- يارا العلي
- تحرير: سهام سايح
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلَى الله على من بُعث رحمة للعالمين ونورًا للصِّراط المستقيم. بسم الذي جعل الحياة الطيّبة لمن اتبع نبيّه والذلة والهوان والصغار على من خالفه.
يزخرُ التاريخ بالأحداث. يحدث الأمر أولًا ثم يؤثر في أطباع الناس وأفكارهم، أم أنّ أطباع الناس وأفكارهم وتغيُّراتها هي ما تصنع الأحداث؟ في البدء كانت البيضة أم الدجاجة؟ .
لطالما أهمَّت الدوافع الإنسان وكان تساؤله حولها. ما هي الدواعي والأفكار التي تُسيِّر المرء؟ ما حقيقة وكُنه الفكرة التي تدور في العقل البشري التي تجعلنا نتصرف بهذا النحو سواءً كان الفعل فرديًا أم جماعيًا؟.
يعدُّ كتاب “رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر لعبد الوهاب المسيري” – مثلما قال- سيرة ذاتية غير موضوعية.. وهنا يكمن سحر الكتاب. باختصار مجحف، هذا الكتاب هو تحليل كامل للأحداث – ومن خلفها الأفكار المُسبِّبة لها، من خاطر الفكرة إلى تبلورها – التي مرت على المسيري في حياته وتحليلاته لها ورأيه في خلفيتها الفكرية ودوافعها النفسية.
هذه المراجعة هي محاولة – محتومٌ عليها بالفشل- تعريف بمجمل كتاب عظيم لمن لا يسعفه وقته لقراءته كاملًا.
حاولتُ في كثير من المواضع ذكر فكرة المسيري بطريقة أخرى لكن يأبى أسلوبه مثيلًا له. ستجد في غالبية المراجعة كلام المسيري مقتبسًا. لذا تلطيفًا لهذا الفشل؛ لنقل إنّ هذه المراجعة “تشويقة” لقراءة هذا الكتاب، لأنّ معرفة الأفكار النهائية لا يُنقص من متعة قراءة تطورها.
دمنهور.. رحابة البساطة
يبدأ المسيري بذكر البيئة التي تكوّنت فيها أفكاره.. أصلُها وبذورها.
كانت في دمنهور نشأته وتعليمه حتّى الثانوية. نشأ في عائلة ميسورة الحال حيث كان والده تاجرًا. تربَّى في مجتمعٍ تقليدي محافظ تحكمه العادات التي يذكر حسنها والتقاليد التي نظمت المجتمع وضبطته. كان – رحمه الله- معجبًا بقوة أمه وحكمتها وارتباطها الوثيق بعائلتها. خلال سيرته وفي أكثر من موضع تناول المسيري شؤون العائلة وبشكل أخص دور الأمِّ فيها، عمل المرأة والمقارنة بين وضعها في الماضي وحاضره. تحليله لكلاَ النموذجين ونظرته المتوازنة والواقعية أدى إلى اعتقاده الجازم أنّ ما كان شريَن أحلاهما مُر لابد من أن يكون لهما ثالث. يقول: ” وأرجو أن لا يفهم من ما أقول أنّني أدعو إلى العودة إلى الماضي..
كل ما أودُّ تأكيده هو أنّ المجتمعات التقليدية كانت تحوي منظومات قيمية وجمالية لم يؤد تقويضها وتدميرها بالضرورة إلى مزيد من السعادة.
كما أودُّ الإشارة أن الأشكال الحضارية الحديثة (عادةً مستوردة) ليست هي الأشكال الحضارية الوحيدة، بل هناك أشكال أخرى قد تكون أكثر ثراءً وأكثر دفئًا، والأهم من هذا أنّها قد تكون أكثر تجذّرًا، وضياع مثل هذه الأشكال هو خسارة حقيقية. ” .
يذكرنا المسيري بالماضي الجميل بحديثه عن بعض ذكريات طفولته.
“كان إيقاع الحياة في دمنهور هادئًا، فكان عندنا دائمًا متسع من الوقت”.
متسع من الوقت.. متسع من الوقت.. يا رب السّماء والأرض متسع من الوقت!
قد تكون الجملة أعلاه عادية في نظر البعض لكنها تشي باستقرار وطمأنينة وسُكون بَترَه القرن الواحد والعشرين. الجميع مشغول.. فعلًا مشغول.. في كلِّ شيء. جميع الأعمار والطبقات والأشخاص مشغولون على الدوام. لهثٌ بلا أيِّ توقف.
يذكر المسيري هذه الحالة بوضوح عندما قال: ” نجد أنّ يوم الإنسان الحديث يبدد تمامًا ويجرد من أي إيقاع إنساني، بل إنّه يهدد الحياة الأسرية ذاتها. “
أولع المسيري بالتاريخ وانشغل به. وسبب هذا الشغف أنّ الانشغال بالتاريخ يجعل المرء يرى حاضره “بحسبانه نقطة يلتقي فيها الماضي والمستقبل، وألاّ يُتصور أنّه عالَم بسيط يمكن اختزاله في قانون أو قانونين، وإنّما يراه من خلال عدسات وبؤر وذكريات وتقاليد ورموز”. تأمل في أبسط الأحداث والعادات الاجتماعية.. سترى الماضي في جوهرها!.
