والسماوات، مُلبسًا تلك الأحكام والعبادات التي كان يفعلها عباءة فرق وتيارات وطوائف واتجاهات يزعم أنها ضيّعت حياته السابقة، وذلك منأى عن الحقيقة.
ومن اكتشافات الإنسان أن يكتشفَ أن الله حباه شجاعة البيان والقدرة الأدبية على الانطلاق في قول الحقيقة دون إملاءات أو توجيهات، وهي من أعظم الاكتشافات المفرحة والمريحة لنفسيَّة الإنسان وعقليَّته، وفي تراثنا العربي والإسلامي رجال اكتشفوا أمورًا كثيرة افتأتوا بها على الحياة، مع أن بعضهم لم يستطع التغيير وبعضهم دفع مغبَّة هذا التغيير، فابن حزم اكتشف علل النفوس وداواها، والرَّازي اكتشف بعد أن جرب وندم، والمتنبي اكتشف كبد الدنيا بطريقته الخاصة، وابن الجوزي اكتشف خبايا النفوس والممارسات وما أبدع مواعظه ورقائقه، وابن تيمية اكتشف معالم المعرفة وتبيين الحقائق، وفي صعيد التراث الغربي نجد المكتشفين أنواعًا وأطيافًا فالفلاسفة الكبار كأرسطو وأفلاطون اكتشفوا معالم النفس الإنسانية، وآينشتاين يكتشف الجاذبية رغم وضوحها، وديورانت يرسم الحضارات ويكتشف أبعادها، وموزارت كان يسعى لاكتشاف أثر الموسيقا في النفس والعقل، ومانديلا ومالكوم إكس ينافحان من أجل اكتشاف حقيقة الوحدة الإنسانية؛ ومع ذلك تظل النزاعات بين المكتشفين وبين الذين لا يريدون التغيير قائمة، والأهم أن يبقى الإنسان يكتشف وسيبقى يكتشف!
من أخطر الاكتشافات أن يكتشف الإنسان أنه مخدوع، وقد يدرك ذلك ويقنع نفسَه -عبثًا- أن عيشَه لن يستقيم إلا بمجاراة هذه الخدِيعة؛ والحيوانات والبهائم نفسها لا ترضى بهذا، لكن الإنسان العاقل رضي به وللأسف، وأخطر منه ألّا يعرف أنه مخدوع أصلًا والماء متسرّب من تحته يومًا بعد يوم.
مهما اكتشف الإنسان فلن يكون هناك أعظم من اكتشافين:
- رؤية الموت باديًا أمام العين أعظم أداة لاكتشاف هذه الدنيا وحقيقتها، وسل عن ذلك من نجا من حادث مروع أو انفجار قنبلة أصابته شظاياها، ينبئك كيف حقر الدُّنيا كلها بعد أن رأى نفسه ناجيًا من هذا الحادث، إنَّ التفكر في الموت كفيل بأن يعيد حسابات الإنسان واتزانه وإيمانه ولكن ذلك قبل وقوعه وليس بعده، وما الفائدة في محاولة العودة إلى الدنيا لإعادة الحسابات بعد الموت؟! وإلا فإن العبرة ستكون للأحياء.
- علاقته بربه وتقصيره فيها وتفريطه في جنبه وكثرة ذنوبه وخطاياه؛ قبل أن يبعث يوم القيامة ليحاسب ويجد أمورًا لم تكن في الحسبان من الظُّلم والرياء والسُّمعة والشِّرك والإلحاد والذنوب الخطيرة والكبائر ومصير النار وبئس المصير والحسرة على التفريط في جنب الله تعالى، ويكفي في ذلك قول الحق تبارك وتعالى: ﴿وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون﴾. هناك فعلًا تكمن الحقيقة الكاملة عند الله تعالى، وكل ما في الدنيا هرطقات وتُرّهات.