- نشر: one reason
- ترجمة: ندى الحوشان
- تحرير: عبد الرحمن الجندل
- مراجعة: خالد الشايع
يصيح المتحدث: “لا ريب أن داروين كان على حق! فالتطور هو من خلقنا، وليس الإله.”
فيومئ الحضور -الذي ملأ قاعة المحاضرات- رؤوسهم مؤيدين له، ثم يختم عرضه الذي استغرق يومًا كاملًا عن نظرية داروين للتطور بقوله: “لا ينكر هذه البراهين العلمية إلا الجهلاء! لقد عرضت عليكم براهينًا من علم التشريح وعلم الأحافير وعلم الأجنة وعلم الوراثة والمعلوماتية الحيوية والجغرافيا الحيوية، وأفترض أن هذه الأدلة كافية لتقويض أي إيمان بالخالق لدى أي شخص عقلاني“.
كيف سترد على هذا؟
سيصدق أغلب الناس ما يقال لهم ويتبعون القطيع، فلا أحد يريد أن يشذ عن الآخرين.
إن الاعتقاد بأن نظرية داروين هذه لا شك فيها، وأن الإله غير موجود بسبب اكتشاف التطور اعتقادٌ شائع، وتجد هذه الاعتقادات بكثرة على وسائل التواصل الاجتماعي، والأفلام الوثائقية، وأكثر الكتب العلمية مبيعًا؛ بل حتى بعض المشاهير يروجون لهذه الاعتقادات أيضًا، ولكن يجب أن يتفق الناس جميعًا-المتدينون منهم وغير المتدينين- على أن تصديق شيء بدون تحليله تحليلًا نقديًا هو اتباع أعمى، وهذا أمر سيء بلا شك.
من خلال قراءة هذا المقال ستلاحظ وجود اختلاف كبير بين الفهم العام والفهم الأكاديمي لكل من الادعاءات التالية:
1- العلم[1] يؤدي إلى اليقين.
2- نظرية داروين للتطور لا جدال فيها.
3- نظرية داروين للتطور تؤدي إلى الإلحاد.
ويكثر تصديق هذه الادعاءات لدى عامة الناس، بيد أنها خاطئة من وجهة نظر أكاديمية بحتة! وسنناقش كل منها فيما يلي:
الادعاء الأول: العلم يقود إلى اليقين.
رغم كثرة النقاشات الفلسفية عن ماهية العلم، إلا أنه لا يوجد تعريف دقيق متفق عليه، ومع ذلك، فإن المفهوم الأساسي هو اتباع العلماء للخطوات التالية:
1- تحديد المشكلة.
2- بناء فرضية.
3- اختبار صحة الفرضية من خلال الملاحظة والتجربة.
4- إذا لم تصح الفرضية، يقوم العالم بتعديلها أو إلغائها والإتيان بخير منها.
5- أما إذا صحت الفرضية، فينشر النتائج ويطلب من علماء آخرين اختبارها -وهذا ما يعرف بمراجعة الأقران-.
6- إذا صحت مراجعتهم، تترقى الفرضية إلى نظرية.
إذن؛ فالنظرية هي الناتج النهائي لهذه المنهجية العلمية، وهي أعلى مستويات اليقين التي يمكن للعلم تحقيقها! قد يبدو لك هذا الأمر غريبًا، لما يشاع من أن القوانين أو الحقائق العلمية أقوى من النظريات، ولكن هذا مفهوم خاطئ؛ حيث تشمل النظريات العلمية: الملاحظات، والحقائق، والقوانين، وأحيانًا البراهين الرياضية، والنتيجة النهائية الحقيقية لهذه المنهجية العلمية هي “النظرية”.
لا شك أن هناك الكثير لنتعلمه أكثر مما قد ناقشناه حتى الآن، لكن هذا كافٍ لفهم العناصر الأساسية للمنهج العلمي.
قد تتغير النظريات العلمية مهما بلغت صحتها، وذلك لاحتمال ظهور ملاحظة جديدة في أي وقت قد تتعارض مع ما سبقها من استنتاجات، فهَب أن عالمًا قضى عشرين عامًا يجوب مشارق الأرض ومغاربها في محاولة منه لاكتشاف ألوان طيور البجع، وشاهد الآلاف منها، وكانت كلها بيضاء اللون، فاستنتج أن البجع كلها بيضاء، وفي أحد الأيام، رأى بجعة سوداء، مما جعله يدحض نظرية (كل البجع بيضاء)؛ مشكلة البجعة السوداء هذه -والتي تعرف رسميًا بمشكلة الاستقراء- معروفة في فلسفة العلم وهي ما تجعل الفلاسفة يتقبلون فكرة أن العلم لا يمكنه إعطاءنا حقائق أبدية، فبئر المعرفة الذي ينهل منه العلماء قد ينضب في أي لحظة، والأشياء التي يجهلونها لا تحصى، والإيمان بهذا لا يجعل من المرء عدوًا للعلم، بل هذه حقيقة لا مفر منها؛ [ولذا يعول العلمويون على المستقبل -الغيبي!- إذا ما سئلوا عن شيء لم يتوصلوا إليه.]
تخيل مدى التقدم الذي سنحرزه لو لم يكن مسموحًا للعلماء الطعن في الاستنتاجات السابقة، لن نتقدم أبدًا؛ فالعلم ليس مجموعة من الحقائق الأبدية، وما كان ليكون كذلك أبدًا، وبالرغم من ربط عامة الناس العلم بالحقائق، إلا أن فلاسفة العلم لا يفعلون ذلك، وهذا ما يجعل العديد من كتب فلسفة العلم تحذر الناس بمثل هذه التحذيرات:
“العلم قابل للتصحيح؛ ولذلك فالحديث عن “دليل” علمي أمر خطير، لأن هذا المصطلح يعزز فكرة أن الاستنتاجات منقوشة على حجر ولا يمكن دحضها.”
فلسفة العلم
قد يقول أحدهم ليست كل العلوم قابلة للتغيير، فكما نعلم أحافير الديناصورات ما تزال موجودة، والنجوم كذلك، والماء يتكون من الأكسجين والهيدروجين، والحمض النووي يحتوي على مجموعة من التعليمات اللازمة لتكوين البروتينات، ولا يمكن لأي ملاحظة في المستقبل أن تفنّد هذه الحقائق الثابتة.
ما يُزعم أنها حقائق، لا تعدو عن كونها ملاحظات! وليست علومًا أو حقائق علمية؛ فلا نسمي أي شيء علمًا إلا إذا مرّ بمراحل ملاحظات المنهج العلمي لبناء الفرضيات والنظريات؛ فالملاحظات بحد ذاتها ليست علمًا، بل مجرد ملاحظات، وقد تستخدم الملاحظات لإنشاء العلوم، وقد تستخدم أيضًا لإنشاء العلوم الزائفة، فعلى سبيل المثال: قد تُستخدم النجوم في مجال علم الفلك، وقد يستخدمها أيضًا الكهنة في خلق تنبؤات في علم التنجيم، فالعلم أكثر من مجرد ملاحظات؛ وعلى ذلك، فدعوى أن الملاحظات علوم هو بلا شك خطأ فادح.
قد يدعي آخر أننا نعلم صحة علمٍ ما حينما تثبت فعاليته، وبالنظر لذلك نجد أن كثيرًا من الفلاسفة اجتهد لتبيين أن مجرد فعالية الشيء لا تعني صحته، بل إن هذه الفكرة غير منطقية أبدًا، ونظرية اللاهوب مثال مناسب لإثبات هذه الفكرة؛ فقد أوجد الكيميائيون القدامى النظرية التي تنص على أن داخل كل الأشياء القابلة للاشتعال مادة تسمى اللاهوب، فعندما يحترق جسمٌ قابل للاشتعال، سينبعث اللاهوب، وكلما زادت قابلية المادة للاشتعال، زادت كمية اللاهوب فيها.
أثبتت هذه النظرية فعاليتها كثيرًا لدرجة أن دان رذفورد استخدمها في عام 1772م لشرح اكتشاف النيتروجين، ومع ذلك، فقد اُكتشِفَ فيما بعد أن نظرية اللاهوب نظرية خاطئة، فلا يوجد أصلًا ما يسمى بمادة اللاهوب.
مثال آخر حصل في بداية القرن العشرين، في الوقت الذي بدت فيه نظرية نيوتن الكونية صحيحة ولا يشوبها شائبة، لم يدحضها أحد لأكثر من مائتي عام بسبب فعاليتها الكبيرة ونتائجها المذهلة؛ لكن ميكانيكا الكم والنسبية العامة سحقت هذه النظرية، فميكانيكا نيوتن تفترض أن الزمان والمكان ثابتان ولا يتغيران؛ لكن ألبرت أينشتاين بيّن أنهما نسبيان وديناميكيان، وفي النهاية وبعد مدة من الالتباس، حلّت النسبية العامة محل نظرية نيوتن الكلاسيكية للكون.
وهناك أمثلة كثيرة -إلى جانب ما ذكرناه-، تُبيّن أن النظرية قد تكون فعالة وتحقق نتائج مذهلة، إلا أنه يثبت عدم صحتها لاحقًا، فتاريخ العلم زاخر بالنظريات الخاطئة[2] التي كان يُعتقد أنها صحيحة بسبب نجاحها المتوقع، ومما يثير الاهتمام تنويه الفلاسفة بوجود حالات تكون فيها الجوانب الخاطئة للنظريات الخاطئة مسؤولة عن نجاح متوقع جديد، فالدرس واضح: فعالية الشيء لا تعني صحته. ولطالما عرف الفلاسفة ومؤرخو العلوم هذه الحقيقة:
“على مدار التاريخ: الكثير من النظريات التي نؤمن بأنها خاطئة الآن، كانت ناجحة جدًا من الناحية التجريبية.”
التاريخ العلمي
لا تعير المنعطفات العلمية اهتمامًا لما يصدقه الناس، فحتى المسلّمات والأشياء الواضحة والتي لا يمكن إنكارها -في وقت من الأوقات- قد تتغير، فكل جزء من العلم، بل حتى النظريات الفرعية التي تكوّن النظريات الأساسية في كل المجالات يمكن تصحيح استنتاجاتها، وعادةً ما يميل التاريخ العلمي إلى ذلك؛ فوصف “الحقائق العلمية” بأنها غير قابلة للتغيير وصف غير دقيق، وغير عملي أيضًا، فكل النظريات العلمية تعتبر “قيد التقدم[3]” و”نظريات تقديرية”، وإذا ادعى أحدهم وجود حقائق علمية مطلقة، فكيف يفسر إذن تناقض (ميكانيكا الكم) و(النسبية العامة) على مستوى أساسي؟ بالرغم من أن كلتيهما مقبولتان لدى الفيزيائيين! لا يمكن لأي منهما أن تكون صحيحة بالمعنى المطلق، وبمعرفة الفيزيائيين لهذا فهم يفترضون أنهما نظريتان فعالتان، من غير الإقرار بصحة أي منهما مطلقًا. وبالتالي، ففكرة “ثبات الحقائق العلمية” هي فكرة مضللة وغير عملية وخطيرة بالنسبة للتقدم العلمي، ولقد عارض المؤرخون وفلاسفة العلم بقوة استخدام مثل هذا المصطلح.
يسخر بعض الملحدين من النصوص الدينية المقدسة لعدم قدرتها على تفسير “الحقائق الصعبة” المزعومة للعلم على شبكة الإنترنت وخارجها، ومع ذلك، وفي ضوء المناقشة أعلاه، فقد فصلْنا فصلًا خاطئًا بين الدين والعلم، فالأمر ليس بسهولة قبول أحدهما وترك الآخر، العلم هو تطبيق المنطق على العالم الطبيعي، فيسعى لفهم كيفية سير العالم، والقرآن أيضًا يشير إلى الظواهر الطبيعية، ومما لا شك فيه وجود توافق أو اختلاف -ظاهري- أحيانًا بين القرآن والعلم، وعندما ينشأ هذا الاختلاف، فليس من المنطق الزعم بأن القرآن على خطأ، وزعم ذلك يعني افتراض أن الاستنتاجات العلمية صحيحة مطلقًا ولن تتغير أبدًا؛ وهذا خطأ بلا شك؛ فالتاريخ شاهد على أن العلم يغيّر استنتاجاته، والفلسفة توضح سبب هذا التغيير؛ العلم لا يمنحنا الحقائق، بل يمنحنا نظريات مفيدة وفعالة.
إذا تعارض العلم مع القرآن[4] -بعد محاولة التوفيق بينهما-، فهذا لا يعني أن القرآن خاطئ ولا يعني أنه يجب علينا رفض العلم أيضًا؛ فهناك براهين منطقية مختلفة لحقيقة أن منطوق القرآن هو كلمة الله[5]
لذلك فالمسلمون لديهم أسباب للإيمان بأن ما يقوله القرآن صحيح، وقد يقبلون العلم الذي يتعارض -ظاهريًا- مع القرآن: مثل جوانب من نظرية داروين للتطور، باعتبارها أفضل نظرية فعالة حاليًا، لكنهم يدركون أنها ليست صحيحة بالمعنى الحرفي؛ [وبالتالي ليس فيها تعارض حقيقي مع القرآن/الشرع]، كما قد يقبل المسلمون أيضًا جميع النظريات العلمية السائدة كنظريات ذات فائدة عملية، ولكن في نفس الوقت يؤمنون أن القرآن هو المصدر الصحيح الموثوق.
من المهم ملاحظة أن المعرفة العلمية، والوحي الإلهي لهما مصدران مختلفان، فالأول من عقل الإنسان القاصر، أما الآخر فمن الله، فالله لديه الصورة الكاملة للعلوم والمعارف، أما نحن فلدينا ما يعادل (واحد بكسل) فقط منها.
يقبل المسلمون كلًا من العلم والقرآن كمصدرين للمعرفة، لكنهم لن يأخذوا برأي العلم إذا تعارض -تعارضًا قطعيًا-مع القرآن لأن لديهم أسبابًا للثقة في القرآن، كما أنهم يدركون أن كل نظرية علمية تقبل التصحيح وإعادة النظر فيها.
حدث تناقض صريح مثير للاهتمام بين القرآن والعلم في القرن الماضي، ومن ثم غير العلم استنتاجاته ليتوافق مع القرآن؛ فحتى خمسينات القرن الماضي، اعتقد كل الفيزيائيين – من بينهم أينشتاين- أن الكون قديم، ودعمت المعطيات ذلك، لكن هذه الحقيقة تخالف ما جاء في القرآن، فالقرآن ينص صراحةً على أن الكون له بداية.
من يظن بأن العلم يمنحنا حقائقَ أبدية قد يستغل هذه الحالة للقول بأن القرآن على خطأ، وبالتالي لا يمكن أن يكون كلمة الله؛ ولكن ظهرت ملاحظات جديدة باستخدام تلسكوبات متقدمة ومتطورة جعلت الفيزيائيين يعرضون عن نظرية ” الحالة الثابتة/سرمدية الكون”، ويستبدلونها بنظرية ” الانفجار العظيم/بداية الكون”؛ فالعلم توافق مع ما جاء في القرآن، لكن هذا لا يعني أن القرآن كتاب علمي[6] ولم يكن كذلك أبدًا، بل هو كتاب علامات؛ حيث أن القرآن لا يعطي أي تفاصيل تتعلق بالظواهر الطبيعية، وأكثر ما يشير إليه يمكن فهمه والتحقق منه بالعين المجردة، والهدف الأساسي للآيات التي تشير للعالم الطبيعي هو إظهار قوة الله وقدرته وحكمته، وليس لشرح التفاصيل العلمية؛ فقد يتغير العلم مع مرور الوقت، لكن حقيقة وجود قوة وحكمة وراء الظواهر الطبيعية هي حقيقة خالدة لا تتغير.
وخلاصة هذا كله هي أن الفصْلَ الخاطئ بين القرآن والعلم -الذي يفترضه بعض الملحدين- لا يصح؛ فالقرآن لا يضعفه العلم، والعلم لا يحط المسلمون من شأنه حتى لو تعارض -ظاهريًا- مع معتقداتهم، [مع الأخذ بالاعتبار أنه لا يمكن تعارض اليقينيات].
الادعاء الثاني: نظرية داروين للتطور حقيقية
صورة صف القردة المرفقة أعلاه كمخلوقات تتطور تدريجيًا حتى تصبح كائنات بشرية من أشهر الصور في العالم، ومعروفة عالميًا ولا تحتاج لأي وصف أو ترجمة، وإذا كنت لا تعرف شيئًا عن التطور، فيغلب على الظن أنك قد رأيت هذه الصورة في إحدى الإعلانات، ويُحتمل أنك تعتقد أن التطور يتم بهذا الشكل.
هذا اعتقاد شائع ومشهور تمامًا مثل الصورة، لكنه خاطئ! فالتطور لا يتم بهذه الطريقة، فهذا تمثيل مضلل لمفهوم النظرية، ولطالما اشتكى علماء الأحياء من هذا المفهوم الخاطئ الشائع للتطور، فهذا هنري جي عالم الأحافير وعالم الأحياء التطوري ورئيس محرري مجلة (Nature)[7] يقول عن هذه الصورة المشهورة: “ومع ذلك، فإن تصوير تطور الإنسان كقصة للتطور الحتمي هو تحريف لفكرة التطور، ولا يمت لداروين بصلة. إن الفكرة المشوهة للتطور التي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الوعي العام – لدرجة أنها أصبحت صيدًا سهلًا جدًا لوكلاء الإعلانات – تدين بالكثير لإرنست هيجل، المعجب الأول لداروين في ألمانيا.“كيف تصف شعورك وقد عرفت أن ما يعتقده معظم الناس عن نظرية التطور ما هو إلا اعتقادات خاطئة؟ قد ينتابك الفضول قليلًا حول الأمور الأخرى التي ظننت أنك تعرفها عن التطور لكنك كنت مخطئًا، وهذا أمر جيد لأن هذا ما تدور حوله هذا المقال؛ فالهدف هو منحك نقلة نوعية في التفكير بالمسلّمات لديك، وعندما تنتهي من القراءة ستدرك البون الشاسع بين فهم عامة الناس لنظرية داروين، وبين فهم الأكاديميين لها.
فعلى مستوى فهم العامة، فالتطور الدارويني حقيقة كحقيقة دوران الأرض حول الشمس، أما على المستوى الأكاديمي، فلا يمكن لأي عالم أحياء أو فيلسوف علم أن يقول ذلك، لعدم وجود حقائق مطلقة في العلم، وبدلًا من ذلك، فهم يرونها نظرية علمية مقبولة توجد في إطار احتمالي، لها افتراضات متعددة، ولا تزال هناك خلافات حول أفكارها الأساسية، هذا ليس رأي ثلة من علماء الأحياء المتطرفين، بل رأي كل علماء الأحياء وفلاسفة العلم، ولا أحد منهم ينكر ذلك.
من المهم أن نشير في هذه النقطة إلى أنك قد تسمع حُججًا مضللة مثل: ” 97% من العلماء يؤمنون بالتطور فلا ريب أنه صحيح”! صحيح أنهم يؤمنون بذلك، لكننا نحتاج لنوضح ماهية هذا الاعتقاد والأساس الذي يقوم عليه؛ فإيمانهم به لا يعني أنه صحيح تمامًا، بل يعني قبولهم له كنظرية علمية فعالة، وهذا كل ما في الأمر.
حتى أشهر مؤيدي التطور الدارويني اليوم، البروفيسور ريتشارد دوكينز لا يعتقد أنه صحيح تمامًا، فهو يقول:
“قد يكون داروين ناجحًا في نهاية القرن العشرين، لكن يجب أن نعترف بإمكانية ظهور حقائق جديدة تجبر خلفاءنا في القرن الواحد والعشرين على التخلي عن الداروينية أو تغييرها جذريًا.“
الأكاديميون المشار إليهم أدناه هم علماء أحياء وفلاسفة علوم وعلمانيون معروفون، ولا أحد منهم يؤمن بنظرية الخلق أو بنظرية التصميم الذكي أو أي شيء من هذا القبيل، ومن المهم تسليط الضوء على هذا لأن كثيرًا من الناس يعتقدون أن المتدينين فقط هم من ينتقد نظرية التطور.
التطور والداروينية
أول ما ينبغي لنا فعله هو التمييز بين التطور، وبين نظرية داروين للتطور، والتي تعرف أيضًا بالداروينية أو الداروينية الجديدة.
هذه المصطلحات مترادفة بالنسبة لعامة الناس، لكنها ليست كذلك بالنسبة للأكاديميين، إذن ما الفرق بينها؟
إن التطور بمفهومه العام يعني ” التغير البيولوجي بمرور الوقت”، أما التطور الدارويني فينقسم إلى قسمين: الأول يشير إلى تاريخ الحياة أو شجرة الحياة حيث تعود كل الكائنات الحية إلى أصل واحد مشترك، أما القسم الثاني فيشير إلى أن الانتقاء/الانتخاب الطبيعي هو الآلية المحرّكة الأساسية لكل هذا التغير البيولوجي.
والتطور أمر ملحوظ في الطبيعة، يمكننا رؤيته بأعيننا المجردة وهذا النوع الأساسي للتطور حقيقي، ويحدث في كل مكان من حولنا، فالفراشات تتغير بيولوجيًا بمرور الوقت، والبكتيريا تطور مقاومتها للأدوية، والأسماك تفقد بعض سماتها الضارة بمرور الوقت، وغير ذلك الكثير.. لا أحد يعارض هذا النوع من التطور البيولوجي الذي يحدث في الكون كله، وقد كان معروفًا جدًا قبل داروين، وحتى أكثر البشر بدائية الذين لا تربطهم أي علاقة بالعالم المتحضر سيقرّون بأن هذا التطور ملحوظ ولا يمكن إنكاره، أما التطور الدارويني فهو يختلف كثيرًا عن هذا التطور الأساسي الملحوظ، فهو يدّعي أن الحياة كلها تطورت من خلية واحدة، وأن كل التغييرات البيولوجية حدثت بشكل أساسي بسبب الانتقاء/الانتخاب الطبيعي.
وبالرغم من وجود فرق واضح جدًا بين التطور والداروينية، إلا أن عامة الناس يظنون أنهما شيئًا واحدًا، وسوء الفهم هذا ليس بالشيء الهين، وذلك لأن الناس يشتبه عليهم الأمر فيظنون أن هذا التطور الظاهر الملحوظ هو التطور الدارويني نفسه، ويظنون أن الدليل على الأول هو دليل على الآخر أيضًا، وهذا غير صحيح بلا شك؛ فالتطور الدارويني يشمل النظرية المزدوجة لشجرة الحياة والانتقاء/الانتخاب الطبيعي، وكلاهما يتطلب دليلًا آخرًا غير الملاحظة الأساسية للتطور نفسه، ولا بد من توضيح هذا الفرق؛ لذا فمن يدعي أنهما متماثلان ويستخدم هذا للدفاع عن حقيقة التطور الدارويني هو في الحقيقة يخلط ويرتكب مغالطةً مراوِغة؛ فالتطور الدارويني مبني على إطار احتمالي يحتمل عدة افتراضات، فضلًا عن وجود اعتراضات وشكوك تعتري ادعاءاته الأساسية.
الإطار الاحتمالي
تطبيق مفهوم تاريخ الحياة على وجه الأرض مهمة صعبة لسببين بسيطين، أولهما: نحن نتحدث عن شيء حدث منذ وقت طويل جدًا.
وثانيهما: هناك قاعدة كبيرة من البيانات مفقودة مع الأسف؛ فالحياة بدأت منذ حوالي أربع مليارات سنة، ويتوقع أن 99.999% من المخلوقات التي قد عاشت فيها انقرضت ولمّا تُكتشف، فمهما كانت صورة تاريخ الحياة والتقدم في التطور الذي يحاول علماء الأحياء إحرازه فلن تخلو محاولتهم من احتمالات وتبسيطات وتخمينات.
للتعرف على هذه المشكلة، ألقِ نظرة على المقارنة المنشورة في المجلة العلمية المرموقة (Science)؛ فهي تقارن استنباط التاريخ التطوري للحياة البشرية، باستنباط حبكة رواية الكاتب ليو تولستوي: (الحرب والسلام) -الذي يُعد أحد أكبر الأعمال الأدبية في العالم- من خلال ثلاث عشرة صفحة اختيرت عشوائيًا! فلو أُعطيتَ نسخة فارغة منه لم يُكتب فيها إلا ثلاث عشرة صفحة فقط، فهل تعتقد حقًا أنك ستتمكن من تقديم شرح دقيق لتفاصيل القصة الأساسية؟ ناهيك عن أي من التفاصيل الصغيرة! قد ينظر المرء إلى التاريخ التطوري المحتمل للحياة على الأرض ويتوصل إلى عدة تفسيرات مختلفة، مثل أن للحياة أصل واحد أو أن لها أصول متعددة، أو أن هناك سلف واحد مشترك بين العالمين، أو أن هناك أسلاف مشتركة متعددة، أو أن التغير يحدث تدريجيًا أو أن التغيرات البيولوجية سريعة، أو يتوصل إلى سياج الحياة أو شجرة الحياة أو شجيرة الحياة أو شبكة الحياة، أيًا كان التفسير الذي تقدمه يمكن لبديلٍ آخر دحضه والطعن فيه. إن استنباط تاريخ الحياة وتطورها مهمة شاقة، ويستحيل إعطاء إجابة محددة بشأنه، ومهما كانت الإجابة التي يقدمها علماء الأحياء اليوم تبقى في أحسن الأحوال “احتمالية “ولكن لا يمكنهم الجزم بما حدث وكيف حدث.
شجرة الحياة رمز معروف جدًا للداروينية، فداروين افترض أن كل الحياة نشأت من خلية واحدة في قديم الزمان، وتفرع منها تدريجيًا وببطء أنواع مختلفة مكوّنة شكل الشجرة، لا يمكن أن تفتح كتابًا مختص بعلم الأحياء إلا وقد ذُكرت فيه شجرة الحياة المشهورة، وكما قلنا سابقًا، إن عامة الناس يعتقدون أن شجرة الحياة هذه حقيقية، لكنها أكاديميًا مجرد نظرية.شجرة الحياة مبنية على فكرة التنادد[8]، وهو افتراض أن التشابه بين الجينات والتركيب البنيوي والسمات الأخرى يعود إلى السلف المشترك بينهم، ويعتقد عامة الناس أيضًا أن التنادد استنتاج لا جدال فيه بينما هو في الواقع مجرد افتراض؛ فلم يكن أحد منا يراقب قبل مليارات السنين كيف يرتبط نوع ما بنوعٍ آخر بعيدًا عنه، نظرًا لأننا لم نلاحظ إلا 0.0001% فقط من الحياة على الأرض، فأي ” شجرة ” أُنشئت لإظهار علاقات الأسلاف فهي في أحسن الأحوال “تخمينية”، التنادد كافتراض يفنده التشابه (homoplasy)، ومصطلح (homoplasy)، يشير إلى ملاحظة أوجه التشابه في البيانات الجينية والتركيب البنيوي الذي لا يمكن أن يكون بسبب السلف المشترك، وبعبارة أخرى، حتى عندما يقوم المرء ببناء شجرة حياة على أساس افتراض التنادد، فإن بعض أوجه التشابه لا يمكن أبدًا أن تكون عائدة إلى السلف المشترك، وسواءً كنا ننظر إلى شجرة الحياة ككل، أو كغصنين من الأنواع اللذَين يفترض أن يجمعهما سلف مشترك، فنحن ما زلنا نتعامل مع احتمالات مبنية على افتراضات ليست حقائق ثابتة. في منشور جامعة كامبردج المعنون بـ: (البرهان والتطور، المنطق وراء العلم) كُتب الآتي:“لذلك فكلتا الفكرتين التاليتين ساذجتان: لا بد أن البشر والشمبانزي يجمعهما سلف مشترك لأنهما متشابهان جدًا، ولا بد أن البشر والفطر كانت نشأتهما مستقلة لأنهما مختلفان تمامًا. لا توجد كلمة “لا بد” في قاموس أي إطار احتمالي.”
البرهان والتطور، المنطق وراء العلم
سنلقي نظرة الآن على بعض الافتراضات الكثيرة التي يتضمنها الإطار الاحتمالي للداروينية.
الافتراضات:
هناك العديد من الافتراضات التي تقوم عليها نظرية داروين للتطور، والكثير منها تفندها براهين جديدة وتفسيرات جديدة، وسنتحدث أدناه عن ثلاث افتراضات وكيف يتم تفنيدها.
التدرج:
افترض داروين أن التطور يحدث في خطوات صغيرة وخفيفة: (ثابتة، وبطيئة، ومستمرة)، وفرضية التدرج هذه تعد جزءًا أساسيًا من نظرية داروين، بل إن داروين جعلها شرطًا لـ “دحض” نظريته بأكملها فيقول:
“إذا أمكن إثبات وجود أي عضو مركب يستحيل أن تكون قد شكّلته تغييرات عديدة ومتتالية وخفيفة، فإن نظريتي حينئذ ستنهار تمامًا، لكنني لم أجد مثل هذه الحالة”
ومما يخفى على عامة الناس أن التدرج كان مثيرًا للجدل دائمًا بين علماء الأحافير، حتى خرج بعضهم للعلن وأفصحوا عن شكوكهم أخيرًا في العقود الأخيرة الماضية.
يشرح عالم الأحافير ستيفن جاي غولد مشكلة هذا الافتراض بقوله:
“تمثّل صورة (التوازن المتقطع) تاريخ الحياة بشكل أنسب من مفهوم التدرج النمطي؛ فتاريخ التطور لا يتضح ببطء، بل هو قصة توازن مستتب، تقطعه أحداث الانتواع السريعة والعرضية -نادرًا فقط- لكن كثيرًا مع مرور الوقت.”
ما يقوله غولد هو أنه بينما نتوقع رؤية تغييرات بطيئة وثابتة وتدريجية في الأنواع، يعرض لنا سجل الأحافير العكس تمامًا! تغييرات سريعة في السمات البيولوجية؛ كان غولد على الأرجح أشهر ناقد للتدرج، لكن منذ أن صرح بنقده فنّد كثير من علماء الأحياء التدرج.
الانتقال الأفقي للجينات
تفترض الداروينية أن الجينات تنتقل عموديًا فقط بمعنى من الآباء إلى الأبناء، تعرّض هذا الافتراض لكثير من الضغوط في السنوات الأخيرة مع اكتشاف ما يعرف بنقل الجينات الأفقي (HGT)، ويحدث هذا عندما تنتقل الجينات أفقيًا بين الأنواع.
في البداية، اُفتُرِض أن نقل الجينات الأفقي كان عنصرًا غير مهم في عملية النقل الإجمالية، فهو ينقل الوظائف (غير الأساسية) فقط، مثل مقاومة المضادات الحيوية، أما الوظائف الأساسية البيولوجية مثل تكرار الحمض النووي وتخليق البروتين فكان يُعتقد انتقالهما عموديًا، وقد تبيّن لاحقًا وبشكل غير متوقع أن هذا الرأي كان خاطئًا، وأن نقل الجينات الأفقي كان يحدث في كل مكان وقد لطخ الصورة الصافية التي تحاول الداروينية رسمها. يعلّق عالم الأحياء التطوري مايكل روس على طريقة نقل الجينات الأفقي في زعزعة الفكرة البسيطة التقليدية للداروينية فيقول:
“إن صعوبة علم الأحياء تُقارَن بميكانيكا الكم”.
فاجأ نقل الجينات الأفقي المجتمع البيولوجي على حين غرة، فبعضهم حاول كثيرًا فهمه من خلال الإطار الدارويني، بينما أدرك آخرون أن هذا لن ينجح، وأننا بحاجة إلى نهج جديد.
الأنانية
تفترض الداروينية أن السبب الوحيد لوجودنا هو الاهتمام بأنانية ببقائنا وتكاثرنا، هذه هي النظرة النمطية الداروينية للداروينيين اليوم ولأول معاصري داروين كذلك، فيزعم توماس هكسلي -المعروف بكلب داروين- في كتابه: التطور والأخلاق 1893م أن “الحياة كانت معركة حرة مستمرة” من أجل “البقاء للأقوى”، كما كتب دوكينز في سياق مماثل عن جيناتنا الأنانية:
“إنها داخلي وداخلك؛ خلقتنا وخلقت أجسادنا وعقولنا؛ والحفاظ عليها هو المبرر الأساسي لوجودنا.”
المشكلة الواضحة في هذه النظرية التي اشترك فيها هكسلي ومن بعده هي أن البشر “مدمنون بشدة على الإيثار“! نحن نهتم بالآخرين لمصلحتهم ولا نتصرف دائمًا بطريقة أنانية، ولمحاولة حل مشكلة “الإيثار” هذه طُرحت هاتان النظريتان: اختيار الأقارب والإيثار المتبادل.
اختيار الأقارب: هي الاستراتيجية التطورية التي تفضل نجاح تكاثر أقارب الكائن الحي، حتى على حساب بقاء الكائن الحي وتكاثره؛ والسبب في ذلك هو أن أقربائنا يحملون جيناتنا، وجيناتنا هي ما نريد نقلها حتى على حساب حياتنا، وكلما كان الأقارب أقرب، زاد عدد الجينات التي نتشاركها، وفي بيان ذلك يقول عالم الأحياء ج.ب.س هالْدين:
“سأضحي بحياتي من أجل شقيقين أو ثمانية أقرباء”.
لكن الإيراد الوارد عليى هذا التفسير هو أن نظرية اختيار الأقارب هذه لا تفسر سبب اهتمامنا بغير الأقارب؛ لذا حاول الداروينيون إيجاد إجابة لهذا أيضًا، وتذرعوا بنظرية: الإيثار المتبادل، لشرح سبب اهتمامنا بالآخرين.
تدعي هذه النظرية أننا نساعد الآخرين لأننا نعلم أنهم سيردّون المعروف لنا، (فشرط الإيثار هو النفع المادي العائد للمؤثر). أو بعبارة أخرى، فإن الأخلاق كما يصفها عالم الأحياء التطوري جورج ويليامز هي:
“قدرة عرضية فائقة الغباء، تنتجها عملية بيولوجية عادةً ما تعارض تجسيد مثل هذه القدرة. ”
إن مشكلة الإيثار المتبادل: هي أنها لا تفسر سبب قيام كثير من الناس بالتصدق خفيةً، ولا سبب جمع حكوماتنا للضرائب، وإعطائها المستشفيات لمعالجة المرضى المحتاجين، ولا سبب اهتمام الناس بالحيوانات والمباني القديمة، واستعداد بعضهم للموت من أجل قيمهم ومُثلهم؛ ومن هنا يدحض فيلسوف العلوم ديفيد ستروف هذه التفسيرات الداروينية في كتابه: (حكايات الداروينية الخيالية)، ويقول بأنها تتعارض بشكل أساسي مع طبيعتنا:
“إذا كنت قد صنعت ذاك السرير غير المريح، فيجب عليك الاستلقاء عليه إذًا. وأخف ما ستعانيه بسببه هو أنه سيتعين عليك طوال حياتك ترويض نفسك على أداء تلك الحيلة المراوغة التي اشتكى منها هيوم فعلا، وهي أن تصف حقائق معينة – مثل حقائق الإيثار البشري – بأنها “مشكلة” أو “عقبة” لنظريتك، بينما يمكن لأي شخص لم تُعمِه الداروينية تمامًا أن يرى أن هذه الحقائق هي في الواقع دليل على خطأ نظريتك.”
وعلى الرغم من أن الغالبية العظمى من علماء الأحياء يقبلون نظرية الجينات الأنانية، إلا أن الأنانية كفرضية يعارضها بعض علماء الأحياء والفلاسفة لأنها تتعارض مع غرائزنا الأخلاقية.
هذه بعض الافتراضات التي تُفندها أدلة جديدة أو تفسيرات جديدة، والهدف من ذكر هذه الافتراضات وكيف يتم تفنيدها هو بيان الطبيعة المتغيرة للأفكار العلمية وأن هناك مناقشة حية مستمرة، وعلى الرغم من أن معظم علماء الأحياء يقبلون افتراضات الداروينية، إلا أن هناك غيرهم ينتقدونها بشدة مثل عالم الأحياء دينيس نوبل من جامعة أوكسفورد، فهو يقول:
“جميع الافتراضات الأساسية للداروينية الجديدة قد دُحضت.”
تعتبر وجهة نظر نوبل نادرة بين علماء الأحياء؛ ولكن النقطة المهمة هنا هي أن النقد الأكاديمي للداروينية موجود، وهذا أمر متوقع لأنه لا يوجد في العلم ما هو منقوش على الحجر.
التناقضات:
وجود تناقضات في النظرية على المستوى المفاهيمي والفلسفي يعد مسألة رئيسة أخرى تعارض فكرة أن الداروينية صحيحة.
كانت الفكرة الأساسية لداروين هي أن الانتخاب الطبيعي هو الآلية المحركة للتطور، وكانت هذه هي الفرضية الرئيسة لأصل الأنواع، ويعد الانتخاب الطبيعي كقوة خالقة أحد المعتقدات التي يؤمن عامة الناس أنها حقيقة لا جدال فيها، وقد يكون الأمر بمثابة صدمة كبيرة لهم أيضًا إذا علموا أنها فرضية لم يقبلها جميع علماء الأحياء كحقيقة ثابتة، بل إنها في الواقع موضع نزاع ودحض.
تقول عالمة الأحياء التطوري الحائزة على جوائز في مجالها لين مارغوليس:
“هذه هي مشكلتي مع الداروينيين الجدد: فهم يقولون أن ما يولّد التجديد هو تراكم الطفرات العشوائية في الحمض النووي، في اتجاه يحدده الانتقاء الطبيعي، فإذا كنت تريد بيضًا أكبر، فاستمر في اختيار الدجاج الذي يضع البيض الأكبر، وستحصل بالتالي على بيض أكبر وأكبر؛ لكنك أيضًا ستحصل على دجاج بريشٍ معيب وسيقان ضعيفة؛ إذن فالانتقاء الطبيعي يقضي على الأشياء وربما يحافظ عليها، لكنه لا يخلق أبدا”.
مارغوليس وكثير من علماء الأحياء غيرها، انتقدوا في السنوات الأخيرة قوة الانتقاء الطبيعي؛ ففي عام 2016م، جمعت الجمعية الملَكية في لندن -وهي أقدم وأشهر جمعية علمية- علماء الأحياء التطوري المؤثّرين من جميع أنحاء العالم لمناقشة هذه المشكلة بالذات، فانقسم العلماء إلى فريقين، اعتقد الأول ما اعتقده داروين من قبل وهو أن الانتقاء الطبيعي كان القوة المحركة للتطور، أما الفريق الآخر فقد عارضهم بشدة، واقترحوا بدائل حلّت مشكلات لم تستطع الداروينية حلها، سنذكر هنا ثلاثة منها:
التطور بفعل الهندسة الوراثية الطبيعية (ENGS)
وفقًا للنظرية الداروينية الأساسية، فإن عشوائية الطفرات هي العجينة التي يشكلها الانتقاء الطبيعي إلى جميع ومختلف الأنواع الجديدة، وعلى الرغم من أن هذا قد دُرّس وأُعيد سرده في العديد من المنشورات والأفلام الوثائقية المنشورة، إلا أن بعض المنظرين التطوريين يقولون إن هناك نقصًا في الأدلة التي تشير إلى أن الطفرات العشوائية بإمكانها جعل أي شيء مفيدًا.
فهذا جيمس شابيرو -وهو أحد علماء الأحياء المبتكرين الذين يطعنون في هذه الركيزة الأساسية للداروينية- يستخدم البحث الجديد في الطفرات لصنع نموذج تطوري جديد تمامًا، ففي كتابه (التطور: منظور من القرن الواحد والعشرين)، يشرح شابيرو سبب إمكانية تفوّق نظرية التطور بفعل الهندسة الوراثية الطبيعية على التطور الدارويني.
التطور اللاماركي الجديد
على الرغم من تجاهل علماء الأحياء للعالم لامارك لفترة طويلة، إلا أنه في السنوات القليلة الماضية بدأ بعض علماء الأحياء في إعادة النظر في أفكاره وطوروا نظرية منقحة له تعرف بالتطور اللاماركي الجديد.
تفترض الداروينية أن الخصائص المكتسبة لا تورَّث، والشيء الوحيد الذي يورِّثه الوالدان هو حمضهما النووي الثابت، وأي تغييرات تحصل في أطفالهم تكون بسبب الطفرات العشوائية؛ لذلك وفي ظل هذا الافتراض فإذا كان أحدهم يتبع نظامًا غذائيًا سيئًا، فذلك لن يؤثر على حمضه النووي ولا على أطفاله، ويعارض أنصار اللاماركية الجديدة هذا، فهم يعتقدون أن أسلوب حياة المرء يؤثر مباشرةً على تعبيره الجيني وعلى أطفاله، ويستشهد اللاماركيون الجدد بالدراسات الحديثة لدعم وجهة نظرهم، ويقولون إن الخصائص المكتسبة لا تورّث فحسب، بل إنها تؤدي أيضًا إلى بعض التغييرات التطورية الرئيسة.
التطور الناتج عن الطفرة (الطفرة، والطفرة الجديدة)
تفترض الطفرة أن التطور ينتج عن طفرات كبيرة وليست خطوات تدريجية صغيرة. تفند هذه الآلية الفكرة القائلة بأن التدرج الدارويني والانتقاء الطبيعي هما القوة المحركة الرئيسة وراء التغيير التطوري. وبالرغم من استبعاد الطفرة منذ عشرات السنين، إلا أنه في السنوات الأخيرة قدّم عالم الأحياء التطوري: ماساتوشي ني -وهو عالم معروف وقدير وحائز على عدة جوائز، ويستفاد من عمله على نطاق واسع في علم الوراثة السكانية- نسخة منقحة من الطفرة، ويوضح كتابه: (التطور الناتج عن الطفرة)، كيف تفند التطورات في علم الأحياء الجزيئي التنبؤات الداروينية؟ وكيف يمكن لنظرية جديدة أن تنجح أكثر منها؟ ويعارض “ني” بقوة الهيمنة الداروينية والإيمان الراسخ بها فيقول:
“إن داروين إله في التطور، ولذلك لا يمكنك انتقاد داروين! وإذا انتقدته، ستوصف بالمتغطرس! لكن ما إن تُعامل النظرية العلمية معاملة المعتقدات الراسخات، سيتعين عليك حينئذ أن تشكك فيها، معتقد الانتقاء الطبيعي موجود منذ زمن طويل، ومعظم الناس لم يشككوا فيه، ولا تزال معظم الكتب المدرسية تقرّ به أيضًا، ويُدرَّس معظم الطلاب هذه الكتب. عليك أن تشكك في هذه المعتقدات الراسخات، استعمل الفطرة السليمة. عليك أن تفكر بنفسك، دون تصورات مسبقة. هذا هو المهم في العلم”.
من الخطأ الافتراض أن جميع علماء الأحياء يقرّون بالتطور الدارويني، والفكرة الشائعة القائلة بأن العلماء المتدينين فقط هم من يطعنون في الداروينية لا أساس لها من الصحة، ففي الواقع، هناك مشروع أنشأه بعض الأكاديميين -وهم علماء أحياء وفلاسفة من جامعات مرموقة مثل أكسفورد وكامبريدج وبرينستون وهارفارد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وغيرها- يسمى: الطريقة الثالثة للتطور، والذي يوضح فيه علماء الأحياء أنهم لا يؤيدون الداروينية ولا أي بديل عنها ذي دوافع دينية؛ حيث قالوا:
“تعتقد الغالبية العظمى من الناس أن هناك طريقتين بديلتين فقط لتفسير أصول التنوع البيولوجي: إحداهما هي نظرية الخلق التي تعتمد على تدخل خالق إلهي، ومن الواضح أن هذه الطريقة غير علمية لأنها تعتمد على قوة خارقة للطبيعة غير منطقية في عملية التطور. والثانية: وهي البديل المقبول عمومًا الداروينية الجديدة، وهي علم طبيعي لكنها تتجاهل الكثير من الأدلة الجزئية الحديثة، وتستشهد بالعديد من الافتراضات غير المدعومة حول الطبيعة العرَضية للتنوع الوراثي، كما تتجاهل الداروينية الجديدة عمليات التطور السريعة المهمة مثل التكاثر التكافلي، ونقل الحمض النووي الأفقي، وعمل الحمض النووي المتحرك والتعديلات اللاجينية، وعلاوة على ذلك، يرفع بعض الداروينيين الجدد من شأن الانتقاء الطبيعي إلى قوة خالقة فريدة من نوعها تحل جميع مشاكل التطور الصعبة دون أساس تجريبي حقيقي، ويرى العديد من العلماء اليوم الحاجة إلى استكشاف أعمق وأكمل لجميع جوانب عملية التطور.”
من الواضح أن هناك خلافًا ساريًا في المجتمع البيولوجي حول أهم الأجزاء الأساسية لنظرية داروين، وهذا لا يعني أن الداروينية باطلة أو غير علمية، فهي ما تزال النظرية العلمية الرئيسة لتفسير التغير البيولوجي، كما يؤيدها غالبية علماء الأحياء، والخلافات أعلاه إنما ذُكرت لإظهار أن الداروينية ليست حقيقة أبدية منحوتة على الصخر، كما أن فهم تاريخ وفلسفة العلم يجعل هذه الخلافات غير مفاجِئة، بل إن اختلاف الآراء هو ما يتوقعه المرء بالضبط من العلماء، لأنه لا يفترض منهم أن يتعاملوا مع أي أمر على أنه أمر مسلم به.
أجزاء الداروينية
تتكون الداروينية من جزأين رئيسيين: تاريخ التطور (شجرة الحياة)، وآلية التطور (الانتخاب الطبيعي)، وكلاهما مترابط.
فإذا كانت الآلية باطلة، فسيُطعن في التاريخ مباشرةً، ومن المثير للاهتمام أنه على الرغم من أن عامة الناس يرون أن آلية الانتقاء الطبيعي حقيقة ثابتة لا غبار عليها، إلا أنه من المعروف أكاديميًا أن هناك مشكلات رئيسة معها، كما يوضح ذلك عالم الأحياء جيرد ب. مولر فيقول:
“هناك عدد متزايد من المنشورات التي تدعو إلى تنقيح رئيسي للنظرية النمطية للتطور أو حتى استبدالها، مما يشير إلى أنه لا يمكن رفض ذلك باعتباره وجهة نظر أقلية، بل هو شعور واسع الانتشار بين العلماء والفلاسفة على حد سواء”.
قد يرى عامة الناس أن الداروينية صحيحة، إلا أنها ضعيفة أكاديميًا؛ فهي تقوم على إطار احتمالي يحتمل عدة افتراضات، كما أن هناك خلافات حول أفكارها الأساسية. وعلى الرغم من أنها نظرية علمية مقبولة، إلا أن الادعاء بأن التطور الدارويني قطعي هو ادعاء خاطئ تمامًا.
الادعاء الثالث: نظرية داروين للتطور تؤدي إلى الإلحاد
في كتاب صانع الساعات الأعمى: (The Blind watchmaker)، وهو من أشهر كتب التطور، يقول أستاذ جامعة أكسفورد ريتشارد دوكينز:
“ربما كان الإلحاد مقبولًا منطقيًا قبل داروين، إلا أن داروين جعل من الممكن أن يكون المرء ملحدًا وناضجًا فكريًا أيضًا.”
وفي كتاب مشهور آخر بعنوان وهم الإله: (The God Delusion)، يقول على غرار ما سبق:
“لقد بيّن داروين وخلفاؤه كيف تطورت الكائنات الحية -مع الشكوك الكبيرة في إحصائياتها ومظهرها التصميمي- بدرجات بطيئة وتدريجية من بدايات بسيطة؛ فيمكننا الآن أن نقول بثقة أن وهم التصميم في الكائنات الحية هو مجرد وهم”.
عندما يقرأ شخص عادي ليس لديه خبرة في علم الأحياء أو الفلسفة هذا النوع من العبارات المنقولة عن شخص أكاديمي معروف، فيغلب على الظن أنه سيقبلها فورًا، فنحن نميل بصفتنا مخلوقات اجتماعية إلى أن نقبل ما يخبرنا به المتخصصون والخبراء في مجالاتهم بدون أي شكوك. ليس دوكينز وحده من يربط الإلحاد بالداروينية ربطًا وثيقًا، بل إن ملايين الناس اليوم يعتقدون أن أحدهما يقود إلى الآخر! أذكّر مرة أخرى بأن هناك فجوة كبيرة بين فهم العامة والفهم الأكاديمي لعلم التطور، ويوضح دوكينز هنا آراءه الشخصية حول التطور، وهي ليست نتائج علم الأحياء ولكنها نتائج تشويه إلحاده لعلم الأحياء.
معظم الناس يلتبس عليه الأمر فيظن أن التصريحات الصادرة عن العلماء هي إثباتات علمية، وهذا غير صحيح فقد يكون العالم ملحدًا أو مؤمنًا أو لا أدريًا أو معتنقًا لأي دين آخر في العالم، ويجب أن يحرص على عدم دمج معتقداته بالعلم عند التحدث إلى العامة، لا يوجد شيء في نظرية داروين يستلزم الإلحاد أو يثبت أن التصميم وهم، وتصريحات دوكينز هي مزيج من الزيت والماء وعلم الأحياء الجيد وعلم اللاهوت السيئ!
يبيّن فيلسوف علم الأحياء: إليوت سوبر، الفهم الصحيح للرابط بين الإله والداروينية على الرغم من كونه ملحدًا فيقول:
“يمكن أن يكون أنصار التطور المؤمنون ربوبيين بالطبع، معتبرين أن الإله يبدأ حركة الكون ثم يرفض التدخل بعد ذلك إلى الأبد؛ لكن لا يوجد تناقض في إيمانهم بإله أكثر نشاطًا، وتدخلاته فيما بعد الخلق لا يلاحظها علم الأحياء التطوري، التدخل الإلهي ليس جزءًا من العلم، لكن نظرية التطور لا تستلزم عدم حدوث أي من هذا التدخل”.
لن يكون هذا مفاجئًا إذا فهم المرء ماهية العلم؛ فالعلم يستخدم الملاحظات لبناء الفرضيات والنظريات واختبار صحتها، والإله بطبيعته غير مرئي، ولذلك فإن أي ملاحظة مباشرة له مستحيلة، وأي أحد يدعي وجود أي علم ينكر الإله سواء كان التطور الدارويني أو ميكانيكا الكم فهو بلا شك مخطئ، ويوضح فيلسوف العلوم هيو غاوتش أن الفكرة القائلة بأن “العلم يدعم الإلحاد إنما تذاع لزيادة الحماسة والترويج لها وللتقليل من المنطق”.
من الأسباب التي تجعل الناس يظنون أن العلم يؤدي إلى الإلحاد هو أن العلماء لا يجعلون الإله سببًا أو عاملًا مؤثرًا عند تفسيرهم للظواهر، ولكن هذا لا يعني أن الإله غير موجود، فالميكانيكيون مثلًا يمكنهم إخبارك بكيفية عمل سيارتك، وشرح كل شيء يتعلق بها بما في ذلك استهلاك الوقود والكهرباء ونظام التروس وآلية المكابح وتكييف الهواء وما إلى ذلك، وإن تقديمهم لتفسيرات طبيعية لكيفية عمل السيارة لا يعني عدم وجود مصمم للسيارة.
وكذلك العلماء، فهم لا يستخدمون التفسيرات الطبيعية إلا عندما يشرعون في تقديم حسابات عن كيفية عمل العالم، ويُعرف هذا بـ: المذهب الطبيعي المنهجي، أو الطبيعانية المنهجية، وجميع العلماء طبيعانيون منهجيون؛ وهذا يعني أنهم يشيرون فقط إلى الأسباب الطبيعية والنتائج الطبيعية، ولا يجوز التذرع بالإله في العلوم وفقًا لقاعدة الطبيعانية المنهجية، ولكن هذا لا يعني أن الإله غير موجود، ويسلط عالم الأحياء التطورية سكوت تود الضوء على هذه النقطة:
“حتى لو كانت كل البيانات تشير إلى مصمم ذكي، فإن مثل هذه الفرضية تُستبعد من العلم لأنها ليست طبيعية [مادية]. ولكن العالم -كـفرد- له حرية الاختيار بالطبع في اعتناق حقيقة تتعدى المذهب الطبيعي”.
ومن ناحية أخرى، هناك المذهب الطبيعي الفلسفي والذي ينص على أن الطبيعة هي كل ما في الوجود وأن الإله غير موجود، ويختلف المذهب الطبيعي المنهجي، عن المذهب الطبيعي الفلسفي، والأول لا يستلزم الثاني، وإنما ينشأ التباس عند البعض عندما يُدمج هذان النوعان من المذهب الطبيعي.
يتصور الناس بسبب عدم إشارة العلماء إلى الإله أن الإله غير موجود، وهذا تفكير مغلوط؛ حيث يشرح فيلسوف العلوم ماسيمو بيقلوتشي هذا الاختلاف على الرغم من أنه من دعاة الإلحاد:
“تكمن المغالطة في حقيقة أن معظم الناس – بما في ذلك مع الأسف مؤسسي العلم البارزين مثل ريتشارد دوكينز – لا يميزون الفرق الدقيق والحاسم بين المذهب الطبيعي المنهجي، والمذهب الطبيعي الفلسفي “.
استنتج بيقلوتشي مثل فلاسفة العلم الآخرين أن العلم لا يستلزم الإلحاد أبدًا.
على الرغم من أن العلماء أمثال دوكينز يروجون لفكرة أن الداروينية تنكر وجود الإله، إلا أن داروين نفسه لو كان حيًّا لَعارض ذلك بشدة! فداروين لم يكن ملحدًا أبدًا، وسيتفاجأ لو علم أن نظريته تُستخدم كبرهان على عدم وجود الإله، فقد كتب مرةً:
“يبدو لي أنه من السخف الشك في أن المرء قد يكون مؤمنًا متحمسًا ومؤيدًا للتطور في نفس الوقت.”
بدأ داروين حياته نصرانيًا، ثم ترك النصرانية ليصبح ربوبيًا، ويعتقد الربوبيون أن الإله موجود لكنهم لا يؤمنون بأي دين ولا بالمعجزات ولا بالحياة بعد الموت، وقد ظل داروين ربوبيًا بينما كان يكتب نظريته، وحتى بعد أن نشر أصل الأنواع كان من أشد المؤمنين بالإله، وقد كتب في سيرته الذاتية أنه يمكن للمرء أن يقبل تمامًا التطور بفعل الانتقاء الطبيعي، وأن يؤمن بوجود الإله في الوقت نفسه، بل قال أيضًا بشكل صريح أن هذا ما يؤمن به هو نفسه. وفي وقت لاحق من حياته ترك الإيمان بالإله وأصبح لا أدريًا، وكان هذا التغيير بسبب مشكلة الشر، وهي مشكلة جعلته دائمًا غير مرتاح.
لقد مر بالعديد من المآسي الشخصية بما في ذلك وفاة أطفاله الأحباء، ومع ذلك فقد أكّد أن نظريته لم تنكر وجود الإله، وأن العلاقة بين الإلحاد ونظرية داروين هي حلقة مفقودة، وعلى الرغم من شيوعها إلا أنه لا يمكن تبريرها أكاديميًا.
إحدى الحجج التي يحاول بعض الملحدين تقديمها هي أن داروين كان في الواقع ملحدًا، بينما يتظاهر بأنه لا أدري وكان يعتقد أن نظريته تؤدي إلى الإلحاد فعلًا، ويزعمون أنه حاول تلطيف ما يعتقده عن الإله وعن تبعات نظريته بسبب ضغط الرأي العام؛ لكن هناك ثلاث مشكلات مع هذه الحجة:
الأولى: أنه لا يوجد دليل على أنه ملحد؛ لذا فإن هذه التخمينات لا أساس لها من الصحة. فداروين قد أعلن تركه للنصرانية من قبل، وقال بأن القراءة الحرفية للكتاب المقدس لا يمكن أن تكون صحيحة، فإذا كان قد اتخذ هذه الخطوات الجريئة فلماذا يخفي إلحاده إذًا؟ لا سيما أنه قد تحدى مجتمع فيكتوري محافظ من قبل، فلم يكن لديه ما يخسره، كما أنه اختلف علنًا مع أولئك الأشخاص الذين استخدموا نظريته لدعم الإلحاد.
الثانية: لو سلمنا أنه كان ملحدًا، واعتقد أن نظريته تؤدي إلى الإلحاد فسيكون مخطئًا؛ لأن العلم كما ذكرنا سابقًا لا يتعامل إلا مع ما يمكن ملاحظته، فكيف يمكن لنظرية مبنية على ملاحظات العالم الطبيعي إنكار الخالق الذي لا يمكن رؤيته؟
الثالثة: ما نجده في كتابات داروين الشخصية هو عكس ما نتوقعه لو كان ملحدًا، ففي عام 1879م، وقبل وفاته بثلاث سنوات فقط كتب رسالة إلى جون فورديس يقول فيها:
“ما هي آرائي الشخصية هو سؤال لا علاقة له بأي شخص غيري، لكن بما أنك سألتني، فقد أصرح بأن آرائي غالبًا ما تتقلب وتتغير، بالإضافة إلى أن استحقاق المرء لأن يُدعى مؤمنًا أم لا، يعتمد على تعريف المصطلح، وهو موضوع كبير جدًا بالنسبة لرسالة موجزة. في أشد تقلباتي لم أكن أبدًا ملحدًا من ناحية إنكار وجود إله. أعتقد أنه بشكل عام -ويرسخ اعتقادي هذا أكثر كلما تقدمت في السن- ولكن ليس دائمًا، أن “اللا أدرية” ستكون أصح وصف لحالتي الذهنية.”
المحصلة هي أن الإيمان بالإله لا يقوضه التطور الدارويني ولا أي نظرية علمية أخرى، بل إن العلم نفسه لا يقدر على إنكار الإله، وهذا التصريح ليس مخالفًا للعلم، بل إنه ببساطة حقيقة ثابتة.
نستفيد كثيرًا في العالم اليوم من الإنجازات العلمية، فقد ساعدنا العلم على العيش لفترة أطول وبراحة أكبر، كما أثرانا بمعارف تجهلها الأجيال السابقة، وهذا ما يجعلنا نبجل العلم والعلماء؛ ومع ذلك، لا ينبغي تبجيلهم إلى حد الوقوع في العلموية -الإيمان المتطرف بالعلم التجريبي-؛ فالعلم أداة عظيمة لكن له حدود ولا يمكنه فعل كل شيء؛
إذ يعتمد العلم على الحساب والمنطق، ولا يمكن إثباتهما بالعلم؛ لأن العلم يعتمد عليهما بدوره.[9]
تُستخدم هذه الصيغة: (a2 + b2 = c2) في النظريات العلمية، ولكن العلم ليس بمقدوره تفسير كون هذه الصيغة الرياضية على ما هي عليه، فالعلم يستخدم المنطق الاستقرائي والاستنتاجي، ولكنه لا يستطيع تفسير كيفية عمل وسير المنطق، فلا يمكن للعلم إخبارنا ما إذا كان تقديم التبرعات أمرًا جيدًا، أو إذا كان ركل الحيوانات أمرًا سيئًا، ولا يمكن للعلم إخبارنا بأي شيء عن الحقائق الأخلاقية، ولا المعايير الجمالية، ولا الحقائق الميتافيزيقية، ولا ما إذا كانت الشخصيات التاريخية حقيقية، ولا حتى ما يجب فعله بالمعرفة العلمية، ولا ما إذا كان يستحسن طلب العلم في المقام الأول! لا يمكن للعلم أيضًا أن يخبرنا لماذا ينشأ العلم، فأنت بحاجة إلى الفلسفة من أجل ذلك، [وبحاجة إلى سؤال: لماذا، الذي أهمله الملحدون].
إذا فهمنا العلم، وفلسفته، وتاريخه، وكيف ينشأ، فلن نقع في خطأ الاعتقاد بأن العلم أو أي نتاج علمي مثل الداروينية يمكن أن ينكر الإله؛ ففهم فلسفة العلم والتطور الدارويني يبيّنان لنا أن النظرية ليست صحيحة حرفيًا، بالرغم من أنها قد تكون أفضل تفسير علمي طبيعي لدينا في هذا الوقت.
الخلاصة
هناك فرق بين الفهم الأكاديمي والفهم العام للعلم بشكل عام وللتطور بشكل خاص، قد يتخيل عامة الناس أن العلم يزودنا بالحقائق، لكن الفهم الأكاديمي يوضح لنا أنه لا يوجد في العلم ما هو “منقوش على الحجر”، وبالتالي فإن التطور الدارويني -بصفته نتاجًا للعلم- ليس حقيقة أبدية ولن يكون كذلك أبدًا!
تُعلمنا فلسفة العلوم أنه بإمكاننا دائمًا الحصول على ملاحظة جديدة يمكن أن تفند نظرياتنا السابقة، وتاريخ العلم زاخر بالعديد من النظريات الناجحة التي تبين لاحقًا أنها خاطئة.
نظرية التطور لداروين هي نظرية فعالة، ونظرية علمية مقبولة؛ لكنها ليست حقيقة مطلقة، أو مؤكدة أو غير قابلة للتغيير؛ إذ تستند نظرية داروين على إطار احتمالي، يحتمل عدة افتراضات، وهناك خلافات حول أفكاره الأساسية، وإن الفكرة الشائعة بأن التطور يقوض وجود الإله هي فكرة خاطئة، فالعلم يتعامل فقط مع الظواهر التي يمكن ملاحظتها، والإله بطبيعته لا يمكن ملاحظته [بذاته]، إن فهم الأسس الفلسفية للعلم مهم جدًا لأنه يرسم لنا صورة أوضح لما يمكن للعلم فعله حقًا ولما يعجز عنه.
يجب أن يدرك الملحدون واللاأدريون أن العلم لا ينكر الإله ولا يمكنه أن ينكره، ولا يقتصر الأمر على أن العلم لا يؤدي إلى الإلحاد، بل إن الإلحاد أيضًا لا يؤدي بالضرورة إلى العلم، فإذا كان المرء ملحدًا فقد يختار أن يسعى وراء المعرفة العلمية للعالم الطبيعي، وقد لا يختار ذلك.
لطالما كانت أما التقاليد الإسلامية منفتحةً جدًا على مر التاريخ على البحث العلمي، وبالنسبة للكثيرين كان ولا يزال طريقًا يقرّب إلى الله وهو متجذر في المصدر الرئيس للإسلام، ألا وهو القرآن:
﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴿2﴾ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴿3﴾ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴿4﴾ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴿5﴾ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۖ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ﴿6﴾﴾ [الجاثية: آية2-6]
إن الهدف من الحياة في الإسلام هو معرفة الله -التي هي من أجل العبادات-، ومن خلال تلك المعرفة تمجّد حكمة الهداية الإلهية في حياتك وتحبها وتقبلها برضا وسرور، ومن خلال التفكير العميق في خلق الله، ودراسته لإفادة البشرية، ينطلق المرء في طريق الرؤى العميقة والمفاهيم الشاملة التي تولّد الامتنان للخالق والدهشة والخشية منه، مما يجعل الإنسان المنغمس فيها مثاليًا ومليئًا بالأهداف النبيلة.
اقرأ ايضاً: التطور: نظرية فنّدتها الحقائق
[1] يقصد بالعلم في هذه المقالة = العلم التجريبي.
[2] يذكر الطيب بوعزة عن تاريخ العلم فيقول ما معناه: “إن تاريخ العلم تاريخ تجاوزي، وليس كتاريخ الأفكار التراكمي” وهذا يؤكد أن العلم تاريخه تاريخ أخطاء العلم، لأن النظرية فيه تجب ما قبلها، وهذا الأخير يتضمن فكرة أن العلم في تقدم، فكل نظرية تجب ما قبلها لأنها أفضل منها.
[3] وهذا ما يعزز فكرة تجاوزية العلم، لأنه معتمد على التطورات المستقبلية، وحتى متطرفي العلموية يعتمدون على هذا المستقبل -الغيبي-، وهذا مخالف لإيمانهم المطلق بالفيزيقي ونبذ الميتافيزيقي.
[4] يمكن تطبيق النظرية المشهورة عن ابن تيمية في أن: الحقائق اليقينية لا تتعارض مطلقًا، وإذا ظهر لنا ذلك فننظر في قطعية كل من الدليل العلمي والدليل الشرعي، ففي القرآن ننظر من جهة قطعية مدلوله لا قطعية ثبوته فهو ثابت قطعًا، وأما السنة فننظر من جهة الدليل -إذ قد يكون ظني الثبوت- ومن جهة المدلول، وأما العلم فكما ذكر الكاتب من تغلب الظن عليه، وهذا يسهل عملية الجمع أو الرد.
[5] انظر كتاب: التحدي الأبدي (The Eternal Challenge ) [الكاتب]
[6] علمي = تجريبي.
[7] مجلة (Nature) هي أقدم وأعرق مجلة علمية في العالم [الكاتب]
[8] يشير مصطلح التنادد في علم الأحياء إلى وجود نسب مُشارَكِة بين زوج من البنى أو الجينات في أصناف مختلفة. أحد الأمثلة الشائعة على البنى المتناددة هي الأطراف الأماميّة في الفقاريات، حيث تكون أجنحة الخفاش و أذرع الرئيسيات والزعانف الأماميّة للحيتان و الأرجل الأماميّة للكلاب والأحصنة = جميعها مُشتَقَّة من بنية واحدة لدى رباعيات الأطراف التي تُمثِّلُ سلفاً مشتركاً لها جميعها.
ويكبيديا [ https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AA%D9%86%D8%A7%D8%AF%D8%AF ]
[9] فلابد أن ننطلق من مسلمّات غير تجريبية حتى نتمكن من الشروع في العلم!
المراجع
- Gillian Barker, Philip Kitcher, 2013, Philosophy of Science: A New Introduction. Oxford: Oxford University Press. 2014, p. 17.
- Carrier, Martin, What is wrong with the miracle argument?, 1991, Studies in the History and Philosophy of Science, 22(1), 23–36.
- Samir Okasha. Philosophy of Science, A Very Short Introduction, 2002 Oxford University Press. P. 77.
- Henry Gee, The Accidental Species, 2013, University of Chicago Press; Reprint edition, p14
- http://www.people-press.org/files/legacy-pdf/528.pdf
- Richard Dawkins, A Devil’s Chaplain, Mariner Books, 2003, p81
- https://www.nsf.gov/news/news_summ.jsp?cntn_id=138446
- Elliot Sober, Evidence and Evolution, 2003, Cambridge University Press, p296-297
- Charles Darwin, The Origin of Species, 1859, p189
- Stephen J Gould, Niles Eldredge, Punctuated Equilibria 1972, p82
- Thomas Huxley, Evolution and Ethics, 1893, p326
- Kevin Connolly and Margaret Martlew, 1999. “Altruism”. Psychologically Speaking: A Book of Quotations. BPS Books. p10
- George C Williams, Reply to comments on Huxley’s Evolution and Ethics in Sociobiological Perspective. 1988, Zygon 23 (4): 437–438
- David Stove, Darwinian Fairytales, Encounter Books, 1996, p114
- Http://discovermagazine.com/2011/apr/16-interview-lynn-margulis-not-controversial-right
- Eva Jablonka, Transformations of Lamarckism, 2011, The MIT Press
- https://www.discovermagazine.com/the-sciences/mutation-not-natural-selection-drives-evolution
- https://www.thethirdwayofevolution.com/
- Gerd B Müller, Why an extended evolutionary synthesis is necessary, 2017, Interface Focus, http://doi.org/10.1098/rsfs.2017.0015
- Richard Dawkins, The Blind Watchmaker, 1986, Norton,p6
- Elliott Sober, Evolution without Naturalism. 2011, Oxford Studies in Philosophy of Religion. p11
- Hugh G. Gauch, Jr. Scientific Method in Brief. 2012, Cambridge University Press. p. 98.
- Scott C Todd, correspondence to Nature 401(6752):423, 1999
- Massimo Pigliucci, Science and Society, 2005, Science and Fundamentalism
- https://www.darwinproject.ac.uk/letter/DCP-LETT-12041.xml
- https://www.darwinproject.ac.uk/letter/DCP-LETT-12041.xml