- بيتر ستون
- ترجمة: سارة بن عمر
- تحرير: رنين الأحمد
إن نعوم تشومسكي شخصيةٌ محوريةٌ في مجال اللغويات، وهو أيضاً مفكرٌ مؤثرٌ له جمهوره. وقد كان شخصيةً خلافيةً بصورةٍ مذهلةً في كلا المجالين، فهو بين محبٌ وكارهٌ. أما عن “كريس نايت” -وهو باحثٌ أولٌ في قسم الأنثروبولوجيا بكلية لندن الجامعية- فإنه من بين من يكرهونه؛ ولهذا السبب كتب “فك شيفرة تشومسكي: العلم والسياسات الثورية” (2016)؛ ذلك العمل المضلل المقزز، الذي اتسم بالضحالة وضيق الأفق، وهيمنت عليه أيديولوجيته.
على خلاف معظم نقاد تشومسكي، وجه نايت سهام نقده من اليسار (نايت هو ماركسي معادٍ بوضوحٍ لأناركية ]فوضوية[ تشومسكي). إن منسوب الحقد المعروض هنا يتجاوز حتى أشرس منتقدي تشومسكي من اليمين. يزعم نايت أن هدفه من ذلك هو “خدمة العدالة فيما يتعلق بتشومسكي العالِم دون ظلم تشومسكي ’ضمير أمريكا’” (ص12-13) مما يوحي بأن الكتاب سيقدم نقداً عادلاً لأفكار تشومسكي في اللسانيات، مع إيلاء الاحترام الواجب لسياسة تشومسكي. ولكن “نايت” يرمي إلى ماهو أبعد من ذلك، وهو تحطيم شامل لتشومسكي. يؤكد نايت أن أعمال تشومسكي في اللسانيات هي عديمة القيمة تماماً؛ بل أسوأ من ذلك، حيث يزعم أن أعماله دفعت بمجال اللغويات نحو الضلال، ولعبت دوراً محورياً في إضعاف اليسار السياسي على مدار الستين عاما الماضية.
يقدم نايت عرضاً غير منهجي لأعمال تشومسكي في اللغويات، ولا يبرز كيف تتطورت أعماله المختلفة، وبالتالي فإن أي قارئ جديد كلياً على لغويات تشومسكي سوف يجد عبر تصفح “فك شيفرة تشومسكي” صعوبةً بالغةً في استنتاج فيما كان يفكر تشومسكي ولماذا؛ إذ عوضاً عن بسط مقاربة تشومسكي في اللغويات منهجياً و سبر نقاط قوتها وضعفها، نجد أن نايت يفترض منذ البداية أن المقاربة لم تكن ذات قيمة على الإطلاق. فيرى أن إنتاج تشومسكي اللغوي هو “متاهة من الهراء” و” هو إسهام في عدم الفهم المربك، والذي بفحصه عن كثب يتبين لنا أنه لا معنى له على الإطلاق” (ص11-13). إنها حقاً عباراتٌ وقحةٌ صادرة عن باحثٍ في الأنثروبولوجيا “ليس له دراية باللسانيات ولم يتلقَ تدريباً نظرياً في اللغويات” (ص9) وقد قارب لغويات تشومسكي كما يفعل عالم أنثروبولوجيا عند دراسته لقبيلة غريبة. وعوضا عن التقييم النقدي لدراسة تشومسكي، أخذ نايت على عاتقه شرح كيف أنه “إذا كانت افتراضات الدراسة إخفاقاً تاماً من البداية حتى النهاية” فإن بإمكانها إحداث أثرٌ عظيم في مجال اللغويات وفي ما هو أبعد من ذلك (ص184).
كونه ماركسياً فإن نايت يفسر نجاح تشومسكي كلغوي بأنه متوقف على المنفعة الحاصلة من تشومسكي للطبقة الحاكمة، ويمكننا عن طريق تتبع التحريفات والتبديلات التي تحتويها حجج نايت إثبات احتياله، فكونوا صبورين معي.
قال نايت أنه في يومٍ ما”كانت ’النظرية السلوكية’ هي النموذج/الباراديم السائد في علم النفس ’العلمي’”(ص23) وقد “رحّب” حكام العالم “بالسلوكية نظراً لأنها بدت مبشرةً بتقنيات مُطوَّرةٍ لصالح تعليم الجماهير والتلاعب السياسي والسيطرة”(ص24). لقد تحدى تشومسكي السلوكية من جذورها وذلك مساهمةً منه في انطلاق الثورة المعرفية الحديثة في مراجعته الشهيرة، على سبيل المثال، لكتاب “سكينر” (السلوك اللفظي) 1957. قد يظن أحدهم أن هذا التحدي لنظريةٍ علميةٍ تعتنقها الطبقة الحاكمة سيسعد نايت، غير أنه يرى أن السلوكية بسقوطها نظراً لأنها صادرةٌ عن الطبقة الحاكمة تحتاج لذات الأمر حتى تحقق صعودها. “لقد ناسبت السلوكية المسؤولين الراغبين في التلاعب بالناس من خلال العقاب والثواب، مستهدفين بذلك ليس عقولهم، وإنما مشاعرهم وأجسادهم. من وجهة نظر هؤلاء الأشخاص، فإنه لم يكن لما يفكر فيه ضحاياهم العاجزين أي أهمية؛ والآن بما أنه أصبح للاتصال الشأن المركزي، فإن الحالة العقلية صارت مهمة” (التركيز على الأصل ص50). “لقد كان هناك حاجةً مُلحةً للشركات الأمريكية لعلم نفس يتمركز حول العقل”، هذا ما استنتجه نايت وأكمل قائلاً: “وعلى مستوى أعمق، فقد أدت [نظرية تشومسكي] إلى هلاك السلوكية وضمنت للثورة الإدراكية نجاحاً سريعاً ومتألقاً.” ([1]) (ص29)
إذن ما الذي احتاجت إليه الشركات الأمريكية بالضبط بمجرد أن أصبحت السلوكية غير مفيدة لها؟
كانت مطالبات البنتاغون خلف الثورة العقلية التي قدمها تشومسكي، و”من بين أكثر أحلام البناغون جموحاً هي ’الرؤية’ المتمثلة في لغةٍ عالميةٍ يكونون هم المتحكمون بمفاتيحها” (ص10) وهذا ما جعل البنتاغون يمول ببذخٍ مشاريع الترجمة الآلية، بهدف تقديم ترجماتٍ جاهزةٍ ممكنةٍ لكل اللغات؛ ويذكر نايت أن أعمال تشومسكي ذاتها كانت جزءاً من هذا المشروع.
لقد أنكر تشومسكي أن لأعماله أيّ علاقةٍ بالترجمة الآلية كما فعل الكثير من المعلقين على أعماله (انظر مثلا ص60-64). في الحقيقة لقد رفض تشومسكي أساساً فكرة الترجمة الآلية، لأنه “واقعياً، فإن التطورات في هذا المجال ستكون على الأرجح مبنيةً على أساليبٍ إحصائيةٍ تنطوي على التجربة والخطأ، فهي تعتمد على مخزن ذاكرةٍ ذي سعةٍ كبيرةٍ” (ص57).
وبعبارةٍ أخرى، فإن الترجمة عن طريق الكمبيوتر لن تعتمد على أي نظريةٍ لغويةٍ([2])، بل فقط على قوةٍ حسابيةٍ وإحصائيةٍ محضةٍ. إن نايت على علمٍ بهذا ويعترف بأنه “لا شيء مما أنتجه تشومسكي قد شارك بأدنى مساهمةٍ فعليةٍ لصالح القوات الأمريكية العسكرية” (ص9)، ولكن لا شيء من ذلك منع نايت من توجيه نقده اللاذع للترجمة الآلية وحكمه عليها بالفشل (كما نعتها بـ”الحماقة العظمى” في عنوان الفصل الثامن) وربطها بتشومسكي. دعني أكرر حجة نايت التي قدمها إلى الآن: نايت ينسب لتشومسكي هدفاً، ألا وهو تطوير الترجمة الآلية؛ وهذا الذي ينفي تشومسكي بنفسه حصوله البتة؛ ثم يهاجم تشومسكي على استمراره في هذا الهدف نظراً لخدمته لأغراض البنتاغون؛ ثم يذهب لأبعد من ذلك فيهاجم تشومسكي على فشله في تحقيق هذا الهدف على الرغم من أن تشومسكي نفسه ذكر الأسباب التي تجعل من هذا الهدف غير قابل للتحقيق في اعتقاده منذ سنواتٍ خلت. هل فهمتم الآن كم هي بائسة ومفتعلة هذه الحجة؟
لكن الأسوأ لم يأتِ بعد، هذا السعي (الخيالي) لتشومسكي وراء الترجمة الآلية نيابةً عن البنتاغون ربما قد فشل، إلا أن أعماله الفكرية خدمت غايةً أعمق للطبقة الحاكمة (هل كان مخططو البنتاغون الذين أرادوا مشروع الترجمة الآلية على علمٍ بهذه الغاية الأعمق للطبقة الحاكمة؟ هذا ما لم يُجب عليه نايت). على كلٍ، فقد كانت الحربُ الباردة، وانجذب كثيرٌ من الناس لأفكار ماركس لضمان رفاهية الطبقة الحاكمة الأمريكية.
“لفك سحر الماركسية، احتاجت القوة العظمى المهيمنة على العالم لأي شيءٍ يخدم الربط بين الحراك السياسي والعلم. إن العلم باعتباره قوةٌ عالميةٌ يجب أن يبقى بمعزلٍ عن أي إرادةٍ سياسيةٍ، وفي هذه الأثناء يجب أن يُمنع أيّ حراكٍ دوليّ متبقيّ من الاسترشاد بالعلم والاستلهام منه” (ص203-204) “كان القضاء على الماركسية يعني تحطيم أي تقاطعٍ بين النظرية والتطبيق. أما وضع تشومسكي الفكري الذي صُدِّرت نزاهته الأخلاقية والشهادات التي لا تشوبها شائبةٌ على يساريته جعلت منه المرشح الأفضل لهذه الوظيفة” (ص193)
إذن فتشومسكي والثورة الإدراكية التي لعب فيها دوراً حاسماً خدما حاجةً ملحةً للطبقة الحاكمة من خلال فصل النظريّ عن التطبيقيّ. وهذا ما يعني تثبيط العلماء عن العمل مع أناسٍ عاديين لتغيير العالم للأفضل و”كانت النتيجة علما معقودَ اللسان، وما يقابله من حراكٍ بلا عقلٍ، إنها تلك الوضعية حيث يكون العلم والحراك غير قادرين على تبادل نفس اللغة أوالتعاون لتحقيق أي غايةٍ مشتركةٍ على الإطلاق” ( ص197)
إذا كانت أعمال تشومسكي في اللغويات لها هذا التأثير، فلا تشومسكي ولا الملايين من المعجبين به قد لاحظوا ذلك حتى الآن، وهذا الادعاء العجيب قد نُقِض بصورةٍ مباشرةٍ من طرف تشومسكي من خلال دفاعه المتكرر على أهمية تبسيط العلم للجمهور. ها هنا اقتباسٌ مثاليّ مأخوذٌ من جدلٍ يعرض وجهة نظرٍ ضد ما بعد الحداثة: “منذ زمنٍ ليس ببعيد، كان للعديد من العلماء دوراً نشطاً في الثقافة اليومية الحية للطبقة العاملة، محاولين بذلك تعويض الطابع الطبقيّ للمؤسسات الثقافية من خلال برامج أنشئت لتثقيف العاملين، أو من خلال كتابة مؤلفات عن الرياضيات أو العلوم أو مواضيع أخرى مُوّجهة لعامة الناس. لم يُترك المثقفون وحدهم في مثل هذا العمل بأي حالٍ من الأحوال، إنه ليدهشني -كما هو ملحوظ- سعي نظرائهم اليوم لحرمان الناس المضطهدين ليس فقط من متعة الفهم والتبصر، بل حتى من أدوات التحرر، مخبرين إيانا بأن ‘مشروع التنوير’ قد اندثر وأنّ علينا ترك وهم العلم والعقلانية وراء ظهورنا وهذه رسالة تملأ قلوب الأقوياء، الذين يسعدهم استثمار هذه الأدوات لصالحهم الخاص، غبطة” (تشومسكي متحدثا عن الديمقراطية والتعليم، 2003، ص96)
إذا وُجد من يعتقد أن العلماء وعامة الناس ينبغي عليهم العمل معا من أجل عالمٍ أفضل، إذن فهو بلا ريب نعوم تشومسكي، ولكن تشومسكي الحقيقي ليس له أي علاقةٍ من قريبٍ أوبعيدٍ بتشومسكي الذي يصوره تمرين نايت الصغير على اغتيال الشخصيات.
لا يفرّط نايت في أي فرصةٍ لتصوير كل فكرةٍ أوعملٍ لتشومسكي مستخدماً أكثر المصطلحات الممكنة قتامة. حسب نايت فإن تشومسكي لم يؤلف “اللغويات الديكارتية” (1966) لأنه وجد أوجه تقارب مهمةٍ بين أعماله الخاصة حول العقل والتقليد الفلسفي العقلاني لرينيه ديكارت، بل ألفه لأنه أراد التبرأ والتنصل من معلمه زليج هاريس، وهذا ما تطلب اختراع مصدر بديل للكثير من أفكاره (ص 142). وفقاً لنايت فإن تشومسكي لم يدافع عن حقوق حرية التعبير للعلماء السياسيين الذين عارض آراءهم، وذلك لأنه كان ينتمي لتيار الدعم المطلق لحرية التعبير (مع أن ذلك هو الموقف المنتظر من أرناكي) “بالأحرى لقد تشابه موقف تشومسكي من الحرية الأكاديمية بشكل غير متوقعٍ مع تيار إدارة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في هذه القضايا” (ص 38)
إن “فك شيفرة تشومسكي” ليس نقداً لمجموعةٍ من الأعمال عن اللغويات بل هي محاولةٌ لشيطنة رجلٍ بسبب انحرافاته السياسية المتوهمة، بالرغم من أن ذلك الرجل صادف أن يكون على نفس الجانب من الطيف السياسيّ الذي ينتمي إليه مُشيطنه. قراءة “فك شيفرة تشومسكي” علمتني شيئاً عن عقلية المدعين في عرض محاكمات موسكو.
إذا كنت بالفعل تبغض تشومسكي، إذن فقد تستمتع بقراءة “فك شيفرة تشومسكي” لا لشيءٍ إلا لمشاهدة نايت يوجه الركلات إليه، أما إذا كنت تريد تعلم شيءٍ عن تشومسكي، ولغوياته، وسياساته أوأي علاقة ممكنة بين الاثنين فهذا الكتاب ليس موجها لك، ومهما كانت أخطاؤه فإن نعوم تشومسكي يستحق ما هو أفضل من هذا.
- بيتر ستون هو أستاذ مساعد في العلوم السياسية بجامعة ترينيتي بدوبلن
- “فك شيفرة تشومسكي: العلم والسياسات الثورية”، كريس نايت، مطبعة جامعة يال، 2016، 285 صفحة.
[1] في نهاية القرن التاسع عشر هيمنت على علم النفس عدة نظريات لتفسير السلوك الإنساني -ومنه السلوك اللغوي- الأولى هي النظرية السلوكية، وملخصها: أن سلوك الفرد هو استجابة لمثيرات من العالم الخارجي، واستبعدت الحديث عن الأفكار، وقصرت مهمة علم النفس على دراسة السلوك القابل للملاحظة، وانعكس ذلك على النظرية اللغوية، فاعتبرت اللغة مجرد تفاعل مع مثيرات خارجية، فالمعنى هو خاصية السلوك، وتبنى هذه النظرية كواين و واطسون وسكنر؛ بالمقابل رفض تشومسكي هذه النظرة وقدم نقدا متعدد المستويات للنظرية السلوكية وذلك في مراجعته لكتاب سكنر (السلوك اللفظي) والذي يعد أفضل صياغة للنظرية السلوكية؛ وقدم تشومسكي نظريته العقلية في عدة كتب منها (البنى التركيبية) -الذي نشر في نفس سنة نشر كتاب سكنر- وغيره، وخلاصتها أننا نستعمل اللغة كتعبير عن الفكر في المقام الأول، وأن اللغة هي خصيصة إنسانية فريدة، وجماع نظرية تشومسكي هو التركيز على الجانب الإبداعي في اللغة بدلا من الجانب التقليدي/التلقيني الذي ركزت عليه السلوكية. (المراجع)
[2] من الجدير بالذكر أن ترجمة جوجل استعانت بأفكار فتجنشتاين اللغوية. (المراجع)