- أوليفييه ماير*
- ترجمة: زيد أولادزيان
إدوارد تي هول (1914 – 2009) هو أنثروبولوجي أمريكي، كان أول من أشاع مفهوم البين-ثقافية. أَوْلى اهتمامَه للأبعاد الخفيّة التي تشرِط تصرُّفاتِنا بشكل غير واعٍ، في مجالات التّواصل، والزّمن، والفضاء (المكان). بالنسبة لهذا الأنثروبولوجي، فإن كل ثقافة تمتلك نمطها الخاص للتواصل. هذا الأخير لا يتألّف فحسب من مضمون الرسائل. علاوة على ذلك، شكل الرسالة يكون عادةً أكثر أهمية بكثير من الموضوع، ما سيدفع الكاتب إلى التمييز بين سياقَين للتواصل، السياقات “العالية” و”المنخفضة”.
ثقافات ذات سياقٍ عالٍ
في ثقافة ذات سياق عالٍ، التصريحات أقلُّ أهميّة من السياق. الفرد ليس بحاجة إلى معلومة صريحة ومشفَّرة، من أجل التصرُّف والتواصل. التواصل يعتمد هنا على روابط قوية بين الأشخاص. التواصل في هذه الحالة غير رسمي، ذاتيّ، وغامض، وغير لفظيّ عادةً. ويستدخِل أشكالا أخرى من التعبير، مثل الإيماءات، ونظرة العين، أو حتّى الفضاء بين الأفراد (المسافة الجسدية بين الأفراد). الثقافات ذات “السياق العالي” تشمل ثقافات حيث العلاقات الاجتماعية مترابطة بشكل وثيق ومبنيّة على دور محدَّد سلَفا من طرف المجتمع. التواصل لا يقتصر على نقل المعلومات. فهو يعتمد على تواصل غير لفظيّ.
في هذا النوع من الثقافات، يتضح أن الانتماء إلى جماعة بالغ الأهميّة. الأفراد سيُعبِّرون ويتبادلون رسائل تتجاوز إلى حدٍّ بعيد الطُّقوس وعلامات الاحترام والودّ. الأشخاص سيمنحون الأولويّة لدلالة الصِّلة ونوعيّة التّفاعُلات. الفاعِلون قَليلُو الثقة بالوثائق المكتوبة. الإجراءات مَرِنة، والأهداف من المُفترَض أن تتطوّر مع الظُّروف. ينبغي إذن التسلُّح بالصَّبر أثناء المُفاوضات (الزمن متعدِّد التّزامُن[1] ومَرِن). ولأجل هذا يُشكِّل نسجُ روابط قويّة وخلقُ علاقاتٍ طويلة الأمَد قائمةٍ على الوفاء ركائزَ المجتمعات ذات السياق العالي (شبكات معلومات من خلال الأسرة والشركاء المهنيّين)، مع أن كثيرا من المعلومات ليست مَصُوغَة بشكل صريح. الجانب العلائقيّ، والموقِف، والعلامات غير اللفظية تكتسب أهميّة ملحوظَة. إقامة تدرُّجات فيما نقولُه يمكّن من التترُّس [=الحماية الذاتية] ولكن أيضا من صَون الآخَر. إنها طريقة للحرص على عدم زعزعة استقرار المحاوَر. هذا الثّراء العلائقيّ والتّواصُلي (التلميحات، الاقتراحات، الإيحاءات، غير المنطُوق، السَّكتات) يمكن مع ذلك أن يستتبِع سوء تفاهُم لا سيّما مع الثقافات ذات السياق المنخفِض.
ثقافات ذات سياقٍ مُنخفِض
في ثقافةٍ ذات سياق تواصُلٍ مُنخفِض، تكون المعلومة موضوعيّة ورسميّة. تتشكّل من خلال الإجراءات وتواصُل دقيق ومكتوب. الثقافات ذات “السياق المنخفِض” سيكون لها تواصُل يرتكز على المعلومات الواضحة والدقيقة (تحديد الأهداف). التواصل صريح ومُباشِر (الأولَويَّة للتّحليل والاستدلال). الأفراد يتبادلون عددًا كبيرا من المعلومات على حساب ثراء السّياق. المعلومات هنا وافية، ومُختارة بعناية، ومُرتَّبَة، ومُقدَّمة بدون غُموض (منطق استنباطيّ مع قواعد ظاهرة).
