- محمد الحارثي
- تحرير: محمود سيّد
عندما تبلورت الرؤية العلمانية المادية كمرجعية نهائية للفكر الغربي إبّان عصر الاستنارة المظلمة كما يسمّيها عبد الوهاب المسيري، خرج من رحم تلك الرؤية توأمان تركَّز فيهما القيام بتمرير المشروع المادي والإلقاء بظلاله على جوانب الحياة الإنسانية، وهما: الخط الجسماني الذي يتضمن قطاع اللذة والاستمتاع الغريزي المطلق، والخط الاقتصادي الذي تضمن قطاع التربح والتنامي الرأسمالي المطلق أيضًا. يقول المسيري: “وثمّة نمط آخر وهو الإنسان الجنسي أو الإنسان الجسماني الذي يشبه الإنسان الاقتصادي في بنيته تمامًا… ولو أننا وضعنا كلمة (اقتصاد) أو كلمة (جنس) محل كلمة (طبيعة) لظَلَّ كل شيء كما هو ولما غيرنا شيئًا في خطابنا” [العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، عبد الوهاب المسيري، ج2، ص457].
وعليه فقد تساير الخط الجسماني مع الخط الاقتصادي ليس بشكل متوازٍ ومتزامنٍ فحسب، وإنما في إطار من التخادم التكاملي بين الخطين، سعيًا نحو البر بالمرجعية العلمانية وتحقيق أهدافها وفق أعلى مستويات الكفاءة. ولا يقف الأمر عند هذا، بل يرى أحيانًا أن الخط الاقتصادي يستعير بعض آليات الخط الجسماني وأدواته، ومن ذلك توظيفه للجسد في الإعلانات التجارية كأداة مُغرية وجذابة (وسخيفة في غالب الأحيان، مثل استخدام فتاة مثيرة في إعلان عن إطارات الشاحنات أو مسامير الصلب)، وفي المقابل ترى الخط الجسماني يستعير من الخط الاقتصادي بعض وسائله وأدواته، ومن ذلك إخراج التفاعل الجنسي من مؤسسة الزواج والأسرة، وإخضاعه لآليات العرض والطلب واقتصاد السوق كما في زوايا الدعارة ومتاجر البغاء، لدرجة أنه وُجِدت معارض تجارية في بعض الدول لبيع الأزواج أو الزوجات.
وكانعكاسات سلبية لفاعلية الخطين، فقد أدى جريانهما المحموم إلى استعار الإلحاح الغريزي والاندفاع نحو الجنس بشكل بالغ في الشراهة من جهة الخط الجسماني، ومن جهة الخط الاقتصادي فقد تأجَّج النزوع الاستهلاكي الحاد الذي ولَّد عقيدة الاستيلاء ووجوب الهيمنة على كل شيء واستنزافه. يقول السيناتور بنتون في خطاب أمام مجلس الشيوخ عام 1846 م: “إن قدر أمريكا الأبدي هو الغزو والتوسع، إنها مثل عصا هارون التي صارت أفعى وابتلعت كل الحبال، هكذا ستغزو أمريكا الأراضي وتضمها إليها أرضًا بعد أرض، ذلك هو قدرها المتجلي، أعطِها الوقت وستجدها تبتلع كل بضع سنوات مفازات بوسع معظم ممالك أوروبا؛ ذلك هو معدل توسعها” [حق التضحية بالآخر، منير العكش،ص105]، وهذه الانعكاسات وإن كانت لا تؤثر من حيث هي على موضعهما الوظيفي في النموذج المادي ومشروعه العلماني، إلا أنها ترهص بتقاطع صدامي بين الخطين بات يلوح في الأفق.
وفي أوج الاحتقان المتزايد للنفسية الاستهلاكية الذي وصل إلى وجوب طرح أسئلة تتعلق بما إذا كانت الأرض بمواردها الطبيعية كافية لإشباع الرغبات الاقتصادية للإنسان الحديث، الأمر الذي دفع بالدراسات والأبحاث إلى الإجابة عن تلك التساؤلات بالنفي، خصوصًا مع تزايد النمو السكاني في العالم والذي من المتوقع أن يرتفع إلى ملياري نسمة في الثلاثين سنة القادمة بحسب التقرير الصادر عن الأمم المتحدة بتاريخ 17 حزيران/ يونية 2019 م.
وكان على طليعة المتصدّين للأزمة الإنجليزي توماس مالتوس الذي طرح نظريته السكانية القاضية بأن تزايد النمو البشري يتصاعد بشكل أسرع من نمو الموارد الطبيعة مما قد يصل معه الإنسان إلى نقطة الإفلاس في مخزون الموارد الطبيعية.
ولعلّ منطقة الإشكال هي أن التزايد السكاني بهذا الشكل المتفجر، هو أحد آثار التسعير الجنسي المتسرطن الذي خلَّفه الخط الجسماني باعتبار أن الجنس بذاته يشكِّل زاوية ركنية في بنية النموذج العلماني، وأن مجرد الوصول إلى فكرة استهلاك جميع الموارد الطبيعية والتطلع إلى التفتيش عن حياة أخرى خارج الكوكب، بالإضافة إلى الاندلاع نحو التملك وفرض السيطرة، هو نتاج عن النهم الاستهلاكي الذي خلَّفه الخط الاقتصادي.
ومن هنا فقد تعيَّن العمد إلى البحث عن سبيل النجاة من النتائج الكارثية لمسارات الخطين، دون التفكير في استبعاد أحدهما من المشهد بسبب حالة التداخل العميقة التي بينهما، بالإضافة إلى استحالة طرح حلول من خارج المنظومة المادية مثل تغيير المفهوم الفلسفي حيال الموارد الطبيعية ونقله من دائرة الاستهلاك إلى دائرة الاستخلاف، أو النظر إلى الجنس باعتباره حالة إنسانية ذات طابع مقدس وليس لذة فوضوية، لأن ذلك يُعَدّ حكمًا على المشروع العلماني بالفشل وبالتالي الإطاحة بمنظومته المادية برمتها.
وباستقراء العديد من الظواهر العائمة على سطح النموذج المادي ومشروعه العلماني، وتحت محددات نسقه وفرضياته، تخلَّق استنتاج فكرة التخفف من الحمولة البشرية كحتمية ضرورية لمآل النموذج حفاظاً على الموارد الطبيعية في مقابل الاستنزاف، بالذات وأن سطوة النمط الدارويني وتقنياته التي تهيمن على أنماط التفكير الغربي وتصوراته كالانتخاب الطبيعي وتغليب القوة على القيمة، كفيلة بالتدليل على اختيار سياسة التخفف واعتمادها ضمن برنامج الحماية، ولعل إجالة النظر في التركة الإبادية التي خرجت من عباءة النموذج المادي والتي كانت ضمن برنامج التطهير البشري لصالح إشباع الرغبة الاستهلاكية، مثل إبادة أمم الهنود الحمر التي يتجاوز أعداد ضحاياها فوق (100) مليون نسمة، يقول منير العكش: “يؤكد التاريخ المنتصر أن حرب الإبادة الجماعية التي أفرغت العالم الجديد من سكانه وقضت على أكثر من أربع مئة شعب وأمة وقبيلة… إن هذا الإصرار على أن عدد الهنود لم يتجاوز المليون أو المليونين عند وصول الأوروبيين، وأنه تقلَّص إلى ربع مليون في عام 1900 م يُحيل كل قصة الإبادة إلى فيلم تسلية” [أمريكا والإبادات الجماعية، منير العكش، ص18]، أو محارق أفران الغاز التي كانت ثمرة التوهج النازي أحد النُّسَخ الداروينية للنموذج العلماني، والذي كان يستهدف العناصر قليلة الفاعلية من الغجر والسلاف واليهود، بل حتى كبار السن والجنود الجرحى من الجيش الألماني بوصفهم -حسب تعبير أدولف هتلر- “أفواه تبلع ولا تنتج”، إذ يتمّ التخلص منهم عبر إرسالهم إلى أفران الغاز والإبقاء على العناصر ذات الفاعلية والكفاءة العالية.
هذا بالإضافة إلى التعقيم القسري، إذ يقول آلان تشيس في كتابه (تركة مالتوس): “إن أكثر من (63) ألف شخص قد جرى تعقيمهم قسريًّا بين عامي 1907 م و 1964 م في أمريكا، والحقيقة وفقًا للتحقيقات القضائية فهناك مئات الآلاف من عمليات التعقيم الأخرى التي كانت طواعية في الظاهر غير أنها قسرية جرت عنوة في واقع الحال”، ناهيك عن صناعة الأوبئة واستخدامها كالأسلحة البيولوجية، وإلقاء القنبلة النووية بما تحمله من فتك على مجتمعات بشرية، كل تلك الفظائع كانت نتاجًا عن ظروف وتوجهات أهمها سياسة التخفف من الحمولة البشرية التي يفرضها النموذج، وفي نفس الإطار يمكن أن يفسر نشاط حركة صناعة موانع الحمل الفيزيائية والكيميائية، وشرعنة الإجهاض والدعوة إليه، وتحديد النسل، ومأسسة الانتحار الرحيم على أنها وسائل إبادة تحطب في حبل سياسة التخفف.
والشذوذ الجنسي يتموضع بشكل رئيس ضمن هذا النموذج التفسيري، ودراسته -أي الشذوذ- ضمن نموذج آخر يعطي نتائج أقل تفسيرية من هذا الذي نحن بصدده، وإن كان الشذوذ من حيث هو ليس بمستغرب أن يتولّد عن المحيط السائل منزوع المركز، يقول المسيري: “إن الشذوذ هو النتيجة المنطقية والترجمة الأمينة الوحيدة لمبدأ اللذة النفعي فالإنسان الشاذ يمكنه أن يبني علاقاته مع شخص آخر… دون أن يدخل في علاقات ذات آثار اجتماعية حقيقية مع الآخرين ومع الواقع، والعلاقة مع نفس الجنس هي أقل العلاقات الإنسانية جدلية”. [الفردوس الأرضي، عبد الوهاب المسيري،ص140]
مما يلزم أن المفهوم الشاذ لا ينحصر في الارتباط المثلي بين شركاء الجنس الواحد، بل إن الشذوذ قد يأخذ نُسَخًا متعددةً مثل ممارسة الجنس مع الحيوانات، أو مع الطبيعة، أو حتى مع الأموات؛ إلا أن الشذوذ بنسخته المثلية هو الأنسب في إدراجه ضمن سياسة التخفف بحكم المرحلة الحالية لمسار العلمنة، الأمر الذي يفسر حالة التداعي الهائل لمراكز البحث العلمي، ومؤسسات المجتمع المدني، ومطابخ صناعة القرار الغربية للاحتفاء به وتقديمه على أنه ضمن خيارات الإنسان في العيش حسب حريته وشحن الأدلة والبراهين لإثبات ذلك، إضافة إلى حملات التعبئة العامة التي تمارسها وسائل الإعلام ليس فقط للتطبيع مع الشذوذ، بل لتصديره عبر قنوات العولمة وآلياتها الأولى (الأفلام والمسلسلات)، يقول علي عزت بيغوفيتش: “فإذا كان على الفن أن يخدم شيئًا أو شخصًا؛ فليكن أيديولوجيةً أو حكومةً، فإن الفيلم أنسب فن يمكن اللجوء إليه” [الإسلام بين الشرق والغرب، علي عزت بيغوفيتش،ص156]، خصوصًا تلك المواد التي تُعرَض على منصة (نتفليكس) والذي يظهر فيها الإلحاح الشديد على تقبّل فكرة الشذوذ كمسلّمة فطرية، مما أثار حفيظة أحد المشتركين فيها ليعبّر عن استيائه حيال ذلك عبر حسابه في تويتر، ليردّ عليه الحساب الرسمي لنتفليكس قائلًا: “إن من المؤسف أنك لم تعرف حتى الآن أن كل مثلي إنسان مهم جدًّا”.
ومن نافلة القول إيراد ما طرحه مالتوس في نظريته كحلول للأزمة، منها انتهاج ممارسة التجويع بتقليل مرتبات العمال لكيلا يتزوجوا إلا في سن متأخرة تتضاءل فيها احتمالية الإنجاب، بالإضافة إلى تعزيز الأفكار المنحرفة إزاء الجنس كالشذوذ، ودعم حركات التمركز حول الجنس الواحد.
بهذه العملية التطويرية لمسار الخط الجسماني والخط الاقتصادي، والتي طرحت نفسها كحلول، بشكل لا يؤدي إلى اختلال عمل الخطين أو انحراف مسارهما، أو تعارضهما مع قواعد وأهداف الرؤية العلمانية المتوحشة، في معالجة واضحة للمأزق من داخل منظومتها، مما يعني أن الدفع بالمجتمع العالمي نحو القبول بفكرة الشذوذ تقف وراءه مآرب نفعية تتشكَّل وفق المنطق الدارويني، وتتلفَّع بالديباجات الإنسانية كالحرية والمساواة وحقوق الإنسان التي لا تعدو أن تكون سوى قشور جذب ليس إلاَّ.