- سيمون ماكين
- ترجمة: ولاء عمر
- مراجعة: مصطفى هندي
- تحرير: إيثار الجاسر
دراسة جديدة حول الأطفال؛ تثير تساؤلات حول ما إن كنا نأتي إلى العالم مجهزين بقدرات معرفية معيّنة، مثل التعرف على الوجوه.
يعرف علماء الأعصاب لعمل الدماغ البشري وبنائه أنظمةً كثيرة متخصصة في التعرف على الوجوه والأحداث وغير ذلك من الوظائف الإدراكية الأخرى، وتتعلق الأسئلة التي لا تزال قائمة بكيفية نشوء مثل هذه القدرات: هل هذه الشبكات -والمناطق التي تتألف منها- تكون مخصصة لوظيفتها بالفعل عند الولادة؟ أم أنها تُطوِّر هذه الوظائف الحسية مع مرور الوقت؟ وكيف يمكن لبنية الدماغ أن تؤثر على تطوير هذه الوظائف؟ يقول عالم النفس دانييل ديلكس من جامعة إيموري “هذه فلسفة قديمة تتعلق بكيفية تنظيم المعرفة، ومن أين تأتي؟ ما الذي وُلدنا به؟ و ما الذي نكتسبه بالخبرة؟”.
وقد تناول ديليكس وزملاؤه هذه الأسئلة في دراسة حول الروابط العصبية، حيث أُجري بحثهم على أصغر البشر أعمارًا ممن خضعوا لدراسات مماثلة، فقد اختبروا 30 رضيعًا تتراوح أعمارهم بين (6-57) يومًا، (بمتوسط عمر 27) يومًا، وتشير النتائج التي توصلوا إليها؛ أنَّ الدوائر العصبية تتكون أولًا، وبالتالي هي التي تحكم اختصاص المناطق المخية المختلفة، وهذا بدوره سيسلط الضوء على كيفية بناء نظم المعرفة في الدماغ؛ وقد يوفر العمل الإضافي في هذه الدوائر العصبية رؤية أعمق للاضطرابات العصبية مثل التّوحد.
وفي الدراسات التي نُشرت يوم الاثنين في أعمال الأكاديمية الوطنية للعلوم في الولايات المتّحدة الأمريكية، نظر الباحثون في اثنين من أفضل شبكات الدّماغ المدروسة خصيصًا لوظيفة بصرية: وظيفة التّعرف على الوجه وأخرى تُعالج المرئيات. تستجيب منطقة الوجه القذالية (مؤخرة الرّأس) ومنطقة الوجه المغزلية (الأمامية) بشكل انتقائي للوجوه، وهما متصلتان بشكل كبير لدى البالغين، مما يشير إلى أنّها تشكّل شبكة تساعد في التّعرف على الوجه. وينطبق الوصف ذاته على المنطقة المكانية المجاورة للحُصَين (Parahippocampal place area) والمجمع الحزامي (Retrosplenial complex) لكن فيما يخص المَرئيات، فإنَّ هذه المناطق الأربع موجودة في القشرة الصدغية السفلية التي تقع خلف الأذن لدى البشر.
استخدم الفريق تقنية تسمّى “تصوير الرّنين المغناطيسي الوظيفي عند الرّاحة” (rsfMRI) والتي تقيس مستوى مزامنة النشاط في مناطق الدماغ المختلفة؛ لتقييم مدى اتصال بعضها ببعض، حيث خضع الرّضّع لتصوير بالرنين المغناطيسي أثناء نومهم وبعد أن دُثِّروا بإحكام. يقول عالم الأعصاب ومؤلف الدراسة الرّائدة فريدريك كامبس بأنَّ “الحصول على بيانات التصوير بالرنين المغناطيسي من حديثي الولادة هو سبق وإجراء ريادي في مجال التصوير العصبي… الآن في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أنت بحاجة لأن يبقى رأس المشاركين ساكنًا، والطفل النائم من الممكن جدًا أن يتحرك في أيّ لحظة”.
وجد الباحثون أنَّ مناطق التعرف على الوجوه كانت شديدة الارتباط ببعضها البعض، لكنها لم تكن متصلة بمناطق معالجة المرئيات، لذلك في هذا العمر الصغير نرى عكس ما هو موجود لدى البالغين، وسوف تمر أشهر حتَّى يتَّضح أن ثمَّة انتقائية في الاستجابة للوجوه أوالمرئيات، وهو ما يُشير إلى إمكانية اقتراح اتصال يسبق تطوير الوظيفة.
كما قام الفريق بتقييم الروابط بين هذه المناطق وبين جزء الدّماغ حيث تصل المدخلات البصرية أولاً من الشبكية وهي: القشرة البصرية الأولية (V1)؛ وهذه المنطقة منظّمة بحيث تصل هذه المدخلات من مركز الشبكية إلى منطقة مختلفة عن تلك الموجودة في محيط مجال الرؤية، مما يشكّل خريطة للعالم المرئي.
كانت شبكة التعرُّف على الوجوه قويّة الاتصال بالمنطقة المركزية للقشرة البصرية الأولية(V1)، في حين كانت شبكة معالجة المرئيات مرتبطة بشكل أكبر بمنطقتها المحيطة. ومن المرجّح أن يرتبط هذا الترتيب بحقيقة مفادها أننا نركز عادة على الوجوه، في حين أن المرئيات تملأ مجالنا المرئي بالكامل. وهذه الشبكات -الموجودة في الأيام الأولى من عمر الرضيع- تبقى متصلة بحيث تتلقى المدخلات الأكثر ملائمة للوظيفة التي ستؤديها في نهاية المطاف.
هل يعني هذا أن التعرف على الوجوه ومعالجة المرئيات أمر فطري؟ يختلف الباحثون حول هذه النقطة. في عام 2017، نشرت عالمة علم الأحياء العصبية مارجريت ليفينجستون من كلية الطب بجامعة هارفارد دراسة حديثة حول قرود المكّاك حديثة الولادة؛ حيث وجدت أن الاتصال وتكوين الشبكات عند هذه القرود يسبق الوظيفة، ولكن هذا فقط فيما يتعلق بالخرائط المرئية، وترى ليفينجستون -التي لم تساهم في الورقة البحثية الجديدة- أنَّ الحساسيات العصبية المركزة على فئات محددة من الأشياء، مثل الوجوه، وتنشأ من تراكم الخبرات المكتسبة من رؤيتها، وتقول: “لقد ولدت بهذه الخرائط، وهي ما تقود التنظيم النهائي للدماغ… وهذه هي الركائز التي تقوم عليها التجربة”. وفي دراسة أخرى، وجدت أنَّ القرود التي نشأت وتربّت دون رؤية الوجوه لم تُطوِّر أي انتقائية في الاستجابة لها.
ومع ذلك، فقد أظهر آخرون أنّ من ولدوا فاقدين للبصر لديهم مناطق انتقائية للوجه والمشهد (على سبيل المثال، باستخدام المحفزات اللمسية أوالسمعية)، مما يشير إلى أنَّ هذه الوظائف قد تكون فطرية أو على الأقل تعتمد على أكثر من مجرد المدخلات المرئية. ويشير ديلكس إلى أنَّ الوجوه ليست الأشياء الوحيدة التي تركز عليها، كما اقترح باحثون آخرون أنَّ الروابط من أعلى إلى أسفل من المناطق القشرية عالية المستوى والمشاركة في التفاعل الاجتماعي (بين الأم والطفل، على سبيل المثال) قد تعمل أيضًا على تطوير انتقائية التعرُّف على الوجوه، ولا تظهر هذه المناقشة أي علامة على إمكان حسمها قريبًا.
تتساءل ليفينجستون “إنَّ الأمر برمته يتوقف على هذا السؤال الفلسفي: هل البشر مميزون؟ هل لديهم أجزاء من دماغهم مهيأة لوظيفة محددة؟…أو هل يمكننا تفسير ذلك باستخدام الصفات البدائية التي ورثناها من حيوانات سفلى؟”.
وإذا ذهبنا إلى ما هو أبعد من هذا الجدال النظري، فإن ديلكس يراقب التطبيقات السريرية المحتملة، وهو مهتمٌّ خاصةً باضطرابات نمو الأعصاب التي يعتقد أنها تنطوي على اختلافات في الدوائر العصبية في الدماغ؛ فالأشخاص المصابون بالتوحد يعانون من عجز أو ضعف اجتماعي قد يرتبط بمعالجة الوجوه، وهناك حالة تسمى بمتلازمة ويليام والتي تسبب مشاكل في التكيف الاجتماعي.
ويمكن إجراء دراسة على أشقاء الأطفال المصابين بالتوحد للسؤال حول كون الاتصال في مناطق التعرف على الوجه يُنبِّئ ببداية المرض، والذي عادةً ما يشخَّص في عمر السنتين!
كما يأمل ديلكس في دراسة الأطفال الذين يعانون من متلازمة ويليام لكي يسأل عمّا إذا كان الاتصال بين مناطق معالجة المرئيات يمثِّل مشكلة أم لا، ويقول أيضًا: “من المهم أن نعرف هذا لأننا ربما نتمكن من تسخير قدرة دماغ الطفل على التدخل في وقت مبكر”.