عام

المرض بصفته استعارة سياسية

  • سوزان سونتاغ
  • ترجمة: إسراء العيدي
  • تحرير: محمد بن داود الفضيلي

المقال التالي ترجمة لجزء مهم من مقال الكاتبة الأمريكية سوزان سونتاغ عن الاستعمالات المختلفة للأمراض كاستعارات عن الأحوال السياسية والاجتماعية.

لطالما استخدمت الأمراض كاستعارات للتعبير عن مشاكل المجتمع. عند شكسبير مثلا، قد يُصاب “الكيان السياسي” بالعدوى فيصبح استئصال مرضه واجبا. على الرغم من هذه الاستعارات، يظل المسرح الايليزابيثي المثقل بصور مرَضية عاجزا أمام تصوير الفكرة الحديثة عن المرض “السيّد” وهو مرض العدوى الجماعية للمجتمع.

كانت هذه الأمراض السيادية مثل السل والسرطان تحدد الأفكار المهيمنة حول صحة الفرد وتعبر عن حالة عدم الرضى من المجتمع ككل. وعلى خلاف استعارات العصر الاليزابيثي التي كان يدل فيها المرض على الانحراف الاجتماعي أو عدم التوازن الذي يخل بالضرورة بحياة الأفراد، تظهر الاستعارات الحديثة في وقت أصبحت فيه الأفكار حول الفرد والمجتمع متقابلة، يكون فيها المجتمع خصما للفرد. كانت استعارات المرض ترى المجتمع مضطهدا لا مختل التوازن، ثم انتقلت بالتدريج إلى خطاب رومانسي يضع القلب في مواجهة العقل والعفوية في مواجهة العقلانية والطبيعي في مواجهة المصطنع والقرية في مواجهة المدينة.

في بدايات القرن التاسع عاشر وعندما ابتُدع الترحال إلى الأماكن الأفضل مناخا كعلاج للسل، كانت الوجهات المقترحة من أكثر الأماكن إثارة للجدل، كالجنوب والهضاب والصحاري والجزر التي على تنوعها تشترك في نقطة جوهرية وهي نبذ المدينة. في أوبرا لا ترافياتا يفوز الفريدو بحب فايوليتا فتكون أولى خطواته هي مغادرة باريس المعتلة الفاسدة إلى الريف الطاهر، فتعقب العافية هذه الخطوة فورا. بعدها، تفقد فايوليتا سعادتها في اللحظة التي فيها تترك الريف لتتجه إلى المدينة أين يجد السل طريقه إليها مجددا فلاقت حتفها.

يوفر السرطان كاستعارة مساحة أكبر لموضوع نبذ المدينة. في ثلاثية أوهام ضائعة وفي الجزء المعنون بِ “مشهور الريف في باريس” يصف بلزاك “لوسيين دو روبومري” بعد حضوره لحفل أدبي فيقول: لقد رأى في هذه الأمسية الأشياء على حقيقتها. وعِوَض أن يصاب بالذعر من مشهد ذلك “السرطان” الذي نخر قلب باريس، شعر بمتعة آسرة من كونه في مجتمع مثقف لتلك الدرجة. هؤلاء هم الرجال المتميزون، بدرع رذيلتهم اللامع.

قبل أن تُعد المدينة كمحيط مسبب للسرطان حقيقة لا مجازا، كانت تُتصور في الخيال العام أنها هي السرطان في حد ذاته، معقلا للشذوذ والنمو المصطنع والأهواء المتطرفة المفترسة.

أصبحت استعارات المرض طوال القرن التاسع عشر أقل تعقلا وأكثر انحرافا وغوغائية حتى نمت الرغبة في نعت كل حالة غير مرغوب فيها بمرض ما. بذلك أصبح المرض الذي يمككنا أن نعدّه جزءً من الطبيعة شأنه شأن العافية، أصبح مرادفا لكل ما هو غير طبيعي. كتب هوغو في روايته البؤساء: إن الرهبنة كتلك التي شهدتها إسبانيا وتشهدها اليوم تيبيت تمثّل للحضارة نوعا من السل، تعرقل الحياة أو ببساطة تجعلها مقفرة. إنها حجر وإخصاء، وآفة في قلب أوروبا.

في سنة 1800، عرّف الفيزيائي الفرنسي بيشا الحياة على أنها “مجموعة الوظائف التي تقاوم الموت.” وذاك التضاد بين الحياة والموت أصبح تضادا بين الحياة والمرض. المرض (كمساوٍ للموت اليوم) أصبح غريما للحياة.

أما في سنة 1916، فقد كتب غرامشي في مقاله “الاشتراكية والثقافة” منددًا: التعود على التفكير في الثقافة كمعرفة موسوعية…هذا الشكل من الثقافة يخلق فكرًا ضعيفًا لا أثر له…وينتج عنه رهْط كبير من المتفاخرين والحالمين الذين يشكلون خطرًا على عافية الحياة الاجتماعية أكبر من خطر جراثيم السل والزهري على عافية الجسم وجماله.

في سنة 1919، أثنى ماندلستام على باسترناك قائلا: “أن تقرأ بَيتا شعريا لباسترناك يعني أن تُطهر حلقك وتُقوي نَفَسك وتملأ صدرك، هذا الشعر جالب للعافية وشفاء للسل، ولا وجود لشعر أكثر عافية منه في أيامنا هذه، إن أثره كأثر شرب الكومس بعد شرب الحليب الأمريكي المعلب”.

ومرينيتي عند استنكاره للاشتراكية سنه 1920 قائلا: “إن الاشتراكية هي السرطان البيروقراطي الذي طالما استهلك الانسانية. سرطان ألماني خلفته حالة التأهب والاستعداد التي تُعرَف بها ألمانيا. إن كل استعداد مدروس هو خطوة ضد الانسانية.”

استخدم كل من الكاتب الايطالي ألبيرتو فاشي والأب المؤسس للحزب الشيوعي مستقبلا نفس الاستعارات، الأول لكي يهاجم الاشتراكية والثاني لكي يهاجم فكرة البرجوازيين عن أن الثقافة “مؤذية جدًا، خاصة للطبقة العاملة” كما قال غرامشي، لكونهما مصطنعين ومتكلفين وجامدين وبلا حياة. يُستدعى السل إذًا مع السرطان في كل مرة للتنديد بالممارسات والمُثُل القمعية، وأصبح القمع يُصوّر كمحيط يسلب المرء قوّته (السل) أو يسلبه مرونته وعفويته (السرطان)، ومن ثم يُستدعى لبناء مُثل أساسه العافية الاجتماعية التي تقاس بالصحة الجسدية وليس بالضرورة مُثل للنظام السياسي.

استعمال المرض كاستعارة للتعبير عن عدم الاستقرار السياسي هو أحد أقدم الاستعمالات في الفلسفة السياسية. إذا كان من الممكن مقارنة المدينة بالبنية الجسدية فمن الممكن أيضا مقارنة الاضطراب المدني بالمرض، وكانت البنى التي أسستها الحِقبة الكلاسيكية من أفلاطون إلى هوبز التي وازت بين الاضطراب والمرض قد قالت بالفكرة الكلاسيكية الطبية (وبالتالي السياسية) عن التوازن، ينتج المرض عن انعدام التوازن، وهدف العلاج هو استرجاع التوازن المناسب. وقد يسمى ذلك في السياق سياسي، النظام المناسب. وبما أن التخمين دائما ما يكون في أصله تفاؤليًا، فإن “المجتمع”، بالنظر إلى مفهومه، لا يُصاب بمرض مميت وفاتك أبدا.

عندما يستعمل ميكيافيلي مثلا صورة المرض، فهو يفترض أن لهذا المرض علاجا، فقد كتب ميكيافيلي:”إن الاستهلاك في بداياته قابل للعلاج وعصي على الفهم، لكن حين لا يُكتشف في الوقت المناسب ولا يُعالج بالمبدأ المناسب يصبح قابلا للفهم وعصيا على العلاج. وهذا ما يحدث بالضبط في شؤون الدولة، حينما يتم التنبؤ والتبصر بالشرور التي من الممكن أن تظهر، وهو ما يستطيعه الرجال الموهوبون فقط، ستتسرع عملية العلاج في حال ظهورها، لكن حين تغيب البصيرة تتفشى الشرور لدرجة تطال الجميع حتى يصير العلاج غير ممكنا.”

يرى ميكيافيلي السل كمرض يمكن وقف تطوره إذا تم التعرف عليه في مراحله المتقدمة (عندما تكون أعراضه بالكاد ظاهرة). لذلك حينما تتوفر البصيرة اللازمة، فإن تطور المرض لا يصبح حتميًا وهو الحال عينه بالنسبة للاضطرابات التي تعصف بالكيان السياسي. يقدم لنا ميكيافيلي المرض كتشبيه مجازيٍ عن إدارة الدولة (باعتبارها فنا علاجيا) أكثر من كونه تشبيهاً مجازيًا عن المجتمع، وكما أن الحذر لازم للإحاطة بالأمراض المستعصية، فإن البصيرة لازمة للإحاطة بالمشاكل الاجتماعية، فإنه استعارة عن البصيرة وفي نفس الوقت دعوة لها.

في تراث الفلسفة السياسية الكبير، يُستخدم التقابل بين المرض والاضطراب المدني لحث الحكام على نهج سياسة أكثر عقلانية، فقد كتب هوبز: “على الرغم من أن لا شيء خالد يمكن للإنسان أن يصنعه، إلا أنه لو استعمل العقل الذي يدّعي حيازته لَمَنع ثرواته المشتركة من الزوال بفعل الأمراض الداخلية، لذلك حين تتبدد الثروات بسبب الاضطراب الداخلي لا بسبب العنف الخارجي، حينها لن يقع اللوم على الإنسان بكونه “مادة” بل بكونه صانعا ومسيّرا لهذه الثروات”.

إن نظرة هوبز لا تبشر بحتمية الموت بأي شكل من الأشكال؛ لأن الحكام يملكون المسؤولية والإمكانية (عن طريق العقلنة) للتحكم في الاضطراب، فبالنسبة لهوبز، الجريمة (أو العنف الخارجي) هو الطريقة “الطبيعية” الوحيدة لموتِ مجتمعٍ أو مؤسسةٍ ما. أما أن تموت بفعل اضطراب داخلي -قياسا على المرض- فهو انتحار، أي أنه أمر يُمكن تفاديه، أو أنه صنيع الإرادة أو بالأحرى فشلها (أي فشل للعقل).

استعملت الفلسفة السياسية صورة المرض لتعزز من الدعوة إلى الاستجابة العقلانية. ركز كل من ميكيافيلي وهوبز على جزء واحد من الحكمة الطبية والتي تتمثل في أهمية الحد من المرض في مراحله المبكرة، أي أين يكون التحكم فيه سهلًا نسبيًا. كما كان من الممكن أيضا استعمال صورة المرض لحث الحكام على نوع آخر من البصيرة، ففي سنة 1708، كتب اللورد شافتسبري: “هناك نوع من الأخلاط البشرية التي ظهرت بفعل الحاجة، فإن العقل والجسم البشري كلاهما عرضة للاضطراب، إذ أن في الدم اهتياجات غريبة قد تتسبب في تدفق هائل، لكن لو عمل الفيزيائيون على تسكين كل اضطرابات الجسم بشكل مطلق وعلى التصدي لكل الأخلاط التي تظهر عند حدوث هذه الاضطرابات، فإنهم قد يتسببون في خلق داء أعظم عوض خلق الدواء، وفي تحويل مرض خفيف إلى حمى وبائية خبيثة. مثل هؤلاء الفيزيائيين يتواجدون أيضا في الكيان السياسي ويتلاعبون بالاضطرابات الفكرية بحجة معالجة الناس من أهواء الخرافة ومن عدوى الحماس وسيتسببون يوما ما في قلب كل ما هو طبيعي وفي تحويل بعض الجمرات البريئة إلى التهاب وإلى أُكال[1] مميت.”

ما يوّد شافتسبري قوله هو أنه من العقلانية أن نغض الطرف عن قدر معين من اللاعقلانية (“الخرافة” و”الحماس”) وأن المقاييس الصارمة والقمعية قد تزيد من حدة الاضطراب عوضا عن أن تعالجه، فتحول بالتالي ازعاجا بسيطا إلى كارثة؛ لهذا لا يجب المبالغة في معالجة الكيان السياسي؛ أي لا يحتاج كل اضطراب إلى إصلاح.

بالنسبة لمكيافيلي كانت البصيرة، بالنسبة  لهوبز العقل أما شافتسبري فالسَماحة. كانت هذه هي الأفكار التي من شأنها أن تجنب الدولة، باعتبارها قياسا على الطب، من الوقوع في الاضطراب المميت. إن المجتمع في أصله في حالة جيدة، أما المرض (الاضطراب) فلطالما كان بالضرورة قابلا للتحكم.

في العصر الحديث، أصبح لصورة المرض في الخطاب السياسي استعمالات أكثر سوداوية. إن الفكرة الحديثة عن الثورة، والتي تشكلت من أكثر التحليلات بعثًا على اليأس، قد عصفت بالاستعمالات القديمة والمتفائلة لاستعارات المرض. في ديسمبر سنة 1772، كتب جون أدامز في مذكرته: “إن الأُفُق أمامي موحِشٌ جدًا، يعيش وطني في محنة موغلة ومساحةُ أملِه بالغة الضآلة…جسد هذا الشعب أُنهِك بالصراع والفساد وبالذل والفسق، نخروا جسده وانتشروا كالسرطان.”

 كانت تُعرّف الأحداث السياسية في البدء على أنها غير مسبوقة وجذرية، وكما يمكن التوقع فإن استعارات المرض التي نعرفها اليوم لم تظهر مع الثورة الأمريكية بل الفرنسية، وبالتحديد في رد المحافظين عليها، ففي كتابه “تأملات في الثورة في فرنسا” (1970)، عقد ادموند بورك مقارنة بين الحروب والاضطرابات المدنية القديمة والثورة الفرنسية الحديثة التي يرى أن لها ميزة مختلفة بالكلية، سابقًا وعلى الرغم من الكارثة المدنية، كانت “أجزاء.. الدولة حاضرة حتى وإن كانت مبعثرة”. أما الآن، كما خاطب بورك الفرنسيين وثورتهم: “هذا التيه الذي تعيشونه كالشلل، أغار على منبع الحياة نفسه”.

هناك فكرة حديثة عن السياسة قد اكتملت بفكرة حديثة عن المرض، لأن النظريات الكلاسيكية عن السياسة قد سلكت أدراج الرياح مع “نظرية الأخلاط الأربعة”[2] في الطب، فالمرض يعادل الموت الآن. أشار بورك إلى الشلل (وإلى القرحة الحية في ذاكرة متآكلة”)، لكن سرعان ما أصبح التركيز أكثر على الأمراض الكريهة والقاتلة، هذه الأمراض لا تُروض أو تُعالج بل تُهاجم. في رواية هوغو “سنة 93” عن الثورة الفرنسية، يغفر الثوري غوفين المحكوم بالإعدام للثورة بكل دمويتها بما في ذلك دموية إعدامه الوشيك لأنها كما يقول “عاصفة، والعاصفة تعرف ما تصنع.. حين كانت الحضارة في قبضة الطاعون جاءت هذه العاصفة لتنقذها، قد لا تكون انتقائية بشكل كاف، لكن هل يمكن أن تكون غير ذلك؟ إنها منوطة بالمهمة الشاقة المتمثلة في القضاء على المرض. إنني أتفهم ضراوة الانفجار في وجه هذه العدوى المروعة”.

كانت تلك بالكاد المرة الأخيرة التي يكون فيها المرض الخطير والمتجذر الذي يطال المجتمع مبررا للعنف الثوري. إن الاستعمالات الميلودرامية لمجاز المرض في الخطاب السياسي الحديث تفترض نهجا عقابيا، ليس للمرض كعقاب في حد ذاته بل كشيء “يُعاقب” وكرمز للشر.

تتجه الحركات الشمولية الحديثة المنتمية لليمين منها أو لليسار إلى استعمال صور المرض على نحو غريب وواضح، كان النازيون مثلا يشبهون الشخص الذي تتعدد أصوله العرقية بمرض الزهري، أما اليهود الأوروبيون فلطالما تم قياسهم بالزهري أو السرطان الذي لابد من استئصاله، كانت استعارات المرض عنصرًا رئيسًا في الجدالات البلشفية، فقد استعملها تروتسكي، أحد أكثر المجادلين الاشتراكيين مهارةً، استعملها بوفرة بالغة وخاصة بعد نفيه من الإتحاد السوفياتي سنة 1929. وكانت الستالينية تُنعت أيضا بالكوليرا وبالزهري والسرطان. إن استعمال هذه الأمراض الفاتكة دون غيرها كصور في السياسة يجعل للاستعارة طابعا أكثر حدة. أن تشبّه في أيامنا هذه حالة أو حدثا سياسيا بالمرض يعني أن تُلبسَه تهمة ما وأن تُحيله للعقاب.


[1]  أو ما يسمى غرغرينا

[2] Theories of four humour

المصدر
nybooks

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى