الكاتب: د. عبد الرحمن بن حسن قائد
بين المصطلح الإنجليزي foreword المترجَم بـ «التقديم» ومصطلح «التقريظ» المعروف في تراثنا العربي شبهٌ من وجه؛ إذ يشتركان في أنهما نصٌّ خاصٌّ يكتبه غير المؤلف عن الكتاب ويوضع بين يديه غالبًا، وربما وُضِع التقريظ في آخره، إلا أنه في «التقديم» يراد به التعريف المجمل بالكتاب المقدَّم له، والإشارة إلى مبلغ إضافته العلمية لموضوعه، ومواضع الإجادة فيه والمآخذ عليه، ويكاد «التقريظ» يكون خالصًا للثناء على الكتاب والإشادة بمؤلفه دون تعرض لنقده أو بيانٍ لمواضع نقصه، كما نراه في ما وصلنا من تقاريظ كتاب «الرد الوافر» لابن ناصر الدين الدمشقي وغيره([1])، وذلك على ما يفيده معنى «التقريظ» من المدح والإطراء، ويخلط بين المصطلحين كثيرٌ من المعاصرين، فكم من نصٍّ سمِّي اليوم تقديمًا وهو تقريظٌ محض، فكأنما عاد «التقريظ» التراثي في إهاب «التقديم» المحدث، والفطام عن المألوف شديد.
ومما يرد أحيانًا مورد «التقديم» مصطلح «التصدير»، فقد يكتبه المؤلف أو غيره مؤديًا وظيفة «التقديم»، وليس لهذه الكلمات كما يقول بعض المكتبيين «استخداماتٌ تحدد بوضوح علاقتها بالمؤلف أو غير المؤلف في التأليف العربي الحديث»([2]).
وتقديمُ الكتب كما يؤصِّل له الشيخ أبو الحسن الندوي -وهو من فرسانه المعاصرين، وقد جُمِعت مقدماته ونُشِرت- سواءٌ كان الكتاب «لمؤلف معاصر، أو عالم كبير، أو صديق عزيز = ليس عملًا تقليديًّا يقوم به الكاتب مجاملة أو تحقيقًا لرغبة المؤلف أو الناشر أو إرضائه، إنه شهادةٌ وتزكية، ولهما أحكامهما وآدابهما ومسؤوليتهما، وقد يتحوَّل من شهادةٍ بالحق وتقييم الكتاب تقييمًا علميًّا، وبيان مكانته فيما كُتِب وأُلِّف في موضوعه، ومدى مجهود المؤلف في إخراج هذا الكتاب ونجاحه في عمله التأليفي أو التحقيقي، إلى سمسرةٍ تجارية أو قصيدة إطراء من شاعرٍ من شعراء المديح، فيفقد قيمته العلمية والأدبية ويتجرد من الحياة والروح، وهو زيادة معلوماتٍ وإلقاء أضواء على موضوع الكتاب ومقاصده، وعلى حياة المؤلف ومكانته بين العلماء المعاصرين وفي عصره ومصره، وعلى تكوينه العقلي ونشوئه العلمي، والدوافع التي دفعته إلى التأليف في هذا الموضوع رغم وجود مكتبة واسعة في موضوعه أو مجموعة من الكتب التي أُلِّفت في هذا الموضوع، ولا يكون التقديم مجموع كلمات تقريظٍ ومدحٍ يمكن أن يحلَّى بها جيدُ أي كتاب إذا غُيِّر اسمه واسم مؤلفه.
فلا بد من أن تكون بين المقدِّم للكتاب وبين موضوعه صلةٌ علميةٌ أو ذوقية، أو دراسةٌ وافيةٌ للموضوع وما أُلِّف فيه، وارتباطٌ وثيقٌ كذلك بينه وبين المؤلف يمكِّنه من الاطلاع على تركيبه العقلي والعلمي والعاطفي إذا كان الكتاب في موضوع علمي أو أدبي أو فكري أو دعوي، وعلى مدى إخلاصه لموضوعه واختصاصه وتفانيه فيه ورسوخه في العلم والدين وأخذهما من أصحاب الاختصاص فيه المعترف بفضلهم إذا كان الكتاب في موضوع دينيٍّ كالتفسير والحديث والفقه وما إلى ذلك.
ويجب أن يكون هذا التقديم عن اندفاع وتجاوب، وتحقيقًا لرغبة نشأت في نفس المقدِّم بعد قراءة هذا الكتاب تحثُّه على كتابة هذا التقديم، وتحبِّبها إليه وتيسِّرها له، بحيث إذا امتنع عنها اعتبر نفسه مقصِّرًا في أداء حقٍّ وإبداء مشاعر وانطباعاتٍ وحاجة في نفس يعقوب ما قضاها، وذلك هو التقديم الطبيعيُّ المنصف الذي له أثره وفائدته»([3]).
ويلخص الأستاذ عباس العقاد، وهو من أكبر أدباء العربية وأبرز كتَّاب المقدمات لعصره، المقصود الأعظم من تقديم الكتب بعبارة وجيزة في مقدمته لكتاب «ثورة العصر» لهيوسيتون واتسون، فيقول: «والمقصد الطبيعي من كل مقدمة تُكتب لرسالة في الموضوع أن نرى ما أضافته هذه الرسالة لهذا البحث الجديد، ونعرف ما هو السهم الذي اشترك به مؤلفها»([4]).
ولا يمكن أن يحرِّر المقدِّم قيمة الكتاب العلمية، ويُبِين للقارئ عن مقدار سُهمته في إثراء الموضوع الذي يعالجه، ويضعه موضعه اللائق به بين الكتب المؤلفة في بابه، ما لم يكن عارفًا بمجاله، ممتلئًا منه، مطلعًا على مصادره.
ومن المقدمات النبيلة الدالة على تعظيم شأن التقديم من هذه الجهة ورعايتها حق رعايتها، ما كتبه الشيخ مصطفى عبد الرازق في تقديمه لكتاب «الورد الصافي لطالب العروض والقوافي» لأحد مدرسي العروض بالمعاهد الأزهرية: «طلب إليَّ فضيلة الأستاذ الشيخ مصطفى الصاوي المدرس بمعهد القاهرة أن أكتب مقدمة لكتابه في العروض، ومع أني درستُ العروض، وحفظتُ في عهد الطلب بعض متونه المشهورة، وأدَّيتُ فيه امتحانًا في العالمية بنجاحٍ منذ عهد، ومع أني أقول في شبابي شعرًا، ولا أزال أميِّز الشعر والمنثور، ولكني أعترف أني لست عروضيًّا بالذوق، ولا أعتبر نفسي فنيًّا في العروض، وإذن فإن من الجرأة أن أضع مقدمة لكتاب رجل فنيٍّ يشتغل منذ سنوات كثيرة بتدريس العروض …»([5]).
