- ألكسندر دوجلاس
- ترجمة: زياد الحازمي
- تحرير: عبير الغامدي
يكشف ثاني كتاب لوانغ هو عن الفيلسوف كورت غودل، (A Logical Journey) عن حفنة من العلاقات المثيرة للاهتمام، كالعلاقة بين الرياضيات والفلسفة، والعلاقة بين الفكر الغربي والفكر الصيني، وبين الفلسفة الحديثة المبكرة والفلسفة المعاصرة، وغيرها.
كما أن هناك علاقة أخرى ذُكرت في الكتاب وهي العلاقة بين الفلسفة وما سماه وانغ بـ”الأديولوجية”، وكانت هناك مناقشة جميلة عن ذلك في الفصل الثالث حيث ابتدأ الفصل بهذه العبارة: “إن الفلسفة كمحاولة للعثور على مفتاح الحياة والكون أصبحت تعاني بشكلٍ متزايد من صعوبة الاختيار بين المعقول اللاعلاقي وبين التخمين المثير ولكن غير المقنع”(101).
وأضاف:
“بالنسبة لأغلب الناس فإن الفلسفة الأكاديمية اليوم ليست متصلة باهتماماتهم العميقة بشكلٍ كبير، هؤلاء الأفراد الذين يبحثون عن أكثر مما في الأعمال والعلوم والتكنولوجيا والسياسة العادية، عليهم أن يبحثوا عن مقصدهم في أماكن أخرى ليصلوا لمرحلة الرضا: كالأديان التقليدية أو علم النفس الشعبي، وربما مركّبةً مع طائفة الزِن أو الطاوية أو التصوف الجسدي، أو مع إحدى الفلسفات والأيديولوجيات الكبرى مثل الماركسية أو الليبرالية أو المحافظة أو الكونفوشيوسية الجديدة”(101).
بالطبع قد يتم توجيه البعض نحو هذه الإيديولوجيات من خلال أعمال الفلاسفة الأكاديميين، لكن الاحتمال الأكبر أن الأغلبية ليست كذلك.
في هذا السياق يدرس وانغ انعكاسات جودل الفلسفية حول وجود الله وإمكانية الحياة بعد الموت، حيث يعتقد جودل هنا أن الفلسفة الأكاديمية لديها الكثير لتقدمه لتساؤلاتنا اليومية: “هو لم يقدم فقط حججًا خفيّة لصالح الإيمان بوجود الله والآخرة؛ بل يقترح أيضًا أن مباحث فلسفية تبشر بإعطاء مبرّراتٍ حاسمة لمثل هذه المعتقدات، والتي تعدُّ أكثر وضوحًا وإقناعًا من حججه المؤقتة غير المنشورة”(102).
يبدو أن قلة قليلة من الفلاسفة قد تبنوا المقترح الذي يقضي بالبرهنة الفلسفية لوجود الحياة ما بعد الموت، سواء قبل أو بعد جودل، وعلى الرغم من أن تأملات ديكارت تدّعي في عنوانها الخارجي إثبات خلود الروح، إلا أنها لا تذهب لأبعد من إثبات تمايز الروح عن الجسد، ومن حيث العقيدة الكاثوليكية في ذلك الوقت فقد كانت هذه خطوة في الاتجاه الخاطئ، لأن مفهوم الروح كمادة منفصلة يحيدُ بشكل كبير عن التعاليم التقليدية منذ القديس توما، لكن وانغ هنا يشير إلى أنّ هناك مفهومًا مختلفًا وبارزًا للخلود في الفلسفة الصينية:
لدي انطباع بأنه في التقليد الأوروبي (أو على الأقل المسيحي) يجب أن تكون هناك حياةٌ آخرة لتكون خالدًا، لكنّ الأمر ليس كذلك وفقًا للمفهوم السائد عن الخلود في الصين، فوفقًا لهذا المفهوم هناك ثلاثة أشكال من الخلود, أولاً: تقديم مثال جيد من خلال سلوكك. ثانيًا: فعل الخير, ثالثًا: قول أشياء مؤثرة بشكل أو بآخر، الفكرة هي أن هذه الإنجازات ستبقى بعد وفاتنا لأنها ستبقى في ذاكرة مجتمعنا وستستمر في التأثير على الآخرين، وبما أنها من فِعلنا فذلك يعني أن أجزاءً منا ستستمر في العيش بعدنا وسنجني الخلود بإحدى الأشكال الثلاث”(109).
يُلاحظ وانغ أن هذا المفهوم موجود أيضًا في الفلسفة الغربية, على سبيل المثال في عام 1765 كتب ديدرو رسالةً مفادها: “أن الذريّة بالنسبة للفيلسوف هي حياة ما بعد الموت للرجل المتدين”(109). ووفقًا لحنّة أرندت (حالة الإنسان، الفصل 3) فإن فكرة الخلود تعتبر جوهرية بالنسبة للفكر اليوناني قبل سقراط، حيث تُعتبر الخلود الوحيد المتاح للإنسان (يمكن للآلهة أن تكون خالدة بمجرد عدم الموت، وتعيش الحيوانات الدُنيا من خلال عدم تميّزها عن ذريتها)، إن “عالم ما بعد الموت” هو ابتكار جاء إلينا من خلال أفلاطون، ولكن إذا كان وانغ يشير إلى أن الخلود بالمعنى “الصيني” هو السائد في الفلسفة فقد يكون ذلك صحيحًا، فعلى كل حالٍ من الصعب إثبات وجود عالم وراء الموت، بينما من السهل الوصول إلى القول المبتذل أننا يمكننا الخلود من خلال الأجيال القادمة.
ثم ينتقل وانغ فجأة إلى مناقشة نظرية سبينوزا عن الحياة الأبدية، والتي قال عنها:
“أن فيها شيئًا من التقارب مع الرؤى الطاوية وخاصةً آراء جوانغ زي، والذي كان مؤيدًا للفكرة التي عبر عنها سبينوزا في نهاية رسالته “الأخلاق” قائلاً: “في حين أن الرجل الحكيم نادرًا ما يكون مشوّشًا روحيًا، بل يكون مدركًا لنفسه ولله [الطبيعة] وللأشياء من خلال ضرورة أبدية معينة لا تنقطع أبدًا، بل تمتلكُ دائمًا إذعانًا حقيقيًا لروحه”.
يعلّق وانغ قائلاً أن “الحياة الأبدية” بهذا المعنى “ليست حياة آخرة”، قد تكون كذلك، لكن لا يبدو أن سبينوزا يتحدث عن الخلود عبر الأجيال التالية أيضًا، ويبدو أن السبب وراء ذلك أن هذا الخلود لا يرقى ليكونَ أبديًا إلا إن كنت تفترض أن يستمر الجنس البشري في الوجود ويتذكرك إلى الأبد، بالإضافة إلى أنه بينما يذكر سبينوزا نوعًا من الإذعان للروح والذي يتأتّى من خلال التمييز الشعبي لأفعال المرء وأقواله (رسالة “الأخلاق”)، فإنه ليس لديه ما يقوله عن ذلك، حيث لا يمكن لذلك أن يكون ما قصده بالحياة الأبدية الحقيقية للشخص الحكيم.
ومع ذلك فهناك ارتباط جيد بالديانة الطاوية، فالهوامش الأخيرة لـ”الأخلاق” على سبيل المثال تتناغم بشكلٍ عميق للغاية مع الفصل 33 من داوديجنغ (كتاب الديانة الطاوية) :
“معرفة الآخرين حكمة ومعرفة النفس تنوّر التغلب على الآخر يتطلب القوة التغلب على النفس يتطلب القدرة من يكون راضياً بما يملك فهو غني المثابرة دليل شدة الإرادة من يبقى واقفًا هو من يتحمل أن تموت دون أن تفنى يعني أن تكون أبدي الحضور” (النص الإنجليزي مترجم من آرثر والي)
إن الإشارات إلى فهم الذات والاكتفاء الذاتي هنا تذكرنا بـ “الإذعان للروح” لدى سبينوزا، لكن الخلود المضمر هنا يبدو أقرب للخلود المتعلق بالأجيال التالية من ذلك المتعلق بالحياة الأبدية، ما ترجمه والي لـ”أبدي الحضور” رأيت ترجمات لها بطرق أخرى (في ترجمة أديس ولومباردو “مت دون أن تفنى وستستمر حياتك”). ولكن من المؤكد أن هذه العبارة لا تعني الحياة الأبدية، يبدو أن الفكرة هنا هي أنه يمكنك أن تستمر لما بعد موتك البيولوجي.
ثم أشار وانغ إلى جوانغ زي، ويبدو هنا أننا وجدنا عقيدةً ثالثة: ليست حياة آخرةً في عالم آخر، ولا بقاءً بعد الوفاة من خلال الأجيال القادمة، ولكن البقاء في هذا العالم من خلال التحول إلى أشكال أخرى، هذا ما يبدو أنه ناقشه في مواضع مثل: عندما يقوم حداد ماهر بصب معدنٍ ما وقفز هذا المعدن وقال:
“أنت مصرٌّ على أن تجعلني سيفَ مو يي (سيف أسطوري في التراث الصيني)!” فمن المؤكد أن الحداد سيعتبره سيفًا مشؤومًا، حسنًا لو امتلكت الجرأة مرةً لأختار تكويني البشري، وقلتُ “لا أريد أن أكون شيئًا سوى رجل! لا شيء سوى رجل!” فمن المؤكد أن الخالق سيعتبرني شخصًا مشؤومًا. … لربما في زمنٍ ما سيحوّل (الخالق) ذراعي اليسرى إلى ديك، في هذه الحالة سأراقب الليل، أو ربما في وقتٍ ما سيحول ذراعي اليمنى إلى قوس ونشاب، عندها سأصطاد بومةً للشواء، أو ربما سيحول أردافي لعجلات، حينها ومع روح كالحصان سأنطلق في رحلةٍ ما.
من الواضح أن سبينوزا ليس موافقًا تمامًا لفكرة الاستمرارية في الحياة عبر التحول، فهو من المقدمة إلى الجزء الرابع من “الأخلاق” يصر على أن الحصان لو تحول إلى إنسان أو حشرة ما فسيتدمّر، لكن في عقيدة جوانج زي أيضًا هناك تأكيد على فكرة الهروب من الموت عن طريق عدم الانزعاج منه والذي يمكن اعتباره إلى حد ما تصوّرًا “سبينوزويًا”، إكمالاً للعبارة المقتبسة السابقة:
“حصلتُ على الحياة لأن الوقت قد حان، وسأفقدها لأن الوقت قد حان، كن راضيًا عن هذا الوقت وعش هذا المصير حينها لن يقترب منك فرحٌ أو حزن”.
هذا هو الرابط الذي يراه وانغ بين سبينوزا والطاوية أو الفلسفة الصينية بشكل عام: “مثل كونفوشيوس، فكر سبينوزا في الحياة عِوضًا عن الموت” (110)، سبينوزا قد أكّد على هذا المعنى أن الإنسان الحر يفكر في الحياة وليس في الموت (الأخلاق ص67-الفصل 4) لكنه في هذه المرحلة لا يبيّن كيف يصل الإنسان الحر إلى هذه الحالة العقلية، وبالنظر إلى ما يقوله لاحقًا، يتّضح أن الطريقة الأبلغ ليصل الإنسان إلى هذه الحالة هي إدراك أن “العقل البشري لا يمكن تدميره تمامًا مع الجسد، بل يبقى شيء منه، وهذا المتبقي أبديّ الوجود”(الأخلاق ص23-الفصل 5)، إن هذا المعنى كم أقرأه يتضمن إشارةً مرجعيةً إلى عالم أبعد، حيث تبقى الذاتُ محفوظةً بشكلٍ ما، يبدو الأمر مختلفًا عن فكرة الطاوية بالانتصار على الموت عن طريق التخلي عن الذات، على الأقل كما فسّرها أنجوس غراهام:
“إن التحرر من الذات يُنظَر إليه دونما سواهُ على أنه انتصار على الموت، إن موقف جوانج زي ليس أن الوعي الشخصي سيٌنجي من الموت، بل استيعاب الطريقة التي تتغير بها وجهة نظر شخص من “يجدر بي أن أختفي من الوجود” إلى “عبر التخلي عن الذات سأبقى ما كنت عليه دائمًا ، متجانسًا مع جميع الظواهر المتغيرة اللانهائية للكون” (المتنازعون على التاو، ص202).
لا أعرف ما إذا كان سبينوزا يعتبر جوانج زي قد قدّم مسارًا بديلاً لنسيان الموت وبالتالي الوصول “للخضوع الحقيقي للروح”.
ربما يكون هناك تشابه أكثر أهمية من الاختلاف فيما يتعلق بـ”اختيار وانغ بين المعقول اللاعلاقي وبين التخمين المثير ولكن غير المقنع”. رأي وانغ هو:
“بشكلٍ عام فإن الفلسفة في التقاليد الصينية تركز على هذا النوع من إشكالات الحياة أكثر مما تفعله التقاليد الغربية، مثل الأدب، فهو أقل تخصصًا، وذو قابلية عالية للوصول إليه، ويتعلق بشكل مباشر بهمومنا اليومية “(126)
من وجهة نظر وانغ فإن فلسفة غودل تعتبر استثناءً، وحتى فلسفة سبينوزا أيضًا تبدو كذلك، كلاهما كانا مهتمين جدًا باهتماماتنا اليومية على الرغم من كل ما لديهم من غموض رياضي، خاصة منظور التعزية عند الموت والفقد، وفي هذه الفضاءات قد تكون تكهنات جوانج زي أقل إثارةً وإقناعًا، فنحن نعلم مسبقًا أنه بعد الموت يتم إعادة تحويل مادتنا إلى أشياء أخرى، لذلك فإن ذلك الشكل من الخلود يبدو أكثر قابليةً لتقبّله من الآخر الذي يتطلب وجود عالم ورائي غير مرئي.
ولعل الأمر يتطلب المزيد لنقتنع بهذه الفكرة أكثر من فكرة مفهوم الحياة الأبدية بتفسير سبينوزا، وكلاهما على أية حالة يبدو أفضل من العقيدة التي يجدها وانغ أكثر شعبية بين الفلاسفة الغربيين والصينيين، والتي بموجبها نحن خالدون لأن “إنجازاتنا ستبقى بعد أن نموت لأنها ستُحفظ في ذاكرة مجتمعنا وسوف تستمر في التأثير على الآخرين” ويبدو تفنيد القديس توماس هنا حاسمًا بالنسبة لي, يقول بوثيوس:
“يبدو أنك تجلب الخلود إلى نفسك عندما تفكر في شهرتك في المستقبل”، وبالتالي فإن الطوبى والسعادة تتوقف إما على الشهرة أو المجد. ولكن على النقيض تمامًا, فإن السعادة هي خير الإنسان الحقيقي، في حين أن الشهرة أو المجد يمكن أن يكونا خطيئة، كما يقول بوثيوس: “غالبًا ما يدين كثيرون باسمهم الجيد للرأي الخاطئ للجمهور، هل يمكن تصور شيء أقبح من هذا؟ ولأولئك الذين يُمدحون زورًا في العلن فيجب عليهم أن يحمرّوا خجلاً من أنفسهم عند الثناء”، لذلك فإن الطوبى والسعادة لا تُبنى على الشهرة أو المجد.