- إبراهيم بن محمد الحجي
يحظى القمر بمكانة رفيعة عند العرب في أدبياتهم، بل ويبدو الأكثر ذكراً في موطن الغزل، وهذه المكانة لم تظفر بها الشمس! مع أنها مصدر ضياه! لذلك لا غرابة حين نتأفف من حرارة الشمس مع أنها مصدر العافية ومركز الكون والضياء الذي نحبه! وهذا ما انسحب على النار، فحياة البشر قبل معرفة النار ليست كما هي بعد اكتشافها.
ما بين حياة البشر قبل النار وبعدها؛ يكمن سر رؤيتنا للأشياء من حولنا، والتأمل في دقائقها، ومن ذلك ما يتردد مؤخراً حول (الاحتراق الوظيفي) في بيئة العمل، فهذا المصطلح يتم تداوله تحذيراً يكاد يبلغ معظم الموظفين، حتى عُبِّر عنه بمتلازمة الاحتراق الوظيفي وكما أشارت إحدى الدراسات تحمل العنوان ذاته، بأن ظاهرة الاحتراق الوظيفي لها تأثيراتها المتعددة على مختلف الأفراد في جميع المنظمات العامة والخاصة.
ومن هذه الدراسة يلفتنا وصف (مختلف الأفراد في جميع المنظمات) هذا الوصف يجعل الموضوع بالغ الأهمية لقراءته وتدارسه، كما أن ربطه بسمة (الإرهاق والإحساس بالتعب) وما إلى ذلك من أوصاف تكاد تصدق على كل من يراجع نفسه ويختبرها، لذلك لا يكاد يفلت أحد من هذا الوصف إن صدق، ولا بد من علاجه حسب وصف الدراسة.1
يأتي هذا النص القصير لمشاغبة هذا المصطلح، والتأمل في فعل الاحتراق، من أجل ما تصبو إليه من نتيجة تتوسمها ونهايتها الإشراق.
الاحتراق بين السوداوية والضياء
يأتي فعل احترقَ في معجم اللغة العربية المعاصر ماضٍ ليحترق، احتراقًا، فهو مُحترِق، واحترق الشَّيءُ اشتعل كما هو في المعجم، والاشتعال صورة من التوقد، لذلك يكون المشعل رمزاً، والشعلة رمز لمواطن النشاط والحيوية كالألعاب الأولومبية، كما أن النار وسيلة للصقل، وتشكل العناصر الثمينة كالذهب ليخرج في صوة مغايرة، فلا بد من عبوره عبر نار تشعله، وتقوده من سبيكة بثمن إلى حلية تزيده ثمنا عند من تحلى به، بل وعند من يراه، فالاحتراق في هذه الصورة تفضي إلى إشراق، فلماذا تم اختزال صورة الاحتراق في التفحم، واتخاذها وسيلة لتوصيف أقرب للموت منه للحياة، فالحياة قائمة على الاشتعال والتوقد، ولا ريب من أن التفحم نتيجة لهذا الاشتعال، ولكن من يتأمل في مآلات الأمور، يمكنه أن يجد لهذا الفعل إشراقاً يترقبه متى ما أراد .
القنطرة
تتردد مقولة من الشهرة بمكان، وهي: (من لم تكن له بدايةٌ مُحْرِقة لم تكن له نهايةٌ مُشْرِقة)، فهل يمكننا أن ننظر إلى الاحتراق الوظيفي، أو ما يشابهه من محطات في مسيرة طلب العلم أو الرزق، أو في الإبداع بصورة عامة بأنه قنطرة إلى نهاية مشرقة في آخر النفق؟! ربما يكون الإحباط الناجم عن تكرار العمل الروتيني وسيلة لما يُراد له من الاحتراق، ولكنه قنطرة البداية لا بد من عبورها، وهي التي يقفزها المرء وصولاً إلى ما يريد، فما العتبات الأولى إلا بدايات في رحلة طويلة مشرقة إن أردنا لها الإشراق، وكما يقول ﺍﺑﻦ ﺗﻴﻤﻴﺔ: ﺍلاعتبار ﺑﻜﻤﺎﻝ ﺍﻟﻨﻬﺎية ﻻ ﺑﻨﻘﺺ ﺍﻟﺒﺪﺍية. فالبدايات من طبعها النقص والتكرار، وليست البدايات بمفهوم زمني، فهي متكررة بتكرار الرتابة التي يمكن للمرء أن يجعلها وسيلة وعتبة لما يعقبها، والحياة ليست عمراً أو رقماً، فكل يوم بداية جديدة تبدأ بالشروق، فما يمنعنا أن نشرق بكل شروق؟ّ!.
الإشراق مسئولية من؟
تنهض المؤسسات بنهضة كوادرها، ولذلك تولي صحتهم النفسية اهتمامها، وهذا ما حدث من بعض المؤسسات بافتتاح عيادات للاحتراق الوظيفي سعياً لتدارك موظفيها، والتفتيش عن الأسباب التي قادت إلى لحظة الاحتراق، وبالملاحظة العابرة نجد جميعاً أن الأمر ربما يدور حول الخيارين: (اعمل ما تحب أو أحب ما تعمل)، ومتى ما توصلنا إلى تحقيق تلك المعادلة، من عمل كل فرد فيما يحب، أو القدرة على تحبيبه في العمل وصولاً إلى عمله فيما يحب طواعية لا إكراهاً أو اضطراراً، توصلنا إلى شعوره بصبح جديد كل يوم، بل وترقبه لهذا الصبح، لذلك من الجدير بكل مؤسسة اقتناص لحظة الإشراق، بل وصناعتها إن لزم الأمر، واستثمار كل فرد لتلك اللحظات، والتفتيش عنها، فلا بد من وجود تلك اللحظة واقتسام مسئوليتها ما بين المؤسسة والفرد لصالح الاثنين.
وجدتها!
هل لحظة الإشراق تختار صاحبها؟ أم أنه من يختارها؟ ما الذي يجعل فكرة ما أو قضية أو موضوعا بحثيا -على سبيل المثال- يُشرق أمام عقل دون آخر؟! هل القضايا تتخير العقول!!
عندما عاد أرخميدس إلى منزله وبحوزته تاج هيرون، ولغز التحقق من صناعة هذا التاج من الذهب الخالص، وما إذا كان مغشوشاً بالنحاس أم لا، ظل هذا الأمر يؤرقه، وتحديات التعرف على حقيقة صنعه من الذهب دون أن يمسه، يزيد الأمر صعوبة، هل كانت لحظة ذهابه إلى الحمام منقذة له؟ هل ميعاد الاستحمام من ناداه؟ أم أن لحظة خروج الماء كانت ناقوس النصر لفكرة أرقته؟ عندما فاض الماء، عرف سر التاج، فقفز يركض نحو منزله عاريا وهو يصيح: (وجدْتُها، وجدْتها) !
لا يوجد إنجاز دون اختيار الطريق الذي تسلكه، أو هو من يختارك، لذلك لا يوجد بحث علمي إلا والتخيُّر أصل في مادته كما أشار الى ذلك صلاح قنصوة بقوله: ” ليس ثمة بحث على الإطلاق لا يقوم دون تخير وتنخل لمادته”.2
ولكن هل الفكرة أو الموضوع تشعر بالباحث عنها، فتقرر هي الأخرى ما إذا كانت ستتكشف له أم لا!!. هل الفكرة أو القضية تتخير بين عقول الباحثين كما يتخير الباحثين مواطن بحثهم باصطفائهم وقيعة دون غيرها، أحسب أنها كذلك!! فالفكرة أيضا تشتهي العقول التي تشتعل شوقاً للقائها. تلك العقول التي يعتقد البعض أنهم من عالم آخر غير عالمنا الذي نعيشه، فهم بالضرورة يسبقون زمانهم ويقضون أسعد لحظات عمرهم في عتمة هي محض شروق، لذلك تشرق الشمس على الجميع، ولكنها تشرق أكثر عند من يعرفها، وكذلك المنجزات والأفكار تقترب عند من يتعرض لها، ويسابق إليها، فترى المشرقين متحفزين مترقبين هبة إلهية ؛ ليكونوا سببا بما وهبهم المولى عز وجل لتفجير ثورة علمية كما سماها تومس كون فبسببهم ينتقل العلم من نموذج الى آخر ومن ركود الى ثوران، فالإشراق في طلب العلم يوصل الباحث إلى العالم الآخر – المجهول – لينير له، فيستنير العالم به، أحسب أننا بحاجة الى طلبة علم يصلون إلى مراحل الإشراق أو كمال النهايات الذي ينشده ابن تيمية في طلب العلم، ويقضون معه قصة اشتهاء لا تنتهي، متطلعين إلى صيحات “وجدتها” في قاموسهم، فما أحوجنا إلى مزيد من الصيحات لمستقبل أفضل.
استشراف المستقبل
تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية حادثة بكاء ستيف بالمر الرئيس التنفيذي لشركة نوكيا حينما بات قريبا من إغلاق شركته بسبب إطلاق ما تُسمى بالأجهزة الذكية، نعم هو يبكي بسبب خروجه من المنافسة التي كان قبل بضعة أشهر فارس ميدانها، والمتحكم في مفاصل بيع الهواتف المحمولة.
قصة الأجهزة الذكية نجدها دوما في فصول الإدارة الاستراتيجية تحت عناوين لها علاقة بالمستقبل، كاستشراف المستقبل وهي حقا كذلك فما قام به ستيف جوبز مثلاً هو استشراف حقيقي للمستقبل تمكن من خلاله تقديم القفز على الواقع. لكن كيف استطاع استشراف المستقبل بهذه الطريقة؟ ما الذي جعل المستقبل يشرق أمام ناظريه هو بالذات دوناً عن الآخرين؟ ما الذي قاده ليكون هذا الاسم في قصة حتماً لم تكن بدايتها كما يشتهي ويريد..
سأعود بنفس الفرضية: إن المستقبل يشرق أمام من يراه بحق يشتعل شوقاً لرؤيته، باذلا كل ما يملك من وقت وجهد وأدوات في سبيل أن يراه، لا لأجل المال او الشهرة! بل لأجله هو، فالاشتعال هنا يبنى على الإخلاص في البذل، والقدرة على أن تجعل كل فرد يستمتع بما يتشوق إليه، فليس الجميع على رغبة واحدة، وإلا لفسدت الأرض، لذلك تشرق الشمس على الجميع، ولا تمايز بين فرد وآخر، ومتى ما استطعنا أن نلفت الكل إلى هذه الهبة، تبدلت نظرتهم باتجاه الاحتراق، واتخاذها عتبة للإشراق.
- سعيد بن علي بن ظافر, & سعيد بن علي بن ظافر. (2021). الاحتراق الوظيفي: الأسباب وطرق العلاج. دراسات فى التعليم العالى, 19(19), 138-164.
- صلاح قنصوة .(1981). فلسفة العلم ، القاهرة : دار الثقافة للطباعة والنشر. ص182