- توماس ويتوسكي
- ترجمة: منيرة الشثري
- تحرير: عبد الرحمن روح الأمين
في رسالة مجهولة إلى مدونة بولندية ورد الآتي:
أثناء الحرب العالمية الثانية كانت أخت أمي ضابطة اتصال في حركة المقاومة، وكانت تُسند إليها مهام غايةً في السرية -كما قالت عن نفسِها- إلا أنها لم تكن تخشى الموت، وإنما التعذيب. فقد كان لديها القليل من التحمّل للألم وكانت تخشى من أن تُوصَم بالخيانة أو إفشاء معلوماتٍ في غاية الأهمية. وعن طريق بعض الوسائل حصلت على كبسولة سيانيد البوتاسيوم (مركّب سام)، وتناولت السمّ عندما أحاطت قوات الجستابو بمنزلها بعد أن أشعلوا النيران في أحد الغرف، وبالتالي تدمّرت بعض الوثائق المهمة جدا.
هذه واحدة من آلاف القصص المتشابهة من تلك الأوقات الكئيبة. كانت كبسولة السمّ هي الضمان النهائي للنجاة والفرار الذي لن يتمكّن من منعه الجستابو وقوّات الأمن، لقد كانت بمثابة الفرار من التعذيب والإذلال والموت بلا كرامة. لم يكن ما قامت به ألمانيا من ازدراء واحتقار من تَخلّوا طواعية عن حياتهم مجرّد صدفة، حتى أنهم استنكروا استخدام كلمة (Freitod) والتي تعني (“free death”) أو الموت الحر، وهي واحدة من المرادفات الألمانية الأربعة التي نُطلقها على فعل الانتحار؛ أما المصطلحات الثلاثة الأخرى هي (Selbsttötung) وتعني (“killing oneself”) أو أن يقتل المرء نفسه، و(Suizid) و(Selbstmord) التي تعني (“self-murder”) بما يعني قاتل نفسه، وهي ما فضّله النازيون.
ومن ناحيةٍ أخرى كان هنالك ثغرة في النظام الشمولي، استطاع الانتحار توسيعَها؛ فبالنسبة لممثّل السلطة المطلقة لا يوجد ما هو أسوأ من معرفةٍ بأنّ لنفوذه حدود، وبالنسبة للخاضع لا شيء يقوّيه أكثر من إمكانية التحرر؛ ومن هنا أعطت كبسولة سيانيد البوتاسيوم إحساسا حقيقيا بالحرية للكثير من الناس في تلك الأيام.
وصْم ومعاقبة المنتحر
لم تكن ألمانيا الشمولية وحدها في كراهيّة الانتحار كخيار ومظهر من مظاهر الحرّية. قد يبدو سخيفًا أن تحُاول معاقبة شخص قد مات بالفعل، ولكن مثل تلك العقوبات كانت منتشرةً عبر التاريخ. في روما القديمة كانت عقوبة الانتحار مصادرة جميع الممتلكات. ومنذ القرن الخامس فصاعدًا لم تُدِنْ مجالس الكنيسة المتتابعة الانتحار فحسب بل حرّمته، وفرضت عقوباتٍ قانونية مثل حرمان المنتحرين من قداس الجنازة أو من الدفن في الأماكن المقدّسة أو عزلهم. وفي إنجلترا عاقب القانون حالات الانتحار منذ منتصف القرن الثالث عشر.
وكما هو الحال في روما، كانت ممتلكات الجاني تُصادر يُعامل هو نفسه كمجرم عادي. لم تُلغَ عقوبة المنتحر حتى عام 1961. وفي فرنسا عُومل المنتحرون بنفس معاملة السفّاحين والقَتَلة منذ القرن الخامس عشر وما بعده. فقد أمر لويس الرابع عشر بجثث المنتحرين وسحبِها في جميع أنحاء المدينة لتعليقها أو رميِها في القمامة في عام 1670، وكانت ممتلكاتهم تُصادر أيضا.
وفي أستراليا كانت أجساد الذين أقدَموا على الانتحار إمّا معلِّقةً محترقةً على العمود أو مهشمةً على العجلة. كما أن الكنيسة رفضت تشييع جنائزهم، وصُودرت ممتلكاتهم، وتُشوّه ذكرهم وسمعتهم. اقترح قانون جوزفين لعام 1787 وجوب إرسال الذين حاولوا الانتحار إلى السجن؛ حتى يُعبّروا عن ندمهم ويُغيّروا من سلوكهم. ولايزال الإسلام يعتبر الانتحار خطيئةً كما هو الحال مع القتل. كما أنه في كوريا الشمالية غير قانوني، حيث يتمّ إرسال عائلة المنتحر ونسله وربما الجيران أيضا إلى معسكرات الاعتقال. هناك تفسيراتٌ عديدة لأغلب مظاهر سوء معاملة أجساد من أقدموا على الانتحار ومنها: خرق التقاليد، والخوف غير المنطقي مِمّن لا يترددون في الإقدام على الموت، والخوف من عودتهم بهيئة أشباح، وأخيراً الخوف من الغضب الإلهي. ومع ذلك فإن أحد الأسباب التي نادراً ما يتمّ ذكرها هو الآثار الاقتصادية للانتحار. فالعبد بانتحاره يسلب سيده حقوقه وممتلكاته، ويتصرف كرجل حرّ بقراره التخلّص من حياته.
في الماضي كانت هناك قناعةٌ شائعة بأن الخالق وحده هو من يملك أن يُقرّر ما إذا كان الشخص سيعيش أو يموت، ومن يتحدّى إرادته فهو كافر. وتمكّن من يمثلون سلطة الخالق في الارض من الاحتفاظ بشيء من هذه السلطة. كان لحياة العبد أو العامل في النظام الإقطاعي قيمة مماثلةً للعمل الذي يقوم به، لذا فإن قراره لإنهاء تلك الحياة هو تعدٍ على حقوق ملكية. وفي سبيل الحد من هذا التصرف عمد القانون إلى تدنيس جسد المنتحر والاستحواذ على ممتلكاته.
باستثناء أفلاطون وأرسطو فإن معظم المصادر التاريخية لا تستحضر العامل الاقتصادي بشكل واضح كسبب لقوانين تجريم الانتحار القاسية. من ناحية أخرى هناك القليل من المعلّقين المعاصرين من يَعزو النظرة المثالية للعيش، والنفور من الاكتئاب، والانفعالات السلبية أخرى، أو الترويج لموضة نظام الحياة الصحّي إلى كونها اتجاهات مصمّمة لمصلحة النظام الاقتصادي، من خلال اختزال قيمة الفرد في إنتاجيته. بدلاً من ذلك نجد الحجج التاريخية واللاهوتية ضد الانتحار جنبًا إلى جنب مع البحث الحالي للصلاح الذي بات مشكوكًا فيه هي ما تُشكّل الأساس لِلاهوتٍ جديد، ولكن إذا أردنا فهم الانتحار الذي وصفه ألبير كامو بأنه المشكلة الفلسفية الجادة فعلا، فلا يمكن أن ننظر إليه بمعزل من الواقع الاقتصادي.
الحرية النهائية للمتميزين
إذا كان النفور من الانتحار نتيجة احترام الحياة، فإن الارستقراطيِّين في روما القديمة لم يكونوا يمتلكون الحق في اتخاذ قرارات كهذه بشأن حياتهم، في نفس الوقت الذي يرفضون منح هذا الحق لأي شخص آخر حتى للمريض بأمراضٍ خطيرة. إذا كانت قيمة الحياة ذات أهمية قصوى في روما القديمة فلن يتمكن مجلس الشيوخ من منح الناس الأذن بالتخلي عنها، ولن يستفيد كثير من الناس من هذا الأذن. وبالمثل فلم يكن ليستمر في اليابان خيار “الانتحار بشرف” والمخصَّص للنبلاء، حيث يتم العقاب بصرامة على جميع أشكال الانتحار الأخرى. وفي النهاية لن نصف حالات انتحار الضبّاط والارستقراطيين في دوائرنا الثقافية بأنها انتحار بدافع الشرف، ولن يكون هناك ضعف أو ثلاث أضعاف حالات انتحار في تلك المجموعة بين المدنيين (رقم أعلى حتى بين أعداد وحدات النخبة).
إن التناقض المعاصر تجاه الانتحار هو ما يجعله بالتالي جزءًا من التراث التاريخي لثقافتنا. أحيانًا نعتبر الانتحار كحلّ للحالة المعقّدة التي يجد ممثّل رفيع المنصب في مجتمعنا نفسه فيها، ولكن في أحيان كثيرة نخاف ونحتقر الانتحار، وخصوصًا عندما نشتبه بأنه نتيجة الضّعف أو اليأس. كما هو الحال مع ممثّلي الطبقة العليا ومن سبق لهم وصْم أشخاص أقدموا على الانتحار، فهؤلاء لم يتردّدوا بتناول كبسولة السمّ عندما كانت تلك هي الطريقة الوحيدة للاحتفاظ بكرامتهم وكسب حرّيتهم، واختار الكثير من الألمانيين رفيعي المستوى ذاك المسار، وانتحر هيرمان جورينغ فقط لأجل رفض مطالبته بإطلاق النار عليه لأنه اعتبر الموت على المشنقة خزي وعار، كما كان الانتحار الحرّ اختيار النازيين ذوي المقام الرفيع بأعداد كبيرة، حتى على الرغم من أنهم حرّموه بصرامة على رعاياهم قبل ذلك بوقت قصير.
فخّ القديس أوغسطين
اليوم عندما أتاح التقدم الطبّي إمكانية تمديد حياة الإنسان لفترة طويلة بما فيها من معاناة وفقدان للكرامة والمعنى، يحلم الكثيرون سراً بالموت الحر، ولكن سلوكنا قد تشكّل من قِبل تعامل القرون مع المنتحرين بازدراء، وتدنيس أجسادهم، والخضوع لمن قرّروا ما يمكن لنا أن نفعله بحياتنا، والنفور من أولئك الذين قرّروا التصرف في حياتهم بأنفسهم، وهذا يقود للرفض الشائع وحتى الغضب من الانتحار. أيّ اقتراح لمساعدة أولئك الذين يميلون للانتحار كان يُقابل بالهستيريا. على كلٍ لا يوجد دليل على أن المسيحيين الأوائل واجهوا مشكلة مع الموت الطوعي. في الحقيقة أنهى العديد منهم حياته طوعًا على أمل تحرير أنفسهم من وادي الدموع، وإيجاد السعادة السماوية التي كانوا يتوقون إليها.
على سبيل المثال قام الدوناتيون -الذين تم اعتبارهم زنادقة فيما بعد- بانتحار جماعي لتحرير أنفسهم من لعنة الخطيئة بأسرع وقت ممكن، حتى إنهم قد يطلبون من مسافرين غرباء أن يوجّهوا الضربة القاتلة ويهدّدون أحيانًا بقتلهم إذا رفضوا. أيضًا انتحرت امرأة لتجنّب الاغتصاب والوقوع في الخطيئة، وقد أشاد آباء الكنيسة الأوائل بهذه الممارسات معتبرين الانتحار موتًا شريفًا، حتى كانت المسيحية القديمة دين موت، وكان المجتمع المسيحي القديم أكثر مساواةً فيما يتعلّق بالانتحار من أي مجتمعٍ قبله.
كان القديّس أوغسطين هو أول من حاول إيقاف هذا الحماس الجماهيري للموت، والذي كان يخشى أن يؤدي بالمسيحية إلى الزوال، حيث ذكر في كتابه تأمّلات ينُافح في البداية ضد التناقض القائل بأن أحد الحلول لضعف الإنسان أمام الخطيئة -بعد تلقّي سرّ المعمودية- هو أن يموت على الفور ليحصل على الرحمة المقدسة، لكن اعتبر أوغسطين في وقت لاحق الوصيّة الخامسة -لا تقتل- أيضاً أمراً ضد قتل النفس، كان ذلك بمثابة النفور المسيحي من الانتحار واحتقارهم له، وهذه مواقف تم تأكيدها في مجمع آرل عام 452. منعت المجامع الكنسية المتوالية في براغا الانتحار بعد أكثر من 100 عام تحت وطأة عقوبات مختلفة كان الحرمان الكنسي أشدّها. وبعد أكثر من ألف عام ونصف لا زالت تتكرّر حجج القديس أوغسطين باستمرار، وهي الحجج التي شكّلها في ظروف ثقافية وسياسية معيّنة، وكانت تخدم احتياجات محددة.
ليس هدفي هنا أن أدافع عن مقاربة ليبرالية للقتل الرحيم بدافع الشفقة، آمل ببساطة أن يدرك بعض قرّائي بأن ما تعلّموه من آبائهم، ومعلميهم، وكهنة الأبرشية عن الانتحار قد يكون خاطئًا.
كانت تلك المواقف موروثةً عن أناس عاشوا في أوقات قبل وجود معدّات الطبّ الحديث والأدوية التي تبقي الناس على قيد الحياة لفترة أطول بكثير من أي وقت مضى. كانت مشكلتهم الأكبر منع المسيحيين من قتل أنفسهم سعياً إلى الخلاص الأبدي الموعود.
اقرأ ايضًا: الانتهار لمن عزم على الانتحار