الإسكندرية الزائغة
التحق المسيري بقسم اللغة الإنجليزية في جامعة الإسكندرية لإكمال تعليمه الجامعي. لك أن تتخيَّل النقلة من دمنهور القرية إلى الإسكندرية المصرية بالاسم والموقع فقط وأثرُ ذلك على المسيري. يحكي عن حياة الإسكندرية أنّها “جوٌّ كوزموبوليتاني زائغ لا جذور له يمكن أن يُثري الإنسان ويمكن أن يَبتلعه. “
يذكر المسيري عن جامعة الإسكندرية تنوعها وثراءها الاجتماعي والثقافي إضافةً إلى أنّ” التدريس فيها كان يأخذ شكل محاضرات حقيقية لا دروس إملاء” ” وكانت الأسئلة في الامتحانات تتطلب إجابة يُعمل فيها الإنسان عقله وخياله لا أن يجتر ما قاله الأساتذة من قبل.”
وهنا يأتي تساؤل الغالبية العظمى من طلاب جامعاتنا: ما الجدوى من حضور المحاضرة إن كان جُلُّ ما يفعله المدرس قراءة المنهج؟ القيمة المضافة للمدرّس الجامعي هو ذكر أمور إضافية خارجية مهمة في المجال وإن كان المنهج الدراسي لا يضمّنها.
سبب فقدان الشهادة الجامعية لثقلها في بلادنا وعدم مساواة نفعها لتعبها ومضنتها؛ أنّ التدريس الجامعي أصبح مهزلة باهظة الثمن، وثمنها جزء كبير من ميزانية الدولة ووقت وذهن الطلاب. ثم يأتي نظام تقييم الطلاب الذي لا تنطلق فلسفته من أنّ التعليم عملية مستمرة مستدامة وإنّما عملية عامل الوقت الضيق فيها هو الفيصل، عليك أن تعرف هذا الشهر هذا الموضوع وإن لم تفعل تخسر الدرجة إلى أبد الآبدين.. لا مجال للتَّأسي على ما فات ولا على مُداركة الأخطاء.
المجتمعات الأخرى (الأمريكية أنموذجًا)
أكمل المسيري دراساته العليا في الولايات المتحدة الأمريكية وقصَ بعض ما عاشه هناك لفترة قاربت الخمسة عشر سنة. سياق ما يروي دائمًا يأتي كتأكيد لفكرة طرحها أو مستهل لفكرة سيتناولها. لهذه الآراء ثقلها لأنّه عايش المجتمع الأمريكي وعاش في أرضه مدة ليست بالقصيرة تؤهله ليعطي رأيًا يعتدّ به.
يميِّز المسيري بوضوح بين الفرد الأمريكي والحكومة الأمريكية، وأنّ الفرد الأمريكي بعد سنين طوال من الرأسمالية الطاحنة والإعلام والتضليل أصبح نتاج سياسات حكومته، والمحصِّلة النهائية هي إنسان محاصر بغربته حتى مع نفسه وأقرب المقربين. يقول: “وبرغم حبي لكثير من الأمريكيين (فهو شعب طيب نشيط متفتح الذهن) فإنّي وجدت أنّ النظام المهيمن يُجهض إنسانيتهم، ويخاطب أحط ما في الإنسان. “
تطرق المسيري إلى صراع نفسي يمر به – برأيي- الإنسان الحديث بصفة عامة وليس فقط الفرد الأمريكي. يكمن هذا الصراع في الطريقة التي يختلط بها الحابل بالنابل في تعامل المرء مع من حوله، فوجدانه – دون وعي منه- يتعامل مع زميله في العمل بنفس الطريقة التي يتعاطى بها مع أخيه. عرضٌ وطلب.. أخذ وعطاء. طرفي المعادلة ينبغي أن تتساوى مع الجميع بدون استثناء. كل نداءات البراغماتية المعلنة تبطنت في الوعي وأثمرت إنسانًا يتعامل مع الجميع بعقود سيكولوجية لا إرادية، وسيأتي ذكر هذه المعضلة المدمِّرة لمؤسسة الزواج والتي تقض أصلب أركانها: المودة والرّحمة.
إنّ الفرد الأمريكي يعيش ثنائية حادة: تعاقدية في الحياة العامة على مستوى النموذج المهيمن، و تراحمية في الحياة الخاصة على مستوى الممارسة الشخصية. ولكن هناك مجتمعات تجعل تحقيق مشاعر التراحم أمرًا عسيرًا على المرء ومجتمعات أخرى تيسِّر تحقيقها. وكلما ازداد التناقض بين النموذج والواقع، ازدادت الثنائية إلى أن تتحول إلى استقطاب. وهذا التناقض موجود في الولايات المتحدة بين النموذج التعاقدي من جهة، وحياة الإنسان الفرد المتعينة من جهة أخرى
جامعة كولومبيا..
” وعند وصولي عقدوا للطلبة الدارسين امتحانًا موضوعيًا تكون الإجابة فيه إمّا بنعم أو لا لتحديد مستواهم الثقافي واللغوي. ولكنني مرة أخرى نظرًا لثقتي بنفسي أخبرتهم أنّ الخلل ليس فيَ وإنّما في الامتحان، فهو امتحان سخيف لا يقيس مَقدرات الطالب الحقيقية وإنّما سرعة بديهته واستجابته، وأنّ السرعة غير العمق.
وكانت هذه من أولى المواجهات بيني وبين الحضارة الأمريكية بسذاجتها وأحاديتها وخيلائها.”
يصطدم الراغب بإكمال الدراسات العليا بعدد من الاختبارات المنغصة من هذا النوع. ثم يعرف المرء – رغم إنكاره الطويل إيمانًا بخبرة السابقين- أنّ النظام السائد ربّما وبكل بساطة يكون غير فعال أو موجود لأسباب أخرى ليس التعليم أهمها بالضرورة.
” أصبح التعليم الآن هو اكتساب مقدرة اجتياز الامتحانات”. والإقبال الرهيب على شراء بنك الأسئلة من الطلاب دون أدنى اهتمام بالتحصيل العلمي نتاج المعرفة بكسل بعض الأساتذة وأنّ الأهم – في نهاية المطاف لجميع الأطراف- هو تحصيل المعدل. هذا أو الجنون بعينه! عليك أن تقرأ كل حرف في كل صفحة لخمسة مواد على الأقل مع تسليماتها واختباراتها وإلاّ لا تحلم بتجاوز المادة بمعدل ممتاز يؤهلك لوظيفة جيدة في خضم المنافسة الجارية في سوق العمل.
المستوى العالي من الضغط لا يمكن بأي حال أن يولِّد الإبداع فضلًا عن قدرتك وبقاء رغبتك في سير ” الميل الإضافي ” لتكون “مميزًا”، وإنّما يولِّد شعورًا بالعجز والاكتفاء بما يجعلني أتجاوز هذا الفصل النحس فقط، وهذا ليس كافيًا أخذًا بالاعتبار رداءة وقدم المناهج وسخافة طرق التدريس.
” ونتيجة كل هذا أنّ إيقاع الدراسات العليا أصبح سريعًا لدرجة لا تسمح بأي إبداع حقيقي، كما أنّ تعدُّد المقررات وغلبة النزعة المعلوماتية على بعض الأساتذة يؤدي إلى نوع من أنواع التشظي. “
يميِّز المسيري بوضوح بين المعرفة المعلوماتية والعلم كما يؤكد أنّ المعرفة لوحدها من دون أي تحليل نقدي أو تفكير قد يكون الجهل أفضل منه.
” فأيُّ طالب في أي جامعة في العالم “يعرف” قدر ما عرفه أرسطو عشرات المرات من ناحية المعلومات، أما من ناحية المقدرة على التحليل والرؤية النقدية التي تصل إلى جوهر الأمور، فالأمر جدُّ مختلف.”
الذئاب الثلاثة
“كان هناك معركة أخرى دارت في داخلي، فقد هاجمتني ثلاثة ذئاب شرسة (هكذا أسميها) ظلت تنهشني بعض الوقت: ذئب الثروة وذئب الشهرة والذئب الهيجلي المعلوماتي. أما الذئب الأول فهو ذئب براني تماما، وهو ذئب الثروة الذي يعبر عن نفسه في الرغبة العارمة في أن أكون ثريا.”
الذئب الأول: حلم الثروة ينهشك
” ذئب الثروة الذي يعبِّر عن نفسه في الرغبة العارمة في أن أكون ثريًا. فقد أتيت من عائلة تجارية، مصدر الشرعية فيها هو الثروة، ومن هنا إن لم يحققها المرء، انتابته المخاوف واهتزت ثقته بنفسه. ولكن كان من السهل عليّ أن أتغلب على هذا الذئب، وأن أقرر أنَّ مشروعي لمستقبلي ربّما لا يأتي بالثروة ولكنه يأتي بالحكمة، وأنّ أسلوب حياتي بما فيه من آفاق ثقافية واسعة أفضل بكثير من حياة التراكم الرأسمالي بما فيها من أحادية (ولعل هذا جزء من ميراث أمي).”
” وأصبح هدفي هو أن أحقق ذاتي حسب الشروط التي تمليها علي رؤيتي لذاتي، وأن أحصل من المال على ما يكفي لأن يحقق لي شيئًا من التَّحرر من تفاصيل حياتي اليومية ولأن أموِّل حياتي الفكرية وأنجز مشروعي المعرفي. ولذا أردد دائمًا أنّ المال يشكل عبئًا على البعض، يفنون حياتهم في جمعه، أما بالنسبة لي فالمال حرية.”
الذئب الثاني: أضواء الشهرة المُعمية..
يذكر المسيري أنّ اهتمامه بالشهرة كان سببه أنّها “ستكون وسيلة ناجعة لإشاعة وتوصيل ما عندي من أفكار أعتقد أنّ لها قيمة ما. ولذا إن حاولت أن أشبع ذئب الشهرة داخلي حسب الشروط التي يفرضها العالم الخارجي، فأكون كمن كسب المعرفة وخسر الحرب. وهكذا صرعت ذئب الشهرة داخلي.” .
فالشروط التي يفرضها العالم عليك وتصادم رغبتك هي قيود تكبِّلك.
الذئب الثالث: المعرفة قوة
” بقي بعد ذلك أهم الذئاب وأكثرها خطورة وضراوة وجوانية، وهو الذئب الهيجلي المعلوماتي، وهو ذئب خاص جدًا، جواني لأقصى درجة، يعبِّر عن نفسه في الرغبة العارمة في أن أكتب كتابًا نظريًا، إطاره النظري واسع وشامل للغاية ولكنه في الوقت نفسه يتعامل مع أكبر قدر ممكن من المعلومات والتفاصيل، إن لم يكن كلها. أي أنّني كنت أطمع في كتابة عمل يصل إلى أعلى مستويات التعميم والتجريد والشمول، وفي الوقت نفسه يصل إلى أقصى درجات التخصيص والدِّقة. وهذه صيغة مستحيلة لأنّه إن اتسعت الرؤية ضاقت العبارة، فما بالك برؤية بانورامية متسعة في غاية الاتساع وتفاصيل دقيقة في غاية الدِّقة.” ” لاحظت أنّني لو قرأت كل ما كتب عن موضوع في تخصصي (من مقالات ورسائل دكتوراه وكتب) لقضيت سحابة أيامي أقرأ واستوعب وأقرأ دون أن أنتج شيئًا.” ” والرغبة المعلوماتية هذه حينما تنهش إنسانًا فإنّها تجعله يقرأ كلَّ شيء حتى يعرف كلَّ شيء، وينتهي الأمر بالمسكين أنّه لا يعرف أي شيء. فالحقيقة غير الحقائق. “.
” إن التحليق البانورامي ليس دائمًا صفة إيجابية وأنّه يمكن أن يقنع المرء بالقليل وينجزه. ولذا حين عدت من الولايات المتحدة كان عندي ثلاث متتاليات: أن أكون ناقدًا أدبيًا وأستاذًا جامعيًّا وأبًا وزوجًا متميزًا، فإن أخفقت فلأكن أستاذًا جامعيًا وأبًا وزوجًا متميزًا، فإن أخفقت فلأكن أبًا وزوجًا متميزًا. وغني عن القول أنّ متتالية حياتي كانت مختلفة عن خطتي (فلم أصبح ناقدًا أدبيًا ولم أستمر في التدريس في الجامعة، ولا أدري هل كنت أبًا وزوجًا متميزًا أم لا ، وأترك الحكم لأولادي وزوجتي) ، ولكن المهم أنّني روضت الذئب الهيجلي، والنزعة النيتشوية الفاوستية: أن أجوب كل الآفاق وأن أجرب كل التجارب وأن أجاوز كل الحدود، وبدلاً من ذلك قبلت الحدود الإنسانية واحتمالات الانتصار والانكسار.”.
” وبدلًا من ذلك قبلت الحدود الإنسانية”. بالله عليك انظر لنفسك في المرآة ورددها لنفسك بدلًا من ” أنا أستطيع!”. أنت تستطيع نعم لكن هل يستحق الأمر كلَّ هذا العناء؟.
كم محور للكون بالضبط؟
ليست كلُّ الآراء صحيحة والحقيقة ليست نِسبية. وعلى المرء أن يفرِّق بين الأمور التي تحتمل اختلاف الأذواق والأمور التي لا مكان فيها للجدال بصحة كل الآراء المطروحة.
” النسبية قوضت الإنسان\الفرد من الداخل وجعلت منه شخصية هشَّة غير قادرة على اتخاذ أي قرار وإن كانت، في الوقت ذاته، قادرة على تسويغ أي شيء، وكل شيء. لقد فرَّغت النسبية الإنسان الأمريكي من الداخل وتركته في مهب الريح. ” “ووجدتُ أنّه في داخل إطار النموذج المادي والنسبية المطلقة التي ترى أنّ كل الأمور مادية ومن ثم متساوية، أنّ آراء أي إنسان، مهما بلغت من ذاتية أو موضوعية، ومهما بلغت من خساسة ونبل، صحيحة، لا تختلف عن آراء أي إنسان آخر، فالإنسان مرجعية ذاته، يرى ما يرى. ” “لكلِّ هذا يمكن القول بأنّ الحضارة الغربية دخلت في مرحلة السيُّولة الشاملة وأنها اقتنعت بأن تدور حول مجموعة من الدوال والمصطلحات التي ليس لها معنى محدد، فهي حضارة دخلت في لعب الدوال وعالم النسبية، وعالم الألعاب اللغوية، عالم اختفت فيه كل المرجعيات والثوابت، ولم تبق سوى أشياء متناثرة هي مرجعية ذاتها .”.
” تآكل المعايير الأخلاقية والاجتماعية السائدة في مجتمعاتهم تركتهم بلا معيارية، فتميد الأرض تحت أقدامهم فيزدادون تعصبًا وانغلاقًا على ذاتهم، بحثًا عن مركز ثابت وعن قدر من اليقين. “
أتمنى من كل قلبي أن تخف الحساسية اتجاه كلمة عيب.. لأنّها معيار رائع متفق عليه ونجح لفترة طويلة. له مساوئه صحيح، لكن فقدانه أدى إلى فوضى.
” وقد أدى الغُلو في النسبية إلى أن تصبح مفاهيم إنسانية فطرية وأساسية مثل الإحساس بالسعادة أو البؤس هي الأخرى محل تساؤل بسبب اختفاء المعايير وفقدان المقدرة على الحكم. ” يذكر المسيري مقالة نقدية لدراسة نشرتها هيئة الأمم المتحدة مثالًا لهذا. ” تضيف المقالة أنّ مقاييس النمو الإنساني التي طورتها هيئة الأمم غير كافية، فقد اعتمدت الدخل والتعليم ومتوسط العمر بحسبانها مقاييس أساسية. ويقول الكاتب: إنّه حسب هذا المعيار، فإنَّ أمة من المصابين بالأمراض العصبية، حصل كل أفرادها على شهادة دكتوراه ومتوسط أعمارهم 60 عاما ستحصل على الدرجات النهائية. لأنّ المرض النفسي ليس جزءًا من المعايير. ثم يختتم المقال بإشارة إلى أعضاء قبيلة الباكوتو التي تعيش في الكونغو والتي وصفت الإنسان الغربي بأنّه ” خفاش يطير بتوتر ولكنّه لا يعرف إلى أين“.
وهنا تأتي رغبة المسيري في جمع محاسن نقيضين بتبنِّي منهج ثالث. ” إنّ المطلوب هو حداثة جديدة، تتبنى العلم والتكنولوجيا ولا تضرب بالقيم أو بالغائية الإنسانية عرض الحائط، حداثة تُحيي العقل ولا تميت القلب، تنمِّي وجودنا المادي ولا تنكر الأبعاد الروحية لهذا الوجود، تعيش الحاضر دون أن تنكر التراث. “
هل التقدم الغربي ثمرة جهودهم العظيمة؟
” لِم أحضروا كلَّ هذا البارود إذن؟”
* شيخ جزائري أخبروه أنّ القوات الفرنسية جاءت لبلده لتنشر في ربوعها الأمن والسّلام والاستنارة.
” كنت أقرأ تاريخنا مع الغرب الذي أخذ شكل مواجهة عسكرية منذ البداية..”
” ببساطة شديدة، أدركت أنّ التقدم الغربي، هو ثمرة نهب العالم الثالث، وأنّ الحداثة الغربية لا يمكن فصلها عن عملية النّهب هذه ، وأنّ نهضة الغرب تمت على حساب العالم بأسره ، وهذا أيضًا بالضبط ما أدركه بدر شاكر السياب في قصيدة له، موجهًا حديثه للندن:
ماذا سأكتب يا مدينة
فعلى ملامحك العجاف تجوب أخيلة الضغينة
سأقول إنّك توقدين
مصباح عارك من دم الموتى وجوع الآخرين.
لكلِّ هذا لم أعد أتحدث عن التراكم الرأسمالي، وإنّما عن التراكم الإمبريالي، وأنادي دائمًا بأنّ محاولة تفسير معظم الظواهر الغربية دون استرجاع الإمبريالية كمقولة تحليلية ستكون محاولة ناقصة إلى حد كبير. بالإضافة إلى كلِّ هذا لابد أن نشير إلى عمليات نهب آثار إفريقيا وآسيا، وكيف تغص متاحف البلاد الغربية وميادينها بها.
حينما ذهبت إلى لندن سألني صديق ما إذا كنت أود مشاهدة الإمبراطورية البريطانية. فدهشت من سؤاله وأجبت بالإيجاب بطبيعة الحال. فأخذني للمتحف البريطاني حيث شاهدت أجنحة كاملة لآثار نهبت من بلاد العالم الثالث، بما في ذلك مصر بطبيعة الحال. وبطبيعة الحال استدعى كل هذا الدمار الذي ألحقته الإمبريالية بالبُنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للعالم الثالث.
وقد أوجز جارودي إنجاز الحضارة الإمبريالية الغربية في صورة مجانية رائعة إذ وصفها بأنّها ” خلقت قبرًا يكفي لدفن العالم.”
” وانفصال الدال عن المدلول يظهر في مصطلحات الاستعمار العالمي الجديد في المرحلة الحالية، فهو يسمِّي نفسه في الوقت الحاضر «النظام العالمي الجديد»، وهو يدّعي أنّه لا يغزو الشعوب أو ينهبها، وإنّما يعقد معها اتفاقيات اقتصادية عادلة ، وأنّه لا يتحرك إلاّ في إطار الشرعية الدولية من خلال هيئة الأمم المتحدة، ويدافع بحرارة عن حقوق الإنسان. ولكن هذا النظام العالمي الجديد هو في واقع الأمر امتداد للنظام الاستعماري القديم، فهو يقوم بنهب الشعوب من خلال الاتفاقيات العادلة، وإن عارضته بعض الحكومات الوطنية أو قوى المقاومة فإنّه يستصدر قرارات من الأمم المتحدة لتأديبها باسم القانون الدولي، وهو دائمًا يدافع عن حقوق الإنسان بطريقة انتقائية تخدم صالحه.” .
القضية الفلسطينية والإمبريالية
يمكن القول أنّ القضية الفلسطينية والاحتلال الصهيوني وتحليله كان مهمة حياة المسيري. ألف المسيري موسوعة “اليهود واليهودية والصهيونية” أحد أكبر الأعمال الموسوعية العربية في القرن العشرين. عمل المسيري على الموسوعة مدة ما يقارب ربع قرن. وبعيدًا عن هذا الإرث العظيم، أتعجب من مقدار الصبر والأناة التي قد يتمتع بها إنسان ليعمل على عمل واحد لربع قرن.
يتناول الكتاب – بطبيعة الحال – في جزء كبير منه القضية الفلسطينية ويحاول تحليل أسباب ودوافع الاحتلال الصهيوني والسُّبل التي نجح بها ونضال الفلسطينيين المنقطع النظير. بعد هذا الكتاب لن تكون القضية الفلسطينية مجرد احتلال لبلد عربي مسلم وإنّما رمز الصراع المستمر في هذا العالم الذي لا يعرف السلم ودليل واضح وضوح الشمس على قهر وطغيان وظلم الدول الغربية ونظرتها المتعطشة للسيطرة وأنّه لا إمكانية للصلح والمهادنة والعقيدة الغربية تبرِّر الوسيلة في سبيل الوصول للغاية.
” كما لاحظت أنّ الغرب في موقفه مع إسرائيل يتبنَّى خطابًا عقديًا مطلقًا، فهو يظهر تفهمًا عميقًا لرغبة اليهود في العودة “لأرض أجدادهم”، أرض الميعاد (بعد غياب دام بضعة آلاف من السنين) ليؤسسوا دولة يهودية يحققون من خلالها هويتهم التاريخية. “وبدأت أرى تأييد الغرب لإسرائيل جزءًا من نمط أكبر، وهو الإيمان الكامل بشريعة القوة والغاب والإمبريالية والعنصرية، لا شريعة العقل والعدالة. فالحق ليس فوق القوة، بل إنّ داروين ونيتشه فوق الجميع.”.
“فالصهيونية – في تصوُّري – ليست جزءا من العقيدة اليهودية، وإنّما هي تجلٍّ إمبريالي للعلمانية الشاملة.”
“إنّ الدولة الصهيونية صفقة إستراتيجية رابحة بالنسبة للولايات المتحدة، قاعدة عسكرية منخفضة التَّكاليف، الأمر الذي يحرص المتحدثون الإسرائيليون على إظهاره، ولا يملون من تكراره للحصول على المزيد من الدعم.”
” وأنّنا كلنا أخطأنا حينما قبلنا الادعاء الصهيوني أنّ الدولة الصهيونية دولة يهودية، فهي في واقع الأمر دولة استعمارية استيطانية احتلالية، وأنّه لا يمكن فهم آلياتها وحركياتها إلاّ في هذا الإطار. ولذا بدلاً من دراسة إسرائيل في علاقتها بسفر الخروج، أدرسها في علاقتها باستيطان الإنسان الأبيض في الأمريكيتين، وبنظام الفصل العنصري ( الأبارتهايد ) في جنوب إفريقيا والجيب الاستيطاني في الجزائر. وبدلاً من أن أدرس سلوك سكانها في إطار ما يسمى بالشخصية اليهودية أدرسها في إطار سلوك المستوطنين البيض في الجيوب الاستيطانية الغربية المختلفة.”
“وبذا يكون نموذج العداء لليهود تعبيرًا عن فكر السلبية والاستسلام والهزيمة الذي يخرج بعدونا من سياق ما هو إنساني وتاريخي وزمني، ويجعل منه كائنًا يضرب بجذوره في أسباب مفارقة للتاريخ والفعل التاريخي، ويقذف بنا في خندق مظلم. و يخيّل إلي أنّ إدمان بعض العرب هذا النموذج هو محاولة غير واعية منهم لأن يستعيدوا شيئا من التوازن النفسي أمام عدو استولى على أرضنا ثم ألحق بنا الهزائم. ونحن ننسب إليه قوة خارقة، حتّى يتم تسويغ الهزيمة، لأنّه لو كان عاديًا يمكن إلحاق الهزيمة به، فسيظهر ضعفنا وهواننا أمام أنفسنا.”
” ويمكن القول بأنّ الموسوعة ككل هي موسوعة كتبها مؤلف يشعر بأن الحداثة (في إطار العقلانية واللاعقلانية المادية والعلمانية الشاملة) قد أدخلت الجنس البشري بأسره في طريق مسدود. وتطرح الموسوعة أسئلة معرفية (كلية ونهائية). ماذا يحدث للإنسان في عالم بدون إله؟ وماذا يحدث للإنسان في عالم نسبي لا توجد فيه ثوابت ولا مطلقات ولا قيم عالمية؟ وماذا يحدث للإنسان في عالم توجد فيه حقائق بلا حقيقة ولا حق؟ وما مصير الإنسان في عالم انفصل فيه العلم عن القيمة وعن الغائية الإنسانية؟” .
عالم جديد
” كنت أضحك من نفسي ومن تحولي، ولكن دون جدوى، فقد حدَّد لي المجتمع سلم الأولويات في المذاق واستنبطت النموذج الإدراكي بالرغم مني. “
أنت ما تقرأ وتشاهد وتسمع وتخالط. الفكرة المنتشرة من إمكانية اكتساب أو تطوير القدرة على الاستقلالية التامة عن تأثير المجتمع فكرة مغلوطة تحاربها الأغلبية الساحقة من المشاهدات الشخصية والدراسات النفسية. قد يتسامى المرء عن بعض الأمور والأفكار في المجتمع لكنها ستتسرب إليك من حيث تدري أو لا تدري. أي شيء يؤثر على المجتمع سيؤثر عليك لا محالة لكن بنسبة تختلف من شخص لآخر بناءً على وعيهم، وحتى الوعي – في حالات الضغط الجماعي لفكرة معينة- لا يمكن أن يعوَل عليه كثيرًا. وهنا تكمن إشكالية العولمة.
عندما يكون العالم قرية صغيرة متصلة فأنت تشاهد أخبارًا ناطقة بالعربية عن السويد وتقرأ كتابًا بالانجليزية عن ثقافة الصين وتستمتع بمشاهدة يوميات رحالة بريطاني يجوب غابات الأمازون. مدى الانفتاح الثقافي والاجتماعي غير المسبوق أدى إلى سيولة الثقافات الأضعف – أو التي تم إضعافها – واكتساح الثقافات الأقوى والأوسع مشاركة والمدعومة – الأمريكية كمثال- واعتمادها كثقافة عالمية مسيطرة.
“ويمكن القول بأنّ النظام العالمي الجديد هو عولمة لهذه الإمبريالية النفسية، وتعميم لمفهوم الإنسان الاقتصادي / الجسماني الذي لا يكترث بالوطن أو بالكرامة، ولا يهمُّه سوى البيع والشراء والمنفعة واللّذة. وهذا السعار الاستهلاكي ليس مسألة انحطاط خلقي وسلوك فردي واختيار حر، وإنّما هو وضع اجتماعي شامل ونموذج ضخم يهيمن على الإنسان من الخارج ويستبطنه المرء دون أن يشعر. وإن نجح المرء في مقاومة هذا الغزو فإنّ أفراد أسرته قد لا يكونون في مثل صموده. فالمجتمع هو الذي يحدِّد مقاييس السعادة واللّذة، ومهما حاول المرء أن يُفلت من الحتميات الاجتماعية فإنّه يجد نفسه محاطًا بالمجتمع لا يمكنه الفكاك منه إلاّ بفعل عنيف. “
ويطول ذكر أوجه مصادمة غالبية الثقافات الغربية للتعاليم الإسلامية كأهمية منظومة العائلة إلى الأخلاق والأعمال كمعيار للتفاضل وصولًا إلى مركزية الآخرة كهدف، وهذا لا يخفى على متأمل.
نتيجة عولمة المجتمعات مع رجوح كفَة الثقافة الغربية سنصل إلى ما يصفه المسيري بـ “وهم الفردية المطلقة وحلم الاستهلاك المستمر”. يمكن دحض كلاهما بتذكر أنّ المسلم للمسلم كالبنيان المرصوص وأنّ المال والبنون والممتلكات زينة الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى وأنّ الزهد فضيلة. لكن ماذا لو قلناها بطريقة أخرى: Social Responsibility and Minimalism. أيُّ الخطابين سيلقى قبولًا ويحدث تأثيرًا؟ هل فهمت ما أخشى الآن؟
” وبعد عدة سنوات، كتبت تقريرًا لكلية الآداب بجامعة الملك سعود بيّنت فيه أنّ من أكبر آفات البحث العلمي في العالم العربي انفصاله عن المعجم الحضاري الإسلامي وافتراض أنّ ثمة معرفة عالمية علينا أن نحصلها متناسين تراثنا وهويتنا..
وحلًا لهذه المشكلة اقترحت تشجيع الباحثين على الانطلاق من منظور عربي إسلامي ومنظور عالمي مقارن يتجاوز المركزية الغربية التي سيطرت علينا جميعًا.”
بكل موضوعية
ينظر المسيري للموضوعية الكاملة كفكرة نظرية جذابة لكنها بإطلاقها غير ممكنة الحدوث.
تلعب خلفية الإنسان وأفكاره المُسبقة ورؤيته للواقع وغيرها دورًا في تقييم الأمور وتكوين وجهات النظر. قد يتمكن الإنسان من التّجرد من أفكار معينة ومحاولة الحكم على الأمور ” بكل موضوعية”، لكن يتم تحقيق الموضوعية بنسبة معينة ولا يمكن أن تكون مطلقة.
يقول المسيري” في حالة الموضوعية نجد أنّ النموذج الإدراكي يساوي بين العقول كلها، ولذا إن تهيأت الظروف كان الإدراك واحدًا، أي إدراكًا “موضوعيًّا”. ومثل هذا التعريف يلغي فعالية العقل وإبداعه وحدوده، ويلغي الذاكرة التاريخية وأعباء المدارك الأخلاقية وتحيزاته وأوهامه وآماله وآلامه وأحلامه والتي تؤثر في عملية الإدراك، فالعقل – حسب هذا النموذج – شيء سلبي بسيط مثل الكاميرا يحاول أن يحيط بالواقع كله وأن ينقل تفاصيل الواقع كلها وبحذافيرها، وكأنّه غير قادر على الحذف والاختيار والتضخيم والتهميش والتحريف والتشويه، مرجعيته النهائية هو الواقع المادي كما هو.” ويسهب المسيري في ذلك فيقول: “من الواضح أنّ وهم الموضوعية المتلقية والمعلوماتية قد هيمن على العقول وساد التصور بأنّ الموضوع لا تتفاعل معه ذات وإنّما هو موضوع مكتفٍ بذاته، وأنّ الدارس، بالتالي، يشبه شارلوك هولمز، الذي عليه أن يحل لغز الموضوع وأن يصل إلى إجابة عن كل الأسئلة العامة المحددة الكامنة في الموضوع لا في ذات الدارس. وانطلاقًا من فكرة الموضوعية المتلقية، التي تسقط حق الاجتهاد، أصبح من المعتاد أن يقال لطالب تقدم بموضوع رسالته: «لقد كُتب في هذا الموضوع من قبل»، وكأنّ وجهة نظر الدارس مسألة عديمة الأهمية، وكأنّ المعرفة الإنسانية معرفة واحدية تراكمية.”
الخريطة الإدراكية.. بيت العنكبوت
من أهم الأفكار التي يطرحها المسيري في كتابه هي فكرة الخريطة الإدراكية، وهي بطريقة ما مرتبطة بنقضه للموضوعية المطلقة.
الخريطة الإدراكية بكلِّ بساطة هي طريقة إدراك المرء لواقعه وفي الوقت نفسه هو النظرة الأوسع و الأشمل للفكرة\الحدث\الفعل من جميع جهاته: دوافعه، التاريخ الكامن الذي انبثق منه، آثاره. إنّه الغوص في أعماق الحدث للإحاطة به بالكامل.
تختلف الخريطة الإدراكية من شخص لآخر باختلاف وعيهم واهتماماتهم والزاوية التي يُنظر بها للحوادث. يذكر المسيري أنّ الخريطة الإدراكية يمكن إسقاطها على فعل المرء نفسه وتفسيره لما حوله حين قال: ” لكل هذا حينما يسلك الإنسان فإنّه لا يسلك كرد فعل للواقع المادي بشكل مباشر (مثير مادي تعقبه مباشرة استجابة) وإنّما كرد فعل للواقع كما يدركه هو بكل تركيبيته. “
يوضح المسيري الفكرة أكثر بقوله: ” خذ على سبيل المثال الإمبريالية الغربية، ينظر إليها الكثيرون بحسبانها انحرافا عن مسار الحضارة الغربية الليبرالي الديمقراطي الإنساني . . . إلخ، ومن ثم يستبعدون كمًا هائلاً من المعلومات. إن غيّرنا النموذج بأن نزيده تركيبية وبأن نوسِّع نطاقه، ورأينا الإمبريالية بحسبانها جزءًا عضويًا من هذه الحضارة وتعبيرًا متعينا عن شيء أساسي وجوهري فيها، فإنّ عددًا كبيرًا من المعلومات الجديدة يدخل في نطاق النموذج التحليلي، وتصبح ذات أهمية محورية تفسيرية. سنكتشف على سبيل المثال ـ أنّ إبادة الشعوب الأخرى ليست مسألة انحراف، وإنّما نمط عام متكرر. إنّ حساباتنا ستكون مختلفة، والمعلومات التي نبحث عنها ستكون مختلفة وستظهر لنا بلاهة الحديث عن ” التقدم الغربي” بحسبانه نتيجة عناصر خاصة بالمجتمعات الغربية. ” ويسهب قائلًا: “تظهر قضية الخريطة الإدراكية أيضًا في القرار الخاص بزج القوات الأمريكية في المستنقع العراقي. فلم يدرك أصحاب هذا القرار أنّ الإعلام الأمريكي قام بتفريغ الإنسان الأمريكي ومن ثمَّ الجنود الأمريكيين تمامًا من كلِّ القيم المثالية والنضالية، وذلك من خلال التأكيد على تحقيق الذات والتوجه الشديد نحو اللَّذة، كما تمَّ التأكيد على أنّ كل الأمور نسبية، أي متساوية، ولا يوجد معيار للحُكم، الأمر الذي يعني تقويض الإيمان بأي شيء، بل وتقويض الذات بحيث تصبح مفتقدة للهدف والغاية، ولأيِّ شكلٍ من أشكال المثاليات المتجاوزة للذات الضيقة.”
وهنا تأتي خاتمة المسك:” تحول الإسلام بالنسبة لي من كونه مجرد عقيدة أؤمن بها إلى رؤية للكون، أؤمن بأنّه يمكن للإنسان أن يولِّد منها نماذج تحليلية ذات مقدرة تفسيرية عالية كما يعطي إجابات عن الأسئلة النهائية.”
معضلة الزواج الحديث.. نصفي الثاني أم مديران تنفيذيان؟
من الموضوعات الأساسية الأخرى التي تنبهت لها، وتناولتها في هذا الكتاب مشكلة المرأة، والضغوط التي يضعها عليها المجتمع الحديث. كانت الأمور بالنسبة للمرأة هادئة، بل خانقة، حينما وصلنا إلى الولايات المتحدة عام 1963، وحينما تركناها عام ۱۹۹۹ كان الزلزال قد بدأ. ولذا حينما عدت عام ۱۹۷۱ لأكتب عن الوضع الحضاري في الولايات المتحدة كانت الأمور قد تغيّرت بشكل جذري، ولم تعد الإناث يطالبن بحقوقهن وبالمساواة، وإنّما أصبحت الثورة شيئًا جذريا يتجاوز إنسانيتنا المشتركة.
هذه الثورية الجذرية عبَّرت عن نفسها في مطالبة حركات التَّمركز حول الأنثى بإلغاء عقد الزواج التقليدي لتحقيق أكبر قسط من الحرية، وفي الوقت نفسه يدافعن عمّا يمكننا تسميته (عقد الزواج الشامل)، وهو يشبه من بعض الوجوه عقد استئجار شقة أو شراء أرض، فمثل هذه العقود تحاول أن تصل إلى الشمول وتحاول تغطية جميع الجوانب القانونية وكل الاحتمالات المنطقية والرياضية. وقد وُصف العقد بأنّه ليس مجرد وثيقة قانونية، بل هو بالفعل طريقة جديدة للحياة، أو كما تقول إحدى زعيمات حركة تحرير المرأة (إنّ العقد هو وسيلتنا لمواجهة ألفي سنة من التقاليد) (ألفي سنة من التاريخ أيضا).
ولكن ألا يمكن أن نرى العقد بحسبانه هيمنة العقلية البورجوازية التعاقدية على المجتمع، التي هي في واقع الأمر تعبير عن تغلغل أخلاقيات السوق على كلِّ مناحي الحياة، وعن مدى تآكل رقعة الحياة الخاصة واتساع رقعة الحياة العامة، بحيث تُدار مؤسسة الزواج نفسها، آخر مأوى للإنسان، وكأنها شركة مساهمة؟!
إنّ هذا رغم راديكاليته هو في النِّهاية ضحية التبسيطات البورجوازية السوقية الفردوسية، إنّه الإنسان المنفصل الذي يقف وحيدًا في مُجابهة الآخرين من الأغيار يرجو من الله أن يكفيه شرهم “.
أعترف أنّي هضمت سيرة المسيري حقها، لكن سلواي أنّ ما كُتب سيشجع القارئ على إكمال القراءة.
الكتاب ثقيل حَمله خفيف ظِله. لفترة طويلة شعرت أنّي أجلس وأستمع لصديق حكيم يحكي لي برقة.. وحين أنهيته خسرت نديمًا.
رحم الله المسيري رحمةً واسعة وجعل ما خلَفه علمًا نافعًا شافعًا له. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تمَت في 30 مارس، سنة كورونا.