والمتأمل في كثير مما يُكتَب من المقدِّمات للكتب يجده كما قال الدكتور محمد رجب البيومي في مقالته «أمانة الكلمة في مقدمات الكتب»: «يميل إلى الإسراف في الثناء، ويتحدث عن المؤلف أكثر مما يتحدث عن الكتاب، مع أن مهمة المقدمة الأولى هي تسليط الضوء على ما جاء بالكتاب من إضافاتٍ جديدة لا توجد في سواه، فإذا تعذرت هذه الإضافات فمجال الحديث يتجه إلى أهداف الكتاب ومنهجه الفكري ومنحاه التعبيري، وقد يخالف المقدِّم صاحب الكتاب في بعض آرائه فيشير إلى وجهة نظره دون حرج»([6]).
وفي معاناة التقديم للكتب ولأوائها يقصُّ علينا الأديب الحجازي الشهير حمزة شحاتة نبأه معها، ويشير إلى وظيفة التقديم المثلى وصلة المقدِّم بالقارئ، في تقديمه الظريف لكتاب «شعراء الحجاز في العصر الحديث» لبلديه عبد السلام الساسي: «والقارئ لا شكَّ يعلم أن من مصطلح أدب التقديم الذي جرى فيه الناسُ على مألوف العادة والعُرف أن يكون تنبيهًا عريضًا إلى المحاسن، وإعلانًا عنها ولها، وإشارةً مجملةً إلى نقائضها وأضدادها لا تخرج عن نافلة الاستبراء بحركةٍ أو بحركتين إن رؤي أن هذا ضروريٌّ لإثبات الأمانة!
وهذا -ولا أكتم القارئ- مزاجٌ ثقيلُ الوطأة على مزاجي وعقلي، أو هو امتحانٌ عنيفٌ لطبيعتي بما لا تواتيني عليه. فما يسهل عليَّ أن أنزل منزلة المُعْلِن أو قارع الجرس أو السِّمسار يروِّج السلعة بالباطل أو بما يدخل تحته من صور الحق والجد المصنوعة الجاهزة للطلب!
وإني لأعرف كما يعرف أيُّ عاقل من القراء -فما يعنيني غيرهم- أن الجيد إعلان ذاته، فحسبه من الداعي إلى الإقبال عليه التنبيه الرصين أو الإشارة المجملة، أما الرديء فهو أخلق بطول الكلام عنه وفيه وحوله من الناقد أو العارض أو المقدِّم.
والمقدِّم -وهو هنا أنا إذا كان القارئ لا يعلم- وسيطٌ بين الشاعر وقرائه، فأول ما ينبغي أن يتصف به أمانة الوسطاء في دفع أسباب الخداع والتضليل، ووضوح البراءة منهما، ويشهد القارئ الجادُّ أني فعلتها بما قلت، وإن كنت لم أفتح الباب على مصراعيه، واعتمادًا على فطنة الناس وزكانتهم.
ولقائلٍ أن يقول: ولكن الناس يعرفون -أو هذا هو المفروض فيهم-، فما ضرورة تنبيههم إلى المساوئ؟ أو يجهلون، فما حكمة أن تفتح عيونهم على ما يسوء ويعثى؟ والردُّ على هذا يتلخص في أن الإنسان الطبيعي إنما يستهدف حتى من تحمل الخبر الخالص نفعًا لنفسه، ولو جاء هذا النفع من باب اللذة والارتياح. وإذن، فلا أقل لمن يقدِّم مجموعة من الشعر -كهذه- من أن يدفع التهمة عن رأيه وفطنته وبصره، وإلا كان قارع جرس، أو حامل طبلة، أو سمسارًا.
وما أحسب أن الجامع يبطن الرضاء لي بهذه المنزلة، وعلى أعين القراء وأسماعهم، وفي هذا المقام الذي لم يحملني على التعرُّض لأذاه المؤكد إلا هو ومن استعان بهم عليَّ.
نعم، إنه لذلك كان شرُّ ما في الدنيا صداقة جامعي الشعر وحاشدي الشعراء!
أو هبني بائع دابة سليمة، فما يكون اشتراطي العيب فيها تفاديًا لاحتمالات السوء الممكنة، وأخذًا بخطة الحزم في سد باب الذرائع؟! فهذا ما آثرته لنفسي على بينة»([7]).
ومن المقدمات الجياد المحققة لوظيفة التقديم على الوجه الأمثل مقدمة شيخ الأزهر مصطفى المراغي لكتاب «صلة الإسلام بإصلاح المسيحية» لأمين الخولي، فقد أحسن التعريف به، والعرض لموضوعه، والإشارة إلى محاسنه، ومناقشته في بعض ما ذهب إليه، فجاءت كما قال مؤلفه: «أَلِفَ الناسُ من هذه المقدمات ما هو التقريظ أو ما يشبهه، لكنما أراد الله أن تكون هذه المقدمة مثلًا من حرية الفكر ونزاهة النظر الديني في مناقشة مولانا الأستاذ الأكبر لنتائج هذا البحث بما تركتُه بين يدي القارئ دون تعليق»([8]).
ويتفاوت المقدِّمون في إجادة تقديمهم لكتب غيرهم، بحسب منازلهم من التحري والتثبت، والعلم والمعرفة، والبصر والعناية بموضوع الكتاب خاصة، فمنهم الظالم لنفسه المتكلف ما ليس له به شأن، ومنهم المقتصد القائم بحق التقديم كما ينبغي له، ومنهم السابق بالإحسان الذي ربما كانت مقدمته أهمَّ من الكتاب الذي يقدِّم له وأكثر غناءً ونفعًا، ومن أولئك السابقين الأستاذ عباس محمود العقاد، كما أشار لذلك أخي الأديب المثقف المتفنن الشيخ عبد الله الهدلق، وأخبر أنه ذكره للشيخ العلامة بكر أبو زيد فأعجبه، وقد أسف على إكثاره من كتابة المقدمات في آونته الأخيرة([9]).
وللناس في طلب التقديم لكتبهم مآرب شتى، كما يقول الشيخ علي الطنطاوي: «لقد كتبتُ مقدمات لأكثر من أربعين كتابًا، من مؤلفيها من هو مبتدئ يعتمد على مقدمتي ليقوم فيرى الناس كتابه، ومنهم من هو مثلي لا يحتاج إليَّ ولكن ينوِّع مائدته حين يضع مقدمتي مع كتابه، ومنهم من هو أفضل مني ولكنه كرَّمني حين جعلني أقدِّم كتابه للناس وكتابه متقدِّمٌ بلا تقديم»([10]).
وما زال الكتَّاب يغالون في طلب تقديم الكبار لمؤلفاتهم، ويتماوتون عليه؛ لتلك الأسباب وغيرها، وربما أظهر بعضهم عيبه والأنفة منه ثم لم يلبث أن سعى إليه! كما وقع للأديب المشاكس حبيب الزحلاوي([11])، فقد كتب مقالة عن مغالاة أدباء الشباب في استكتاب الشيوخ مقدماتٍ لكتبهم، ومغالاة الشيوخ في مدحهم، قال فيها: «من يطالع الكتب التي يكتبها أدباء الشباب يجدها مصدَّرة بمقدماتٍ تلفت النظر، لا في خروجها عن المألوف في مقدمات الكتب السابقة لعصرنا الحاضر، ولا في التزام أساليب الغربيين ومحاكاتهم في تقديم الكاتب وتعريف مضامين مؤلفه، بل لظاهرة المغالاة العجيبة وعدم الصدق في القول الذي لا ينطبق لا على الكتاب ولا على كاتبه.
والذي يسترعي انتباه الناقد في هذه المقدمات أنها مكتوبةٌ بأقلام طائفة محصورة العدد، محدودة الغاية، مبنية أغراضها على إيهام الناس بأن بين أفرادها ترابطًا وتساندًا، وأنها مغمورة في مواهبها وكفاءاتها ونبوغها.
ما بالك وقد توهموا في تقارض المديح، وتبادل الثناء، والإشادة بالفضائل، وتعداد المواهب، وإضفاء النعوت والألقاب، ما يغني عن الخصائص الجوهرية التي لا بد للأديب منها.
ما بالك بهم وقد توهموا اعتباطًا أن مقدمات الكتب وحشوَها بما لا يحصى من أوصاف النبوغ والعبقرية تكفي للهيمنة على عقول القراء واجتذابها إليهم وتحويلهم عن قراءة كتب أدباء الشيوخ المعروفين.
لو كانت الأوصاف والمزايا والنعوت التي يسبغها الواحد على الآخر من هؤلاء المؤلفين صادقةً وصحيحةً لهان الأمر وكان لهم ما يبرر تمادحهم وتقارظهم، إنما تأخذك الدهشة حين لا تجد في متن الكتاب نبوغًا ولا عبقرية ولا شيئًا مما قالوه في المقدمة، بل يخيَّل إليك أنك ترى جسم قزمٍ يتدثر جلباب عملاق، فيغلبك الضحك والهزء والسخرية»([12]).
وقد أخذتنا الدهشة حين لم يمض غير يسير ورأينا هذا الكاتب يسعى إلى العقاد ليقدِّم له كتابه «شعاب قلب»! وقد صدر بتقديمه، وستراه في موضعه «مقدمات العقاد».
ولئن كان استكتاب التقديم سائغًا لمصلحة فإن الإلحاف في طلبه لا يليق بغنيٍّ ذي مرَّة، وما رأيت رسائل العلامة عبد الله الطيب الملحَّة على طه حسين لتقديم كتابه الفحل «المرشد» وتملُّقه له وتهالكه عليه([13]) إلا أدركتني غصَّة.
ولم أر العقاد أصدر شيئًا من كتبه بتقديم أحدٍ من رفاقه أو كبار أهل عصره، من مبتدأ أمره وأول عهده بالكتابة إلى آخر عمره، إلا كتابًا واحدًا قدَّم له أنور السادات على غير اختيار من العقاد فيما أحسب، وهو كتاب «حقائق الإسلام وأباطيل خصومه» الذي نشره المؤتمر الإسلامي بالقاهرة سنة 1957، وكان السادات سكرتيرًا عامًّا له، وقد جاء تقديمه رسميًّا وظيفيًّا لبيان فكرة الكتاب والثناء على العقاد وسبب انتدابه لتأليفه، ومما قاله فيه بعد الإشارة إلى ظاهرة النيل من الإسلام والتشكيك فيه بدعوى حرية الفكر، والتأكيد على أن الحرية تتطلب غزارة المعرفة، واتساع الأفق، وعمق البحث، وسلامة المنطق، ونصاعة الحجة، وإيمان القلب، وإنصاف الرأي، واستقامة المذهب، والتنزه عن الهوى : «ولما كان محل اتفاقٍ أن الأستاذ عباس محمود العقاد موفور النصيب من هذا كله كان طبيعيًّا أن يتجه التفكير إليه، وكان طبيعيًّا أن يرتاح هو إلى هذا الاتجاه؛ لما أخذ نفسه به من مؤازرة الحق وتأييده، ومقاومة الباطل وتفنيده».
وإذا لم يكن المقدِّم عارفًا بالكتاب الذي سيقدِّم له، مؤمنًا بقضيته، جاء تقديمه فاترًا لا روح فيه، قاصرًا عن عرض فكرته كما ينبغي له، فضرَّ من حيث رام نفعًا، ومن البر ما يكون عقوقًا، ومن ذلك ما وقع في تقديم الأستاذ أحمد أمين لكتاب «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين» للشيخ أبي الحسن الندوي الذي أخبر أنه كان يشعر «كما كان يشعر كثيرٌ من قراء هذا الكتاب أن مقدمة الدكتور أحمد أمين رحمه الله أضعفت من قيمة هذا الكتاب، فلم تُكتب عن اندفاع وحماس، إنما كُتِبت أداءً للواجب، أو إجابةً للطلب، وكان صاحبها لا يؤمن بفكرة الكتاب الأساسية، أو على الأقل لا يتحمَّس لها. وقد علَّق عليها المرحوم الملك عبد الله بن حسين ملك المملكة الأردنية الهاشمية حين قرأ هذا الكتاب بقوله: إن هذه المقدمة قد أساءت إلى هذا الكتاب! ولا ذنب على المرحوم الدكتور أحمد أمين؛ فإن له منهجًا خاصًّا في التفكير والكتابة، وليس في استطاعة كل أديب أو باحث أن يتذوَّق موضوع كل كتاب يقدِّم له وأن يتحمَّس له»([14]).
وذكر في موضع آخر أن مقدمة الأستاذ أحمد أمين «كان فيها شيءٌ من الفتور والبرودة أثَّر في قيمة الكتاب في عين من يعتمد على المقدمات والتقديمات أكثر مما يعتمد على الكتاب»([15]).
وأخبر في موضع ثالث أنه ما حمله على أن يطلب منه تقديم كتابه إلا اعتقاده أنه «من أحقِّ الكتاب والأدباء بمصر وأولاهم بكتابة هذه المقدمة لهذا الكتاب، وأن موضوع الكتاب وفكرته توافق ذوقه وعقيدته، فيكتب عن هوًى ونشاط وعقيدة وبدافع نفسيٍّ، ولكن لم تُرْضِ هذه المقدمة كثيرًا من الأصدقاء، ويعتقدون أنها لم تحسن إلى الكتاب ولم تخدمه، بل قلَّلت من قيمته، ولكن ليس الذنب على الأستاذ أحمد أمين؛ فإن الكاتب والأديب لا يكون نشيطًا في كل وقتٍ ومتحمسًا في كل موضوع، إنما الذنب على من يؤمِّل من بعدُ آمالًا كبارًا، إذًا فلا شكوى ولا عتاب»([16]).
ومن طريف ما يتصل بشأن التقديم للكتب والمؤلفات النظر الفقهي في حكم بذل المال لمن يقدِّم الكتاب ويقرِّظه، وفي ذلك محاضرةٌ للدكتور رفيق المصري ذات شجون([17]).
وقد ذكر محمد كرد علي عن أنستاس الكرملي أنه كان «يُصْلِح لبعض علماء المشرقيات بعض أبحاثهم وكتبهم، ويأخذ منهم ما يرتفق به. وليس هذا ما يؤاخذ عليه. وهو يؤاخذ عندما بالغ في مجلته برفع شعر أحد شعراء الناشئين فوق شعر أكبر شعراء العصر، وبالتنويه بمعجم هو يعترف أن كل صفحة من صفحاته لا تخلو من عشرات الأغلاط، وذلك مقابل مبلغ من المال تقاضاه من الشاعر والمؤلف حتى يمدح عملهما بما لا يستحق. وجرى في ذلك على طريقة الصحف الفرنسية في التنويه بمؤلفين متوسطين ومؤلفات حقيرة مقابل دفع شيء للكاتب والناشر. وفي ذلك افتياتٌ على العلم وغمطٌ لحقه.
وكان يعجب من خطتي في تطلُّبي نقد ما ألَّفتُ ونشرتُ، ويقول: لم أر في الشرق والغرب من جرى على هذه الطريقة؛ فقد جرت عادة المؤلفين في الأكثر أن يتطلبوا تقريظ كتبهم، ويسوؤهم أن تُنْـتَقد»([18]).
كما عاب على شكيب أرسلان أنه كان «يتصرف على مجاملته لأرباب الصحافة مجاملته لبعض المؤلفين، ومنها مصانعته في تقريظ كتب المعاصرين، وهي لا تستحق التنويه؛ لأنها منقولة من الكتب، وليس فيها رأي المؤلف. وبذلك أضعف أيضًا من مكانته الأدبية أو كاد. والعلم أشرف من أن يُمْسَخ جمالُه في إرضاء من يتطلبون الإشادة بهم بالباطل»([19]).
وكتب أمين الخولي متبرئًا من هذه الخطة في تقديمه لكتاب «صاحب الأغاني أبو الفرج الأصبهاني الراوية» لتلميذه محمد أحمد خلف الله: «هذه كلمةٌ ليست من التقريظ القديم، ولا من التزكية الحديثة التي يلتمسها صاحبٌ مطبوع ليتأثر بها قارئه، أو بعبارة أصرح: ليتأثر بها مشتريه! ولن تكون كذلك؛ لأن القلم العريان الذي كتبها لا يحسن أن يستر نفسه في هذا السبيل، ولأن من كُتِبت عنه قد مرنته الأحداث على ألا يكوِّن رأيه في نفسه من رأي الناس فيه»، ثم مضى في إغداق الثناء على تلميذه والإشادة بنضاله إلى آخر التقديم! وفتنة الأشياخ بتلاميذهم كفتنة الآباء بأبنائهم أو أشدُّ فتنة!
ومن لطائف صور التقديم: تقديم الزوجة لزوجها، والتلميذ لأستاذه، والأب لابنه.
فمن الأول: تقديم الأديبة الشاعرة ملك عبد العزيز كتاب زوجها الدكتور الناقد محمد مندور «نماذج بشرية» الذي حرص على أن تتولى هي إظهار ما في كتابه من جهد مستور وصنعة خفية لم يحسَّ به أحدٌ كما أحسَّت به، «وتلك ولا ريب سنَّةٌ قد تبدو جديدة، ولكنها سنَّةٌ خيِّرة» كما يقول([20]).
ومن الثاني: صنيع أمين الخولي حين عهد إلى أحد طلابه -وهو عبد الحميد يونس- تقديم أماليه «في الأدب المصري»، وقال في رسالة بعثها إليه: «… لا أزال على رغم ذلك كله عند رأيي الذي أبديتُ لك بشأن مقدمة “الأدب المصري” ألا يكتبها إلا شابٌّ مؤمنٌ بهذه الدعوة مرجًّى لتحقيقها.
لقد صارت المقدمات يا صديقي صورةً من التقريظ القديم، أو الإعلان الحديث يُلْتَمس منه الرَّواج في صورةٍ من صوره: مالًا يُكتَسب أو شهرةً تذيع، وما أهون ذلك! أما المال فليس العلم سبيلًا ميسرًا إليه، وأما الأخرى فقد استروحت إلى النجاة من هواها.
أي صديقي، إذا ما كانت المقدمة تحليلًا لكتاب، وعرضًا لفكرة، فمن أحقُّ بكتابتها ممن كُتِب من أجله الكتاب وأُلْقِيَت إليه الفكرة؟!»([21]).
ومنه طلب الزيات من د. نعمات فؤاد أن تقدِّم لكتابه «دفاع عن البلاغة»، وهي كما تقول: «رغبةٌ رائدة؛ فقد جرت العادة أن الأستاذ يقدِّم للتلميذ لا العكس». وكان الشاعر عزيز أباظه يقول لها: إنَّ طلب الزيات صاحب «الرسالة» منك كتابة مقدمة لكتابه أكبر من أي دكتوراه، إنني لو سئلتُ أمنية في حياتي لتمنيتُ أن يطلب إليَّ الزيات مثل هذا الطلب، كتابةُ مقدمة للزيات أمنية الأديب([22]).
ومن الثالث: تقديم الدكتور محمد رمضان البوطي لكتاب «التصوير بين حاجة العصر وضوابط الشريعة» لابنه محمد توفيق، وقال في تقديمه: «وأحبُّ أن يعلم القارئ أنني لم أدفع ابني هذا إلى أي أسبقياتٍ في الرأي أو الحكم، بل لم أشأ أن أقدِّم له أيَّ عونٍ علميٍّ على طريق إنشائه لهذا البحث، فضلًا على أن أوافق على أي إشرافٍ رسميٍّ أو غير رسميٍّ مني عليه، وعندما سألني عن المشرف الذي يمكن أن أختاره له أشرت عليه بأخي الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي. ولما أنجز بحثه وتقدم به إلى جامعة الأوزاعي للمناقشة والحكم لم أشأ أن أحرج نفسي أو أحرجه بقراءة لأيِّ فصل منه أو لأيِّ مسألة فيه، وربما كان يطمع بشيء من ذلك إن للاستدراك أو التشجيع. آثرتُ ذلك كله كي لا يتخيل متوهِّمٌ أنني قد جنَّدتُ ابني لينتصر لرأي كنت قد أعلنته وتبنَّيته، أو أنني بصَّرته بالمذهب الأمثل أو لقَّنته الحجج الدامغة …»([23]).
* * *
* المقدمات المعاصرة المجموعة :
شاعت كتابة المقدمات الغيرية للكتب مطلع النهضة العلمية الأدبية المعاصرة على نمط التقديم المعروف في الأدب الغربي كما تقدم، وأضحت لونًا من ألوان الحياة الأدبية التي ترتبط بكتَّابها وتؤلف بعضًا من تراثهم([24])، وكان من الحكمة وصواب التدبير أن يُجْمَع متفرِّقها ويعتنى بها وتيسَّر الإفادة منها للدارسين، وهي كما أسلفنا درجاتٌ بعضها فوق بعض في الغناء والفائدة.
ولعل أول من استفتح الباب في هذا اللون الأدبي هو الدكتور شكري فيصل بما جمعه من مقدمات الدكتور طه حسين وسماه «كتب ومؤلفون» ونشره مطلع سنة 1980، ثم تلاه في ذلك العام نشر مقدمات المحدث محمد يوسف البنوري في كراتشي بباكستان، وسماها جامعها محمد حبيب الله المختار «المقدمات البنورية»، ثم تتابع جمع المقدمات لعدد من العلماء والأدباء والمشتغلين بشؤون الفكر.
وهذا ثبتٌ بما علمت صدوره من المقدمات المجموعة مرتبة بحسب تواريخ نشرها:
- مقدمات طه حسين، «كتب ومؤلفون»، دار العلم للملايين، يناير 1980م([25]).
- مقدمات المحدث محمد يوسف البنوري، «المقدمات البنورية»، المكتبة البنورية، كراتشي، 1980م.
- مقدمات الشيخ علي الطنطاوي، دار المنارة، جدة، 1997م.
- مقدمات الشيخ محمد زاهد الكوثري، وفيها مقدمات الكتب التي حققها أو قرَّظها أو عرَّف بها، دار الثريا، دمشق، 1997م.
- مقدمات الدكتور غالب غانم، ضمن كتابه «أبعد من المنبر»، دار النضال، بيروت، 1998م.
- مقدمات الشيخ زهير الشاويش، «المقدمات لمطبوعات المكتب الإسلامي»، المكتب الإسلامي، بيروت، 2001م.
- مقدمات توفيق بكار، دار الجنوب، تونس، 2002م.
- مقدمات الدكتور عباس الجراري، «كلمات تقديم»، ستة أجزاء، منشورات النادي الجراري، الرباط، 2006- 2019م.
- مقدمات محمد مهدي الموسوي الخرسان، «مقدمات كتب تراثية»، مكتبة الروضة الحيدرية، النجف، 2006م.
- مقدمات الدكتور شاكر الفحام، ضمن آثاره «القطوف الدانية»، وزارة الثقافة، الهيئة العامة السورية للكتاب، 2007م.
- مقدمات الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، دار ابن الأثير، الرياض، 2008م.
- مقدمات الأستاذ عبد الله عبد الجبار، ضمن أعماله الكاملة، دار الفرقان، جدة، 2008م.
- مقدمات الطيب صالح، «مقدمات لدواوين شعر وكتب»، دار رياض الريس، بيروت، 2009م.
- مقدمات الدكتور حسن الوراكلي، الجزء الأول- مطابع الشويخ، تطوان، 2009م، الجزء الثاني- مطبوعات ندوة زمزم الجمعية، تطوان، 2012م.
- مقدمات الشيخ أبي الحسن الندوي، وفيها مقدماته لكتبه وكتب غيره، دار ابن كثير، دمشق، 2010م.
- مقدمات الأستاذ عمر عبيد حسنة، ضمن أعماله الفكرية الكاملة، المكتب الإسلامي، بيروت، 2011م.
- مقدمات الدكتور يوسف بكار، ضمن كتابه «معهم.. مقدمات وندوات وشهادات»، دار فضاءات، عمَّان، 2012م.
- مقدمات الدكتور عيسى عاكوب، ضمن كتابه «أوراق من دفتر الروح»، وزارة الثقافة، الهيئة العامة السورية للكتاب، 2012م.
- مقدمات الدكتور يوسف القرضاوي، دار المقاصد، القاهرة، 2015م.
- مقدمات الدكتور محمد الزحيلي، ضمن كتابه «المقدمات الممهدات للكتب والرسائل ووقائع المؤتمرات»، دار العصماء، دمشق، 2015م.
- مـقـدمـات الـدكـتـور مـيـشـال خـلـيـل جـحـا، دار نلسن، بيروت، 2015م.
- مقدمات الشيخ حسن الصفار، ضمن كتاب «ظاهرة التقريظ والتقديم في الأدب العربي، الشيخ الصفار نموذجًا»، 2015م.
- مقدمات الشيخ محمد الأمين بوخبزة، «المجموع الثمين لمقدمات الشيخ العلامة أبي أويس محمد بن الأمين بوخبزة الحسني للمؤلفين والمحققين»، 2016م.
- مقدمات الدكتور حسن البياتي، «مقدمات وإشارات تعريفية بآثار إبداعية ومعرفية»، دار الفارابي، بيروت، 2017م.
- مقدمات العلامة عبد الله كنون، مطبوعات ندوة زمزم الجمعية، تطوان، 2018م.
- مقدمات العلامة تقي الدين الهلالي، ضمن «مقالات السير والتراجم والمناقب ومقدمات الكتب والتقاريظ»، دار المقتبس، بيروت، 2019م.
- مقدمات الشيخ عبد الله السعد، المجموعة الأولى، قسم العقيدة، من «جامع الرسائل والمقدمات»، مركز رسوخ، الرياض، 2019م.
ولا أدري لم تأخر أصحاب العقاد ومحبُّوه عن جمع مقدماته على كثرتها وغزارة ما اشتملت عليه من أدب وفكر ومعرفة ذات أفنان ستظهر عليها فيما تستقبل من هذا الكتاب إن شاء الله.
وليس من الباب الذي نحن فيه جمع مقدمات المؤلفين والمحققين لكتبهم وتحقيقاتهم وما في حكمها، سواءٌ كان الجامع لها المؤلف كما فعل أنيس منصور في كتابه «كل معاني الحب»، أو غيره كما جُمِعت مقدمات المعلمي، والسيد أحمد صقر، ومحمد الغزالي، ومصطفى السباعي (مقدمات مجلة حضارة الإسلام)، وطارق البشري (مقدمات حولية أمتي في العالم)، وغيرهم.
* * *
* المقدمة العقادية (موضوعاتها، معالمها، حصرها):
تنوَّعت موضوعات الكتب التي قدَّم لها العقاد ما بين ديوان شعر، وقصة، ورواية، ومسرحية، ودراسة نقدية، ومقالات مجموعة، في فنون اللغة، والأدب، والاقتصاد، والسياسة، والتاريخ، والتراجم، والرحلات. وما بين نصوص عربية أصيلة، ونصوص مترجمة عن اللغات الإنجليزية والروسية والهندية وغيرها. وهي تعكس تنوع معارفه، ووفرة موارده، وتشهد بسعة دائرته في الاطلاع على العلوم والآداب، ومشاركته القوية فيها.
ولم أقف له على تقديم لشيء من كتب التراث، إلا ما كان من تقديمه لما اختاره كامل كيلاني من ديوان ابن الرومي، وذلك بخلاف بعض معاصريه، كطه حسين الذي قدَّم لعدد من النصوص التراثية، كرسائل إخوان الصفا، و«المحكم» لابن سيده، و«الذخيرة» لابن بسام، و«سير أعلام النبلاء»، وغيرها مما أشرف على تحقيقه أو طبع أثناء توليه الإشراف على معهد الدراسات العربية. وليس ذلك من العقاد عن هجرٍ لكتب التراث أو ملالة، فإن له رؤية معتدلة في كفاية التراث العربي وغنائه وسبل إحيائه بسطها في عدد من مقالاته.
وتنوَّعت صِلاته بأصحاب تلك الكتب، فمنهم الصديق، كإبراهيم المازني. والمريد، كنظمي لوقا. والقريب، كعلي أدهم. والبعيد، كميخائيل نعيمة. والعربي، كعبد المحسن الكاظمي. والأعجمي، كشكسبير.
وفي مقدمات العقاد مادة تاريخية ومعرفية مجهولة تتصل بحياته وآرائه وتطوره الفكري، ومواقفه من قضايا الأدب والسياسة والاقتصاد، ونقده للكتب والمؤلفين والمذاهب.
ومن فوائدها التعريف ببعض الأعلام المغمورين الذين نسيهم الناس على جلالة منازلهم وعظيم آثارهم، كالشاعر علي شوقي الذي يرى العقاد أنه كان «نسيج وحده في نهضة الإحياء العربية، وكان خليقًا بديوانه أن يشغل بين الدواوين المنشورة مكانه الذي لا يغني عنه غيره».
وقد جاءت عامة المقدمات التي كتبها العقاد بطلب مباشر من مؤلفيها، وهي أكثرها. أو أهليهم، كما في «قصص روسية» لمحمد السباعي. أو ناشريها، كما في سلسلة «كتب الناقوس» التي كان يصدرها صديقه صبحي جريس صاحب مكتبة الإنجلو، وهي أطول مقدماته وأوعبها، وسلسلته الأخرى «من مكتبة جدي» المنشورة تحت عنوان «حول مائدة المعرفة»، وهي سلسلة تعريفية بأشهر الكتب العالمية الحية التي عاشت قبل العصر الحاضر أجيالًا ولم تزل، مترجمة عن ندوات حوارية تلفزيونية أجرتها مؤسسة كولومبيا الأمريكية، وتولى العقاد رياسة لجنة الترجمة وقدَّم لكل كتاب منها معرِّفًا به ومبينًا لقيمته وأثره مقدماتٍ ماتعة تنضح بخلاصات معارف العقاد وصحبته الطويلة للآداب والفنون، كتبها في آخر حياته بعد أن جاوز السبعين من عمره.
والمتأمل في تواريخ مقدمات العقاد يرى أن معظمها كُتِب في الثلث الأخير من حياته بعد بلوغه الخمسين (1939- 1964م)، وهي أخصب سنوات عمره وأكثرها إنتاجًا وتأليفًا.
ولم يكتب قبلها إلا سبع مقدمات فيما وقفت عليه، ومن أهمها مقدمته لكتاب «الغربال» لميخائيل نعيمة سنة 1923م الذي حكى حكايتها في سيرته الذاتية «سبعون»، وأخبر أن محيي الدين رضا ودَّ لو نشر له كتابًا يضم مقالاته، فأرسل له نعيمة طائفة منها وسأله أن يكلِّف العقاد وضع مقدمة لها، فجاء جواب رضا: «إني أحسُّ رغبة من العقاد في ذلك، وأظنُّ أن إرساله إليك كتابه الفصول هديةً هو أكبر دليل على هذه الرغبة، وأريد أن أقول لك بالسرِّ إنه قال لي: إنه يرى فيك نبوغًا على جميع إخوانك وعلى جبران أيضًا …»، فأنس نعيمة بذلك وكتب للعقاد يطلب منه تقديم كتابه، فأجابه العقاد من أسوان في 26 مارس سنة 1923 بعد كتابته المقدمة بيومين: «حضرة الأخ الفاضل الجليل، تلقيتُ خطابك شاكرًا مسرورًا، وزادني شكرًا لك وسرورًا بخطابك أن عهدت إليَّ بكتابة مقدمة الغربال، فإنها أريحيةٌ منك ومودةٌ كريمة. وقد قلتَ في خطابك اللطيف: إنك تعهد إليَّ بهذا الواجب الأدبي؛ لتريني كيف لا تعدُّني غريبًا ولا بعيدًا. وإنني أقول: إنني مغتبطٌ بهذه الروح الأخوية السمحة، بل إنني كنت أستحلُّ لنفسي العتب عليك لو خطر لك تكليفي كتابة المقدمة ثم عدلتَ عن ذلك لأي اعتبار؛ فإني كنت حقيقًا أن أعدَّ ذلك العدول ضربًا من سوء الظن الذي تحاسَب عليه كلُّ نفسٍ كنفسك تضع الآداب الحقيقية فوق الآداب التقليدية الخاوية.
وقد كتبتُ المقدمة وأرسلتها إلى محيي الدين أفندي بعد أن قضيتُ ساعات ممتعة في مطالعة آرائك الناضجة، وكانت هذه المطالعة خير الزاد في هذه البلدة النائية من صعيد مصر التي قصدتُ الإقامة فيها في إبان الحوادث المضطربة ريثما تتغير الحال، فحضرت إليها مصطحبًا مقالاتك القيمة، ولم يكن لي من مادة قراءة غيرها قبل وصول كتبي، فشكرًا لك أيضًا على ما أتحته لي من هذه الفرصة المقدورة»([26]).
* * *
ومن أبرز معالم المقدمة العقادية:
- الحديث عن موضوع الكتاب ومباحثه إجمالًا دون الدخول في تفاصيله.
وقد أكَّد هذا في مواضع كثيرة من مقدماته، كقوله في مقدمته لكتاب «ثورة العصر» لواتسون: «وليس من عملنا في مقدمة هذه الرسالة أن نلمَّ بوسائل الثورة وتنظيم حركاتها»، وقوله فيها أيضًا: «ونحن في هذه المقدمة لا نستقصي ولا نفصل، ولكننا نعرض الآراء عرضًا عابرًا ونناقشها مناقشة سريعة بما يسمح به المقام من الإيجاز والإجمال»، وقوله في مقدمته لكتاب «مستقبل روسيا» لشابيرو: «وهذه عقيدةٌ ضالةٌ لا محلَّ لمناقشتها وتفنيدها في هذه المقدمة، وقد عرضنا غير مرة لنقدها وتفصيل أخطائها حيث تناولنا مذهب كارل ماركس بالتفصيل والتعقيب».
- وصف عمل المؤلف أو المترجم ومنهجه الذي سار عليه.
وتطبيقه لهذا متفاوت بين مقدماته، ومن خير أمثلته كلامه عن كتاب «صقر قريش» لعلي أدهم.
- بيان الإضافة العلمية للكتاب وسهم المؤلف في إثراء موضوعه.
وقد التزم بذلك في عامة مقدماته، وقرر ذلك بقوله في مقدمة كتاب «ثورة العصر»: «والمقصد الطبيعي من كل مقدمة تُكتب لرسالة في الموضوع أن نرى ما أضافته هذه الرسالة لهذا البحث الجديد، ونعرف ما هو السهم الذي اشترك به مؤلفها».
- الثناء على مظاهر الإجادة والتنبيه إلى مواضع الضعف.
وهو حريص على ذلك خاصة في كتب ناشئة الأدب ومن في حكمهم، نصحًا لهم وللقارئ وإرشادًا، كما تراه في مقدمته لكتاب «شعاب قلب» لحبيب الزحلاوي وغيره. وربما اقتصر أحيانًا على الثناء والإعجاب في حق كبار الأدباء من الراحلين، كتقديمه لديوان الكاظمي، ولقصص روسية لصديقه محمد السباعي، وغيرها.
- مناقشة المؤلف في بعض ما ذهب إليه من آراء.
وهذا ظاهرٌ في كثيرٍ من المقدمات، كمقدمة كتاب «الغربال» لميخائيل نعيمة، وغيره.
- إثراء فكرة الكتاب وموضوعه بخلاصات معرفية وأنظار تأملية.
كحديثه عن القصة وفلسفتها وأنواعها في مقدمته لكتاب «المغفل وقصص أخرى» لعبد الله حبيب، وقد أصَّل لذلك بقوله في تقديمه لكتاب «مستقبل روسيا» لشابيرو: «ونحن لا نقدِّم لهذه الرسائل لنؤيد مؤلفيها في آرائهم، أو نرجح وجهة نظرهم على غيرها من وجهات النظر المتضاربة، ولكننا إنما نقدم لها لنحيطها بإطار من الآراء المتداولة في موضوعاتها، والآراء التي يلوح لنا أنها أدنى من سواها إلى القبول ومطابقة الأحوال، ثم يأتي رأي مؤلف الرسالة بوجهة نظر من وجهات نظر شتى يقرنها من شاء بما عداها ليرجح ما شاء بين مذاهبها المتشعبة».
- الإشارة إلى طرفٍ من سيرة المؤلف وذكرياته معه.
وهو مصدرٌ عزيز وعالٍ من مصادر سيرته الذاتية، كما تراه في مقدمات «المكرميات»، و«أدب المازني»، و«ديوان الكاظمي»، و«ديوان علي شوقي»، و«قصص روسية» للسباعي، وغيرها.
* * *
وقد عرف الناس قدر مقدمات العقاد في زمانه، وحرصوا على أن يتوجوا كتبهم بها، لما في ذلك من الشهادة لها والتعريف بفضلها؛ إذ لم يكن ممن يلقي القول على عواهنه، ويجري القلم في ثناء من لا يستحقه.
وانظر ذلك فيما كتبه الأستاذ الشاعر أحمد رامي رئيس لجنة نشر «المؤلفات التيمورية» للعلامة أحمد تيمور باشا في صدر تقديم العقاد للموسوعة التيمورية: «تفضَّل الكاتب الكبير الأستاذ عباس محمود العقاد -وهو صاحب فضل كبير في رعاية اللجنة والأخذ بيد العاملين فيها، لتحقيق رسالتها العلمية التي تحمل لواءها لنشر الثقافة العامة- فكتب حفظه الله بقلمه تقدمة لهذه «الموسوعة التيمورية»، بما عرف هو عن صاحبها ومؤلفها من سعة العلم وبالغ الأثر في حب غرس البحث والتنقيب في نفوس الأدباء الناشئين والكتاب الباحثين، والأستاذ العقاد خير من يقدِّم لمثل هذه المؤلفات الضخمة، تقديرًا منه وتشجيعًا للعلم والأدب، وهو الكاتب الكبير الذي له أثرٌ خالد في كل ناحية من النواحي العلمية والأدبية، وفي كل دعامة من الدعائم التي وضعت ليرسي عليها بناء الأمة العربية وإعداد أبنائها للمستقبل الزاهر الباسم الذي بدت طلائعه تبشر بالاستقرار والفوز ببلوغ الآمال. ولا يسع اللجنة إلا أن تزجي لسيادته شكرها المقرون بالتقدير والاحترام، والاعتراف له بالفضل في تخليد ذكرى المجاهدين وتمجيد أعمالهم، والإشادة بأعمال المكافحين في سبيل خدمة هذا البلد الخدمة العلمية الحقة. وهذه هي الكلمة التي تفضل بها كاتب العربية الكبير …».
ومن اللطيف في معرفة هذه المنزلة للمقدمات العقادية، وموضع العقاد من البيئة العلمية والأدبية لعهده، ورأي أهل عصره فيه، تأمل الصيغ التعريفية التي وضعها له بين يدي تقديمه مؤلفو الكتب التي قدَّم لها أو ناشروها، وهي لونٌ طريفٌ لا يخلو من فائدة، كما لا يخلو من بعض المصانعة للمقدِّم؛ لمقام إحسانه وتفضله بالتقديم.
فمن نماذج ذلك ما صدَّر به أحمد عبد الغفور عطار مقدمة العقاد لكتابه «مقدمة الصحاح»: «مقدمة للأستاذ الكبير عباس محمود العقاد»، وصُدِّرت مقدمته لديوان عماد: «مقدمة بقلم زعيم المدرسة الحديثة الابتداعية عباس محمود العقاد»، وكتب حبيب الزحلاوي قبل مقدمة العقاد لكتابه «شعاب قلب»: «مقدمة بقلم الكاتب الكبير والشاعر المبدع الأستاذ عباس محمود العقاد»، وفي صدر مقدمة رواية «قيس ولبنى» لعزيز أباظه: «مقدمة للكاتب العبقري والشاعر الكبير عباس محمود العقاد»، ومن أظرف العبارات ما صُدِّرت به مقدمته لكتاب «وميض الأدب بين غيوم السياسة» لإبراهيم دسوقي أباظه: «مقدمة بقلم الشيخ المحترم الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد».
* * *
* حصر مقدمات العقاد :
ظلت المقدمات العقادية نائية عن أن ينهد لجمعها ونشرها أحد، مع تقدُّم بعض الأعمال الببليوجرافية المشيرة إلى بعض عنواناتها.
فأول من قام بذلك الدكتور عبد الستار الحلوجي في كتابه الذي نشره بعد وفاة العقاد في 12 مارس 1964م بأشهر يسيرة، وسماه «عباس محمود العقاد.. نشرة ببليوجرافية بآثاره الفكرية»، وسرد في قائمة الكتب التي قدَّم لها العقاد (21) عنوانًا.
وتلاه الدكتور حمدي السكوت في سلسلته لأعلام الأدب المعاصر في مصر سنة 1983م، فذكر في كتابه (1/227- 233) (52) عنوانًا، وتكرر فيها ذكر كتاب «مقدمة الخطر الصهيوني» مرة بهذا الاسم ومرة باسم «بروتوكولات حكماء صهيون»، كما أنه ذكر فيها كتابًا لم يقدم له العقاد، وهو «المختار من كتاب العمدة» لطاهر الجبلاوي، وإنما راجعه العقاد ولم يقدم له، فالمتحصِّل من قائمة الدكتور السكوت (50) كتابًا فقط.
وقد تيسَّر لي بفضل الله وتوفيقه أن أجمع للعقاد (99) مقدمة، اجتمعت لدي على مرِّ السنين بطول التفتيش والنظر في الفهارس واستعراض المكتبات في الحلِّ والترحال داخل المملكة وخارجها، وهي قيد الطبع في مركز «آفاق المعرفة».
وقد أرهقني الحصول على بعض المقدمات؛ لندرة كتبها وعدم إعادة طباعتها، فلم أجد «شعاب قلب» للزحلاوي و«ديوان الكاظمي» إلا في بعض المكتبات الخاصة بمركز جمعة الماجد، ولم أستطع تصوير مقدمة «هواتف وأحلام» لطاهر الجبلاوي إلا من مكتبة الأزهر، وزودتني حفيدته -مشكورة معذورة- بصورة باهتة غير واضحة من نسخة مصوَّرة للكتاب. لكن كان من وراء ذلك لطائف أخرى، فديوان الكاظمي مثلًا الذي وجدته في مكتبة الدكتور جميل صليبا الخاصة، وصوَّر لي مقدمته أخي الحبيب الشيخ عادل العوضي أكرمه الله، رأيت الدكتور جميلًا قد كتب بقلمه تعليقًا على مقدمة العقاد: «العقاد كثير الغرور بنفسه، والغرور طبعٌ منافٍ للعلم»!
* * *
([1]) ذكر السخاوي في «الجواهر والدرر» (2/712-745) طائفة من تقاريظ الحافظ ابن حجر لكتب غيره. وشواهد التقريظ في كتب التراث شعرًا ونثرًا كثيرة لا تحصى.
([2]) «عبقرية التأليف العربي» لكمال عرفات نبهان (112).
([3]) «نظرات في الأدب» (60)، و«شخصيات وكتب» (9) لأبي الحسن الندوي.
([4]) «ثورة العصر» لهيوسيتون واتسون، ترجمة محمد رفعت (26).
([5]) «الورد الصافي لطالب العروض والقوافي» لمصطفى الصاوي (5).
([6]) مجلة الهلال، يونيو 1983، ص 44.
([7]) «شعراء الحجاز في العصر الحديث» لعبد السلام الساسي (7).
([8]) «صلة الإسلام بإصلاح المسيحية» لأمين الخولي (5).
([9]) «ميراث الصمت والملكوت» لعبد الله الهدلق (46).
([10]) «أبو بكر الصديق» لعلي الطنطاوي (5). وذكر هذا المعنى في تقديمه لكتاب «قبسات من الطب النبوي» للدكتور حسان شمسي باشا (213- مقدمات الطنطاوي).
([11]) أديب لبناني كثير الخصومات، يمثل ظاهرة غريبة في الحياة الأدبية المعاصرة كما يقول وديع فلسطين في حديثه عن أعلام عصره (1/194)، عاش بمصر، ثم هاجر إلى أمريكا الجنوبية وتوفي هناك أواخر السبعينيات، ونسيه الناس.
([12]) نشرت في جريدة «المقطم»، ثم جعلها مفتتح كتابه «أدباء معاصرون» (12- 14).
([13]) «الوثائق السرية لطه حسين» (766، 769).
([14]) «شخصيات وكتب» لأبي الحسن الندوي (107).
([15]) «في مسيرة الحياة» لأبي الحسن الندوي (177).
([16]) «مذكرات سائح في الشرق العربي» لأبي الحسن الندوي (29).
([17]) «حوار الأربعاء» (423-435) مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي، العام الدراسي 1428.
([18]) «المعاصرون» (141).
([19]) «المعاصرون» (255).
([20]) «نماذج بشرية» لمحمد مندور (3).
([21]) «في الأدب المصري» لأمين الخولي (5، 6).
([22]) «قمم أدبية» لنعمات أحمد فؤاد (230).
([23]) «التصوير بين حاجة العصر وضوابط الشريعة» لمحمد توفيق البوطي (8، 9).
([24]) «كتب ومؤلفون» لشكري فيصل (7).
([25]) فاتت جامعها طائفة من المقدمات، وفي مجلة «الفهرست» الصادرة عن دار الكتب والوثائق القومية بالقاهرة، العدد السابع 2004م: «خمس مقدمات مجهولة لطه حسين» للباحث نبيل فرج.
([26]) «سبعون» لميخائيل نعيمة (2/192).
دكتورعبد الرحمن,
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بحثٌ طريف وخفيف الظل , فيه لمحات لمتطلبي التقديم وضوابط لكَتــَبَِها, راقني فأحببت التعليق بمايلي.
( جرت عادة بعض المؤلفين إلى أن يرغب إلى غيره في كتابة مقدمة كتابه؛إما لمنزلة عُرف بها المرغوب إليه أولصحبة أولتَتَلمُذ كان من المؤلف على كاتب المقدمة.أو غيرهذا من أسبابٍ يراها المؤلف.
وأرى أنَّ كتابة المقدمة لايُحسِن أحدٌ كتابتها ونسجها على حقيقتها إلا المؤلف نفسه فهي جزءٌ من الكتاب وتعبيرٌ عن جانبٍ من شخصية المؤلف ؛ وفيها وصفٌ دقيق لخطرات الفكرة مذ كانت نطفة في الذهن,فهي السيرة الذاتية للكتاب.فكما أنَّ السيرة الذاتية لأي إنسان فيها دقائق ولطائف لا يعلمها إلا صاحبها فكذلك منزلة المقدمة بالنسبة للكتاب,فهي وصف للتمنع والاستعصاء أوالاستجابة والقبول.وإبانة عن لقاح هذه الفكرة في الذهن,وتوالد الفصول والمباحث ومافيها من دقائق ومن عسرٍلولادة فكرةٍ أومن انسيابٍ لأخرى,وهذه الخطرات لا يجدها ولا يعرف بها الشخص المرغوب إليه.
ولكن إن كان لابد من مشاركة غيرك لك فليكن هذا بتصديرٍيشير فيه كاتبه إلى قيمة الكتاب في بابه أوتقريظٍ يبرز محاسنه.وإن كنتُ لا أرغب في أي ٍمنهما إلا أنَّ طلبك التصدير أخفُ على النفس من طلب التقريظ لما يُلمح في طلب التقريظ من عُجب المؤلف في كتابه.)
من مقدمة كتاب ( مـِن وأخواتها مؤكدات لازوائد دراسة نحوية إسلوبية لثمانية من حروف المعاني )
http://www.saaid.net/book/open.php?cat=90&book=10914
دكتور عبد الرحمن / لدي موضوع أراه من هذا بسبيل ؛ فكثيرٌ من المؤلفين يفضي في مقدمة كتابه عن باعث التأليف , وكلما هممت بالكتابة عنه أخذتني الصوارف, والعنوان الذي اخترته له : [الطريف في بواعث التأليف ] أقول هذا لعله يجد في نفسك هوى وفي وقتك سعة مع تحلتي لشخصك الكريم بتغيير العنوان بماترى, فلعل قارئا يجد من بين هذا البواعث ما يحرك فيه دافعـًأ دفينا ويوقظ همة نائمة , بل لعله يصلح لأن يكون من كتب الاسترواح التي يستجم بها الباحثون من تعب البحث .
دمت بحفظ الله وتوفيقه