العلاقات بين الأشخاص عادةً ما تكون مُنحصِرة ومُركَّزة على اعتبارات عمليّة ومُلِحَّة. البراغماتية وإدارة المصالح قصيرة المدى لها الأسبقيّة على أهداف الثِّقة والوفاء. في إطار علاقات مهنيّة (مفاوضات، تبادُلات، صفقات)، هذا التوجُّه الثّقافي ينطوي على تواصُل “بارِد” [=فاتِر] عادةً من النّوع العقلانيّ-الرّسمي، المُرتكِز على أهدافٍ تفصيليّة وقابلة للقياس كميًّا في أُفُق زمنيّ مُحدَّد (برنامج عمل، مواعيد، مُهلة انتهاء) ومُراقَب (مُقارَبة تعاقُبيّة[2]، احترام الإجراءات). هكذا، كل شيء في هذه الثقافة مصنوع ليكون مفهُومًا. المُربِك، وغير الواضح، وما يكتَنِفُه الغُمُوض يتّم طردُه لصالح الوُضوح والإيجاز (رسائل مُشفَّرة). وحدَها الحقائقُ الثابتة (صلاحيّة تقنيّة وعلميّة)، والمعطيات الملموسة (أرقام)، والعناصِرُ الخالية من كل شكل للتّداخُلات (سياق، خبرة، تجارب) مأخوذة بعين الاعتبار.
توضيح
التواصُل بين الثّقاقات ذات السّياق العالي والمنخفِض يُمكِن أن يكون مصدرًا لسُوء الفهم، بحُكم طريقة إيصال المعلومة والعلاقة المُتبايِنة بالسّياق. كلّما كانت رسالة ثقافةٍ ذات سياقٍ قويٍّ غنيَّةً بالمعلومات غير المُعَبَّر عنها، كلّما ستبدو غامضةً لِحامِل ثقافةٍ ذات سياقٍ منخفض.
الثقافة الناطقة بالألمانية (ألمانيا، سويسرا الألمانية) تقدِّم نفسَها كثقافةٍ ذات سياق منخفِض. نمَط تواصُلِها مباشِر ويعتمِد على مضمون رسالةٍ دقيق، منقولٍ بكلمات بسيطة وواضحة. ما هو غيرُ منطوقٍ والرّوابط العاطفيّة ليس لها أهميّة. يُكتَفَى بالمعلومة المُعبَّر عنها بشكلٍ صريح. تمكِّن [هذه الثقافة] فُرُق العمل من الكشف عن المشاكل وتحليلها وحلِّها بشكلٍ موضوعيٍّ، ومُحدَّد الأهداف، وفعّالٍ. في المقابِل، تنتمي الثقافة الآسيَويّة إلى ثقافةٍ عالية السّياق. فالآسيويُّون يعيشون في جماعة، في مجموعةٍ تتّسم بعلاقاتِ ترابُطٍ قويّة. المعلومة فيها مُتواصِلة. التبادُلات مُكثَّفَة وتتحقّق من خلال مجموعِ شبكاتٍ مهنيّة، وعائليّة، وشخصيّة. الانتماء إلى الجماعة والحاجات إلى المجتمَع يتبيّن أنّه ضروريّ. التبادُلات تعتمِد على مختلَف الرُّموز الثقافيّة الغنيّة والمُعقَّدَة في آنٍ واحد، مطبوعة بالتقاليد والقيَم (طعم الجُهد الجماعيّ، الشّرف، الفضيلة) ضمن دوائر مختلفة (شركة، أسرة، أصدقاء).
خلاصة
إدوارد تي هول يستخدِم مصطلَح دولٍ ذات سياق منخفض ودُوَل[3] ذات سياق عالٍ لوصف العلاقات الاجتماعيّة بين الأفراد. بالنسبة له، يوجد إذن صنفان كبيرَان من الثقافات: ثقافات السياق العالي (استبطان، تواصُل غير لفظيّ) التي نجدها في آسيا (الصين، الهند، اليابان)، وفي أفريقيا أو في الشّرق الأوسط، وثقافات السياق المنخفض (معلومات صريحة، استدلالات لفظية) كما في الولايات المتّحدة، والدول الاسكندنافيّة، أو في ألمانيا. هذان الشّكلان من الثقافات مختلفان اختلافا كبيرًا في طريقة التّعبير ونقل المعلومة لا سيّما في حالات المجموعة أو في سياقات الأزمة (ضغط زمنيّ). تواصُلٌ بين ثقافاتٍ ذات سياقات مختلفة يمكن إذن أن ينشأ عنه سوء فهم وعدم تفاهُم. وحدَه أخذ السّمات الخاصّة لكُلّ ثقافة بالاعتبار (المضمون مقابل السياق) يُمكن أن يساهِم في تعزيز علاقات مُثمِرة وتتّسِم بالثّقة بين الفُرُق المعنيّة.
- أستاذ جامعي
[1] – متعدِّد التزامُن: محاولة متواضعة لترجمة Polychronique (بالفرنسية) أو Polychronic (بالإنجليزية). لوصف الثقافات والمقارنة بينها، يقترح إدوارد تي هول (Edward T. Hall) نموذجا مكوَّنا من ثلاثة أبعاد: الزمن، والفضاء أو المكان، والسّياق. فيما يخُصّ معيار الزّمن في وصف علاقة الثقافات به؛ يميّز هول بين نوعين من الثقافات:
- زمن وحيد التزامُن (Monochronic)؛ تفضّل الثقافة في هذه الحالة القيام بشيء واحد في وقت واحد، ولا يتمّ المرور للقيام بعمل آخر إلا بعد الانتهاء من الأوّل، ويكون الزمن في نظر الأفراد عبارة عن زمن تعاقُبيّ تسلسُليّ ترتيبيّ تتابُعيّ تدريجيّ (Sequential)، واحترام المواعيد ذا أهميّة. وهذا النوع من الثقافة يكون عادةً ذا سياقٍ منخفِض، وسيُشير الكاتب لهذا.
- زمن متعدِّد التّزامُن (Polychronic)؛ حيث تفضّل الثقافة الجمع بين أشياء كثيرة في نفس الوقت، يتزامن القيام بأكثر من مهمّة في آن واحد. النظرة للزمن هنا تكون له كزمن مستمرّ ومتّصل ويعودُ ثانيةَ من جديد ومُتزامِن (Synchronous)، كأنّ الزمن لا يكون له قيمة في هذه الحالة، وليس لاحترام المواعيد بالتالي كثير أهميّة. وهذه الثقافات تكون عالية السياق.
وبُعد العلاقة بالزمن كمعيار لوصف الثقافات والمقارنة بينها وبالتالي إمكانية إدارة الاختلافات الثقافية خاصة في الشركات متعددة الجنسية (هذا هو الهدف غالبا، الذي شجّع على مثل هذه البحوث البين-ثقافيّة cross-cultural studies)؛ هو بُعد أخذه بالاعتبار آخرون غير إدوارد هول في نماذجهم الثقافيّة، نذكر هنا بالخصوص نماذج: كلايد كلوكهون & فريد سترودتبك (kluckhohn & strodtbeck)، وترمبنرز & همبدن-تيرنر (trompenaars & hampden-turner). (المترجم)
[2] – انظر التعليق السابق حول الزمن وحيد التزامُن (Monochronic). (المترجم)
[3] – نريد لفت انتباه القارئ إلى أن استعمال مصطلح “دولة” في هذا السياق، وكذلك الأمر بالنسبة لكلمة “مجتمع” أصبح يُثير نقاشا وجدلا في علم الاجتماع. يجادل بعض علماء الاجتماع الناقدين لهذه المفاهيم بأنّ دراسة علم الاجتماع للمجتمع نشأ في ظل الدولة القومية ويرتبط بهذا السياق، وبالتالي فإن واقع العولمة اليوم وظهور القوى الاجتماعية العابرة للحدود الوطنية يجعل من هذه المصطلحات قاصرة عن فهم حركيّة التغيُّر الاجتماعي، وينبغي تجاوُز هذه المفاهيم التي تُعيق عن فهم القوى التي تشكّل الحياة الاجتماعيّة في الواقع الحاليّ
(انظر: Anthony Giddens & Philip W. Sutton, Essential Concepts in Sociology concept of Society in :).
من جانب آخر، إذا أخذنا النّقد السابق بعين الاعتبار (كوننا نراه وجيها)، يبقى مما ينبغي الاعتراف به القوة التي ما زالت للحدود الوطنية كذلك في تشكيل الثقافات وتمايُزها (ومنتهى النقد السابق أن نعتبر هذه القوة محدودة وليست القوة الوحيدة الفاعلة في تشكيل الثقافات)، وبالتالي تبقى الدراسات حول الثقافات بحسب المجتمعات الوطنية صالحة، وإن كانت محدودة، ويُعتبَر جُزءا من ثقافة مجتمع معين ما كان منتشرا ومنطبقا على غالبية أفراده. (المترجم)