عام

الذكاء الثقافي

  • حوار مع ميشيل جلفاند
  • ترجمة: زينب عبد المطلب
  • تحرير: آلاء عبد الرحمن

بالنظر إلى كون الثقافة خفية وذات وجود كلي، ينشغل فِئَام من الناس في مسألة الذكاء أو الذكاء العاطفي متجاهلين التفكير في تنمية الذكاء الثقافي. في ظل العولمة والتلاقي الحضاري نحتاج إلى أن نتحصل هذه المَلكة.

ميشيل جلفاند أستاذة جامعية متميزة في جامعة ميريلاند، كوليدج بارك. وهي مؤلفة كتاب

Rule Makers, Rule Breakers: How Tight and Loose Cultures Wire Our World

لنحو ثلاثين عاما كنت قد اهتممت بالأسئلة المتعلقة بتطور الثقافة وأثرها على المجموعات البشرية، إن الثقافة لُغز، سِر من الأسرار! كُلي الوجود إلا أنه خفي كالجوهر المُسْتكِن والمعنى المضمر عز إدراكه والإحاطة به، لكنه شديد اللصوق بنا! 

تسوق لنا ميشيل جلفاند شاهدا على المعنى الآنف الذكر وهي قصة لا تتأتى إلا كما أوردتها:

Two fish are swimming along and another fish comes by and says, “Hey boys, how’s the water?” and they swim on. Then one of the fish says to the other, “What the hell is water?”

القصة عميقة الدلالة على المعنى، في بعض الأحيان أكثر الحقائق أهمية أكثرها خفاء، كالماء بالنسبة للسمكة وكالثقافة بالنسبة لنا. ثَم تنوُّع ثقافي هائل، نوع من التعددية استثنائي، 195 دولة و7000 لغة وعدد من الأديان، نظرا لأننا نتقاسم نحو96% من الجينوم البشري مع قرود الشمبانزي التي تتسم بسلوكيات مماثلة عبر المجتمعات الخاصة بها.

عَرَفت الثقافة باعتبارها موضوعا أول مرة عندما كنت طالبة جامعية. فقد حضرت فصلا دراسيا مع كارولين كيتنغ Caroline Keating التي كانت تُدرِّس مساقا في التنمية البشرية العابرة للثقافات. لم أكن قد سمعت سابقا بمجال علم النفس عبر الثقافي[1]، إلا أنه أبهرني. أجرت كيتنغ الكثير من الأبحاث مع مارشال سيغال Marshall Segall في أفريقيا، بحثت في الخدع البصرية. خدعة كخدعة مولر- لاير على سبيل المثال الأكثر تأثيرا في أمريكا ستفقد وجهتها في أفريقيا بلاشك، كان هذا مثيرا للاهتمام، حيث أن الإدراك البصري خاضع للتنوع الثقافي.

بينما كنت أدرس علم النفس وأقرأ الكتب الدراسية، عجبت لعدم عناية هذه الكتب بالثقافة. كان هذا في أواخر الثمانينيات. قلت * عجبا! هذا علم أمريكي* كان هذا قبل وقت طويل من نشأة حركة WEIRD في العلوم الاجتماعية. كان لدي بعض الأسئلة حول الثقافة؛ على سبيل المثال، كيف بإمكانها أن تؤثر على عملياتنا النفسية الأساسية أو الديناميكيات الاجتماعية؟ وفي كل شيء من التربية إلى السياسة؟ صدمني الأمر باعتباره شيء لا يكاد يذكر في علم النفس. لذلك تركت كولجيت Colgate وعملت لصالح مدرب عبر ثقافي “cross-cultural trainer“، كنت أبحث عن برامج دراسات عليا تُعنى بدراسة الثقافة وعلم النفس، لكن لم أجد الكثير. تلّقيت مكالمة بالصدفة من مدرب عبر ثقافي الذي أخبرني بدوره أنني بحاجة إلى العمل مع هاري تريانديس الذي صادف أنه موجود مقاطعة “أروبانا”. لحسن الحظ، التحقت بجامعة إيلينوي وعملت مع هاري.

كان هاري باحثا لا يعبأ بالتخصص، يرى الناس مسألة التخصص مهمة في علم النفس، لكن هاري كان مهتما بكل شيء، كان هذا مُلهما! كما أنه لم يدربني على المناقشات النظرية والتعقيدات المنهجية للبحث عبرالثقافات فقط، ولكنه كان حكيما. غرس بي ثلاثة أمور؛ أولها أن تكون شغوفا، الثاني هو عدم الخوف من الخلاف، والثالث وربما الأصعب، هو ألا تأخذ نفسك على محمل الجد وهذا ما أحاول تذكير نفسي به.

تركت مقاطعة “شامبين” ودرست لفترة وجيزة في جامعة نيويورك قبل ذهابي إلى ماريلاند، وهناك أنشأت مشروعا لأدير مختبر بحوث متعدد التخصصات لدراسة الثقافة، وكنت لا اختصاصية أو /باحثة عامة. أتذكر سؤال الطلاب لي * هل أنت عالمة نفس اجتماعي؟ هل أنت عالمة نفس عابر للثقافات؟ هل أنت متخصصة في علم النفس الصناعي والتنظيمي؟ ماذا تكونين؟ وقلت كل ما ذُكر لماذا علي أن اختار؟ *

عملت مع أشخاص من تخصصات علم الأعصاب والنمذجة الحاسوبية والأنثروبولوجيا واللغويات لأننا بحاجة إلى وجهات النظر المختلفة لفهم ظاهرة معقدة مثل الثقافة. أحد الأشياء التي بدأت أبحث فيها ومازلت مفتونة بها حتى اليوم هي الأعراف الاجتماعية. الأعراف هي هذا الجانب الخفي من الثقافة. نحن نتبع الأعراف الاجتماعية ولا ندرك ذلك، فنحن فائقي المعيارية “ultra-normative”. لو أني حضرت هذا اللقاء وأنا أرتدي ثوب سباحة لكان هذا أمرا غريبا. نحن نلتزم دائما بالقواعد عندما يتعلق الأمر بالمكان. وذلك لأننا نطوّر أعرافا اجتماعية لتجنب أي أمر غير مرغوب. إنه ابتكار بالغ الأهمية للبشر وحاسم لأنه يساعدنا على التنبؤ بسلوك بعضنا.

تمتلك كل المجموعات أعرافا، ولكن بدا لي أن بعض المجموعات لديها أعراف أكثر صرامة وأضيّق والبعض الآخر أكثر تساهلا، وأرحب. كان هذا مكوُّن لم يتم استكشافه في علم النفس. يركز معظم علماء النفس على الفروق الفردية التي تحددها الولايات المتحدة وليس على المواقف والأعراف. في الوقت الحاضر، نَشرع في تطوير مجال مثير للاهتمام متعدد التخصصات حول فهم الأعراف الاجتماعية. ففي فترة التسعينات عندما كنت أبدأ مسيرتي المهنية في علم النفس العابر للثقافات، كانت القيم هي محور التركيز، بينما تم استبعاد الأعراف إلى حد كبير من الدراسة.

حصلت على منحة مؤسسة العلوم الوطنية NSF وجمعت حوالي أربعين عالما من حول العالم لدراسة قوة الأعراف الاجتماعية. طرحنا أسئلة أساسية مثل هل يمكننا قياس صرامة مجتمعنا أو مرونته؟ والأهم من ذلك، لماذا تتطور هذه الاختلافات في المقام الأول؟ إنني أنحدر من ثقافة “الترياندس” التي تتمثل في الفكرة القائلة أن الثقافة تنشأ متماهية مع الظرف والسياق التاريخي. بحيث أنها ليست عشوائية. وأيضا ماهي عواقب قوة الأعراف على الجماعات البشرية؟ هل تختلف عن التركيبات الأخرى مثل الجَماعاتيّة [2](Collectivism) أو فارق القوة [3](power distance) هل هو نهج قديم من منظور آخر؟ قضينا سنوات عديدة في العمل على هذا. وفي النهاية نشرنا هذه الورقة لإثبات أنه بالإمكان عبر ثلاث وثلاثين دولة تحديد مدى صرامة المجتمعات أو تساهلها، ضيقها ورحابتها.

مما توصلنا إليه؛ أن التهديد الذي من الممكن أن يواجه الجماعات هو المُحدد لِمدى صرامة الثقافة أو نزوعها إلى المرونة. تُعاني بعض البلدان من الجفاف أو المجاعات أو الأعاصير، ويتعرّض بعضها للاجتياحات المستمرة. بالتالي تتمخض لدى هذه الجماعات قواعد وعقوبات صارمة تتولى سياسات البقاء والمقاومة. هذا ماكنت أختبره وهذا ما وجدناه. لقد جمعت بيانات حول عدد المرات التي تعرضت فيها هذه الدول للتهديد جرّاء الحروب خلال المئة عام الماضية أو تعرضت لكوارث طبيعية أو مجاعات أو كثافة سكانية وكان الأمر واضحا تماما؛ هناك علاقة وثيقة بين الدول التي كانت أكثر صرامة وبين التهديدات المُحدقة بهم.

لكن على أي حال يوجد استثناءات مثيرة للاهتمام! تُعد إسرائيل متساهلة حيث أنهم يحاولون دائما التفاوض حول القواعد ومع هذا هي تحت التهديد. على الرغم من كونها تحت التهديد إلا أنها متساهلة جدا بسبب الدين. هناك الكثير من الجدل في اليهودية وهناك الكثير من التنوع في إسرائيل مما يدفعهم نحو التساهل.

ثم تابعنا دراسة ما إذا كان يمكن العثور على هذا النمط داخل الدول أيضا! تُعد الولايات المتحدة مكانا متنوعا إلى حد كبير، لذا كانت الخطوة الأولى هي تصنيف الولايات الخمسين وفقا لمدى صرامة المجموعات أو تساهلها وما إذا كانت تتماشى مع التصنيفات المحددة سلفا. اتضح أنها كذلك، يميل الجنوب ومناطق من الغرب إلى أن يكونوا أكثر صرامة كما تُشير بياناتنا، لأنهم يتعرضون للتهديد الأكبر، وعلى الصعيد الوطني نلحظ في الولايات وجود المزيد من الانضباط في المقاطعات الصارمة والمزيد من التسامح والانفتاح في الولايات المتساهلة.

حاولنا تقريب الصورة لننظر في أمر الطبقات الاجتماعية. قمنا بقياس مدى صرامة الأعراف في الطبقة العاملة مقارنة بالطبقة العليا. فرأينا أن الطبقة العاملة أكثر عرضة للتهديد مثلا – الوقوع في الفقر – العيش في أحياء خطيرة – العمل في وظائف خطرة حيث القواعد مهمة. عندها سألنا الناس عن رأيهم في اتباع القواعد، وحصلنا على إجابات مختلفة؛ كانت الطبقة العُليا تعتبر القوانين والقواعد مصدر إزعاج كشيء وجِد ليتم خرقه. على صعيد آخر هي تؤدي غرضا بالنسبة للطبقة العاملة. لذلك بدأنا في دراسة هذا التمايز باستخدام أدوات مختلفة تحليليه، فضّلت أن الفكرة تتماس مع النمط الكسري فَراكتال الذي ينحدر من الفيزياء، حيث ترى هذا النمط متكررا عبر مستويات مختلفة، من الملاحظ أن للأعراف قوة في أماكن متعددة ومختلفة بما في ذلك المنظمات وحتى على صعيد الأُسرة.

 

إحدى المشكلات المتعلقة بجمع البيانات هي أنها كلها ارتباطية. تنشأ مشكلات عدة من وجود استدلالات سببية وبيانات ارتباطية، في الآونة الأخيرة، حاولنا تطوير المزيد من الأساليب لدراسة السببية، كتحفيز التهديدات مختبريا بأن نحضر مجموعة من الأشخاص ونحفزهم للتفكير في التهديدات المحتملة كالإرهاب أو الكوارث الطبيعية أو الكثافة السكانية، التي تُشكّل مؤشرا هاما على المستوى الوطني بالتهديد مما يتطلب التشديد، يمكننا أن نؤثر على إدراك الناس بواسطة التحفيز لكن للتزييف مشكلاته فهو مثلا يقوم بالتأثير على مستوى الأفراد لا السكان او المجتمعات.

بدأت اعمل مع بعض منظري Evolutionary game [4]حيث اهتممنا بالظواهر نفسها التي تؤدي إلى خلق قيم أو أعراف معيّنة من وجهات نظر مختلفة. قمنا ببعض النمذجة للنظر فيما إذا كان هذا التهديد يخلق قيما أو أعرافا، على المستوى السكاني، وبالطبع، كانوا هؤلاء وكلاء في النموذج وليسوا بشرا حقيقيون.

 في أخر دراسة قمنا بها حاولنا أن نجيب عن السؤال من زاوية مختلفة. باستخدام المسح الفائق hyper-scanning في علم الأعصاب. أردنا معرفة ما إذا كان الناس يُنَسقون بسرعة أكبر عندما يشعرون بالتهديد. هذا افتراض أساسي في نظرية tight-loose لذلك قمنا بتحفيز مجموعة من الناس للتفكير في التهديدات. كان لدينا أشخاص يرتدون قبعات تخطيط أمواج الدماغ، بينما قِسنا مدى جودة تنسيقهم في المهام الأخرى إذا تم تهديدهم. ماكان مثيرا للاهتمام هو معرفة كيف يتم تزامن الدماغ مع عمليات التنسيق بعد أن يشعر الناس بالتهديد، وجدنا أنه عندما يكون الناس تحت التهديد يقومون بالكثير من التزامن في أدمغتهم مع موجات جاما، وهي آلية دماغية تُسهم في وظائف الذاكرة والإدراك وتركيز الانتباه، متصلة بالسلوك، مما سهل التنسيق. نحاول الوصول إلى الطبيعة السببية وراء تنامي الصرامة الثقافية من وجهات نظر مختلفة، سواء كانت نماذج نظرية اللعبة التطورية أو علم الأعصاب.

اهتممت أيضا بالانتقام/الثأر والانتقام بالنيابة. ماهي الظروف التي تدفع الناس للانتقام بالنيابة عن الآخرين؟ وكنت أفكر في مسألة التعاطف؛ إنه جانبها المظلم. ذهبت لرؤية Shihui Han أحد علماء الأعصاب البارزين في الصين، التقيته في مؤتمر وسألته عما إذا كان يرغب في الاشتغال بهذا الجانب ودراسة التعاطف في علم الأعصاب. أخذنا نعمل على رسم نظرية الانتقام/ الثأر بالإنابة ودور ما يسمى entitativity وهي بشكل دقيق خاصية تميّز الجماعات، بحيث تعتبر نفسها كُلا واحدا فبتالي يتجاوز الشعور بالانتقام من الفرد الواحد إلى جموع لا علاقة لها بالصراع وأحيانا ينشأ هذا الشعور عند أجيال جديدة لم تشهد الصراع. نتج عن هذا تعاونا وكانت دراسة عن الانتقام/الثأر على مستوى المجموعات في علم الأعصاب.

نشرت للتو ورقة مع جوشوا جاكسون Joshua Jackson وفيرجينيا تشوي Virginia Choi في مجلة Annual Review of Psychology حول الانتقام ولماذا يعد ضروريا من بعض النواحي وكيف يتم تشريف هذا الفعل لدى بعض الثقافات، عملت مع أندريه نواك Andrzej Nowak رئيس مركز الأنظمة المعقدة وهو تعاون مصادف آخر، حيث كنا نحاول فهم ما الظرف المنطقي الذي يدفع الناس للانتقام. من الممكن أن يكون الأمر منطقيا إذا كان مصحوبا بسياق مؤسساتي ضعيف، حيث تكون السمعة هي الأهم.

 

يقول الناس أن الشرف أثمن من المال. عملت كثيرا على سيكولوجية الشرف في الشرق الأوسط، نحاول أن نقدم رؤيا أكثر توازنا حول الانتقام. في ظل أي ظرف تطوّر إلى النقطة التي يصبح فيها الانتقام منطقيا بالنسبة للجماعات! وكيف نقدم قصة تطوره للعالم.

أعزو الفضل لوزارة الدفاع، التي مولّت الكثير من الأبحاث حول الثقافة، التي دفعت نحو البحث متعدد التخصصات. حصلت على منحة كبيرة من مبادرة البحث الجامعي متعدد التخصصات بواسطة وزارة الدفاع لدراسة الصراع والتفاوض في الشرق الأوسط. بحيث يتعاون علماء الحاسوب وعلماء السياسة وعلماء النفس من خلال نهج تعددي ثقافي حيث يتآزر الناس.

ساريت كراوس Sarit Kraus، عالمة كمبيوتر تدرس علم المفاوضات، تطوّر نماذج تحاكي الأساليب البشرية في التفاوض والذين يتبيّن أنهم أفضل من البشر، جاءت إلى ميرلاند حيث كنا نقيم اجتماعا لمناقشة آلية تعاوننا قالت: “دعيني أخبرك بشيء أنا لا أهتم بالسلوك البشري على الأطلاق”. قلت: “-بينما نحن في لحظة مكاشفة – وانا لا اهتم لنماذجك”. أخيرا وفي خضم النقاشات الواسعة توصلنا إلى طريقة يمكننا من خلالها الاستفادة من بعضنا لصالح العلم. أخبرتها أننا بحاجة إلى هذه النماذج لدراسة أساليب التفاوض في لبنان والولايات والمتحدة وأماكن أ خرى، مع خصم معياري. الأمر المثير هو أننا استفدنا من بعضنا البعض على الرغم من اختلاف اهتماماتنا. نشرنا أعمال في مجلات علوم الحاسب وفي مجلات علم النفس التنظيمي عن نفاد الصبر الأمريكي في التفاوض. لقد كان تعاوننا مهما لصالح العلم. يستحق كل تعاون على أرضية متعددة التخصصات العمل عندما يكون لديك التزام بحل مشكلة مهمة. قال كارل كارل بوبر Karl Popper مصدر إلهامي *لسنا تلاميذ بعض المواد الدراسية، بل نحن تلاميذ المشاكل، والمشاكل تتقاطع عبر مناطق مختلفة*

أحاول محاكاة هذه الروح في بحثي. أعمل مع لغويين وحاسوبين وأكثر متجاوزين حدود التخصص متآزرين من أجل العلم. وقد أجرينا دراسة نُشرت في مجلة الطبيعة البشرية تبحث عن كيفية تبدل دوافع الصرامة /المرونة مع مرور الوقت. باستخدام قاموس طورناه عن الإحكام والتراخي أعمل مع عالمة الأنثروبولوجيا كارل إيمبل لترميز الإثنوغرافيات، لمحاولة اختبار بعض الأفكار الأساسية حول قوة المعايير. وأعمل مع علماء السياسة لفهم الوساطة في الدول وفي التكتيكات التي تعمل على الصعيد الوطني.

بالنظر إلى كون الثقافة خفية وذات وجود كلي، ينشغل فئام من الناس في مسألة الذكاء أو الذكاء العاطفي متجاهلين التفكير في تنمية الذكاء الثقافي. في ظل العولمة والتلاقي الحضاري نحتاج أن نتحصل هذه الملكة.

لماذا يُعد الذكاء الثقافي مهما؟ على سبيل المثال، نشرنا ورقة بحثية انا وساريت عن نفاد الصبر الأمريكي في المفاوضات، لاحظ دي تو كفيل De Tocqueville كيف أن الأمريكيون غير صبورين منذ سنوات، أردنا تحديد قيمة الخسائر بسبب نفاد الصبر في المفاوضات، اتضح أن الأمريكيون يتنازلون كثيرا بسبب نفاد الصبر ويخسرون دائما على طاولة المفاوضات، وهذا مما يجب معرفته لتفاديه.

ففي الولايات المتحدة. لدينا ثقافة التنقُّل وأيضا ثقافة إرساء الثقة السريعة مع الآخر وتعتبر منطقية لكن على الصعيد الشرق أوسطي لا معنى لهذا. ما نهدف إليه من دراسة الشرق الأوسط هو التوصل إلى نماذج تفسيرية تمكننا من تدريب الأمريكيين على التحلي بالصبر والأخذ بالاعتبار أننا لا نتفاوض دائما بشأن الاقتصاد أو الصفقات وإنما قد نتفاوض على الشرف او الثقة.

 

أجرينا مئات المقابلات في الشرق الأوسط، بسبب ندرة أبحاث علم النفس اعتقدنا أنه علينا الذهاب إلى هناك وإجراء مقابلات منظمة على غِرار تحليل هاري تريانديس للثقافة الذاتية والمناهج الأنثروبولوجية للفهم، وإلقاء نظرة قريبة وفاحصة للتركيبات الخاصة بالتكويّن الثقافي ومفاهيم مثل الشرف او الواسطة/ الجاه أو الانتقام أو الحياء، في مرحلة ما قلت لـ  R.A الناطق بالعربية وهو يعمل معنا في مشروع ترجمة كل هذه المقابلات،* لماذا لا ننشئ قاموس جديد للشرف او الجاه بناء على هذه البيانات؟* يمكننا أن نرى كيف  -يكتسب الناس الشرف وكيف يحافظون عليه حفاظ القواس على قوسه وعواقب فقدانه –  ويمكننا بواسطة هذا القاموس وهذه الآلاف من الكلمات معرفة على ماذا تقوم المبادئ الأساسية وكيف يجري التفاوض، رأينا بعد أن أُحرق القرآن تصاعد الحديث عن الشرف. يجب علينا أن نتحين الفرص لإجراء البحوث التي بدورها تثري الذكاء الثقافي.

أحد الأمثلة الأخرى التي أرغب في ضمها لمسألة الذكاء الثقافي هو المجال التنظيمي. تتفاوت المنظمات في مدى قوة قوانينها. تحتاج بعض المنظمات مثل شركات الطيران والجيش ومواقع البناء إلى قواعد أقوى لمساعدة الناس، بينما يمكن لمنظمات أخرى مثل الشركات الناشئة وشركات التصميم أن تكون أكثر تساهلا، ومن وجهة نظر الذكاء الثقافي أنه في حال دمج هذه المنظمات غالبا لن تتنبه لهذا الجبل الجليدي الثقافي الكائن بين جنباتها. نشرت في مجلة Harvard Business Review عن الخسائر الواردة في حال ثمّ وجود مسافة بين المؤسسات في حالة الصرامة/ التساهل مالم يتم التفاوض بهذا الشأن مبكرا.

من المهم مخاطبة المجتمع، بما في ذلك وزارة الخارجية والمسؤولين رفيعي المستوى، عن أهمية الذكاء الثقافي على الصعيد الدبلوماسي. ويّجر هذا على كافة الأصعدة، وهو شيء أعمق من مهارات الاتصال، بل هو السبيل لفهم هذا العالم.

كان لدي حاصل ثقافي منخفض جدا، كنت ذلك المواطن النيويوركي النموذجي الذي يمتلك وجهة نظر كاريكاتورية نيويوركية نحو العالم: هذه نيويورك وهذه نيو جيرسي ثم مجموعة من الصخور ثم بقية العالم. سافرت إلى الخارج لمدة فصل دراسي، وكنت أول شخص من العائلة يغادر الولايات المتحدة.

والدي من بروكلين. أتذكر اني ناديت أبي وقلت له ” من الغريب جدا ان يأتي الناس من لندن ليذهبوا إلى باريس أو إلى هولندا لقضاء العطلة الأسبوعية” قال لي: ” الأمر أشبه بالذهاب من نيويورك إلى بنسلفانيا” قلت، “هذه استعارة رائعة.” في اليوم التالي، وهذه قصة حقيقة، حجزت رحلة إلى مصر. قمت بهذه الرحلة وحدي عبر النيل. وهناك لمست شيء من جهلي بالثقافة. وهذا مادفعني إلى تغيير مساري من مرحلة ماقبل الطب إلى دراسة الثقافة.

بالنسبة للبحوث المستقبلية، هناك الكثير على جدول الأعمال. فأنا أقوم بمشروع كبير الآن عن سيكولوجية اللاجئين في أوربا، بتمويل من وزارة الدفاع، من منظور ثقافي يتمثل في النظر إلى العملية التي يتماهى بها الناس الآتيّن من ثقافة متشددة إلى ثقافات أكثر مرونة. كيف تساعد على خلق فهم متبادل للمساعدة على التكيّف/التماهي ومنع التطرف وغير ذلك.

من المضحك أن تدرس كل هذه المدة ثم تكون أحمقا في عدم إدراك آلية تأثير الثقافة على طريقة بحثك وأسلوبك، على سبيل المثال، أجريت دراسة في عشرين دولة بحيث نرسل إليها مساعدين باحثين بهويات موصوّمة، اشتريت ثآليل لوضعها على وجوههم وفي حالة أخرى كانت أوشام وحالة أخرى اكتفوا بوجوههم العادية. دربناهم في بريمن في شمال ألمانيا، حيث كانوا جميعا ذاهبون للدراسة من بلدانهم في جامعة جاكوبس. ثم بعد أن تم تدريبهم جميعا وتنميطهم، أرسلناهم إلى بلدانهم خلال فصل الصيف للقيام بهذه التجربة. كانوا يطلبون المساعدة في شوارع المدن والمتاجر، وكنا مهتمين بمعرفة ما إذا وجد فرقا في مقدار المساعدة التي يتحصل عليها الناس في العالم عندما يرتدون هويّات موصومة.

ما أثار دهشتي أنه عندما يعود المساعدين إلى بلدانهم، الواحد تلو الآخر، انسحبت البلدان الأكثر تشددا من هذا الجزء من الدراسة. لم يستطيعوا حمل أنفسهم على ارتداء هذه الثآليل والأوشام السخيفة وطلب المساعدة. لقد كان الأمر قانونيا وأخلاقيا، لكني وبسبب الحماقة فكرت كيف لم أكن لأتوقع حدوث هذا حينما تكون هذه دراسة عن ضيق الأفق واتساعه. كان لدينا تنوُّع كافي للقيام بالدراسة، ولكن كان من اللافت كيف نسيت أن الحضارة تتماهى مع اسلوبك الخاص.

في حياتي الخاصة، بدأت باستخدام بحثي لأخلق بيئة عائلية صحية. أسمي هذا المبدأ المعتدل Goldilocks. ونحن نعلم أنك قد تحتاج إلى التشديد أو المرونة لأسباب وجيهة، مثل التهديد، ولكن كلما سارت الأُسر أو المنظمات أو الدول في اتجاه أكثر تطرفا كلما زاد اختلالها. دوركهايم تحدث عن هذا ولديه بعض البيانات عنه فبدأت أدرس ذلك بانتظام. وأستطيع أن أرى في بياناتي أن المجتمعات الأكثر تطرفا التي تعاني من انفلات شديد والتي تقترب من حافة الانحراف وعدم القدرة على التنبؤ بالأمور، أو الأكثر تشددا هي الأكثر انتحارا، وتعاني من اختلالات وعدم استقرار أكبر. وهذا لا ينطبق على الأمم فحسب، بل وعلى المنظمات أيضا.

 يونايتد، الخطوط الجوية، قبل بضع سنوات، كان يمكن القول أنها أصبحت متشددة جدا. على الرغم من أنه كان يتعين عليها الانحراف إلى التشديد، إلا أنها كانت بحاجة إلى إدخال بعض السلطة التقديرية في هذا النظام. أسميها الصرامة المرنة. على صعيد آخر، يمكن أن تنحرف Uber أو Tesla لأسباب وجيهة، ولكن في بعض الأحيان تصبح هذه الأماكن فضفاضة للغاية. يجب أن يكون لديهم مرونة أكثر تنظيما.

وينطبق نفس القول على الأنظمة الأسرية. فقد تحتاج ضيقا أو مرونة أكثر في العائلة لتساعد أولادك على مواجهة التهديدات. لكنها كلما ازددت تطرفا، زادت المشاكل. الآباء الأشبه بطائرات الهليكوبتر والآباء الحمقى يمكنهم إنجاب أطفال غير قادرين على التكيف. لذا، كنت أتحمل هذه المهمة، أنا أتفاوض مع أطفالي حول المجالات التي يجب أن نكون متشددين فيها، والمجالات التي يمكن أن تكون فضفاضة.

 على سبيل المثال، المجالات الصارمة هي أمور مثل مدى اجتهادهم في الدراسة وكيفية معاملة ابنى لأخته. لكننا نفكر أيضا في المجالات التي يمكن أن يتم التساهل فيها بعض الشيء. بالنسبة للأخيرة، فلسفتي هي أنها من الممكن أن تكون غرفهم فوضوية. لن أنظر إليها وأشرح لهم أنهم يجب أن يكونوا أنيقين للغاية. يجب أن يكون هناك بعض الأماكن حيث يمكننا أن نعطي بعض التعقُّل وبعض التساهل. استخدام وسائل التواصل الاجتماعي هو شيء نحاول تنظيمه بين هذا وذاك أكثر.

أنا أتحدث عن هذا في السياق التنظيمي. يمكنك التفاوض بشأن هذه الأنواع من الأشياء إذا كنت تعرفها مسبقا. على سبيل المثال، كان اندماج شركتي أأمازون Amazon و هول فودز Whole Foods مثالا كلاسيكيا على صراع الصرامة والتساهل. لديهم الكثير من التوافقِ، لكن أمازون تميل للصرامة وشركة الأغذية تميل للتساهل. لقد كانوا بؤساء، خصوصا شركة (هول فودز) كانت بائسة بعد هذا الاندماج، لأن الكثير من السلطات التي جعلت لهذه الشركة اسما تم سحبها منها. لذا، كتبت عن الخروج بشيء مثل اتفاقية ما قبل الزواج قبل أن نقوم بهذا الدمج. ما هي المجالات التي كان بوسعنا أن نعطي موظفي هول فودز ذات المقدار من السلطة الذي كانوا يتمتعون بها من قبل، وما هي المجالات التي كان بوسعنا أن نضيّق عليهم الخناق بها؟ كانوا يحبون أن يكون لديهم الكثير من التفاعل مع الزبائن؛ كان ذلك جزء من الثقافة وأصبح أكثر اتساقا مع شخصياتهم.

العطلات مثال آخر على مسألة الصرامة/التساهل. فالأشخاص الذين يحبون العفوية ويريدون أن يفعلوا أي شيء ويتركوا الأمور تسير كما هي، مقابل الاشخاص الذين يحبون الكثير من التنظيم ما يمكن أن يسبب الكثير من النزاعات خلال الإجازات. من القابل للتفاوض أن نجلس ونقول ما هي المجالات التي يجب أن نكون صارمين فيها وما هي المجالات التي يمكن أن يكون لدينا فيها قدر أكبر من التساهل؟ يمكنك أن تصنع حالة الكل فيه رابح. زوجي، وهو محامي، يميّل للتشدد والعقلية الضيقة أكثر مني. فهو بحكم عمله يقضي الكثير من الوقت في منصب مسؤول. فالمحامون والمسؤولون الحكوميون والمصرفيون يخضعون للمسائلات المستمرة. عليهم أن يجيبوا على الناس، لذا يكون لديهم عقلية أكثر صرامة.

وعلى موقعي على شبكة الإنترنت لدي عقلية صارمة-فضفاضة يستطيع الناس أن يتبنوها لكي يروا إلى أين ينحرف تركيبهم وكيف يمكنهم أن يبدؤوا التفاوض مع الناس حولهم. إنه لأمر مثير أن أضم اهتماماتي في التفاوض مع اهتمامي بالصرامة والمرونة.

وعلى الصعيد الوطني، أتكلم عن مبدأ الاعتدال، الذي يعني أننا بحاجة إلى أن يكون لدينا توازن أو اعتدال في قوة المعايير. إذا تمكنا من تشخيص الجماعات التي تنحرف في أي من الاتجاهين، سواء كانت دولا أو منظمات، فبإمكاننا أن نتوقع بعض المشاكل. على سبيل المثال، لم يدرك العديد من الناس أن المواطنين في الموصل وغيرها من المناطق كانوا يرحبون بتنظيمات داعش عندما جاؤوا إليها لأول مرة. ويرجع جزء من ذلك إلى أن بياناتنا تظهر أنه كان هناك انحلال تام، وتراخي تام في هذه المناطق. لم يكن هناك أمن، فجاء تنظيم الدولة الإسلامية ليوفر الكثير من الأمن والنظام في البداية، بل وحتى تطوير أنظمة العدالة.

انتقل الربيع العربي من نظام قمعي بعد أن أطاحوا بالدكتاتور، وذهبوا إلى العكس، التساهل التام. في بحثنا، يمكننا أن نرى الناس على الأرض في مصر كانوا يشعرون أن هذا شيء غير مستدام، وأنهم كانوا سيصوتون لحكومة أكثر تشددا مرة أخرى. نسمي هذه انتكاسة استبدادية. لذا، فبوسعنا أن نحاول أن نتنبأ عندما تستند هذه التحولات الترددية في البندول إلى تخفيف أو تشديد المعايير.

والأمر المثير هو أن نفكر في القوة والمعايير، وأن نتمكن من استخدام قوة المعايير الاجتماعية لتحسين كوكبنا على أساس هذا المبدأ. وبوسعنا أن نحدد متى ينبغي لنا أن نشدد على المعايير التي أصبحت أكثر تراخيا، أو نتهاون في المعايير التي أصبحت أكثر تشددا. فكروا في الإنترنت. مكان يتمتع بالعديد من الصفات الهامة من حيث القدرة على الاتصال والمعلومات. يمكن القول أنه مكان فضفاض لم يتوقعه الكثير من الناس الذين صنعوا هذه الوسائط. علماء النفس يعرفون أنه عندما لا يتم مراقبتك، فينتج عن ذلك شيء من التفلّت. لا نريد أن نكون مثل الصين، حيث الحرص على الرقابة، ولكن من الممكن أن نقول إننا نحتاج إلى تضييق هذه المساحات. لقد بدأت في إجراء بعض الأبحاث مع بعض خبراء الاقتصاد لمحاولة التفكير في كيفية دفع بعض السلوك المدني من دون تقييد الأصوات على شبكة الإنترنت، ولكن التصرف فيه مثلما نفعل وجها لوجه.

 لقد عشنا في هذا العالم لقرون، لآلاف السنين، نعمل في مجموعات صغيرة. لقد تطورنا للتفاعل مع الناس على نطاق واسع. الآن نحن نعيش على الإنترنت حيث تتبدد الرقابة ويبقى الفرد مجهولا. في هذه الحالة يجب تطوير سبل حيث نتصرف بشكل أكثر حضارية وأكثر إحكاما. وبوسعك أن ترى هذا التطور بالفعل في بعض المواقع، مثل reddit، حيث تجد أشخاصا يحملون شارات السلوك الجيد، أو يطرد الناس إذا كانوا بغيضين، تطور من أعلى إلى أسفل. نحن بحاجة إلى مزيد من المساءلة على شبكة الإنترنت.

هناك بعض الناس الذين يقولون يجب أن يكون هناك شيء مثل رخصة قيادة للشخص ليكون قادرا على الدخول على الإنترنت، مثل امتلاك مهارات معينة لتتمكن من العمل. لا تتحكم في المحتوى، بل تتحكم في السلوك المعادي غير المعياري الذي من الممكن ان يحدث. وبوسعكم أيضا أن تفكروا في الجانب الآخر، بشأن المعايير التي خدمت غرضا وكانت صارمة، ولكنها أتت بنتائج عكسية الآن.

 فعلى سبيل المثال، أدرتُ في العام الماضي حلقة عمل في إسرائيل بشأن هذا الموضوع. آلون تال، وهو ناشط هناك، جاء لمقابلتي في ميريلاند. ونشر كتابا بعنوان “الأرض ممتلئة”، يتناول كل شيء عن ديناميات السكان الإسرائيليين. عن كيف أن إسرائيل لديها كثافة سكانية تتجاوز هولندا أو سنغافورة بكثير وكيف أنها تؤثر على البيئة. وبشكل أكثر تحديدا، كيف تصبح شوارع المدن غير مستدامة، وقاعات الدراسة، والبيئة. إسرائيل مكان فضفاض، لكن كالعديد من الدول، لديها جيوبها الضيقة الخاصة، ومن المجالات المشددة في إسرائيل هو وجود عائلات كبيرة. فهناك وصمة عار قوية لعدم إنجاب الأطفال وامتلاك عائلات كبيرة. إنها واحدة من أعلى معدلات المواليد في الدول الغربية، ليس فقط بين المتدينين، ولكن بين العلمانيين. لقد جمعنا خبراء السكان من كل مكان لنتحدث عن كيفية تغيير هذه القاعدة. لقد كانت مهمة لأسباب وجيهة قبل سنوات، ولكنها الآن يشكك بها بمسببات الاستدامة.

 

 لقد كنت في شراكة مع أشخاص يعملون مع البنك الدولي واليونيسيف، وهم يحاولون أيضا تغيير المعايير غير الملائمة في أفريقيا. الكثير من الأماكن في الأصل تذهب إلى هذه السياقات، التي هي ضيقة جدا، حيث انها تحاول تغيير المواقف الشخصية والقيم وكان تأثير ذلك قليل، حتى لو غيرت موقفك من ختان الأعضاء التناسلية، او الرضاعة الطبيعية، او إرسال أولادك إلى المدرسة، فأنت في لعبة تنسيق. يجب أن تتعامل مع القواعد والعواقب الاجتماعية وتحاول ألا يتم نبذك في هذه السياقات. لذا فمن المدهش أن المعايير الاجتماعية أصبحت الآن تشكّل أهمية كبرى في البنك الدولي واليونيسيف والعديد من الأماكن التي تحاول فرض التغيير في سياقات مختلفة. فهم يحاولون تخفيف القواعد الصارمة التي تخدم غرضا ما، ولكنهم كانوا يحاولون دفع هذا الشيء من خلال شيء أكثر نجاحا في الولايات المتحدة، والذي يتلخص في سلوك شخصي.

وهذا اتجاه لافت للنظر، كيفية تشديد القواعد التي تحتاج إلى تشديد وتحريرها ومعرفة الفرق. إنها ديناميكية. مع المزيد والمزيد من البحث في هذا الموضوع سنتمكن من القيام به بنجاح أكبر.

هناك مجال يركز على التطور الأفقي وكيف تتطور الثقافات من خلال هذه العمليات التصاعدية من الأفراد إلى المجتمعات. ويقارن ذلك بالانتقال الرأسي، وهو أمر يحظى بشعبية كبيرة في النظرية التطورية، وهو كيف نغير الثقافات من الأعلى إلى الأسفل. مع التطور الأفقي، ينحدر الفاعلون من ثقافة متساهلة حيث يكون هذا شائعا للغاية. في الثقافات الأكثر صرامة، حيث يتعلم الناس أن القواعد مهمة، فإنهم يتطلعون أكثر إلى السلطات للمساعدة في تنظيم العمل الاجتماعي. مما يزيد من القلق أن يكون هناك انتقال أفقي من الأسفل إلى الأعلى.

 لكن الثقافة تتغير ببطء في حالات كثيرة. كنت أدرس مثلا حالة لصغار في الثالثة من العمر لفهم كيف يتفاعلون مع القواعد. جلبنا أطفالا في الثالثة من العمر من الطبقة العاملة وأطفالا في الثالثة من الطبقة المتوسطة والعليا، واستعرنا نموذج مايكل توماسيلو حيث تفاعلوا مع دمية لأننا لا نستطيع أن نسألهم عن مدى إعجابهم بالقوانين، ولكن بوسعنا أن نجعلهم يتفاعلون مع دمية مثل ماكس. إذا، (ماكس) يلعب هذه الألعاب الجديدة معهم حيث القواعد مخترعة، وفجأة (ماكس) يفعل شيئا غريبا. بدأ ينتهك قواعد اللعبة وأعلن أنه يلعب اللعبة بشكل صحيح.

يمكننا أن ننظر ببساطة إلى ردة فعلهم. اتضح أنهم يتفاعلون بشكل مختلف. أطفال الطبقة العاملة بعمر الثالثة يحتجون على هذه الدمية لخرقها القواعد. إنهم يعلمون وهم في سن الثالثة مدى أهمية القواعد. نقوم بأعمال أخرى تبحث في مدى رسوخ الثقافة عندما يتعلق الأمر بانتهاكات المعايير الاجتماعية. نقارن مثلا بين الصينيين والأميركيين والطرائق التي يتفاعلون بها عندما ينتهك الناس القواعد. فمن الواضح أن نشاط دماغ الصينيين أقوى بكثير في المجال الجبهي على سبيل المثال، وهو مجال يتعلق بالتفكير في العقاب ونظرية العقل.

وهذه الأمور يصعب تغييرها، ممكن لكن صعب، لأنه ينبغي أن نتذكر أنها نتاج عملية تطورية حيث تريد فيها بعض الجماعات قواعد أقوى وقادة أقوى. وقد يساعدنا ذلك على تعزيز بعض التعاطف مع أشخاص في الولايات المتحدة -أشخاص مثل ترامب أو لوبان في أوروبا، أو أشخاص يعارضون الخروج البريطاني، حيث يتلهفون إلى نظام تقليدي. يمكننا محاولة فهم ذلك. هناك اضطرابات خطيرة بين الطبقة العاملة.

 توماس فريدمان، وهو صديق لي، يَتكلّمُ حول هذا دائما. إن العالم يتغير بشكل دراماتيكي. ثم يكون لديك قادة يلتفتون إلى هذه الجماعات، حتى أنهم ربما يبالغون في تهديداتهم، ويستهدفون هذه الجماعات. وليس من المستغرب أن يأمل الناس في أن يعيدهم هؤلاء القادة إلى النظام التقليدي لأن العالم يبدو وكأنه يتهاوى.

لقد كنت أبحث في كيفية تعامل الدول الأخرى مع القضايا الطبقية، على سبيل المثال. في ألمانيا الأمر مختلف جدا، حيث الثقافة ضيقة بشكل عام. هناك الكثير من التقييس حول التعليم، من حيث حصول الطبقة العاملة على شهادات يمكن استخدامها للانتقال من منظمات مختلفة. هناك بعض المساعدة من حيث مساعدة الناس على الانتقال في سياق التعليم غير الجامعي.

فإذا نظرتم إلى الولايات المتحدة باعتبارها سياقا فضفاضا للغاية، فمن الواضح أن بعض الولايات أكثر إحكاما من غيرها، ولكن هناك القليل من الدعم لأنواع الوظائف المهنية، والتصنيع، وأنظمة الدعم التي ترونها في بلدان أخرى. وليس من المستغرب أن يشعر بعض السكان وفئات معينة بهذا الشعور بالاضطراب، يتعين علينا أن نتعامل مع ذلك. سيساعدنا ذلك على تجاوز ما يبدو أنه مجرد فترة محيرة بشكل لا يصدق من تاريخنا الديمقراطي.


** ملاحظة: اسرائيل المذكورة هي فلسطين المحتلة.

[1] Croos-Cultural) Psychology)

بحسب أول المراجع التي نُشرت في ستة أجزاء عام 1980 تحت اشراف Harry Triandls ورد في طبعته الأولى أن علم نفس عبر الثقافي: هو الدراسة العلمية للسلوك البشري وللعمليات الذهنية وللنمو وعلاقتهم بالمحيط الثقافي.

[2] Collectivism الجماعتية

وهي صورة من تقديم مصالح المجتمع أو الجماعة على مصالح الفرد

[3] Power distance فارق القوة

بُعد معنيّ بالفوارق في السلطة والنفوذ التي تُعد مقبولة ومتوقعة لدى الأطراف الأضعف داخل المجموعة

[ لهوستفيد نظرية تتكوّن من أربعة أبعاد يُنظر من خلالها على اختلاف الثقافات بين القوميات وثقافات المؤسسات من منظور اداري فارق القوة – تجنب الريبة وعدم اليقين – الفرد مقابل الجماعة – الذكورية مقابل الأنوثة]

[4] نظرية الألعاب التطورية

تهتم بدراسة استراتيجيات التصرف أو العمل في ظل نظام أو منظومة ذات قواعد معينة.

المصدر
edge

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى