- راكان العبيوي
- تحرير: غادة الزويد
(إن الأمم التي فاقت العرب تمدناً قليلة إلى الغاية، وإننا لا نذكر أمةً كالعرب حققت من المبتكرات العظيمة في وقت قصير مثل ما حققوا، وإن العرب أقاموا ديناً من أقوى الأديان التي سادت العالم، أقاموا ديناً لا يزال تأثيره أشد حيوية مما لأي دين آخر، وإنهم أنشأوا من الناحية السياسية دولةً من أعظم الدول التي عرفها التاريخ، وإنهم مدّنوا أوربا ثقافةً وأخلاقاً، فالعروق التي سمت سموّ العرب وهبطت هبوطهم نادرة ولم يظهر، كالعرب، عرق يصلح أن يكون مثالاً بارزاً لتأثير العوامل التي تهيمن على قيام الدول وعظمتها وانحطاطها)”. ص618
بهذه السطور اختتم الفيلسوف والطبيب والمؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون كتابه حضارة العرب الذي تُرجم إلى العربية في 2012 بواسطة عادل زعيتر. وهذا العمل يعد جزءًا من أعماله التي عُنيت بالحضارات الشرقية. وعُرف غوستاف لوبون بأنه:
“أحد أشهر فلاسفة الغرب الذين أنصفوا الأمة العربية والحضارة الإسلامية، فلم يَسِر على نهج مؤرخي أوروبا الذين صار من تقاليدهم إنكار فضل الإسلام على العالم الغربي. لكن لوبون الذي ارتحل في العالم الإسلامي وله فيه مباحث اجتماعية، أقرَّ أن المسلمين هم مَن مدَّنوا أوروبا، فرأى أن يبعث عصر العرب الذهبي من مرقده، وأن يُبديه للعالم في صورته الحقيقية؛ فألف عام 1884م كتاب «حضارة العرب» جامعًا لعناصر الحضارة العربية وتأثيرها في العالم، وبحث في أسباب عظمتها وانحطاطها وقدمها للعالم تقديم المدين الذي يدين بالفضل للدائن”. ويكيبيديا
وسوف نستعرض بعضاً مما قاله الآخر عن هذه الحضارة التي نجلّها إجلالاً عظيماً لأننا ننتمي إليها عرقيّا قبل أي شيءٍ آخر، وأضفى عليها في نفوسنا العظمة والإجلال هذا الدين الذي كانت هي مهده ونقطة انطلاقته. ونفخر كل الفخر برجالها وعلى رأسهم سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام والعلماء الأجلاء، والفرسان الشجعان وتاريخها العظيم ومستقبلنا الذي نعوّل عليه كثيرًا.
هذا الكتاب بمثابة حجة مكتملة الأطراف قدمها المؤلف للمشككين والمقللين من حضارة العرب من أبناء جلدته، وهي صالحة لأن تكون كذلك في كل زمان. فقد أبرز لوبون للعالم حضارة العرب بكامل تفاصيلها في هذا الكتاب، وبعثها من مرقدها حين كانت أوربا حينها تنكر فضل العرب وتعزو أسباب تقدمها وتمدّنها ونهضتها لحضاراتٍ سابقة كالحضارة اليونانية. وامتدت به الرحلة فطاف بلاد العرب وقرأ تاريخهم، وتعرّف عليهم عن قرب ومجالسة حتى إذا ما اكتملت له الصورة، كتبها على أكمل صورة وأحسن تعبير. ونشير إلى أهم الهفوات التي كانت من لوبون بتشككه من ظهور عباقرة كـ نيوتن من العرب، ونستشهد بما كتب مترجم الكتاب بالآتي “إذا كانت الحضارة العامة سلسلة حلقات وكانت حضارة العرب من أهم تلك الحلقات كان من المتعذر ظهور نيوتن وليبنتز وغيرهما من أركان حلقة الحضارة الحديثة بدونها، والفضل للمتقدم”.
وكما ستقرأ في الفصل الخاص بالاكتشافات العلمية ومنها الفيزياء، سيخبرنا لوبون أن أغلب كتب العرب في الفيزياء قد فقدت، وهذا ما أعتقد أنه سبب تشككه من ظهور رجالات عباقرة من بين صفوف العرب كـ نيوتن، والله أعلم.
وفيما يلي سأنقل لكم أبرز ما جاء في أبواب الكتاب الستة.
