العلم

التحسين الوراثي ومستقبل البشرية

  • جوناثان أنومالي
  • ترجمة: شذى محمد
  • تحرير: سهيلة عسيري
  • مراجعة: محمد عبيدة

منذ بضعة آلاف سنة، أعدنا صناعة بيئتنا بتغيير النظام البيئي وتعديل المحاصيل، وغيرنا من طريقة تفكير أبنائنا من خلال التعليم الإلزامي، وغيّرنا جهازهم المناعي باللقاحات والمضادّات الحيوية؛ لكن أيجب علينا تغيير أطفالنا وراثيًا؟ هذا هو محور سؤال كتابي الجديد.

نحن دائمًا ما نختار شركاءنا بطريقة تؤثر بشكل غير مباشر على سمات أبنائنا. لكن هناك تقنيات طبية حيوية جديدة قريبًا ستخول الآباء التحكم بشكل مباشر في سمات أبنائهم.

يسمح اختبار الجينات قبل زراعتها بفحص واختيار سمة معينة في الأجنة، ويشمل أيضا تفادي خطر تطور الأمراض مثل السرطان، والتليّف الكيسي، وفقر الدم المنجلي. حتى الآن هذه التقنية محدودة لدى علماء الوارثة، نظرًا للأعداد القليلة للبويضات التي تستطيع المرأة إنتاجها خلال الإباضة المستحثة، لكن هذا يتغير بسرعة.

يعجل تعلم الآلة (الشكل الضعيف للذكاء الاصطناعي) من فهمنا لكيفية عمل الجينات وكيفية تفاعلها معًا لتكوين الصفات. بالإضافة إلى تقنية جديدة ستسمح لنا بأخذ أي خلية جسدية (تحتوي على الدم أو الخلية الجلدية) وتحويلها إلى خلية جذعية محفزة، ومن خلالها نستطيع توليد أو صناعة حيوانات منوية وبويضات. عندما تكون هذه التقنية بسعر منخفض سوف تسمح للآباء بخلق أو إنشاء أو إنتاج أو توليد عدد كبير من الأجنة واختيار واحد منها للنمو.

شركات مثل Genomic Prediction قد وعدت بالفعل أنها ستسمح للوالدين بالقيام بعملية مسح للأجنة وليس فقط إجراء مسحات للكشف عن الأمراض الوراثية البسيطة، لكن أيضًا للصفات التي تحتوي على العديد من الجينات المرتبطة مع بعضها بطريقة تجعل احتمالية ظهور الصفة أو المرض أعلى. تقنيات التعديل الجيني / الوراثي مثل: CRISPR Cas-9 وCRISPR Prime، بإمكانها مبدئيًا تغيير الجينات التي تؤثر بالصحة العامة، والطول، وبعض السمات الشخصية أو الذكاء. نحن لا نعرف بالضرورة أي الجينات هذه بعد، لكن هذه مشكلة فنية سيساعدنا علم الجينوم في حلها.

أول الأطفال المعدلين وراثيًا ولد في الصين عام 2018، باستخدام تقنيات طُورت في الولايات المتحدة الأمريكية و أوروبا. هذا الجين الذي عُدل لهؤلاء الأطفال الصينين عطل عمل بروتين يطلق عليه CCR5، ليصبح الشخص محصنا ضد الإصابة بفيروس نقص المناعة المكتسبة. وفي حين أن هذا البروتين استخدم بانتظام وبصورة روتينية في مختبرات علم الوراثة حول العالم لأجل الأبحاث، فهذا الاستخدام الجديد لتعديل الأجنة مدانٌ على نحو واسع – وإلى وقتنا الحاضر- بسبب عدم معرفتنا للتأثير الكامل لجين CCR5، وتقنية كريسبرا قادرة على إنتاج طفرات مخالفة للهدف المطلوب، وهو ما من شأنه أن يعكس تأثير الجين المطور وبالتالي تغيير الطفل المرغوب فيه.

بينما أعتقد أن الجين المعدل سوف يكون متقنًا أكثر فأكثر، وفهمنا لعلم الوراثة سيزيد من جاذبية تعديل الأجنة البشرية، إلا أن النزاع حول مشروع كريسبر ليس هو المغزى. حتى لو لم يكن هناك أي أطفال معدلين جينيًا في المستقبل -وأشك في ذلك- فإن اختيار الأجنة باستخدام التشخيص الوراثي قبل الزرع (PGD) والتلقيح الصناعي (IVF) سيكون أقوى وأسرع انتشارًا. في حين أن كثيرًا من الناس سيستخدمونه لاختيار الصفات التي تنبئ بالنجاح في الحياة، فكثير من الآباء سيجدون تكلفة الاختيار أعلى من المحتمل! وسيرون أن المخاطرة في الطريقة الطبيعية أهون منها في الصناعية، لكن ذلك سينعكس بمجرد أن يكون هناك العديد من من الأجنة التي فُحصت وقررت احتمالية تطويرها لسمات مرتبطة بالصحة، وبالذكاء والعاطفة.

 

هل التدخل الجيني مختلف أخلاقيًا عن التدخل البيئي؟

تخيل أن باستطاعتك إنفاق الكثير من الوقت والمال لجعل أطفالك يلتحقون بجامعة مرموقة مثل جامعة برنستون أو جامعة ييل، في حين أن بعض الآباء يقومون بذلك بالتبرع للجامعة، والآخرين يعتمدون على الغش. لكن معظم الطلاب في هذه الجامعات يدخلون هذه الجامعات لأنهم يملكون نسبة عالية من الصفات الوراثية مثل الذكاء والانضباط، وبسبب حظهم الكافي بوجود حياة منزلية متوازنة أو مستقرة في مجتمع راق أو مناسب. ولأن التعليم العالي يخضع لتدقيق متزايد – فقيمته تعتمد على المادة التي تتم دراستها وكيفية قضاء وقتنا في الجامعة – فإن الآباء يبذلون أفضل ما في وسعهم لجعل التعليم الرسمي متوفرًا لأبنائهم.

بعض الآباء على الغالب لا يفكرون أن الدراسة أو الذهاب إلى جامعة بيرنستون دائمًا ما يأتي بالنجاح، والثروة أو السعادة الآن، بل يعتقدون أنه سيجعل أطفالهم يحققون النجاح على المدى البعيد. الكثير من الناس يخرجون من الجامعات لأنهم تعبوا أو أنهم غير قادرين على تحمل الضغط لأنهم يشعرون بأنها مضيعة للوقت، أو بسبب تمتعهم بالذكاء المطلوب أو عدم وجود الدافع الكافي لمجاراة أقرانهم. لكن الذين ينجحون ويتخطون الجامعات المرموقة ويختارون مجالات صعبة ويقومون بالأنشطة الخارجية يحظون بفرص وأصدقاء من الصعب الحصول عليها إذا مكثوا في مدنهم.

معظم الآباء قاموا بتطعيم أبنائهم، وحاولوا إطعامهم الأكل الصحي، وإيجاد أفضل الأطباء لهم عند مرضهم، كل هذه يحتمل أن تزيد من احتمالية أن أطفالهم سينجحون ويكبرون ليكونوا سعداء، وناجحين، وهم يعلمون أنهم لا يضمنون حدوث هذا، لكن يفعلون ما بوسعهم.

بالرغم من حقيقة أن الجينات تؤثر بقوة في نتائج الحياة المهمة، إلا أن كثيرًا من الآباء يفترضون أن احتمالية التعديل الوراثي لأطفالهم مخيفة. يعتقد البعض أنه من الخطأ تحمل هذه المسؤولية. كإحدى شخصيات فيلم Bernard Shaw’s Man and Superman تقول: “الحرية مسؤولية، لهذا السبب أغلب الرجال يخشونها”، لكن الأبوة بحد ذاتها مسؤولية أكبر بكثير، بينما على الآباء إظهار التواضع – مثلما جادل مايكل سنادل في “ضد الكمال”- اتضح بأن من صور التخلي عن المسؤولية تجاهل المخاطر الوراثية. علمًا بأنني وزوجتي حاملان لمرض وراثي، وهذا يزيد فعليًا من مخاطر إصابة أطفالنا بمرض تاي ساكس، وهذا الذي يجعلنا نخضع لاختبار تلقيح البويضة للتأكد من عدم إمكانية الإصابة بالمرض، أو حتى في أقصى الأحوال، الزواج من شخص آخر.

بعض الآباء قلقون من أن اختيار الصفات يمكن أن يكون له عواقب غير متوقعة. لكن التدخلات البيئية أيضا لها عواقب غير متوقعة. يمكن أن تسبب الأدوية الجديدة والبدع الغذائية بالأذى بدلًا من أن تكون صحية، أحيانًا ننتهي باختيار مدرسة لأطفالنا “تلقنهم” بدلًا من أن “تعلمهم”.

بما أنه يمكننا فقط أن نغير من فرص نجاح أطفالنا بتغيير بيئتهم، لما لا نستخدم أيضًا البيانات المتوفرة للتأثير في الأساس الوراثي أو الجيني لصفاتهم الجسدية والنفسية؟ هذه ليست مجادلة لمحاولة إعادة تشكيل أطفالنا قبل إيجاد إجماع علمي حول الأساس الجيني. لكن كبعض مجادلات أشهر الفلاسفة: تعديل أو اختيار الأجنة لا يختلف أخلاقيًا عن تغيير البيئة لأطفالنا، الفارق فقط أنه مبهم حتى الآن.

