- أوجيني باستي
- ترجمة: إسراء العيدي
- تحرير: محمد صلاح إدريس
في العدد الأخير من Causeur تهاجم الصحفية إليزابيث الحركة النسوية في آراء تصدرت وسائل الإعلام.
– FIGAROVOX : لقد خصصت عددا آخر من مجلة Le Causeur لنقد النسوية؛ ألا تظنين أن في الأمر مبالغة؟
– إليزابيث ليفي: في البدء، إننا لا نبالغ أبدا بالشكل الكافي عندما يتعلق الأمر بإحدى ديانات هذا العصر التي تطارد المهرطقين الخارجين عنها بكل السبل. ما نُريده في الأصل هو أن ندافع عن ضحايا محاكم التفتيش التي تمارسها ما يدعوه بيجي ساستر Peggy Sastre بالنسوية البوليسية، والتي تعتبر كل الرجال مغتصبين أو معتدين أو متحرشين محتملين.
في الواقع، لكي نقبل القول بأن كل امرأة ضحية فإنه يجب علينا أن نقبل حقيقة أن كل رجل هو بالمقابل جلاد. هذا الخلط الوضيع يتكئ دائما على التباس آخر بين المبدأ وخرقه؛ والنتيجة هي أن رجالا كثيرين قد يخسرون كل ما بحوزتهم على إثر اتهام لم تتأكد صحته. فلا يهم بعدها إن اتضح أن هذا الاتهام باطل، إذ أن الإدانات التي تصدرها محكمة الإعلام والصحافة غير قابلة للطعن ألبتة. وبفعل قوة الشبكة العنكبوتية ومواقع التواصل، يصبح فعل الإدانة غير محدود، لا في الزمان ولا في المكان.
– هل تظنين فعلا أن النسويات يتوقون للحصول على بشرة الرجل الأبيض المغاير جنسيا؟ ألا تعتبرين الأقليات الناشطة جزءا من هذا التيار النسوي؟
– يكمن كل الإشكال هنا، إذ إن هذه النسوية ذات النزعة الانتقامية المتباكية والعقابية اللاحتجاجية تُشرك بالفعل هذه الجماعات الأقلية حينما يتعلق الأمر بالتطبيق، فمثلا هناك بعض الجمعيات التي تمولها جهات مكونة من ضحايا حقيقيين أو مزعومين. إلا أن لها تيارا طاغيا على المستوى الإعلامي وعلى مستوى مجموعة من الطبقة السياسية
والتي تتبنى صياغاتها الخاصة وانتفاضاتها، كصياغة المصطلح السخيف فيمينيسيد Feminicide الذي يزعمون من خلاله أن حياة كل النساء وموتهن تقع تحت منظومة سيطرة واحدة.
إن هذا النوع من النسوية هو الذي قاد صحيفة لو موند Le Monde إلى تكوين خلية خاصة مكونة من صحفيين متخصصين في الفضائح الجنسية، ومن الواضح أنه لم يخطر ببال أصحاب الصحيفة تكوين خلية مماثلة متخصصة في فهم أسلمة بعض
المجالات. كما أن هذا النوع من النسوية أيضا هو الذي شن حربا بدأتها السياسية مارلين شيابا Marlène Schiappa ضد أبوية أشبه ما تكون بطاحونة هواء، أبوية كانت تحتضر أساسا. أما سلاح النسوية الرئيس فهو الابتزاز بما يدعى بالـ “bad buzz”: فلو قامت جهة معينة مثلا بتوظيف شخص قرّر النسويات أنه شخص دنيء -حتى ولو بدون أدلة شرعية أومنطقية- فستقع هذه الجهة في مشاكل لا حصر لها. وكما هو متوقع، فإن استراتيجية الابتزاز هذه قد أثبتت فعاليتها، فمن ذا الذي سيخاطر بخسارة تمويل فيلمه مثلا أو خسارة مجموعة من عملائه أو زبائنه في سبيل تحقيق العدالة؟
هذه النسوية التي تشكل أقلية متطرفة تدّعي أنها تتكلم باسم كل النساء، كأن تقول إحداهن مثلا بالنيابة عن رفيقاتها إنه لا يمكن لمن يبغض النسوية أن يجعل الآخرين يبغضونها بالمقابل!
إذا كن من يمثلن النسوية يطمحن للحصول على بشرة الرجل الأبيض المغاير جنسيا فذلك من أجل رغبتهن في استبدال مكانته. ولكن بشكل أكثر عمقا، وبطريقة لا واعية
بلا شك، فمن أجل رغبتهن في الانتهاء من مسألة الجنسانية ومن عذاباتها ومخاطرها. في البدء، هذه رغبة في الانتهاء من مسألة الغيرية الجنسية كما جرى الاقتراح في أحد المهرجانات النسوية، لكنها أيضا رغبة في الحسم في مسألة المثلية الجنسية وذلك أولا عبر تطبيعها وجعلها أكثر ألفة. قد نتفق مع ممثلات النسوية الجديدة في نقطة واحدة، فمسألة الجنسانية لها مخاطرها فعلا، وذلك ليس لأن كل الرجال مفترسين وكل النساء ضحايا، بل لأن هذه المسألة تسلط الضوء على نزوات ونزعات يصعب علينا فهمها وإدراكها.
– قامت الجمعية الوطنية بالتصويت لصالح إشراك النساء العازبات والنساء اللاتي يعشن ضمن علاقة مثلية في قانون الـPMA[1]. كيف ترين أو تفكرين في الاختفاء التدريجي للأب؟
– لنعترف أن الاختفاء كان متوقعا، خصوصا في الوقت الذي تقوم فيه الأيديولوجيا بتجريم رغبة الرجل، ويقوم فيها العلم والقانون بالسماح بإنجاب بطرق مستحدثة لا تحتاج المرأة في ظلها لتواجد الجنس الآخر أو تواجد الآخر ببساطة (إذ أن حتى النساء العازبات صار بامكانهن الإنجاب.) إن هذا الخرق الذي أصاب جينيالوجيا الجنس البشري مناسب للنسويات اللاتي يطمحن لتحقيق حلمهن في إنشاء عالم بلا آباء، بل عالم بلا رجال، يكون فيه الرجل مجرد وسيلة تزودنا بالمادة الوراثية.
ومع ذلك، من المفارقة أن نفس البرلمانيين الذين دافعوا عن الحق في الإنجاب قد دافعوا أيضا عن حقوق الأطفال الذين يواجهون صعوبات في التعرف على أنسابهم وذلك من خلال المطالبة بكشف هويات الذين ينتسب هؤلاء الأطفال لهم. باختصار، تقوم مؤسساتنا بتشريع البنوة في ظل غياب الآباء حتى مع إدراكها التام أن هذا الغياب سيطرح مشكلا عويصا آخر. فرواج فحوصات الـDNA التي كان تشريعها محل تساؤل وجدل يؤكد أننا كلما حاولنا الانفلات من الطبيعة البشرية، ستثبت حضورها مجددا بطرق غريبة. فحتى ولو ردّدنا باستمرار أن الحب وحده كفيل بصنع الأم أو الأب، سيظل الناس في توق دائم لمعرفة أصل أعينهم الزرقاء، وموهبتهم في الرياضيات أو أصل صلعهم! في الأخير، نتكلم كثيرا عن غياب الأب لكننا ننسى أن وجود والدتين -مهما قدمتا من الحب طبعا أو تطبعا- لا يجعل مهمة التربية أهون…
– تتطرقين في أحد أعدادك الخاصة لقضية «[2]La Ligue de Lol». كيف تشكل هذه القضية جزءا من انجرافات النسوية المتطرفة؟
– لنقل أولا إن هذا دليل على أحد سقطاتهم المهنية، حيث صدقوا ثم روجوا لإحدى
الإشاعات الكاذبة التي تدّعي أنه في بدايات موقع تويتر وبين سنتي 2009 و2014، أُنشئت مجموعة سرية مكونة من بعض الذكور، أو ما يمكن أن نعتبره “ناديًا للذكور”،
والذين حسب زعمهم يقضون أوقاتهم في إهانة النساء، وبالأخص في إهانة النسويات المتطرفات. مثل هذه التصرفات قلصت ساحة التنافس ومكنتهم من حجز أماكنهم بين أعرق الشبكات والجهات الإعلامية. بلا شك، هذه الرواية السخيفة كانت أبعد ما تكون عن الواقع. إذ إنه في تلك السنوات، كان تويتر تحت قبضة الغرب الأقصى وتحت تصرف روض الأطفال، حيث يسخر الجميع من الجميع. وعلى ما يبدو، فإن الأمر الوحيد الذي كان غير مقبول حينها هو الذوق الجمالي.
وهكذا، فإن 14 شخصا معظمهم في عقده الثالث، قد فقدوا مناصبهم، بل وحتى حقهم في محاكمة علنية بلا أدنى دليل شرعي على تورطهم وبلا أي تدخل من العدالة. فبمجرد أن صرحت بعض النساء بكونهن ضحايا تنمر وسخرية من طرف جماعة منظمة، أصبح من الواجب العثور على أي أشخاص متهمين. وبذلك فقد كانت هذه الجماعة على رأس قائمة المتهمين. وعلى الرغم من كون المتهمين مجموعة ناشطة على الفيسبوك، لم يكن بمقدورهم قول أو فعل أي شيء حيال القضية، ولو حتى تكذيب الافتراءات الموجهة ضدهم. وبين آلاف المقالات والتقارير الصحفية التي خُصصت للقضية، لم يكن بمقدور شخص واحد أن يكشف عن رسالة واحدة أو منشور على المجموعة يثبت هذه التهمة. لكن كل هذا لا يهم، إذ أن الشائعة الإعلامية المروجة قد حكمت بكونهم وحوشا. فانهمرت عليهم سيول من الكراهية والحقد الافتراضيين، فمنهم من يشتم ومنهم من يهدد ومنهم من يتوعد بحدوث ما هو أسوأ؛ الأمر الذي يقودنا إلى التساؤل حول ما الذي يميز أولئك المتنمرين عن ضحاياهم؟
في الحقيقة، كانت هناك فئة قليلة جدا من الصحفيين الذين لم ينجرفوا مع هذا التيار، لكنهم مع ذلك ظلوا بلا صوت مسموع. أما اليوم، فيعترف العديد من الصحافيين أنهم قد أخطأوا أو تسرعوا في الحكم، ونحن بانتظار اللحظة التي يعلمون فيها جمهورهم بذلك.
– نعم، لكن ما علاقة كل هذا بالنسوية؟
في الأصل، التسرع في الفصل في القضية كان نتيجة التصاقها بخطاب أو تصور مسبق الذي كان بدوره وليدا للأيدلوجيا، كما كان أيضا وليدا للثورة المجيدة: أي حملة الـMe Too. بالنسبة لهم، ساعة الثأر والإطاحة ببعض الرؤوس قد حانت. فقد شهدنا جميعا مطالبة بعد النسويات المتطرفات بالتجريم الأزلي الذي لا يقبل طعنا لجرائم الاعتداء الجنسي. وهكذا، أصبح النظر إلى المغتصب مثل النظر إلى من يقوم بغسيل الأموال، أي أنه لم يعد مجرما تجب محاسبته بل وحشا يجب تجريده من إنسانيته حتى تتحقق العدالة وحتى يُشفى غليل الضحايا. فحينما يتعلق الأمر به، لن تنفع شفقة ولا شفاعة.
– ألا توحي هذه القضية بظهور شكل جديد من المحاكمات الظالمة والتشهير إلكترونيا؟
في الواقع، إن نفس النزوة التي كانت تقود التشهير بالناس ظلما وزورا، تقود
البروباجاندا الرقمية اليوم في العديد من المجالات. فكل من يلج قفص الاتهام الخاص بشبكات التواصل الاجتماعية، يُحكم عليه بالإعدام المجتمعي. فعلى الرغم من أننا نستطيع اليوم النجاة من تهمة تتعلق بالتمييز العنصري أو حتى تهمة تتعلق بالتشكيك بأزمة التغير المناخي، لا يمكننا أبدا النجاة من تهمة التحرش. إن النسوية الجديدة، كما كان الحال مع المحكمة الثورية، تتعطش دوما إلى حكم الإعدام بالمقصلة. ولا يهم إن كان ثمة أخطاء في الحكم على البعض، فهذه هي ضريبة التطور أو هؤلاء هم البيض الذي يتحتم علينا كسره من أجل تحضير “خلطة التقدم”!
وعلى عكس ما أوردته الفيلسوفة حنا آرنت Hannah Arendt في أحد نصوصها المعنونة ب”Eggs Speak Up!” فإن هذا البيض لن يثور أبدا للمطالبة بالانصاف، بل سيفعّل خاصية النقد الذاتي. كما كان يحدث في المحاكمات الستالينية، أين ينتهي أمر بعض المشتبه فيهم باثبات التهمة، أما الآخرون فينكمشون على أنفسهم ويلزمون الصمت والهدوء غير آبهين بلفت انتباه سلطة الأخلاق الجديدة. إن هذا النوع من الترهيب الذي يمارس شكلا من أشكال الرقابة على كل النكت والتلميحات التي تتطرق لموضوع الملكية أو العنف الجسديين، عرضة لأن يجعل البعض يترحم على الرقابة التي مارستها الأبوية.
– يضرب التيار الحالي على الجدل الأزلي حول مسألة الأمهات المحجبات؛ وهذا في سياق الرحلات المدرسية المنظمة. في حين أن البعض يدافع على حرية ارتداء الحجاب، يعتبره الآخرون “زيّا إسلامويا” من الواجب حظره؛ ما موقفك من هذا الجدل؟ وهل يمكننا فعلا “إجبار” النساء ليكن أحرارا؟
إذا قمنا بطرح القضية بهذا الشكل، فسنحكم أنها قضية بلا حل أو مخرج. فالقضية لا تتعلق أبدا بإجبار النساء المحجبات على أن يكن أحرارا، لأنه -على المستوى الفردي- هن فقط من يعرفن نوع الحرية التي يُردنها. وبرأيي، فإننا لا نستطيع لنفس السبب -الحرية- منع بعض النساء من ممارسة الفسق إذا كان ذلك هو مبتغاهن!
ومع ذلك، فإن العيش في مجتمع ما يستلزم تقييد بعض الحريات الفردية في سبيل مصلحة الجماعة. وفي هذه الحالة، فإن الثقافة الفرنسية والأخلاق الفرنسية ومبدأ
الاختلاط وحرية النساء والمساواة بين الجنسين؛ كلها مبادئ لها الأولوية في تصدر المشهد الفرنسي أكثر من الثقافة الإسلامية. بعد ذلك، يتم تحديد هذه القيود ثم الحسم في فرضها بعد طول تفكر. وكما أنصف جين ميشيل بلونكي Jean-Michel Blanquer بالقول إنه إن كان الحجاب غير مرحب به، فإن من غير المرحب به أيضا أن يتم حظره في الأماكن العامة؛ إذ سيكون ذلك منافيا جدا لحرياتنا. فبالكاد لنا الحق في مطالبة مواطناتنا المسلمات بمراعاة حساسيتنا الجمهورية.
بالمقابل، دعونا لا نتصرف بسذاجة؛ فتواجد “الرفيقات المحجبات” يجعلنا في مواجهة هجوم مباشر. إذ أنّ من يروجون للإسلام السياسي يدركون جيدا أنه بإمكانهم تعبئة الكثير من المتعاطفين بسهولة؛[3] فمثلا يجب أن تكون عديم القلب والرحمة فعلا حتى تتجرأ على التعرض لأي “أم”. وفي هذا السياق، فقد كرر الرئيس إيمانويل ماكرون Emmanuel Macron نفس الخطأ الذي وقع فيه ليونيل جوسبان Lionel Jospin سنة 1989 حين رفض التوقيع على عريضة منع ارتداء الرموز الدينية في الرحلات المدرسية، وفضّل ترك المشكلة حتى تتفاقم، كما فضّل التودد لليسار بعبارات مثل “وصمة عار” و”التضليل”. لقد أضعنا 15 سنة مع جوسبان حتى جاء قانون 2004[4]. إلا أنه لم يعد بحوزتنا 15 سنة أخرى للانقلاب على التيار الراهن أو تغييره.
فاليوم، لم يعد الجبن مخزيا أخلاقيا فحسب، بل صار جريمة سياسية.
اقرأ ايضًا: إليزابيث ليفي: ضد نسويّة «السّخافات الخطيرة»
[1] مصطلح (PMA: Procréation Médicalement Assistée) يعني القانون الذي يرخص الإنجاب بطرق مستحدثة للأزواج الذين لم يتمكنوا من الإنجاب.(المترجمة)
[2] مجموعة فيسبوك خاصة أنشأها بعض الصحافيين الفرنسيين للتندر على قضايا مجتمعية مختلفة واتُهم أعضاؤها بالسخرية من والتنمر على الأقليات كالنساء.(المترجمة)
[3] ما قالته ليفي هنا لا يختلف عما أنكرته على النسويات من قبل؛ وهو أن كل (رجل أو محجبة) هو تهديد محتمل؛ من ناحية أخرى فقد بينت المأزق، فمن داخل منظمة الحريات الغربية المعلنة نفسها لن يكون من المقبول حظر الحجاب؛ مما يظهر تناقض وتهافت القيم الغربية. (الإشراف).
[4] قانون حظر الرموز الدينية في المدارس. (المترجمة).