- روفين فايرستون[*]
- ترجمة: أنس بن سعود الجروان
عنوان الكتاب: قصصٌ مشتركة، وحكايات متباينة: السجالات الأولى بين اليهود والمسيحين والمسلمين
المؤلف: روبرت غريج[2]
الناشر: مطبعة جامعة أكسفورد
عدد الصفحات: 752
عام النشر: 2015
اعتمد روبرت غريج في هذا الكتاب -الضخم- على خمس قصص كتابية قصيرة، تشهد على التأثير العميق الذي كان -ولا يزال- للسرد الكتابي على المليارات من الناس اليوم، وعلى مر تاريخ الديانات التوحيدية الكتابية. القصص الخمس التي عرضها الكتاب هي: قصة قايين وهابيل (قابيل وهابيل كما سميت هذه الشخصيات القرآنية في الأعمال الإسلامية اللاحقة على القرآن)، وسارة وهاجر، وقصة ما دار بين [النبي] يوسف وزوجة عزيز مصر (زوجه بوتيفار في التقاليد اليهودية المبكرة، ‘زليخة’ في التقليد الإسلامي اللاحق، وفي وبعض المصادر اليهودية)، قصة النبي يونان/يونس، ومريم أم يسوع. يقدم كلٌّ من هذه القصص سردا للصراع والألم والسعي والنجاة من الهلاك، وكلها وردت في الكتب المقدسة بطرق مقتضبة ومختصرة بحيث تترك مساحة للجمهور لكي يُعمل عقله فيها، وذلك لأن القضايا القوية والمُعاشة والمجربة عالمياً المضمنة في هذه القصص لم تُحل بشكل كامل. تتطلب هذه السمات السردية تجاوبًا من الجمهور المتلقي للنص، وقد سجلت العديد من هذه الاستجابات -شفوياً- التفسير السردي للقصص. وتتراوح الاستجابات المكتوبة الأخرى بين التحليلات اللغوية أو العلمية إلى التأملات الفلسفية، وحتى إعادة سرد القصة بطريقة خيالية، فضلا عن الاستجابات التي تمثلت في الفنون التشكيلية. وإحدى المساهمات الرائعة لهذا الكتاب هي عرضه السخي لمثل هذه التفسيرات الفنية والأدبية.
يتناول الكتاب “تاريخ التلقي للنص المقدس”، وهو مصطلح معاصر وشائع يصف الاهتمام المعاصر المتزايد بالطرق التي استجابت بها المجتمعات مع النصوص الكلاسيكية (تعمل دار نشرDe Gruyter حالياً على إصدار موسوعة من ثلاثين مجلداً بعنوان موسوعة الكتاب المقدس وتلقيه). أحد المساهمات الهامة لهذا النوع من المنهجيات العلمية المستخدمة في عمل غريج هو في تأكيده على أن الكتاب المقدس نفسه هو شكل من أشكال تاريخ التلقي. من الواضح تماما أن استعراض القرآن للقصص بهذا التتابع هو شكل من أشكال الاستجابة والتوضيح، إن لم يكن شرحا أكمل أو حتى إعادة سرد للمواد المقدمة في الكتب المقدسة السابقة، والتي هي نفسها استجابات وتطورات للمواد التي تشكلت في وقت سابق، بعضها في شكل “كتابي”، والبعض الآخر في مجموعة متنوعة من الأشكال الأخرى كما نعرفها من المخزون الكبير والمتزايد من الأدب والفن في فترة ما قبل الكتاب المقدس المكتشفة في الشرق الأدنى القديم وأماكن أخرى.[3] عند الانخراط في تحليل تزامني موضوعي، بالكاد يجد المرء تمييزا مقبولا ومتسقا بين “النص المقدس” و “تفسيره/تلقيه”، لأن النص نفسه هو تعليق ونقد للعالم من سياقه الخاص، عالم يتكون من المؤسسات والسلوكيات والروايات التي هي قلب ودم الوجود البشري.
