قلَّ أن أصليَ صلاةً في جامع الأمير نايف – رحمه الله – في حي النزهةِ إلا وترمق عينيَّ “سميرًا” يعقد بأنامله أذكار الصلوات، أو خافضًا رأسه على مصحفه يقرأ كلام الله بصوت ضئيل، ليكون آخر الرائحين من المسجد، بعد أن كان من أوائل الغادين إليه.
ولسميرٍ هذا نبأ عجيب، فقد استجاب لأمر الله بترك العمل في إحدى البنوك الربوية، بعد موعظة وعظها إياه شيخٌ زائر إلى مسجد حيّه، وقال له: من ترك شيئًا لله؛ عوّضه الله خيرًا منه! وكنت أجد في نفسي شفقةً عليه ورحمةً، فما أدري هل تنبسط له موارد المال بعد أن استقال من وظيفته، أم يقاسي وطأة البطالة ويتلظّى بزفيرها، وأيًّا ما كان الأمر، إلا أنه منذ ذلك الوقت وهو يجدُ في ساعات يومه فسحة مباركةً يعمرها بالرباط في بيوت الله، وملازمة الصف الأول، والمكث في روضة المسجد.
لم يكن قراره بترك ذلك العمل سهلًا مُيسّرًا على نفسهِ وزوجهِ، فقد أثّر عليهما كثيرًا في أمور معاشهما، فضاقت عليهما سبل النفقة، وراح يبذل الأسباب ناشدًا وظيفة يعتاش منها، فكانت مساعيه تعود خائبةً، إلا أنه أخذ يجاهد نفسه ويكسر شرهها بالعزيمة، ويتصبّر محتسبًا ما أصابه ابتغاء الأجر من عند الله، وابتغاء غِيَرهِ الوفيرة.
غير أن تلك السنةَ المغلفةَ بالقسوةِ في ظاهر أمرِها، كانت سنةً مخبأةً مكنوزةً بالعطاء الغامر والفيض المدهش!
أقبل عليه شهر رمضان بالبشرى، وحلّت أيامه ولياليه بما فيها من الخبر والبركة والإنعام، فأجمع أمره أن يقضي شهره ذلك صيامًا وقيامًا وتلاوةً واعتكافًا، وفي نفسه وخزٌ يكسره بين الحين والآخر لشعوره بالبطالة وضيق ذات اليد وانصراف أسباب الرزق الظاهرة عنه.
أكبَّ على مصحفه في مستهلِّ الشهر يتلو مترنّمًا بسورة البقرة، حتى إذا عنَّ له قوله تعالى: (زُيّن للذين كفروا الحياة الدنيا، ويسخرون من الذين آمنوا، والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة، والله يرزق من يشاء بغير حساب)، فأصغى إليها بفؤاده وعقله حتى كأنما يقرأها لأوّل وهلةٍ، ولم يجاوز تلك الآية مكرّرًا لها، مديمًا فيها النظر، حتى طوى مصحفه.
راح يحدّث نفسه، ويقرعها بالموعظة، ويوبّخها على تشظّيها في التعلّق وإناطة الرجاء بغير الله: أهوَ الذي يرزق من يشاء بغير حساب، وأنا أبتغي عند غيره أسباب الرزق، وأعلّق رجائي بهم!
عقد سميرٌ النيّة أن يقضي العشر الأخيرة من رمضان معتكفًا في مكة، مبتهلًا إلى ربّهِ، حتى إذا كانت ليلة السابع والعشرين من رمضان، خرج من قبو المسجد الحرام حيث معتكفه، وتوجّه تلقاء سطح الحرم ليصلي القيام هناك، فاندسَّ بين المصلين الذين جاؤوا من شتى أنحاء الأرض، فإذا سجد الإمام وأطال سجوده، تعالتْ أصوات المجاورين له متداخلةً بنحيب المخبت الداعي.
لم يعرف سميرٌ كثيرًا مما كان يدعو به أولئك لعجمة ألسنتهم وعدم استبانة لهجاتهم، لكنه كان يعرف حقًّا لماذا يريقون هذه المدامع الغزيرة ويكسرون هذه الأنفس العزيزة، وإلى من يصمدون، ومن الذي يقصدونه بالدعاء! إنه الله سبحانه وتعالى، مالك الملوك، ومدبّر الأمور، وقاضي الحاجات، ومصرّف الأحوال.
وبينما سميرٌ في صلاته تلك إذ خرَّ ساجدًا في إحدى الركعات مع جموع المصلّين، فألقى الله عليه صفاءً في قلبه ونورًا في روحه، فانفتحت له روزنة إلى المعين الأعلى، تضاءلت إلى جانبها جميع أموال الدنيا وزخرفها وهواميرها، وتصاغرتْ حتى غدتْ نسيًا منسيًا، وكأنَّه تحت عرش الرحمن قد فُتح له باب السؤال والنوال دون واسطة أو حجاب، ورأى بعين قلبه خزائن الله مسجورةً بأفانين العطاء وأنواع البركات، فغابت عنه حيئنذٍ جميع الأدعية التي كان يحفظها، والأماني التي كان يستهدفها، وحُبس لسانه عنها، فما كان ينطق إلا بهذا الدعاء وبلهجته الحجازيّة المحلّية منتحبًا باكيًّا مُكبًّا: يا ربِّ أدّيني حتى ترضيني! يا ربِّ أدّيني حتى ترضيني! ياربِّ أدّيني حتى ترضيني! ولأنفه خنين، وفي صدره أزيز، ودموعه تكف على سجاد الحرم الأحمر الداكن.
قفل سميرٌ عائدًا من معتكفه، وهو يجد في نفسه وفي قلبه وقْع لذة تلك الليالي وبركتها الهائلة، ثم مضت عليه بعد هذه الحادثة شهورٌ عدة، وفي إحدى المساءات في شهر الله المحرّم من العام التالي، زار صديقًا له في مكتبه العقاري بمكة، بعد أن صلّى المغرب والعشاء في المسجد الحرام، وفي مجلس ذلك الصديقِ تاجرٌ ذو لهجةٍ نجديّةٍ فخمةٍ، جاء لحسم صفقة عقارية في مكة، فما انتهوا من صفقتهم إلا وقال التاجر: تراهم معنا في السعي! وأشار بعينه ورأسه إلى سمير وآخر كان حاضرًا ذلك المجلس.
مضت الأيام ويتلقى سميرٌ اتصالًا من صاحبه المكّي يطلب منه زيارته لأمر مهم، فلمّا جاءه سلّمه صاحبه ظرفًا مكتنزًا بالمال، قائلًا له: هذا نصيبك من السعي في تلك الليلة.
فضَّ الظرفَ فإذا فيه ١٠٠ ألف ريال! راح يعدّها المرّة بعد المرّة حتى يتأكد من أعدادها! طار قلبه فرحًا حتى لمعت في عينه دمعة غالبها بالتماسك، ثم آب إلى بيته وهو يحمد الله على ما أنعم عليه بهذا الرزق الذي جاء بغير حساب.
أتُراها كانت أول بركات ليلة القدر وآخرها! لا والله، فقد وضع ذلك المبلغ في سوق الأسهم في فورته قبل خمسة عشر عامًا، فأنماها الله الذي يُنمي كل شيءٍ، وباركها، حتى بلغت ٥٠٠ ألف ريال، ثم ألهمه سبحانه بلطفه وحُسن تدبيره فخرج قبل انهيار السوق، فنصحه الناصحون أن يشتري قطعًا في مخطط حديثٍ في مدينة جدة على طريق عسفان بمبالغ زهيدة آنذاك، فاشترى ما شاء الله له أن يشتري، ولم تمضِ بضع سنوات إلا وتضاعفت قيمة تلك الأراضي عشرين ضعفًا.
باع سميرٌ أُروضه تلك، واشترى أرضًا تجاريّةً على شارع حراء في جدة، ثم شرع في بنائها، ولم يكد بنيانها يعلو عن سمتِ الأرض إلا وتأتيه عروض لشرائها، فباعها بربح مجزٍ، وأخذ يضرب بأسهم وافرة في شراء الأراضي وبنائها ثم بيعها أو تأجيرها.
يمتلك الآن 8 عمائر، وله اسم وصيتٌ بين ملاك العقارات، وهو هو، ذلك الرجل الذي يلازم الصفَّ الأول، ويرابط في روضة المسجد، ويتودّد إلى ربّه سبحانه وتعالى بأطايب الدعاء، ويريق له عبرات الخوف والرجاء والمحبة في العشرة الأخيرة من رمضان على فُرُش المسجد الحرام الحمراء الداكنة.
كتب إليَّ سمير قصته هذه قبل سنتين، بعد أن نشرت مقالتي “مفاجآت ليلة القدر“، وذيّلها بقوله: شفت كيف ماجد، أدّاني ربي حتى أرضاني، وأنا مثل ما تعرفني قديمًا غشيم ما أدبّر شيء، لكن تولّى ربي جميع أمري، ودبّرني أحسن من تدبري لنفسي!
صدق سميرٌ! بل صدق اللهُ: (إنّا أنزلناه في ليلةٍ مباركةٍ إنّا كنّا منذرين، فيها يُفرق كل أمرٍ حكيمٍ، أمرًا من عندنا إنا كنّا مرسلين، رحمةً من ربك، إنّه هو السميع العليم) قال الحسن البصري: “إنها ليلة القدر، وهي الليلة التي يُفرق فيها كل أمر حكيم، فيها يقضي الله كلَّ أجلٍ، وأملٍ ورزقٍ”.
أيّها الأحبة:
إنَّ العشر الأخيرة من رمضان، وليلة القدر، هي أيام الفيوض والبركة والعطاء، فيها يُفرق كل أمر حكيمٍ: من الأرزاق، والآمال، والأحلام، والأماني، فلا تبخلْ على نفسك أن تُقبل ملهوفًا على ملك الملوك في ليلة القدر، قارعًا باب خزائنه، لائذًا بحماه، مستمطرًا جوده، وأن تبوح إليه بخبيء ما في نفسك من الأماني والآمال والأوصاب والأوجاع، فإنه سبحانه إذا “أدّاك”؛ أبهرك وأدهشك وأرضاك!
سبحان الله العلي القدير سبحان الله العاطي الوهاب سبحان الله الحليم العزيز الجبار سبحان الله الرزاق العظيم اللهم زدنا من كرمك وعطائك واجعلنا من اهل الطاعه لك ولرسولك سيد العالمين صلي الله عليه وسلم وانعم علينا بالشفاء من الأمراض يا كريم وارحم موتانا جميعا سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم واتوب اليه