عام

فوائد تتعلَّق بضمير الفصل

  • أحمد بن محمد الحمزاوي

جاء في “التحرير والتنوير” للشيخ الطاهر بن عاشور في تفسير قوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لهم} [آل عمران: 180]:

«وقرأ الجمهور: {ولا يحسبنّ الذين يبخلون} بياء الغَيبة، وقرأه حمزةُ بتاء الخطاب كما تقدَّم في نظيره. وقرأ الجمهور: {تحسِبنَّ} بكسر السين، وقرأه ابن عامر، وحمزة، وعاصم بفتح السين.

وقوله: {هُوَ خَيْرًا لهم}، قال الزمخشري: «{هو} ضمير فَصْل». وقد يُبنى كلامُه على أنّ ضمير الفصل لا يختصُّ بالوقوع مع الأفعال التي تطلب اسمًا وخبرًا، ونقل الطِّيبيُّ عن الزجَّاج أنّه قال: زعم سيبويه أنّه إنّما يكون فصلًا مع المبتدأ والخبر، يعني: فلا يصحّ أن يكون هُنا ضميرَ فصل؛ ولذلك حكى أبو البقاء فيه وجهين: أحدهما أن يكون {هو} ضميرًا واقعًا موقعَ المفعول الأوّل على أنه من إنابة ضمير الرفع عن ضمير النصب. ولعلّ الذي حسَّنه أنّ المعاد غير مذكور، فلا يُهتدى إليه بضمير النصب، بخلاف ضمير الرفع؛ لأنّه كالعمدة في الكلام، وعلى كلِّ تقدير، فالضمير عائد على (البُخل) المستفاد من {يبخلون}، مثل {اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة: 8]، ومثل قوله:

إذَا نُهِي السَّفيهُ جَرى إليه * وخَالف والسَّفيهُ إلى خلافِ

ثم إذا كان ضميرَ فصل فأحدُ مفعولي (حسب) محذوفٌ اختصارًا؛ لدلالة ضمير الفصل عليه، فعلى قراءة الفوقية فالمحذوف مضاف حَلَّ المضافُ إليه محلَّه، أي: لا تحسبنَّ الذين يبخلون خيرًا، وعلى قراءة التحتيّة: ولا يحسبنّ الذين يبخلون بُخلَهم خيرًا».

**

هكذا نصُّ الكلام في المطبوع من تفسير “التحرير والتنوير”، وفيه أمور:

أولها: أنه قال: «وقد يُبنى كلامه على أنّ ضمير الفصل لا يختصُّ بالوقوع مع الأفعال التي تطلب اسمًا وخبرًا»، فرجعنا إلى كلام الزمخشري، فوجدنا عكسَ هذا، وأنَّ كلامه لا يُبنى إلا على أن (حَسِبَ) من الأفعال التي تطلب اسمًا وخبرًا، وهذا نصُّ كلامه في توجيه الآية:

«من قرأ بالتاء قَدَّرَ مضافًا محذوفًا، أي: ولا تحسبن بُخْلَ الذين يبخلون هو خيرًا لهم.

وكذلك من قرأ بالياء، وجعل فاعلَ {يحسبن} ضميرَ رسول الله، أو ضميرَ (أَحَد).

ومن جعل فاعله {الذين يبخلون} كان المفعول الأول عنده محذوفًا، تقديره: ولا يحسبنَّ الذين يبخلون بُخلَهم هو خيرًا لهم.

والذي سوَّغ حذفَه دلالةُ {يبخلون} عليه، و{هو} فصل» اهـ.

وهو كلام صريح في أن الزمخشري جعل الفعل {يحسبن} من أفعال القلوب التي تطلب مفعولين، أصلهما مبتدأ وخبر، على القراءتين:

أما على قراءة التاء، فإن مفعوله الأول هو {الذين يبخلون} بتقدير مضاف محذوف، والمفعول الثاني {خيرا}، وإنما قدر المضاف المحذوف؛ ليتوافق المفعولان – كما نصَّ عليه البيضاوي – لأن أصلهما المبتدأ والخبر. فأصل الجملة قبل دخول الناسخ: بُخْلُ الذين يبخلون خيرٌ لهم، فدخل ضمير الفصل متوسطا بين المبتدأ والخبر؛ لوجود شرطه، فصارت الجملة: بخلُ الذين يبخلون هو خيرٌ لهم، فلما دخل العامل الناسخ، صارت الجملة: لا تحسبن بُخْلَ الذين يبخلون هو خيرًا لهم. فحُذف المضاف (بُخْل) وأُقيم المضاف مُقامه، وأُعرب بإعرابه، وهو واضح.

وأما على قراءة الياء {يحسبن} فالأمر أوضح، فقد نصَّ على أن المفعول الأول محذوف، و{خيرا} المفعول الثاني.

فقول الزمخشري: «و{هو} فصل»؛ أي: على القراءتين، وهو جارٍ على مذهبه – وهو مذهب البصريين – في أن ضمير الفصل لا يكون إلا متوسِّطًا بين المبتدأ وخبره قبل دخول العوامل اللفظية الناسخة، وبعد دخولها، إذا كان الخبر معرفة، أو مضارعًا له في امتناع دخول حرف التعريف عليه – كما نص عليه في “المفصَّل” – وهو ما نصَّ عليه في “الكشَّاف” في توجيه قوله تعالى: {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ}، فقال: «وقرأ ابن مروان: {هنّ أطهرَ لكم} بالنصب، وضعَّفه سيبويه، وقال: احتبى ابن مروان في لحنه. وعن أبي عمرو بن العلاء: من قرأ: {هُنَّ أَطْهَرَ} بالنصب فقد تربَّع في لحنه، وذلك أنّ انتصابه على أن يجعل حالًا قد عمل فيها ما في {هؤلاء} من معنى الفعل، كقوله: {هَذَا بَعْلِى شَيْخًا} [هود: 72]، أو ينصب {هؤلاء} بفعل مضمر، كأنه قيل: خُذوا هؤلاء، و{بناتي} بدل، ويعمل هذا المضمر في الحال، و{هنّ} فصل. وهذا لا يجوز؛ لأنَّ الفصل مختصٌّ بالوقوع بين جزأي الجملة، ولا يقع بين الحال وذي الحال».

فقوله في “التحرير والتنوير”: «وقد يُبنى كلامه على أنَّ ضمير الفصل لا يختصُّ بالوقوع مع الأفعال التي تطلبُ اسمًا وخبرًا» غير صحيح.

الأمر الثاني: أنه قال في “التحرير”: «ونقل الطِّيبي عن الزجَّاج أنّه قال: زعمَ سيبويه أنّه إنّما يكون فصلًا مع المبتدأ والخبر»، فرجعنا إلى كلام الطِّيبي، فوجدنا أنَّ الذي نقله الطِّيبي عن الزجَّاج عكسُ هذا، وهو أن سيبويه زعمَ أن الضمير إنما يكون فصلا مع الأفعال الناسخة، ولم يذكر الفصل في المبتدأ والخبر، فحصل تصرُّف في النصِّ المنقول أفسد المعنى، وعكسَ المقصود؛ وهذا نصُّ كلام الطِّيبي في “فتوح الغيب” (4/ 364): «قال الزجَّاج: زعم سيبويه أن (هو) ونحوه إنما يكون فصلًا مع الأفعال التي تحتاج إلى اسم وخبر، ولم يذكر الفصل مع المبتدأ والخبر».

فالطِّيبي إنما نقل ما نقله عن الزجَّاج تأييدًا لتخريج الزمخشريِّ الآيةَ على أن {هو} ضمير فصل، وليس اعتراضًا وردًّا عليه، كما تُوُهِّم في “التحرير والتنوير”؛ نتيجة الخلل في نقل كلام الطِّيبي.

الأمر الثالث: أن ما نقله الطِّيبي عن الزجَّاج هو الصحيح، وهذا نصُّ كلام الزجَّاج:

«قال أهل العربية: المعنى: لا يحسبن الذين يبخلون البخلَ هو خيرًا لهم.

ودلَّ {يبخلون} على البخل. و{هو} ههنا فصل، وهو الذي يسمِّيه الكوفيون (العماد)، وقد فسَّرناه إلا أنا أغفلنا فيه شَيئًا نذكره ههنا:

زعم سيبويه أن (هو)، و(هما)، و(هم)، و(أنا)، و(أنت)، و(نحن)، و(هي)، وسائرَ هذه الأشياءِ، إنما تكون فصولًا مع الأفعال التي تحتاج إلى اسم وخبر. ولم يذكر سيبويه الفصلَ مع المبتدأ والخبر. ولو تأوَّل متأوِّل أن ذكرَه الفصلَ ههنا يدلُّ على أنه جائزٌ في المبتدأ أو الخبر كانَ ذلكَ غيرَ ممتنع»؛ “معاني القرآن وإعرابه” (1/ 492-493).

الأمر الرابع: أن ما نسبه الزجَّاج لسيبويه صحيح – وإن كان ناقصًا، كما ستراه – وهو قولُه في “الكتاب” (2 / 389):

«هذا باب ما يكون فيه (هو) و(أنت) و(أنا) و(نحن) وأخواتهنَّ فَصلًا

اعلم أنهنَّ لا يكنَّ فصلًا إلا في الفعل، ولا يكنَّ كذلك إلا في كلِّ فعلٍ الاسمُ بعدَه بمنزلته في حال الابتداء، واحتياجُه إلى ما بعدَه كاحتياجه إليه في الابتداء، فجازَ هذا في هذه الأفعال التي الأسماءُ بعدَها بمنزلتها في الابتداء إعلامًا بأنه قد فصل الاسم، وأنه فيما ينتظر المحدَّث ويتوقَّعه منه، مما لا بدَّ له من أن يذكرَه للمحدَّث».

الأمر الخامس: أن هذه الآية الكريمة {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا} [آل عمران: 180] من شواهد سيبويه، وقد وجَّهها على أن المفعول الأول محذوف لدلالة {يبخلون} عليه، وأن الضمير {هو} فصل، فقال في “الكتاب” (2 / 390):

«واعلم أن ما كان فصلًا لا يغيَّر ما بعدَه عن حاله التي كان عليها قبلَ أن يُذكر؛ وذلك قولك: حسبتُ زيدًا هو خيرًا منك، وكان عبد الله هو الظريفَ، وقال الله عز وجل: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6] …

ومن ذلك قوله عز وجل: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لهم}، كأنه قال: ولا يحسبن الذين يبخلون البخلَ هو خيرًا لهم. ولم يذكر (البخل) اجتزاءً بعلم المخاطَب بأنه البخل لذِكره {يبخلون}، ومثل ذلك قولُ العرب: (مَنْ كَذَب كان شرًّا له) يريد كان (الكذبُ) شرًّا له، إلا أنه استغنى بأن المخاطَب قد علم أنه الكذب؛ لقوله: (كذب) في أول حديثه. فصار (هو) وأخواتها هنا بمنزلة ما إذا كانت لغوًا في أنها لا تغيِّر ما بعدها عن حاله قبل أن تُذكر».

وعلى هذا سارَ من جاء بعدَه من النحاة، والمعرِبين، والمفسِّرين، ومنهم الزمخشري، كما تقدَّم تحقيقه.

الأمر السادس: أنه تبيَّن – مما مضى – أن قوله في “التحرير والتنوير”: «يعني: فلا يصحُّ أن يكون هُنا ضميرَ فصل» استنتاج معكوس، وأن الصحيح عكسه، وهو أن الضمير في قوله تعالى: {هو خيرا لهم} ضمير فصل، عن سيبويه ومَنْ بعده، وهو مجمَعٌ عليه، وغيره من الوجوه ضعيف جدًّا.

الأمر السابع: قوله: «ولذلك حكى أبو البقاء فيه وجهين: أحدُهما أن يكون {هو} ضميرًا واقعًا موقع المفعول الأوّل …»، وقد علمتَ أن هذا مبنيٌّ على استنتاج غير صحيح؛ فلا يكون صحيحًا؛ فأبو البقاء العكبري لم يمنع أن يكون {هو} في قوله تعالى: {هو خيرًا لهم} فصلا، بل أجازه، وأجازَ فيه وجهًا آخر، وهو ما ذكره عنه في “التحرير والتنوير”، وهذا نصُّ كلام أبي البقاء: «قولُه تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ} يُقرأُ بالياء على الغَيبَة، و{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} الفاعل، وفي المفعول الأول وجهان: أحدُهما: {هُوَ}، وهو ضَمِيرُ (البُخل) الذي دَلَّ عليه {يَبْخَلُونَ}. والثَّاني: هو محذُوفٌ تقديرُه: (البُخْلَ)، و{هُوَ} على هذا فَصْلٌ».

فأجازَ الفصل، كما ترى، وإنَّما حملَه على أن يتكلَّف وجهَ جعل الضمير {هو} مفعولًا – مع أنه ضمير رفع – الهروبُ من حذف أحد مفعولي (حَسِبَ)، وهو قليل، حتى منعَه بعضهم، وهو السببُ الذي من أجله قدَّم أبو جعفر الطبريُّ قراءة التاء على قراءة الياء، فقال رحمه الله: «وإنما قُلنا: قراءة ذلك بالتاء أولى بالصواب من قراءته بالياء؛ لأن (المحسِبَة) من شأنها طلبُ اسم وخبر، فإذا قرئ قوله: {ولا يحسبن الذين يبخلون} بالياء، لم يكن للمحسِبَة اسمٌ يكون قوله: {هو خيرًا لهم} خبرًا عنه»، وهو السبب الذي من أجله – أيضًا – رجَّح أبو حيَّان تخريج قراءة الياء على قراءة التاء، فقال رحمه الله: «وحذفه  – يعني مفعول (حسب) – كما قُلنا، عزيزٌ جدًّا عند الجمهور؛ فلذلك الأولى تخريج هذه القراءة على قراءة التاء من كون {الذين} هو المفعول الأول على حذف مضاف، و{هو} فصل»، يعني: ويكون فاعل {يحسبن} ضميرَ غائب، إمَّا (الرسولُ) أو (حاسِبٌ ما).

فهذا سببُ جعل أبي البقاء الضمير {هو} مفعولًا، وليس ما ذكره في “التحرير والتنوير”.

وقد ردَّ السمين الحلبيُّ توجيه أبي البقاء بقوله: «وهو غلطٌ أيضًا؛ لأنه ينبغي أن يأتِيَ به بصيغةِ المنصوب، فيقول: (إيَّاه)؛ لكونِه منصوبًا بـ {يَحْسَبَنَّ}، ولا ضرورةَ بنا إلى أن نَدَّعي أنه من بابِ استعارةِ ضميرِ الرفع مكانَ النصبِ كقولِهم: (ما أنا كأنت، ولا أنت كأنا)، فاستعار ضميرَ الرفعِ مكانَ ضميرِ الجر».

وأما على قراءة التاء، فقد قال فيها أبو البقاء: «ويُقرأُ: {تَحْسَبَنَّ} بالتاء على الخطاب، والتقدير: ولا تحسبن – يا محمد – بُخل الذين يبخلون؛ فحذفَ المضاف. وهو ضعيف؛ لأن فيه إضمار (البُخلِ) قبل ذكرِ ما يدلُّ عليه، و{هُوَ} على هذا فَصْلٌ، أو توكيد».

فأجازَ في الضمير {هو} على هذه القراءة أحدَ وجهين: الفَصل، أو التوكيد؛ وردَّ عليه السمين الحلبيُّ وجهَ التوكيد، وقال: «وهو خطأ؛ لأنَّ المضمرَ لا يُؤكِّد المُظْهَر، والمفعول الأول اسمٌ مظهر، ولكنه حُذِف كما تقدَّم»، وناقشه الشِّهاب الخفاجي في “حاشيته على البيضاوي” بأن مراد أبي البقاء بقوله: إنه تأكيد، أنه فصل بين مفعولي (حَسِب)، فلا وجه لردِّه بأن الضمير لا يؤكِّد المظهَر.

قلت: وهي مناقشة ضعيفة؛ فقد تقدَّم أن نصَّ كلام أبي البقاء: «و{هُوَ} على هذا فصل، أو توكيد»، فأجاز فيه الفصل، أو التوكيد، فكيف يكون مرادُه بالتوكيد الفصل؟!

وأما تضعيف أبي البقاء تقدير المضاف بما ذكر، ففيه نظر – كما قرَّره السمين الحلبي – لأنَّ الدلالةَ على المحذوف قد تكونُ متقدِّمةً، وقد تكون متأخِّرةً، وليس هذا من بابِ الإِضمارِ في شيء حتى يُشتَرَطَ فيه تقدُّمُ ما يَدُلُّ على ذلك الضمير.

الأمر السابع: قوله في “التحرير”: «ثم إذا كان ضميرَ فصلٍ فأحدُ مفعولي (حسب) محذوف اختصارًا؛ لدلالة ضمير الفَصلِ عليه» غير ظاهر – إن كان صحيحًا – فقد تقدَّم عن سيبويه، والزجَّاج، وأبي البقاء، والزمخشري، أن الذي دلَّ على المفعول المحذوف (البخل) هو الفعل {يبخلون}؛ ولذلك ضعَّف أبو البقاء قراءة التاء {تحسبن}؛ «لأن فيه إضمار (البُخلِ) قبل ذكرِ ما يدلُّ عليه»، كما تقدَّم.

الأمر الثامن: قوله: «فعلى قراءة الفوقية فالمحذوف مضافٌ حَلّ المضافُ إليه محلَّه، أي: لا تحسبنَّ الذين يبخلون خيرًا»، كذا في المطبوع، والصواب: أي: لا تحسبنَّ بُخل الذين يبخلون خيرًا.

وفي كلامه أمورٌ أخرى تركتُها بُغيةَ الاختصار.

فائدة وتتمَّة:

مذهب سيبويه في وقوع ضمير الفصل بين المبتدأ والخبر

هذه الفائدة كالتتمة للمذكور آنفًا، وهي توجِب على طالبِ العلم الرجوعَ إلى مصدر الكلام الأصلي كما سبق؛ فقد مرَّ بك فيما سبقَ قولُ أبي إسحاق الزجَّاج: «زعمَ سيبويه أن (هو)، و(هما)، و(هم)، و(أنا)، و(أنت)، و(نحن)، و(هي)، وسائر هذه الأشياءِ، إنما تكون فصولاً مع الأفعال التي تحتاج إلى اسم وخبر. ولم يذكر سيبويه الفصلَ مع المبتدأ والخبر. ولو تأوَّل متأوِّل أن ذكرَه الفصلَ ههنا يدلُّ على أنه جائز في المبتدأ أو الخبر كانَ ذلك غيرَ ممتنع».

فأفادَ أن سيبويه لم يذكر الفصل مع المبتدأ والخبر صراحة، لكن يمكن الاستدلالُ على جوازه بأن سيبويه إنما أجاز ضمير الفصل بين اسم كان وأخواتها، وأخبارها، وبين مفعولَي أفعال القلوب؛ لأنَّ أصلها المبتدأ والخبر، وإذا جاز في الفروع كان في الأصل – وهو المبتدأ والخبر – جائزًا أيضًا.

ومنِ اقتصرَ على ما نقلَه الزجَّاج – كما فعلَه الطِّيبي في “فتوح الغيب” – نسبَ إلى سيبويه أنه لم يذكر الفصل بين المبتدأ والخبر صراحة. فهل الأمرُ كذلك؟

يقول سيبويه: «هذا باب ما يكون فيه (هو) و(أنت) و(أنا) و(نحن) وأخواتهنَّ فَصلًا

اعلم أنهنَّ لا يكنَّ فصلًا إلا في الفعل، ولا يكنَّ كذلك إلا في كلِّ فعلٍ الاسمُ بعدَه بمنزلته في حال الابتداء، واحتياجُه إلى ما بعدَه كاحتياجه إليه في الابتداء، فجازَ هذا في هذه الأفعال التي الأسماءُ بعدَها بمنزلتها في الابتداء إعلامًا بأنه قد فصل الاسم، وأنه فيما ينتظر المحدَّث ويتوقَّعه منه، مما لا بدَّ له من أن يذكرَه للمحدَّث؛ لأنك إذا ابتدأتَ الاسم فإنَّما تبتدئه لما بعدَه، فإذا ابتدأتَ فقد وجبَ عليك مذكورٌ بعد المبتدأ لا بدَّ منه، وإلا فسدَ الكلام، ولم يسُغ لك، فكأنه ذكر (هو)؛ ليستدلَّ المحدَّث أن ما بعدَ الاسم ما يخرجه مما وجبَ عليه، وأن ما بعد الاسم ليس منه. هذا تفسيرُ الخليل رحمه الله».

فقوله: «لأنك إذا ابتدأتَ الاسم فإنَّما تبتدئه لما بعده …» صريحٌ في ذكر الفصل بين المبتدأ والخبر، وأصرح منه قوله – بعد كلام طويل – (2/392): «واعلم أنها تكون في (إنَّ) وأخواتها فصلًا، وفي الابتداء، ولكن ما بعدها مرفوع؛ لأنه مرفوعٌ قبل أن تذكر الفصل».

فتحصَّل مما تقدَّم أن سيبويه ذكرَ الفصلَ في باب الابتداء، وباب (إنَّ) وأخواتها، كما ذكره في (كان) وأخواتها، و(ظنَّ) وأخواتها.

وإذا كان مذهبه كذلك، فما وجهُ قوله: «واعلم أنهنَّ لا يكنَّ فصلًا إلا في الفعل»؟

يقول أبو سعيد السِّيرافي في “شرحه” (3/159): «إنّما ابتدأ بالفعل وخصَّه لأنَّه لا يتبيَّن الفصلُ إلا فيه. و(إنَّ) والابتداءُ لا يتبيَّن الفصلُ فيهما في اللفظ؛ لأنَّك إذا قلت: زيدٌ هو خيرٌ منك، وإنَّ زيدًا هو خيرٌ منك؛ فـ (خير منك) مرفوعٌ على كلِّ حال إن جعلت (هو) فصلًا، أو جعلتَه مبتدأ. وإنما يتبيَّن في (كان) وأخواتها، و(ظننت) وأخواتها، الفصلُ من الابتداء؛ لأنَّ أخبارَها منصوبة. تقول: كان زيدٌ هو أخوك، إذا جعلتَ (هو) ابتداء، و(أخوك) خبره، والجملة خبر زيد. وكذلك: ظننتُ زيدًا هو أخوك، وإذا كان فصلًا قلت: كان زيدٌ هو أخاك، وظننتُ زيدًا هو أخاك».

والله تعالى أعلم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى