قِفا.. فلأمرٍ ما سرينا وما نسري
وإلّا.. فمشيًا مثل مشي القطا الكُدْري
قفا نتبيّنْ أين ذا البرقُ منهمُ
ومِن أين تسري الريحُ عاطرةَ النشْرِ
لعلّ ثرى الوادي الذي كنتُ مرّةً
أزورهمُ فيه.. تضوّع للسَّفْرِ
وإلّا.. فذا وادٍ يسيلُ بعنبرٍ
وإلّا.. فما تدري الركابُ ولا ندري
أكلَّ كِناسٍ في الصريمِ تظنُّهُ
كِناس الظباء الدُعجِ.. والشُّدَنِ العُفْرِ
فهل علموا أنّي أسيرُ بأرضهم
وما لي بها غيرُ التعسُّفِ من خُبْرِ
ومِن عجبٍ أنّي أسائلُ عنهمُ
وهم بين أحناء الجوانحِ والصدرِ
ولي سكنٌ تأتي الحوادثُ دونَهُ
فيبعُدُ عن عيني.. ويقربُ من فِكري
إذا ذكرتْه النفسُ جاشتْ لِذِكرِهِ
كما عثر الساقي بكأسٍ من الخمرِ
ولم يبق لي إلّا حُشاشةُ مُغرَمٍ
طوى نفَسَ الرمضاءِ.. في خُللِ الجمْرِ
وما زلتُ.. ترميني الليالي بنَبْلِها
وأرمي الليالي بالتجلُّدِ والصبرِ
هذه الأبيات مقدّمة قصيدة تسعينيّة، طويلة النفَس، عادة قصائد ابن هانئ الأندلسيّ(ت362ه)، التي تجاوز العديد منها مئة بيت، في شهادة له بانسياب الشعر، ظاهريًا على الأقل، وكثيرًا ما يُميَّز اسمه بلقب (الأندلسيّ) احتراسًا من اللبس بابن هانئ (أبي نواس).. وفي الأسطر التالية قراءة لتلك الأبيات العشرة تقريبًا، التي يمكن أن تُعدّ مقدمة قصيرة لقصيدة طويلة، تخلّص بعدها إلى المديح، مقدّمة تحمل حيرةً من “أمرٍ ما”..
وابتداءً فابن هانئ من الشعراء الكبار، من أبرز الآراء في شعره من طرف الاستحسان رأي ابن خلّكان: “ابن هانئ عند الأندلسيين والمغاربة كالمتنبي عند المشارقة”، ومن الطرف الآخر رأي المعرّي: “ما أشبّهه إلا برحىً تطحن قرونًا” (لأجل القعقعة التي في ألفاظه)، وكلا طرفي الحكمين عاطفيٌ مبالغ فيه -في رأيي-، فلا هو نظير المتنبي ولا القعقعة سمة شعره.
ليس نظيرًا للمتنبي لأسباب كثيرة، منها قصر تجربته، قُتل وعمره 36 عامًا، ولم تمنحه الأيام من التجارب -القاسية ربما- ما وهبت المتنبي فأذكت شاعريته فوق موهبته الفذّة، وفي العديد من مقابلات الكتّاب-الأندلسيين خاصة- في المعاني الدقيقة بينهما ترجح كفة المتنبي وإن رجحوا ابن هانئ. وفي الضفة الثانية، ليس شعره الغزير إسهابًا بلا طائل، له قصائد جميلة ومعدودة من منتخبات الشعر في المغرب العربي، بعضها يقدّمها أصحابه لصعوبة قافيتها مع إجادة معانيها، مثل الطائية الهاطلة على الطويل:
ألؤلؤٌ دمعُ هذا الغيثِ.. أم نقطُ
ما كان أحسنه لو كان يُلتقَطُ
ومثل مقصورته الوثابة على المتقارب:
تقدّم خُطىً أو تأخّر خُطى
فإنّ الشبابَ مشى القهقرى
ويوازنونها بمقصورة المتنبي التي منها:
“وكلّ طريقِ أتاه الفتى
على قدَرِ الرِجلِ فيه الخطى”
.
.
.
“قفا.. فلأمرٍ ما.. سرينا وما نسري
وإلّا فمشيًا.. مثلَ مشي القطا الكُدري”
في النظرة الأولى تبدو المقدمة من النسيب، وعادة النسيب في مقدمات المديح -السياسي خاصة- أنه نسيب مجازي، إمّا مدخل تقليدي لإثبات الشعرية، وإما قناع لأفكار ضمنية تعتمل في نفس الشاعر، عند من يرى -على سبيل المثال- أن مقدمة المتنبي في يائيته لكافور: “أقِلّ اشتياقًا أيها القلب”، ومقدمة أبي فراس في رائيته السائرة: “فلا تنكريني يا ابنة العمّ”، كلاهما نسيب مجازي ينقل الحمولة النفسية الحانقة على السيّد وابن العم، ومن المفارقة أن المقصود في كلا النسيبين المتواريين: سيف الدولة، فحمّل القويّان الضعيفَ (المرأة) صفةَ الغدر، فقال المتنبي “وقد كان غدّارًا فكن أنت وافيا”، وقال أبو فراس: “لإنسانةٍ في الحيّ شيمتُها الغدرُ” لأنهما لم يجسرا -أو لأمرٍ ما- لم يُريدا أن يقولا لسيف الدولة: أنت غدّار..
مقدّمة ابن هانئ من تلك المقدّمات التي تخفي أمرًا ما، يجعل في النسيب حمولة حيرته الغائمة، فهي مقدّمة حائرة ومحيّرة، تتزاحم فيها الشكوك والظنون، وسِمَتُها التردد وضعف اليقين، حتى أن شارح ديوانه بعد البيت الأول قال: “ويظهر في الأبيات التالية أن العاشق متحيّرٌ جدًا”، لكن ماذا لو لم يكن عاشقًا أصلًا؟ فأيّ حيرة حملتها الأبيات؟..
“قفا… أو فامشيا”
طلب الوقوف مقدّمة معهودة، يعدّها أهل الأسلوبية من الصياغة الشفهية التي يتناقلها الشعراء موروثًا لغويًا وقد لا يقصدونها، وتكرر طلب الوقوف للمثنّى في مئتي مطلع تقريبًا في الشعر القديم، والخطاب للمثنّى له سياقاته أيضًا التي تختلف عن الخطاب للمفرد أو للجماعة، يعلَّل أحيانًا بأن الثلاثة هو العدد المثالي للرفقة، وأحيانًا بأنه الشاعر وآخر مخبوء فيه كأنه ذاته البعيدة..
والتوقف والاستيقاف استغرق عددًا من الدراسات في أبعاده الوجودية والفلسفية، وفي قيمته الشعرية، وهناك من يستقصي جمالياته مع بحر الطويل، مقابل البين مع بحر البسيط، إلى غير ذلك مما يثيره التوقف -أيّ توقف- عند القارئ في وجوده الإنساني، لكني أجده -إضافة إلى كل تلك الرؤى- يختلف باختلاف زمن طلب الوقوف، فمن يطلبه ضحى أو غدوةً أو أصيلًا، ليس كمن يطلبه ليلًا كابن هانئ، حديث الشعراء عن السُّرى له إلماحاته التي لا تخفى، ومفتتح القصيدة دالٌ على انخفاض الرؤية، وينبئ بما سيأتي وراءه من تخرّصاتِ “ساري ليل” وإن لم يحتطب، يقتحم أحراش منطقة مجهولة -داخله ربما-، فلا يكاد يستبين، لا يقين، ولا قرار، متأرجح ومتردّد، يقدّم احتمالات غير مستقرة وخيارات غير مفتوحة: “قفا..أو فامشيا”، “لأمرٍ ما”، “سرينا وما نسري”، و”إلّا، وإلّا، وإلّا”، “فما تدري الركاب ولا ندري”..
والوقوف ضد الحركة، وعند أهل العلوم الطبيعية يتوقف الجسم إذا توقفت القوى المؤثّرة فيه أو تساوت في اتجاهين متعاكسين، ويبدو أن القوى المتصارعة فيه ما تساوت، وعند أهل اللغة يبدأ المتحدث بحركة ويقف على سكون، فالسكون وقوفٌ لطلب الراحة وسلبٌ للحركة، وطلب الوقوف طلب للسكون بحال أو بآخر، لكنّه ليس مثل سابقيه، فلم يأتِ بجواب للطلب، غيره من الشعراء حدّد: قفا نبكِ، قفا نسمعْ، قفا ننظرْ، قفا فاندبا، هو لا يعرف بدقة لماذا يستوقفهم، “لأمرٍ ما” في هذه العتمة، الخارجية والداخلية، يفتّش عن شيء يعرفه جيّدًا ويجهله، موقن به ومتشكك، يسأل عنه ولا يتبيّنه على أنّه “بين الجوانح والصدرِ”..
.
.
” قفا نتبيّنْ أين ذا البرقُ منهمُ
ومِن أين.. تسري الريحُ عاطرة النشْرِ؟
لعلّ ثرى الوادي الذي كنتُ مرّةً
أزورهمُ فيه.. تضوّع للسَّفْرِ؟
وإلّا.. فذا وادٍ يسيلُ بعنبرٍ
وإلّا.. فما تدري الركابُ ولا ندري”
حتى التضاريس التي هي الأكثر ثباتًا واستقرارًا، تبدو له متحركة ككثبان طيّعة في أراضيهم، لا يراها إلا في ومضة برق، يعمّ بعدها الظلام، فلا يبصر، فتتغير أماكنها وأشكالها، لكنه يجد رائحتها الكامنة فيها، “من أين”؟ وتأتي الإجابة في ثلاثة خيارات: تضوّع أثر اللقاء، أو مسيل الوادي بالعنبر، أو لا شيء مما سبق، عبقُ حنينٍ ما، إمعانًا في الحيرة..
” أكلَّ كِناسٍ في الصريمِ تظنُّهُ
كِناس الظباء الدُعجِ.. والشُّدَنِ العُفْرِ”
المتسائل محتار، فجاء الحوار الداخلي -أو الحوار مع رفاق السفر سيّان- موبّخًا متعاطفًا، هل تظنّ أنّ أحلامك يقين؟ أن كلّ آخر هُم؟ أن كل مرفأ صالح؟ أنّ كل طموح أنثى؟!..
والصريم المقطوع من الشجر، والكِناس ما تسكنه الظباء بين الشجر، وللقارئ تأمل رقة اختيار الشاعر لكلمة كِناس، وتبادل أصوات الأحرف وزيادتها مع كلمة (سكن) التي ستأتي رمزًا لأملٍ ما يقترب من الشاعر ويبتعد، ولكن الاختيار الأدق في اختيار كلمة الصريم دون غيرها، فهي تتلاءم مع هذه المقدمة كثيرة الظنون، الصارمُ الأقوى فيها ضعفُ الصرم، والصرم -في الزراعة وغيرها- يحتاج إلى وضوح وطاقة وقوة، لا يؤتاها أيُّ أحد، كما يقول جميل بثينة:
“فلو كان لي بالصرمِ يا صاحِ طاقةٌ
صرمتُ.. ولكنّي عن الصرمِ أضعفُ”
ومثله كان ابن هانئ، لكنه ضعف عن صرم أفكار وهواجس..
“فهل علموا أني أسير بأرضهم
وما لي بها غير التعسّف من خُبْرِ”
ما أشجى الناسَ مثلُ غشيان أماكن الأحبة، وما يزال المرور بأراضي النبلاء من أعظم المؤثّرات في النفس، أن يتحسّس العابر أثر من درجوا على كثبانها، ويتأمّل ملامحهم في نخيلها، ويتتبّع ما انتقل من الصفات الوراثية بين البقاع والطباع، ويحصر ما خلّفته الأقطار للأفكار.
ومحقق الديوان يضبط البيت: “فهل علموا أني أسيرٌ بأرضهم” ولا أجده أسيرًا؛ بدلالة السياق، فالأسير مقيّد، لا يتحرى ولا يبحث، وهو هنا فوق التحرّي والسؤال والعسس، يتعسّف، وفي اللغة تعسّف الطريق إذا سار على غير روية ولا هدى، وتعسف الأمر أخذه على غير حق، فالشاعر يسير في منطقة مجهولة، بلا خبرة ولا أخبار..
“ومن عجَبٍ أنّي أسائل عنهمُ
وهم بين أحناء الجوانح والصدرِ”
معنى قريب عذب، ولم يبطل العجب، ظلّ بعده يدور على ألسنة الشعراء، يقول القاضي الفاضل:
“ومن عجبٍ أني أحنّ إليهمُ
وأسأل عنهم من أرى وهم معي
وتطلبهم عيني وهم في سوادها
ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي”
ويقول صفي الدين الحلّي:
“ومن عجبي أنّي أحنّ إليكمُ
ولم يخلُ طرفي من سناكم ولا قلبي
وأطلبُ قربًا من حماكم وأنتمُ
إلى ناظري والقلب في غاية القربِ”
وفي بعض نشيد المتصوّفة:
“إنّ الأحبّة في الفؤادِ محلّهم
لكنّ عيني تشتهي أن تنظرا”
وابن هانئ نفسه في قصيدة أخرى يعجب أيضًا:
“ماذا أسائلُ عن مغاني أهلِها
وضميريَ المأهول.. وهي خلاءُ”
إلّا أن عجبَه هنا ليس غريبًا ولا عجيبًا؛ لأنه طوال المقدمة حائر، أعشى الشعور، يشعر بقربٍ ما ولا يجده، يشمّه ولا يراه، يقترب المراد من قلبه ويبتعد من عينه، في تناسبٍ معاكسٍ إلى الأخير بين الاقتراب والاغتراب:
“ولي سكنٌ تأتي الحوادثُ دونَهُ
فيبعُدُ عن عيني.. ويقربُ من فِكري
إذا ذكرتْه النفسُ جاشتْ لِذِكرِهِ
كما عثر الساقي بكأسٍ من الخمرِ
ولم يبق لي إلّا حُشاشةُ مُغرَمٍ
طوى نفَسَ الرمضاءِ.. في خُللِ الجمْرِ”
يسري ولا يسري نحو أملٍ ما، سكنٍ ما، ألمح إليه في ومضة بيت، بين ضباب المديح، كأنه بين تلك المطولات لا يجرؤ على بث حيرته إلّا في ومضةٍ حائرةٍ من حيرتها، والحيرة متاهة كما في أرض بورخيس، حيرة لا يدري لمَ، لهزيم بعيد ومستقبلٍ غامض، ولا أعنف من حيرة الفكر الوقّاد الذي لا يهتدي ولا يرتضي، الوجهة مجهولة، والطريق مجهول.. لم يُحمد ذاك السّرى الحائر إلا عند صبح التخلّص للمديح، الذي شحنه بالمعاني الدينية، وما صبحه من مسراه بأمثل، كان الشحن وبالًا عليه، أهلك طاقته الشعرية قبل اكتمالها، وربما هو قطب الحيرة، أفكار وجودية لا يدري هل يقف أو يمشي فيها متثاقلًا..
.
.
.
“وما زلتُ.. ترميني الليالي بنَبْلِها
وأرمي الليالي بالتجلُّدِ والصبرِ”
وما يزال التراشق، الأيام تملأ قبل الرماء الكنائن، والذي مدده الصبر واليقين من خزائن لا تغيض لن يُهزم..
نقد حلو المذاق، لدرجة جعلتني أكرر قرائتي للأبيات علي ضوء تفسيرك لها.
صلي الله علي من قال: “إن من البيان لسحرا”.