البيئة والعرق:
في البدء، قدّم المؤلف لمحة بانوراميه عن العرب لتعريف القارئ بهم حيث إنهم يمثلون مادة الكتاب. أين هم وماهي مساكنهم وأين تقع أراضيهم، وماهي أعراقهم وكيف هي أشكالهم وما الأعراف العامة التي اختصّوا بها ولخص سيرة العرب قبل ظهور محمد صلى الله عليه وسلم، وذكر خلافهم واقتتالهم والأديان التي كانوا يدينون بها قبل ظهور الإسلام كعبادة الشمس والنجوم والأصنام. وهو في هذا الباب أراد تعريف القارئ بالقوائم التي قامت عليها الحضارة الجديدة مسلِطاً الضوء على صفات العرب التي أهّلتهم لحمل الرسالة الجديدة. ودلل في هذا الفصل على أن العرب كانوا أمة ذات خلفية ثقافية جيّدة حتى قبل مجيء الإسلام. وذلك بتسليط الضوء على بعض صفاتهم التي أعطتهم الأحقية بتصدر المشهد وأهلتهم لقيادة أهل ذلك الزمان.
مصادر قوة العرب:
في هذا الباب عزز المؤلف موقف العرب من قيادة العالم وعزا ذلك إلى ظهور النبي محمد عليه الصلاة والسلام ونزول القرآن كمصادر قوة جديدة للعرب الذين كان التناحر والعنصرية والاختلاف مسيطراً على زمام أمرهم، ثم طاف بنا في رحلة شيقة مع سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو للإنصاف، بغض النظر عن عدم إيمانه بالوحي وقبوله لرسالة هذا النبي إلا أنه أثنى عليه وسرد سيرته بشكلٍ دقيق ومن ثم عرّج على الخلفاء الأربعة الكرام وأهم الأحداث والفتوحات التي حدثت تباعا من القرن الأول حتى القرن التاسع من الهجرة.
ثم تحدث عن فلسفة القرآن وأسباب قبوله وانتشاره فقال:
“وتُشتق سهولة الإسلام العظيمة من التوحيد المحض، وهذه السهولة سر قوة الإسلام، والإسلام وإدراكه سهل، خالٍ مما نراه في الأديان الأخرى ويأباه الذوق السليم، غالباً، من المتناقضات والغوامض ولا شيء أكثر وضوحا وأقل غموضا من أصول الإسلام القائلة بوجود إلهٍ واحد وبمساواة جميع الناس أمام الله وببضعة فروضٍ يدخل الجنة من يقوم بها ويدخل النار من يعرض عنها، وإنك إذا ما اجتمعت بأي مسلم من أيةِ طبقةٍ، رأيته يعرف ما يجب عليه أن يعتقد ويسرد لك أصول الإسلام في بضع كلمات بسهولة، وهو بذلك على عكس النصراني لا يستطيع حديثاً عن التثليث والاستحالة وما ماثلهما من الغوامض من غير أن يكون من علماء اللاهوت الواقفين على دقائق الجدل”. ص125
فكان هذان المصدرين عاملي قوة وأهم أسباب توحيد صف العرب لشق الطريق ونشر الرسالة متخذين السيف وسيلة والرضى والقبول والإقناع كغاية. فـهؤلاء العرب الآن يمتلكون قائداً فذاً ودستوراً محكماً يدينون بكل ما فيه ويتحركون وفقاً لما جاء فيه.
دولة العرب:
تحدث هاهنا عن دولة العرب التي امتدت من الشرق إلى المحيط الأطلسي ذاكراً فتوحات العرب في الشرق والغرب وواصفا لطريقة قتالهم ومثنياً على أخلاقهم عند النصر وعلى صبرهم عند الهزيمة. وقد عزا وصوله لهذه النتيجة إلى الحقائق التاريخية التي دوّنها مؤرخون تلك الحقبة، ثم بيّن حقيقة الاختلاف الجوهري بين الغزو الصليبي والفتح الإسلامي، وعرج على ذلك مبرئاً المسلمين من انتهاك حرمات الشعوب ومن فرض الدين على الناس بالسيف كما كان شائعاً بين الأوساط الغربية وكما كان يروّج لهذه الفكرة مشعلو فتنة الحروب الصليبية من رجال دين وسياسة، فقال:
“إن القوة لم تكن عاملا في انتشار القرآن، فقد ترَك العرب المغلوبين أحراراً في أديانهم، فإذا حدث أن اعتنق بعض الأقوام النصرانية الإسلام واتخذوا العربية لغةً لهم فذلك لما رأوه من عدل العرب الغالبين مما لم يروا مثله من سادتهم السابقين، ولما كان عليه الإسلام من السهولة التي لم يعرفوها من قبل“.