يركز غريج على الاستجابات التفسيرية المبكرة نسبيا من التقاليد اليهودية والمسيحية – ومعظمها مواد من العصور الكلاسيكية المتأخرة – وأيضاً المواد اللاحقة من التقاليد الإسلامية التي تصل إلى القرن السابع عشر الميلادي. قد يبدو أن هذا يخلق خللا معينا بين التقاليد الدينية، ولكن لا يمكن أن يكون هناك تماثل كامل بينها على أي حال، لأن العلاقة الزمنية التتابعية تؤثر في وجهات نظر هذه التقاليد الثلاثة. كما ذكر أعلاه، لا يمكن للنصوص المقدسة اللاحقة إلا أن تفسر النصوص المقدسة السابقة عليها، لذلك فهي تعمل في وقت واحد كمصدر كتابي واستجابة تفسيرية. كان يفترض في كثير من الأحيان أن الكتاب المقدس العبري هو فقط كتاب مقدس وليس تفسيرا لشيء آخر سابق عليه، ولكن تبين أن الكتاب المقدس العبري لا يمثل استجابة لأدب الشرق الأدنى القديم في وقت سابق فحسب، بل يفسره أيضا، لذلك قد يكون عدم التماثل في الواقع أقل مما كان يتصور.
بالنسبة لغريج، يحقق التفسير المتنافس هدفين أساسيين لنصوص الديانات التوحيدية الثلاثة. الأول هو “الحفاظ على شعور مجتمعهم الديني بالتفرد (“نحن شعب الله المختار!”). والثاني هو “إلهام هذا المجتمع للوقوف بحزم في أي مشادات مع منافسيه (“أهل الكتاب” في مقابل الآخرين) (ص14). وكلا الهدفين يحملان في جوهرهما، نية جدلية، وقراءة المواد التفسيرية بحساسية تجاه التوتر التنافسي بين الطوائف الدينية، مزودة إياهم بمنهجية مفيدة لفهم ذلك التوتر.
على عكس معظم الأعمال التفسيرية المقارنة التي تميل إلى التركيز فقط على الأعمال اليهودية والمسيحية، يتضمن هذا الكتاب الإسلام باعتباره شريكا على قدم المساواة في عالم الحكمة الكتابية والتفسيرية. غريج حساس للأهداف الجدلية والدفاعية في الكثير (وأود أن أغامر بقول كلمة ‘معظم’) التفاسير. عندما لا يكون المرء على علم بالطبيعة التنافسية العالية للإنتاج الأدبي الديني، يمكن للمرء أن يفوِّت بسهولة المعنى الكامل لهذا التراث، وغالبا ما يذكرنا غريج بهذا الجانب من الإنتاج التفسيري، خاصة في القسم الذي يتحدث عن مريم، وهو القسم الأخير والأطول من الكتاب.
يحتوي الكتاب على بعض الأخطاء، والتي قد تكون متوقعة في عمل بهذا الحجم والكثافة. (على سبيل المثال. قابيل ليس هو الاسم القرآني لقايين [ص 3، ولكن انظر أيضا ص 77]؛ والتفسير الذي تسمي حواء فيه ابنها في سفر التكوين يستند إلى كلمة “الإدراك acquiring” – وليس “المعرفة knowing” [ص 16]؛ وكذلك في سفر التكوين تكررت “فعند الباب خطيئة “جالسة” بدلا من ” رابضة”، الخ)[4]. وربما أيضا كان متوقعا نظرا لمجموعة واسعة من المواد المعروضة في الكتاب، فالكاتب أحياناً يُسقط بعض التفاصيل الهامة. القرآن على وجه التحديد لا يسمي الابن الذي نوى إبراهيم ذبحه، على سبيل المثال. ليس من الواضح على الإطلاق أن إسماعيل كان هو المقصود، على الرغم من أن الرأي الحالي عند أهل السنة حول هذه المسألة بأغلبية ساحقة أن إسماعيل هو الذبيح. توقع أوائل المفسرين السنة أن يكون الضحية إسحاق، والتراث الشيعي يميل إلى صالحه أيضاً. ومع ذلك، يتجنب القرآن تقديم أي اسم في هذه القصة، ولا يقدم اسما إلا في تأطيره اللاحق (التفاسير). ويبدو أنها ردٌّ على اليهود والمسيحيين الذين كانوا يتجادلون حول من المستفيد من ميزة أن يحسب بين ذرية إبراهيم من خلال إسحاق (إما بالنسب أو روحيا)، وكل ما أعلنه القرآن (من بين أمور أخرى) أن معرفة من كاد أن يضحى به إبراهيم ليس هو الهدف من القصة. بل إن المسألة المطروحة هي الطبيعة الرائعة للأمر الإلهي والطبيعة الرائعة لرد إبراهيم وابنه. أما من الذي سيحصل على الميزة فليس هو من صميم القضية.
