نايفة العسيري
يحدث أن تتشكّل في ذهن القارئ صورة لأحد المؤلّفين (علماء أو أدباء) ثم يكتشف صفة مختلفة عن تلك الصورة -إيجابية أو سلبية-، أو يسمع نغمةً ندّت عن سُلّم التصوّر -عذوبةً أو نشازًا-، كيف يتلقى القارئ صفة عارضة لتصوّرٍ عريض؟ حين يتلقى القارئ معلومة تخالف توقّعه في شخصية العالِم أو الأديب -شخصيّته تحديدًا، لا تأليفه العلمي أو الإبداعي- وتتبدّد عنه الدهشة الأولى التي تكاد تجعله يتمتم:معقول! فلان! بعدها هل يسعى لإنكارها؟ أو يضخّمها؟ أو يعتدل في تلقّيها بحجمها، مُسلِّمًا أن النفس الإنسانية لا تنقضي أسرارها وغرائبها؟.
يمكن ضرب ثلاثة أمثلة لتلقي القراء الصفات الغريبة على شخصية المؤلّفين، أو على الأحكام العريضة عنهم، المثال الأول، الاعتدال في وصفها ونقلها، خاصةً عند من يكتب السيَر والتراجم، والثاني، تضخيم الصفة الحسنة إن كانت تخالف التوقع السائد؟ والثالث، إنكار الصفة والخروج في تأويلها إلى مبرّرات توافق التصوّر العريض.
فمن الأول، المنهج المعتدل عند كتّاب التراجم المتقدّمين في توثيق (السيرة الذاتية) للعلماء والأدباء، يكفي شاهدًا قراءة كتب أعلام فنّ أو طبقات مذهب فتتجلى الكتابة المعتدلة، التي تتحرّى الحقائق، فلا يجرمنّهم شنآن -ولا محبة- ألّا يعدلوا، لا تمنعهم الإشادة بالعريض من الإشارة إلى العارِض، يقرؤون الظاهر ويُقرّون بالقارّ، في منهجِ تأليفٍ متوائمٍ مع بشريّة الإنسان، متوازن في جدلية الخير والشرّ بين الإطلاق والنسبية.
ولتقدير ذلك الاعتدال يمكن تخيّل أن يكتب أحدٌ عن عالِمٍ معاصرٍ فيقول: إنه من جهابذة العلم المؤسِّسين، الذين خدموا علوم القرآن الكريم وعلوم العربية، دون غضاضة أن يُردف بالقول: كان سيّئ العبارة، فظّ الأخلاق، لا تُقبل شهادته، (وهذا في ترجمة أحد كبار علماء القرن الثالث الهجريّ)، أو يمكن تخيّل قول ناقد عن شاعر حديث: إنّه كزّ الطبع، شديد البخل، كرِيه المعشر، عذب اللفظ، بارع التصوير، أراد أن يشعُر فغنّى، (كما يترجم الأوائل للبحتري).
أمّا ما يقابل الاعتدال فتضخيم الصفة الحسنة، ويمكن الاستشهاد عليه بالوفاء عند المتنبي، عند بعض من اعتنى بحياته من المتأخرين، فمن الأحكام العريضة حول المتنبي أنه متقلّبُ الولاء، نفعيّ النفس، وهذا بتضافر الدرس لديوانه وتتابع الأعين المتملّية لحياته، فيما يأتي الوفاء صفة عارضة، فتضخيم هذا العارض بالتركيز على النزر اليسير من شواهده لنقض الرأي العريض، ومن الجميل أن يكون الشاغل تأمّل السؤال: متى يبدو المتنبي وفيًّا؟ بدلًا من الانشغال بالإجابة عن السؤال: هل المتنبي وفيّ؟؛ لأنه بشر، وطبيعته البشريّة تحتّم النسبيّة، فلا إطلاق، لكنّ غلبة التقلّب العريض لا يكون تفنيدها بتضخيم الوفاء العارض.
من شواهد الوفاء (المكبَّر) قوله:
خُلِقتُ أَلُوفًا..لو رجعتُ إلى الصِبا
لفارقتُ شيبي موجعَ القلبِ..باكيا
كفى استمتاعًا تأمُّل هذا الموضع الذي يُستشهد فيه على الطبع الاستثناء، فبعدما فجّرَ حِممًا من التسخّط، ومن النقمة حتى رأى “المنايا أمانيا” تحدّث عن الألفة والوفاء.
ربّما كان يعني وفاء نفسه له وهو يقول: “حبَبْتُك قلبي قبل حبّك من نأى” فأراد أن يكون وفاء بعضه لبعضه، “لستَ قلبي إنْ رأيتُك شاكيا”، وهو المعنى الرقيق الذي أخذه كامل الشناوي في نصّه: “لستَ قلبي إذن.. إنّما أنت قلبُها”..
وهذا المعنى المرهف يأتي في سياق متباين، يقول قبله:
“وفي النفسِ أخلاقٌ تدلّ على الفتى
أكانَ سخاءً ما أتى.. أم تساخيا”
وما لبث بعد بضعة أبيات أن قال:
“أبا المسك..ذا الوجهُ الذي كنتُ تائقًا
إليهِ.. وذا الوقتُ الذي كنتُ راجيا”
فأين الوفاء وليس “أيُّ وفاء”، وماذا عن العهد الجميل قبل قليل يا أبا الطيب! بدأت طلباته التي “تستقلّ السواقيا” وتصرّح بالطمع في ولاية، مضى مُمعِنًا في التصريح، مُذعِنًا للمديح، فشاهده منه عليه إن كان وفاءً ما قاله أم توافيا. في خفقةٍ مختلفة عن نبض القصيدة، كأنّ ريشة العازف أخطأت السلّم، فجاء أحلى ما في النصّ الخروجُ عن النص.
(على صعيدٍ آخر) يأتي تهميش الصفة العارضة رضوخًا للحكم العريض، وشاهده هنا الحكم العريض بتشاؤم المعرّي وعزلته وعدائه للمرأة، وهذا حكم -كالسابق- ما استقرّ إلا بطول الدرس وتتابع النظر في حياته ومؤلفاته، إنّما تأتي شواهد على أُلْفته، أو رقّته وغزله، فيتكلّف بعضهم التأويل ويقول هي مقدّمات أو شعر صوريّ لغرض المديح، يستكثرون تلك اللحظة المؤنسة التي يفتقد فيها من يحب، في حين أنّ من الجميل تأمّل المواضع العارضة التي استبقى فيها مخاطبًا، أو حضرت فيها المرأة ذات الخفر استثناء عن تلك الصور القاتمة، وشاهده الأوضح رائيّته الفخمةُ العذبة:
“يا ساهرَ البرقِ.. أيقظ راقدَ السمَرِ
لعلّ بالجزعِ أعوانًا على السهَرِ
ما سِرتُ إلّا وطيفٌ منكِ يصحبُني..
سُرىً أمامي.. وتأويبًا على أثري
لو حطَّ رحليَ فوق النجمِ رافعُهُ
وجدتُ ثَمَّ خيالًا منكِ.. مُنتظِري
يودّ لو أنّ ظلام الليلِ زِيدَ لهُ
وزِيدَ فيه سوادُ القلبِ والبصرِ
حسّنتِ نظمَ كلامٍ توصفين به
ومنزلًا بكِ معمورًا من الخفرِ”
فالسؤال: متى يكون المعرّي أليفًا يغلبه الحنين، ومتى تكون المرأة استثناءً عنده، ربّما أولى من حشد الحجج على طرفي الموقف من المرأة، ولو كانت مقدّمة معتادة لقصيدة، فما أجدر القصيدة الاعتيادية بالنظر حين تكون سياقاتها غير اعتيادية في طبيعة الشاعر.
فهذا الذي أكّدَ أنّ “الحياةَ ذميمةٌ”، واطمأنّ إلى أنّه “إنْسيّ الولادة وحشيّ الطبع” هو نفسه الذي يستوحش -لا يتوحّش كعادته- وهو يقول:
“فالحُسنُ يظهرُ في شيئين رونقُهُ
بيتٌ من الشِعْرِ..أو بيتٌ من الشَّعَرِ
أقولُ والوحشُ ترميني بأعينها
والطّيرُ تعجبُ منّي كيفَ لم أطِرِ
لا تطويا السرَّ عنّي يوم نائبةٍ
فإنّ ذلك ذنبٌ غيرُ مغتفرِ
سافرتَ عنّا..فظلّ الناس كلّهم
يُراقبون إيابَ العيدِ من سفَرِ”
كأنّ المعرّي يتبصّر مرآة نفسه وهو يخاطب ممدوحه:
“رأوك بالعينِ فاستغوتهم ظِنَنٌ
ولم يروكَ بفِكرٍ صادقِ الخبَرِ
والنجمُ تستصغرُ الأبصارُ صورتَهُ
والذّنْبُ للطرْفِ..لا للنجمِ.. في الصغَرِ”
وهو المعنى الذي استفاده بدر بن عبدالمحسن في قوله:
“الكوكب اللي تقول الناس: يا صغره!
من كثر ما هو بعيد.. وشوفهم قاصِرْ”
فصحيح أن صفات مثل: رقّة الطبع والأُنس بالأحبّة والثناء على المرأة الحيّية من الاستثناءات عنده، لكنّها أرقّ وأعذب ما تكون بوصفها استثناءات لا بتكلّف تأويلها، ولا بالانشغال بحشد الشواهد ضدّها.
والخلاصة، أن الرأي العريض المُستقى من المؤلّفات مُبرّر ووجيه، لكن الصفات العارضة في شخصيات المؤلّفين تحتّم التلقي المعتدل المتصالح مع بشريّتهم، المتوائم مع نسبيّة الصفات وتفاوتها، وفي الوقت نفسه التلقي الفاحص لأثر ذاك العارض في العريض، فمن المفيد والممتع -وربما الصعب- قراءة أثر المغلوب في الغالب والعكس، فالإنصات للمغلوب لا يقل فائدةً وجمالًا وقيمة، وفرزه بوصفه مغلوبًا يمنح صوته نبرته الخاصة.
هذا فقط عند من يُصغي للصياغة الخفيّة، ما تُبقيه ريشة الرسّام خافتًا في اللوحة الساطعة الواسعة، أو تندّ به ريشة العازف صامتًا على سُلّم أوتاره المشدودة..