ثم بيّن اختلاف البيئات التي لاقاها العرب وكيف تعاملوا مع كل بيئة على حِدة، وفصّل الباب على حسب المنطقة فتحدث مسهباً عن العرب في سورية وفي الأندلس وبلاد فارس وبغداد والهند وفي مصر وبيّن مدى تأثيرهم وتأثرهم، ثم عرّج على حقيقة مهمة وهي أن العرب غالباً إذا ما استوطنوا أرضاً اختلطوا بأهلها وطغت حضارتهم على تلك الأرض ولغتهم على لغة أهلها وأصبحت تلك الأمة جزءا من حضارة العرب حينا أو امتزجت إحداهما بالأخرى حينا آخر، ودلل على ذلك بأمثلة منها مصر والمغرب العربي وبلاد فارس والهند:
“ويصل الباحث حين يدرس تأثير العرب في الأمم التي اختلطوا بها إلى إحدى النتيجتين الآتيتين، وهما: إما أن تكون حضارة العرب قد حلت محل حضارة الأمة المقهورة كما حدث في مصر، وإما أن تكون قد امتزجت بحضارة الأمة المغلوبة كما حدث في بلاد فارس والهند”.ص187
والمتفكر في أحوال تلك الأمم كيف كانت قبل الفتح الإسلامي يجدها أممًا ذات لغات وأديان وأخلاقيات مختلفة جداً عما هي عليه الآن، فالمصريون والبرابرة منذ ذلك الحين وهم يتحدثون العربية ويدينون بدين الإسلام، ويعدّون أنفسهم أحد دعائم هذه الحضارة بينما كانوا يعرفون بالفراعنة في مصر وبالبرابرة في المغرب العربي الكبير. وفي ذلك دليل واضح على مدى تغلغل الحضارة العربية في النفوس وسهولتها وسماحتها.
طبائع العرب ونُظمهم:
وحتى تكتمل الصورة ويكوّن القارئ الأوروبي في ذلك الوقت الذي يفتقر لأدنى سبل التواصل مع هذه الحضارة إلا من بعض الرحالة الذين جابوا البلاد وتعرفوا على أهلها وطباعهم، فكرة واضحة عن حضارة العرب كان يجب تناول جوانب من حياة ونظم العرب الثقافية والاجتماعية والسياسية. تدرج الكاتب في هذا الباب واصفاً الحياة الاجتماعية مسلطاً الضوء على الأعياد والاحتفالات والعادات والألعاب والأسواق والمدن والبادية عند العرب. ثم بيّن الفرق بين حياة أهل البدو من العرب وأهل الأرياف وأوضح جوانب سياسية واتفاقات كانت بين الطرفين:
“ومصالح الأعراب والحضريين متناقضة تناقض مصالح الصائد والطائر، فالصائد يرغب في أكل الطائر والطائر يسعى لكيلا يأكله الصائد، ولكن الضرورة لم تلبث أن وفقت بين مصالح فريقي العرب المتناقضة، وذلك أن الحضريين يدفعون إلى الأعراب في كل سنة من المال ما يقابل حمايتهم لهم، وأن الأعراب يذبون عن الحضريين طمعا فيما يأخذون منهم” ص351
وهذا أشبه بنظام الجزية الذي تفرضه الدول على مواطنيها مقابل الحماية. ثم أسهب يوضح الفرق الكبير بين الرق في الإسلام والخدم في أوربا قائلاً:
“والذي أراه صدقاً هو أن الرق عند المسلمين غيره عند النصارى فيما مضى، وأن حال الأرقاء في الشرق أفضل من حال الخدم في أوربا. فالأرقاء في الشرق يؤلَّفون جزءاً من الأسر ويستطيعون الزواج ببنات سادتهم أحيانا كما رأينا ذلك سابقا ويدرون على أن يتسنموا أعلى الرتب، وفي الشرق لا يرون في الرق عاراً والرقيق فيه أكثر صلة بسيده من صلة الأجير في بلادنا”.ص376
ثم تناول فيما بقي من هذا الفصل مواضيع ذات أهمية كالمرأة في الإسلام:
“ولم يقتصر فضل الإسلام على رفع شأن المرأة، بل نضيف إلى أنه أول دين فعل ذلك” ص405.
ثم بيّن وجوه اللبس في موضوع تعدد الزوجات وأنه لم يكن جديداً على الذهنية الشرقية سواءً كانوا فرساً أو يهوداً أو عربا وعزى ذلك إلى ذهنية الشرقيين في الاستكثار من الأولاد وزواجهم المبكر الذي من شأنه إضعاف المرأة في سن مبكرة بينما يكون الرجل في أشد قوته حينها، ولا سبيل حينها إلا بتعدد الزوجات. ونلاحظ كيف أن الكاتب قارن بين الزوجة السرية “الحبيبة” عند الأوربيين وبين تعدد الزوجات فذم الأول وامتدح الثاني وأيده، ثم أعلنها صراحةً أن القوانين غالبا لا تلبث أن تطابق العادات فـتنبأ في وقتٍ مبكر بأن تعدد الزوجات الغير شرعي في أوربا لن يستمر طويلا حتى تؤيده القوانين، وهذا ما حدث فعلاً.
حضارة العرب:
وبما أننا في عصرٍ يقدس العلم تقديسا يصل حد التأليه ويقيّم الحضارات بناءً على علومها المادية والتطبيقية بغض النظر عن مستوى التدين والأخلاق في المجتمع الواحد وعلى نطاق الأفراد. رأينا أن نسلط ضوءًا أكبر على الباب الخامس الذي تحدث فيه الكاتب بشكل موسّع عن علوم العرب وآخر ما توصلوا إليه.
بدايةً يتحدث لوبون متعجباً من همة العرب المصروفة إلى العلم وترجمته وتحصيله:
(والإنسان يقضي العجب من الهمة التي أقدم بها العرب على البحث، وإذا كانت هناك أمم تساوت هي والعرب في ذلك فإنك لا تجد أمة فاقت العرب على ما يُحتمل، والعرب إذا ما استولوا على مدينة صرفوا همهم إلى إنشاء مسجد وإقامة مدرسة فيها، وإذا ما كانت تلك المدينة كبيرة أسسوا فيها مدارس كثيرة، ومنها المدارس العشرون التي روى بنيامين التطبيلي المتوفى سنة 1173م أنه شاهدها في الإسكندرية، وهذا عدا اشتمال المدن الكبرى كبغداد والقاهرة وطليطلة وقرطبة إلخ، على جامعات مشتملة على مختبرات ومراصد ومكتبات غنية وكل ما يساعد على البحث العلمي، وكان للعرب في إسبانية وحدها سبعون مكتبة عامة، وكان في مكتبة الخليفة الحكم الثاني بقرطبة ستمئة ألف كتاب منها أربعة وأربعون مجلداً من الفهارس كما روى مؤرخو العرب، وقد قيل، بسبب ذلك، إن شارل الحكيم لم يستطع بعد أربعمئة سنة أن يجمع في مكتبة فرنسا الملكية أكثر من تسعمئة مجلد ثلثها يكون خاصا بعلم اللاهوت)ص434.
وقبل الخوض في العلوم وآخر اكتشافاتهم أشاد لوبون بمناهج العرب العلمية التي قامت على التجربة والترصد فقال:
“واختبر العرب العلوم وجربوها وكانوا أول من أدرك أهمية هذا المنهاج في العالم، وظلوا عاملين به وحدهم زمناً طويلاً، قال دولنبر في كتاب (تاريخ علم الفلك): “تعدُّ راصدين أو ثلاثة بين الأغارقة وتعدُّ عدداً كبيرا من الرصّاد بين العرب”، وأما في الكيمياء فلا تجد مجربا يونانيا مع أن المجربين من العرب يعدُّون بالمئات” ص437
وهنا يقرر بسط سلطان العرب على جميع العلوم، وأنهم آخذون بنواصي العلم في شتى المجالات، ثم أثنى على عملية نشر العلوم التي قام بها العرب عن طريق تأليف الكتب وإنشاء الجامعات:
“ولم يقتصر شأن العرب على ترقية العلوم بما اكتشفوه، فالعرب قد نشروها كذلك بما أقاموا من الجامعات وما ألفوا من الكتب فكان لهم الأثر البالغ في أوربا من هذه الناحية. ص437“
ولا أجد طريقةً أنسب لاستعراض بعض ما جاء في الكتاب عن إنجازات العرب العلمية إلا بنقلها نصّا عن لوبون نفسه كما سيأتي:
الرياضيات:
(وأقتصر على ذكر أهم أعمال العرب الرياضية بإيجاز، لما في بيانها مفصلا من الدخول في الدقائق الفنية وأقول إن العرب هم الذين أدخلوا المماس إلى علم المثلثات، وأقاموا الجيوب مقام الأوتار، وطبقوا علم الجبر على الهندسة، وحلوا المعادلات المكعبة، وتعمقوا في مباحث المخروطات، وحولوا علم المثلثات الكرية بردهم حل مثلثات الأضلاع إلى بضع نظريات أساسية تكون قاعدة له). ص455
الفلك:
(واليوم نعلم أن فلكيي الصين ولا سيما كوشو كنغ (1280)، استنبطوا معارفهم الفلكية الأساسية من تلك الكتب (أي كتب علماء بغداد والقاهرة في علم الفلك)، ولذا نقول إن العرب هم الذين نشروا علم الفلك في العالم كله بالحقيقة) ص459
الجغرافيا:
“فالعرب هم الذين انتهوا إلى معارف فلكية مضبوطة من الناحية العلمية عُدت أول أساس للخرائط، فصححوا أغاليط اليونان العظيمة في المواضع، والعرب من ناحية الرياد هم الذين نشروا رحلاتٍ عن بقاع العالم التي كان يشك الأوربيون في وجودها فضلا عن عدم وصولهم إليها، والعرب من ناحية الأدب الجغرافي هم الذين نشروا كتبا قامت مقام الكتب التي ألفت قبلها فاقتصرت أمم الغرب على استنساخها قرونا كثيرة” ص471
الفيزياء:
“ضاعت كتب العرب المهمة في الفيزياء ولم يبق منها غير أسمائها ككتاب الحسن ابن الهيثم في الرؤية المستقيمة والمنعكسة والمنعطفة وفي المرايا المحرقة، ومع ذلك فإننا نستدل على أهمية كتب العرب في الفيزياء من العدد القليل الذي وصل إلينا منها ولاسيما كتاب الحسن في البصريات الذي نقل إلى اللغة اللاتينية واللغة الإيطالية فاستعان كيبلر به كثيراً في كتابه عن البصريات، ويرى القارئ في كتاب الحسن فصولا دقيقة عن حرارة المرايا ومحل الصور الظاهر في المرايا وانحراف الأشياء وجسامتها الظاهرة إلخ. ويرى فيه على الخصوص حلا هندسيا للمسألة الآتية التي تتعلق بمعادلة من الدرجة الرابعة وهي (إذا عٌلم موضع نقطةٍ مضية ووضع العين، فكيف تجد على المرايا الكرية والأسطوانية النقطة التي تتجمع فيها الأشعة بعد انعكاسها؟ فعد مسيو شال، الذي هو حجة في هذه الموضوعات، هذا الكتاب (مصدر معارفنا للبصريات)”. ص473
الكيمياء:
“وأنهم اكتشفوا أهم المركبات الكيماوية كالكحول وماء الفضة وزيت الزاج و أبدعوا ألزم الأعمال كأصول التقطير، وطبقوا الكيمياء على الصيدلة والصناعة، ولاسيما استخراج المعادن وصنع الفولاذ والدباغة، إلخ. واخترعوا البارود والأسلحة النارية، وصنعوا الورق من الأسمال، وطبقوا البوصلة على الملاحة كما هو الراجح، وأدخلوا هذا الاختراع المهم إلى أوربا وما يأتي يدل على مقدار فضلهم في الطبيعيات”. ص484
الطب والجراحة:
“إن أهم تقدم للعرب في عالم الطب هو ما كان في الجراحة ووصف الأمراض وأنواع الأدوية والصيدلة، وظهرت للعرب عدة طرق يعود الطب الحديث إلى بعضها بعد إهمالها قروناً كثيرة كاستعمال الماء البارد في معالجة حمى التيفوئيد. والطب مدين للعرب بعقاقير كثيرة كالسليخة والسنا المكي والراوند والتمر الهندي وجوز القئء والقرمز والكافور والكحول وما إلى ذلك. وهو مدين لهم بفن الصيدلة وبكثير من المستحضرات التي لا تزال تستعمل كالأشربة واللعوق واللزقات والمراهم والدهان والمياه المقطرة. والطب مدين لهم كذلك بطرق طريقة في المداواة عاد إليها على أنها اكتشافات حديثة بعد أن نسيت زمنا طويلا ومنها طريقة إمصاص النبات بعض الأدوية كما صنع ابن زهر الذي كان يعالج المرضى المصابين بالقبض بإطعامهم عنبا أُشرب من بعض المسهلات”.
“وعلم الجراحة مدين للعرب أيضا بكثير من مبتكراته الأساسية وظلت كتبهم فيه مرجعا للدراسة في كليات الطب إلى وقت قريب جداً، ومن ذلك أن العرب كانوا يعرفون في القرن الحادي عشر من الميلاد معالجة غشاوة العين بخفض العدسة وإخراجها وكانوا يعرفون عملية تفتيت الحصاة التي وصفها أبو القاسم بوضوح، وكانوا يعرفون صب الماء البارد لقطع النزف، وكانوا يعرفون الكاويات والفتائل إلخ. وكانوا يعرفون المرقّد الذي ظن أنه من مبتكرات العصر الحاضر، وذلك باستعمال الزؤان لتنويم المريض قبل العمليات المؤلمة (حتى يفقد وعيه وحواسه)”. ص494
انحطاط دولة العرب:
ثم بعد هذه السطوة العلمية والسيطرة العسكرية حينا من الدهر، أفلت حضارة العرب وتسلّم الترك من بعدهم الراية حتى القرن العشرين. وعزا لوبون انحطاط دولة العرب إلى أسباب منها أن طبيعة العربي الحربية كانت في بداية الأمر موجهة إلى قتال الأعداء وفتح الدول وعندما استقر الأمر دبّ الخلاف والتقاتل بين العرب والأمم التي دانت لهم. وعزا أيضا جزءاً من أسباب الانحطاط إلى الجنس العربي الذي لم يعد أصيلا بعد أن اختلط بأجناس كثيرة فاختلطت الأنساب وتعددت الأهواء بالإضافة إلى الانقسامات التي كانت بين دول المسلمين والتشاحن والتطاحن الذي كان بين حكام كل قطرٍ من بلاد الإسلام. وهذه سنة الله “تلك الأيام نداولها بين الناس”.
مستخلص أخير:
هذه الأمة ليست بحاجة لتزكية لوبون وقد زكاها الله من فوق سبع سماوات فقال سبحانه “كنتم خير أمة أخرجت للناس“. فهي خير أمة إذا ما حققت الشرط وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومشاركة مثل هذه الآراء التي تبعث في النفوس حماستها هي من الأمر بالمعروف، وهي أيضا بمثابة النهي عن منكر القول، ومنكر الأفكار.
فالمتابع للساحة الثقافية والفكرية المعاصرة يرى بوضوح كيف راج مؤخراً سلوك بعض المثقفين من أبناء جلدتنا منهجا متطرفا في نقد التراث والتقليل أحيانا من شأنه وقد اعترى نفوس هؤلاء تشكيك بماضي هذه الحضارة وبالأحداث شبه خيالية التي كتبت عنها، وبالحضارة الشبة أفلاطونية التي أرخ لها المؤرخون من علماء هذه الأمة، فكان واجباً على المتشككين أن يطّلعوا على بعض ما كُتب عنها من أبناء الأمم الأخرى الذين لا يدينون بدين الإسلام وإنما قادهم للبحث والتدقيق والكتابة، الأمانة العلمية والأخلاق العالية. ومن هذه المصادر الدقيقة والمنصفة كتابنا هذا.
والاستشهاد بآراء هؤلاء الغربيين له ما يبرره، وهو أنه بحكم سيطرة الرجل الأبيض على المشهد، وبحكم قيادته للحركة العلمية والثقافية حول العالم، كان يجب أن تكون لآراء هؤلاء “أبناء العالم الأول” المصداقية على آراء غيرهم من أبناء الأمم الأخرى. واستناداً على هذه الحقيقة المحزنة كان يجب أن نبعث من أقوال حكمائهم الماضين بعضها، لنوجه بها بوصلتنا للاتجاه الصحيح، ونكون بذلك فعلنا فعلهم في الاستفادة من الحضارة القائمة لبناء حضارة تستمد جذورها من التراث، وتؤمل الشباب بـنتائج تسر الناظرين وتفرِح المؤمنين وتبث الأمل في قلوب الطامحين.
والله الموفق
*المصادر:
- كتاب حضارة العرب- غوستاف لوبون- ترجمة عادل زعيتر. دار العالم العربي.
- ويكيبيديا
مقالة جميلة ?
شكرًا لجهودك وتعقيباتك راكان