إن الكتاب الذي يتعامل مع التقاليد التفسيرية لثلاث حضارات دينية معقدة وعالية الإنتاجية، وحتى كتاب بهذا الحجم، لا يمكن أن ينصف تماماً نطاق وعمق إنتاجها. ومثل هذا العمل يتطلب العمل مع النصوص في مجموعة من اللغات التي يندر أن تتوفر حتى للمتخصص. تعامل غريج في الغالب مع ترجمات للتقاليد اليهودية والإسلامية. وهذا لا يمثل مشكلة مع المواد اليهودية حيث تمت ترجمة الكثير منها خلال القرن الماضي. لكن الترجمات إلى اللغة الإنجليزية من العربية وغيرها من اللغات التي يتحدث بها المسلمون المنتجون لهذا التراث نادرة نسبيا، ولا يوجد شيء تقريبا في مجال التفسير. لهذا السبب، غريج كان عليه أن يعتمد على مواد ذات صلة مثل ‘قصص الأنبياء’ التي يمكن العثور عليها في ثلاثة أعمال حديثة، تاريخ الطبري (pressSUNY)، والكسائي (قصص الأنبياء) وقصص الثعلبي (Brill). ورغم أنها تحتوي على عدد هائل من الآثار، إلا أنها لا تمثل سوى نوع واحد من الأدب التفسيري الواسع للإسلام.
لقد كنت متحيراً من غرض هذا الكتاب، فلم يكن سهل القراءة، على الرغم من أنه مثير للاهتمام. ويبدو أن طوله يحول دون استخدامه مقررا في الجامعات. ولكن يمكن استخدامه عملا مرجعيا يمكن من خلاله للمرء أن يتعلم بعض الاستجابات التفسيرية للنصوص الدينية للديانات التوحيدية الثلاث. والواقع أنها مجموعة رائعة من التفاسير لبعض الروايات الأساسية التي أصبحت تحدد الفروقات بين نصوص الديانات التوحيدية الثلاثة.
[1] – (روفين فايرستون): بروفيسور الدراسات اليهودية والإسلامية في العصور الوسطى في الكلية العبرية بلوس انجلوس، وأستاذ الدراسات الدينية في جامعة كاليفورنيا الجنوبية.
[2] – (روبرت غريج): بروفيسور الدراسات الدينية في جامعة ستانفورد، دراساته تتركز في الفكر الديني وتنافس الأديان في العصر الروماني المتأخر والعصور الوسطى المبكرة في الشام وحوض البحر المتوسط.
[3] – ينظر عدد كبير من الباحثين الغربيين في حقل الدراسات القرآنية إلى القصص القرآني باعتباره إعادة سرد أو ردة فعل على القصص الكتابي؛ على تفاوت بينهم في دلالة هذا الاشتباك، فترى أنجليكا نويفرت مثلا أن القرآن ومحتواه يمثلان اشتباكا حيا مع المناقشات التي كانت دائرة في الشرق الأدنى وحوض المتوسط، ومن ثم فلا غرابة في أن يعيد سرد بعض القصص الكتابي من باب اشتباكه التصحيحي معها. بينما ذهب مسشترقون آخرون إلى أن القرآن ليس إلا إعادة ترتيب -سيئة (تعالى الله علوا كبيرا)- للكتاب المقدس، وقد ذهب هؤلاء إلى (مثل جايجر وغيره) إلى فرية استفادة القرآن من الكتاب المقدس. -الإشراف.
[4] – يشير هنا إلى نص مشوه في المخطوطات لعبارة في سفر التكوين 4:7 (انظر الترجمة اليسوعية). -الإشراف.