 

التعزيز الوراثي والإجراء الجماعي

افترض أنه خلال قرون قليلة، سنكون على معرفة كافية بالتفاعلات الجينية أو الوراثية لنشكل بشكل كبير صفات أطفالنا باختيار الأجنة أو التعديل الوراثي، بدون أي مخاطر غير ضرورية لصحتهم. ماذا سنختار؟ من الواضح بأننا سنريد لأطفالنا أن يكونوا خالين من أي طفرات معروفة تسبب أمراضا خطرة، وإذا كان دليل كيفية اختيار المرأة للمتبرعين بالحيوانات المنوية موثوقًا، فمن المحتمل أن العديد سيختارون أيضًا صفات مثل: الذكاء واللطف -على أقل تقدير-. الذكاء مرتبط بمجموعة من النتائج المهمة في الحياة، في مجالات تتراوح من الدخل والميول الإجرامية إلى الزواج المستقر والوفاة. ونوع التعاطف الذي يكمن وراء اللطف يعطي الناس الطبيعيين -ليس المعتلين نفسيًا الذين يفتقرون إلى التعاطف- القابلية إلى تكوين علاقات قيمة مثل: الصداقة والحب.

على أية حال، ماذا يحدث عندما يختار الوالدان صفات أطفالهما بطريقة تزيد من رفاهية أبناءهم، لكن بنتيجة لها تأثير جماعي ضار؟ يسمي الاقتصاديون مثل هذه الحالات بمشكلة العمل الجماعي: حالات يختار فيها الشخص القيام بشيء هو الأفضل بالنسبة له أو لها، لكن له نتيجة ضارة على الجميع.

نستطيع أن نتخيل اختيار الوالدين صفات تفيد أبناءهم لكنها تجعل تعداد السكان في أسوأ حال. أبسط مثال هوعدم توزان نسبة الجنسين، في بلدان ما قبل الثورة الصناعية يكون العمل البدني أعلى أجرًا، وعليه فقد يُفضَّل الفتيان على الفتيات، وفي البلدان المتطورة حيث الصبر يكون هو المطلوب، قد يفضل الفتيات على الفتيان، حتى الاختلاف البسيط في متوسط تفضيلات الوالدين يمكن أن يؤدي إلى نسبة 60\ 40 من عدم توزان الجنسي. بينما توجد أسباب تدعو للشك بأن هذا ما سيحدث -مع الأخذ في الاعتبار حقيقة أن البلدان الفقيرة تفتقر إلى التكنولوجيا لاختيار أو تغيير الأجنة لبعض الوقت- فهذا مثال واضح على مشكلة العمل الجماعي التي يتضمنها حرية الاختيار الجيني.

كمثال أدق: انظر كيف أننا قد نشكل جهاز مناعة أطفالنا الفطري، كل واحد منا قد حاول اختيار أو تعديل التغيرات الجينية التي تعطي مناعة ضد ميكروب معين، لكن غالبية السكان سيكونون في أفضل حال مع تنوع مناعي أكثر، لأن الميكروبات تستمر بالنمو.

قد يختار الوالدان صفات جيدة، بينما الصالح العام هو في الصفة العادية أو ما فوقها بقليل لأن ذلك يحقق مزايا اجتماعية. النساء ينجذبون للرجال الذين هم أطول بقليلًا عن الطول المعتاد، وهذا قد يدفع الأهالي لاختيار الطول لأبنائهم إلى درجة يسبب فيها إجهادًا للقلب، كلهم سيكونون أفضل حالًا إذا زادوا من جاذبية أبنائهم نسبيًا، لكن مستقبل السكان سيكون أسوأ بسبب المخاطر الجماعية.

أحيانًا السعي إلى اختيار الصفات الجيدة قد يأتي بمزايا اجتماعية؛ فالتنافس في الرياضة والموسيقى يفوز بها البعض ويخسر فيها البعض الأخر، لكن إذ كان السعي وراء هذه الصفات الجيدة يُنتج رياضة وموسيقى أفضل، وأطباء أذكى وباحثين أفضل، فإن البشرية ستكون في أفضل حال. إذ تحسين القدرات الإدراكية على الصعيد العام ينتج ليس فقط الكثير من الاختراعات التي تفيدنا جميعًا، لكن مزيدًا من التعاون كأثر جانبي، فاختيار تحسين أطفالنا هو مصلحة عامة، بدلًا من مشكلة العمل الجماعي، على الأقل إلى هذا الحد.

لكن السعي وراء الصفات الجيدة قد ينتج تكاليف بدلًا من الفوائد. والمشاكل الجماعية ليست إلا إحداها، وهناك الكثير غيرها. لعل الكمية المحددة من الاختلاف مطلوبة، لأنها تساعد مجموعة من الناس بتعلم الدروس التي لن تكون واضحة إذا كان جميع من في المجموعة يملكون إدراكًا محددًا ومتشابه.

الآن افترض أن الجين الذي يرتبط بالإبداع يحمل أيضًا قليلًا من المخاطر العالية للإصابة بالاكتئاب، والتوحد والفصام -هناك أدلة على ذلك-، فالآباء الذين لديهم أسباب جيدة للاختيار ضد هذه الظروف سيمنعوا إبداع عامة الناس كتأثير جانبي. وهذا قد يكون جيدًا لأي إنسان، لكنه سيئ للجميع ككل. بينما بعض الآباء سيختارون الإبداع حتى مع هذه المخاطر، لأنهم يعتقدون أن هناك حياة أكثر من الرفاهية، فإن مجموعة متنوعة من مشاكل العمل الجماعي يمكن أن تسببها حرية اختيار أو تغيير الأجنة.

 

أين سنذهب من هنا؟

أول رد فعل لكثير من الناس تجاه التقنيات الجديدة التي تعيد تشكيل البشر هو حظرها -ورغم أنني لا أشارك هذا الدافع- فهذا هو رد الفعل المناسب في هذا الوقت نظرًا لتقنيات التغيير الجيني التي يمكن أن تتسبب بآثار جانبية خطيرة، مثل: طفرات غير مستهدفة. مع ذلك فما يجب أن نؤكد عليه هو أن الخطر ليس فقط في انتشار وسهولة الوصول إلى تقنيات التحسين الوراثي، بل في حظرها. فإن منع السوق تداول السلع عندما يكون الطلب مرتفعًا يتسبب في خلق السوق السوداء. نحن نعلم جميعًا ماذا يحدث عندما تحاول الحكومة القضاء على المخدرات من السوق. عندما تكون الأنظمة ضد شراء وبيع هذه السلع، وتفرض عقوبات صارمة، ينخفض الطلب عليها، لكنها لا تختفي أبدًا، وغالبا ما تباع سرًا أو من الخارج. أنا أظن أن هذا ما سيحدث مع تقنيات التحسين الوراثي. يكفي فقط أن يسمح بلد واحد -على الأرجح الصين- استخدام تقنيات جنية جديدة، ليلجأ إليها مئات من الناس حول العالم ممن يستطيعون دفع ثمن قيمة هذه التقنيات.

القوانين تجعل الوصول لهذه السلع والخدمات مكلفًا، وهو الأمر الذي يكافئ الأغنياء وذوي العلاقات الجيدة؛ وهم الأشخاص الذين هم بالفعل يملكون مزايا جينية واجتماعية أصلًا. كثير من الناس قلقون بشأن زيادة عدم المساواة الاقتصادية. بالرغم من أنهم غالبًا ما يفشلون في ملاحظة دور الجينات في إنتاج عدم المساواة خلال الأجيال. هذا بسبب حقيقة أن الناس المتشابهين في قدراتها يتجهون إلى اختيار بعضهم البعض كشركاء. الآن تخيل المخاطر الاجتماعية في صنع نظام لا يستطيع فيه إلا الأذكياء والأغنياء أن يصلوا إلى التحسين الوراثي لأنفسهم أو لأبنائهم من خلال السياحة العلاجية أو السوق السوداء. لن تختفي اللامساواة إذا سمحنا لهم بالوصول إلى تقنيات التحسين الجيني. أحدث ما تصل إليه التقنيات سيكون دائمًا مكلفًا، لكن المنع سيجعل اللامساواة أسوأ بدلًا من تحسينها.

انظر إلى السوق العالمي لبيع الكلى، ولأن بيع الكلى ممنوع في البلدان المتطورة، المواطنون الأغنياء في هذه البلدان يسافرون إلى الهند ليحصلوا على الكلى من السوق السوداء، متجاهلين القوانين المانعة في سبيل الحفاظ على حياتهم.

الوعود التي تقدمها تقنيات الإنجاب الجديدة واضحة، لكن المشاكل الجماعية قد تسبب لفت نظر يستحق الاهتمام به. في الأجيال القليلة القادمة، من المحتمل أن البشرية ستغير نفسها بطريقة أو بأخرى. بعض الآباء من المحتمل أن يرفضوا إجراء استشارة وراثية، ويتجاهلوا التكنولوجيا وينجبون أطفالهم بالطريقة العادية.

الناس في النهاية قد يختلفون عن بعضهم بحيث يحصل فصل سياسي بين المحسن وغيره. الحرية لها ثمن، لكنها أيضًا تسمح لنا بفهم أنفسنا، وتغيير سلالتنا إلى الكائنات التي نريد أن نكون.

المصدر
areomagazine

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى