الدين

مُقاربات القِيم في الإسلام: مراجعة نقدية

  • إسماعيل العبودي
  • تحرير: سهام سايح

 تحميل المقال PDF

الملخص:

يُراجع هذا البحث المُقاربات التي كُتبت في حقل القيم في الإسلام، فقُسّم البحث إلى فترتين تاريخيتين الأولى النّصف الثاني من القرن العشرين، والأخرى من بداية القرن الحادي و العشرين. كانت أغلب الكتابات في المرحلة الأولى باللغات الأجنبية وبالأخص إنجليزية وغلبت الكتابات العربية في المرحلة الثانية. عرّف بعض الباحثين القيم بالمعيار للسلوك وآخرين بالمعاني الروحية. تبيّن من خلال البحث أنّ أغلب المرجعيات التي اعتمدها الباحثون هي القرآن، وعلم الكلام، والتّصوف بدرجة أقل. انتهى أغلب الباحثين إلى أنّ الأسماء والصفات هي مصدر القيم في الإسلام. أمّا تحديد القيم فبرزت الرّحمة والعدالة والتوحيد بدرجة أقل. ولم يفرّق كثير منهم بين الأخلاقِ والقيم.

الكلمات المفتاحية:

القيم- الأخلاق- القرآن- علمُ الكلام- أسماء الله الحسنى- الصفات- الرّحمة- العدل- معايير.

 

  • مقدِّمة:

زاد الاهتمام بالأخلاق والقيم في العالم العربي والإسلامي المعاصر، وكثُرت معه المُقاربات والمفاهيم والتوصيفات للقيم والأخلاق، وهذا الاهتمام قد يكون أتى مواجهةً للأزمة الأخلاقية والقيمية التي يعيشها العالم العربي، والمشاكل الاجتماعية والسياسية. يهدف هذا البحث لمراجعة وتحليل بعض مقاربات وتعريفات ومفاهيم القيم عند الباحثين المعاصرين؛ للخروج بمشتركات بينهم، لتكون منطلقًا لباحثين لاحقين، بدلًا من إعادة نقاش مواضيع هي محل اتفاق، فلا تحتاج إعادة تقرير.

تُعرّف القيم في الفلسفة الغربية بحسب التوجُّهات والمذاهب الفلسفية، إلاّ أنّ الهدف الأساسي من هذا البحث هو مراجعة تعريفات القيم الإسلامية، ولذا حرص البحث على تحديد الإطار العام لمبحث القيم دون الدخول في تفاصيل التعريفات، فقد فرّق الفيلسوف الكندي توماس هوركا بين أخلاق الحق، وأخلاق الخير، وسمى الثانية بأخلاق القيم، تهتم أخلاق الحق بوصف الفعل بالحق والخطأ، أمّا القيم فهي لا تصف الفعل إنّما تحدِّد حالة الشيء خيرًا أو شرًا قيمًا سلبية وإيجابية، مثلاً الصدق حق، والكذب خطأ، أما القيم فالسعادة خير والألم شر (357 ,2006 Hurka). بناءً على هذا التعريف فمفهوم القيم موجود من عند أرسطو، إلاّ أنّ مصطلح القيم (value) يعتبر حديثًا، يحدِّد بدايته بعض الباحثين في القرن السابع عشر وبدأ في ألمانيا وانتشر ببطء (بلفقيه 2007, 35). وبما أنّ مصطلح القيم حديث وأصله غربي واستخدمه بعض الباحثين في وصف الأخلاق والقيم الإسلامية فسيتبنّى البحث هذا التعريف في التعامل مع مفهوم الأخلاق والقيم في الإسلام، وسيتحدّد اختيار الباحثين بناءً على مناقشتهم لهذا المفهوم، الذي هو “أخلاق الخير” سواءً سموها أخلاقًا أو قيمًا.

كتب معتز الخطيب بحثًا عن “تاريخ الفكر الأخلاقي في مصر في سياق مشاريع الإصلاح والنهضة” وناقش الكتابات الأخلاقية في مصر وشمل جميع التيّارات الفكرية، وتبنّى البحث منهجية تاريخ الأفكار. (الخطيب 2018, 87) لم يكن هدف البحث في تدقيق الأفكار مع أنّه ناقش وفصّل في بعض الرُؤى. يختلف هذا البحث عن بحث الخطيب من جانبين؛ الأول: أنّه مختص ببحث الرؤى الإسلامية. الثاني: بحث مفهومي وليس تأريخًا للأفكار، بمعنى أنّه يهتم بنقاش تفاصيل الأفكار والمفاهيم. وكتب أيضًا سامر رشواني بحث “الدرس الأخلاقي في القرآن الكريم: قراءة في بعض المقاربات الحديثة” (رشواني 2017) واستفاد الباحث من بعض أفكار هذا البحث وإشارته لبعض الباحثين المجهولين في العالم العربي وخاصة داود رهبر، إلاّ أنّه يمتاز عنه بنقطتين؛ الأولى: أنّ هذا البحث يدرس مفاهيم القيم الإسلامية سواء اعتمدت على القرآن أو على غيره. الثانية: يناقش هذا البحث القيم الأخلاقية وليس كل مفهوم القيم وقد تمّ إيضاح الفرق بينهما في المقطع السابق، فهذا البحث يختار الأطروحات التي تعالج “أخلاق الخير”.

تم تقسيم البحث إلى فترتَين تاريخيتَين؛ الأولى: شملت النصف الثاني من القرن العشرين وستصنّف الدراسات تاريخيًا، والفترة الثانية من بداية القرن الحادي والعشرين إلى الآن.

تناول البحث من خلال دراسة مفاهيم القيم: تحديدَ تعريف القيم، ومنهجية استنباطها، ومصادرها؛ سواء النّصية أو العِلمية، وفي الأخير ما هي القيم المختارة، وطرق استثمارها في الأحكام الشرعية، ومن نافل القول أنّ بعض هذه المفاهيم قد لا تتطرّق إلى بعض هذه المسائل، إلاّ أنّ هذه العناوين هي المنطلقات التي يهدف البحث إلى التعرُّف عليها من بين التعريفات المطروحة.

 

  • مقاربات القيم في النصف الثاني من القرن العشرين:

في هذه المرحلة زاد التواصل العربي والإسلامي مع المعارف الغربية، ومن ضمنه موضوع “الأخلاق”، وكثر البحث فيه من زوايا كثيرة، إلاّ أنّ هذا البحث تناول المقاربات الإسلامية القيمية، التي اعتمدت على مصادر الإسلام لتعريف القيم، من شرط المقاربة التي تُدرس هنا أصالتها المعرفية.

 

2-1- مقاربة محمد دراز (ت: 1958) والأخلاق الكانطية:

الدكتور محمد عبد الله دراز من أوائل من درس الأخلاق في الإسلام في الوقت المعاصر في كتابه (دستور الأخلاق في القرآن)، وقد تأثَّر دراز كثيرًا بنظرية “كانط” في الأخلاق، فتكلَّم في كتابه عن الأخلاق النظرية والأخلاق العمَلية، ويهمّنا هنا الأخلاق النظرية، وسيأتي معنا سبب هذا الاختيار.

عندما أتى إلى الأخلاق النظرية قال: إنّ علماء الكلام وعلماء الأصول كتبوا عن الأخلاق النظرية في التّحسين والتّقبيح العقليّيْن، وفكّر الفقهاء في شروط المسؤولية، وفكّر الصوفية بإخلاص النيّة والقصد، إلاّ أنّ نقد دراز لهؤلاء العلماء “أنّ النظرية الأخلاقيّة التي يقدِّمها هؤلاء تصدُر في جانب كبير منها – على الأقل- عن روح المذهب الذي ينتمي إليه مؤلِّفُوها، إن لم تكن من محض نظراتهم الشخصية”.

ويقدِّم سببًا ومبرِّرًا لتجاوُزه لهذه البحوث والنقاشات العلمية عند هؤلاء العلماء بقوله: “القرآن لا يَرِد ذكره فيها إلاّ بصفة مُكمّلة، شاهدًا أو برهانًا على فكرة أو أخرى سبق الأخذ بها” (دراز 2017, 31).

وقع دراز في دراسته للأخلاق في القرآن فيما وقع فيه العلماء المسلمون الذين انتقدهم؛ فقد اعتقد بصحة نظرية “كانط” في الأخلاق: “بل إنّها لتتَّفق تمامًا – فيما نرى- مع النظرية المستخلَصة من القرآن” (دراز 2017, 46)، يجب القول أنّ دراز حاول أن يعدل جزئيًا من نظرية كانط في الأخلاق، إلاّ أنّه في النهاية قبِلها كأساس لدراسة الأخلاق في القرآن.

ثم عاد وتطرَّق باقتضاب شديد لمسألة التّحسين والتّقبيح العقلِيَّين، ونقد العقلانيين الذين هم الشيعة والمعتزلة (دراز 2017, 48)، ونقدَ “كانط” في قوله: إنّ مرجع الأخلاق العقل المحض، وقال: إنّ مرجع الأخلاق هو العقل العلوي الذي هو الله (دراز 2017, 50).

بعد ذلك ذكر أنّه في القرآن يسير العقل والنقل جنبًا إلى جنب (دراز 2017, 50)، وأنّ الضمير لا يكفي لتحديد القاعدة الأخلاقية إلاّ إذا اعتقدنا أنّها تعبِّر عن الحقيقة الأخلاقيّة، وأوَّلَ الفطرة لتكون أقرب للعقل بالمعنى الكانطي، ثم ذكر مصادر التشريع الإسلامي (دراز 2017,  52، رشواني 2017, 162).

 

2-2- مقاربة داود رهبر (ت: 2013) والعدالة الصارمة:

أمّا العالِم الآخر الذي كتب في الأخلاق القرآنية في هذه الفترة التاريخية فهو داود رهبر في كتابه (رب العدالة.. دراسة في الدستور الأخلاقي في القرآن)، ينطلق رهبر من منهجية أثَّرت على رسالته، وطريقة تناوُله لموضوعاته، وهي قراءة القرآن وتفسيره من خلال السياق التاريخي الذي نزل به.

يبحث داود عن المبدأ الأساسي للعلاقة بين الله والإنسان في التعاليم الإسلامية وروح طاعة الله عزَّ وجل (Rahber 1960, xiii)، وبناءً على البحوث العلمية فإنّ الأساس الأخلاقي في القرآن هو الخوف من الله المتقلِّب في أفعاله (5 ,1960 Rahber).

تبنَّى داود هذا المبدأ من دون نقاش، إلاّ أنّه أضاف إليه أنّ أساس هذا الشعور بالخوف من الله (العادل) لا الخوف من الله المتقلِّب في أفعاله (5 ,1960 Rahber)، وفي النهاية “فإن المبدأ الأخلاقي الأسمى في القرآن يكمُن في العدالة الصارمة لله عزَّ وجلَّ يوم القيامة ” (Rahber 1960, xiii)

ميَّز داود منهجه البحثي عن منهجَين؛ الأول: منهج الباحثين الغربيين الذين يقولون بأنّ المبدأ الأخلاقي في القرآن هو الخوف من الله المتقلب في أفعاله، ويقول: إنّ خطأ هؤلاء الباحثين في استنتاجهم أنّ المبدأ هو الخوف من الله أتى من رجوعهم إلى الأسماء الحسنى في استنباط المبدأ الأخلاقي (Rahber 1960, xiii)، يقول: إنّ الأسماء الحسنى بناءً على كلام بعض هؤلاء الباحثين وردت أربع مرات في القرآن، ولم يحدَّد عدد تلك الأسماء، وأيضًا تحديدها عشوائي (Rahber 1960, 11-12)، ويرجَّح أن يكون مرجع هذا التحديد هم المتصوِّفة (Rahber 1960, 12) غير أنّ أقوى حجة – كما يقول داود – لرفض هذه الأسماء هي أنّها وردت في القرآن ضمن سياق معيّن، فإذا أُخرِجت من سياقها فقدتْ أهميتها، ولذا فهو يقدِّم منهجية لدراسة هذه الأسماء من خلال سياقها وليس لوحدها، وانتهى إلى منهجية من خلال دراسته للأسماء الحسنى بسياقها القرآني، والبحث عن عدالة الله الصارمة، وذلك من خلال هذَين المنطلقَين 1- القضاء والقدر في الفعل البشري 2- الفعل الإلهي (Rahber 1960, 22)، و أهمية هذين المنطلقَين أتت تأثُّرًا بالبحث الغربي في هذا الموضوع (Rahber 1960, 7)، ثم قسّم الأسماء من خلال أسئلة معينة في ضوء المنطلقَين السابقَين إلى ثلاث مجموعات لتكون منطلق دراسته.

أمّا المنهج الثاني الذي ميَّز داود عنهم بشكل أكبر من المنهج الأول فهم المتكلمون المسلمون، يقول داود: “إنّ نظر المتكلمين لله عزَّ وجل كجوهر شتَّت الاهتمام في العدالة الإلهية”، (Rahber 1960, xiii)، وركَّز كثيرًا في بحثه على رَفْض القضاء والقدر، وأنّ القرآن لم يذكرها، بل يقول: “إنّي كرست الكتاب للرَّدِّ على هذه الفكرة” (Rahber 1960, xiii-xiv)، بل وصل داود في مباعدته لعلم الكلام إلى أن يقول: إنّ هذه الدراسة ستقدِّم دراسة مقارنة بين الأخلاق القرآنية والأخلاق عند علماء الكلام، وناقَض مصطلحات الخلود وعلم الله المحيط والقادر على كل شيء، وغيرها من المصطلحات الكلامية، ويقول: إنّ القرآن لا يرفض هذه المصطلحات، إلاّ أنّها خارج مجال اهتمامه الرئيس، وقراءة القرآن من خلال هذه المصطلحات الكلامية المعقَّدة، ومعاني هذه المصطلحات في القرآن، لها أهمية مختلفة، ومن الخطأ قراءتها خارج سياقها في القرآن (Rahber 1960, xiv).

لكلِّ هذا يقول رهبر إنّه يرفض علم الكلام، وأنّه سوف يتبع الموضوعية، وهي تعني عنده أنّ القرآن أُنزل وفُهِم على مجتمع بسيط، فيجب أن يُفهم كما فهمه ذلك المجتمع، وأنّ المتكلمين تأثَّروا بالمصطلحات اليونانية المعقَّدة؛ كالمطلَق، والجوهر، وأنّ الله ليس جوهرًا، إنّما هو حاكِم، ونتيجة لهذا التأثُّر واستخدام هذه المصطلحات أصبحت عدالة الله تأخذ مكانًا ثانويًّا في نقاش المتكلمين، ويقول أيضًا: إنّ هناك سببًا سياسيًّا لثانوية مفهوم العدالة في مقابل مفهوم الجوهر عند المتكلمين، وهو تبنِّي الأُمويين للقدَرية، فالجوهر يتدخل في أفعال العباد، بعكس الله العادل، فهو يجازيك بحسب عملك، ويستثني المعتزلة من ذلك (Rahber 1960, xv)، بل ويتَّهم الغربيين بتأثُّرهم بمنهجية علماء الكلام في نظرتهم لله عزَّ وجل (Rahber 1960, 18) إلاّ أنّ داود في مقدِّمته لطباعة الكتاب عاد وقال: “شعرت من خلال بعض الحوارات مع بعض المسلمين لو أنّني قدَّمت بعض التطبيقات الكلامية على الأفكار التي تبنَّيْتها لكان أفضل”، (Rahber 1960, xx-xix).

ومن خلال التلخيص المتقدِّم لأطروحة رهبر يتّضح تبنِّيه لمنطلق البحثَين الغربيَّين مع بعض التغييرات، فهو عدّلَ من فرضيتهم أنّ المبدأ الأساسي للقرآن هو الخوف من الله إلى الله العادل، وفي المقابل يتَّضح نقدُه الشديد لعلم الكلام، والقفز عليه على الرغم من إيمانه بأنّه المكان الطبيعي لمناقشة الأخلاق في القرآن، وإلاّ ما كان جعل دراسته مقارنةً معه.

قد يكون نقدُ رهبر لعلم الكلام والمتكلّمين صحيحًا، ونقد علم الكلام موجود عند العلماء المسلمين منذ نشأة العلم، إلاّ أنّ رهبر لم يبحث من داخل العلم ويصحِّح مفاهيمه وأخطاءه من وجهة نظره، إنّما فضَّل القفز على هذا العلم، وتبنِّي فكرة الله العدل الصارم مباشرةً من خلال نتائج البحوث الغربية، فهو رغب عن نقاش الأخلاق من علم الكلام؛ لأنّ علم الكلام – بحسب رهبر- قرأ القرآن من خلال المصطلحات اليونانية، وهو في المقابل تبنَّى فكرة العدل الصارم تأثُّرًا ببعض الباحثين الغربيين.

وفي النهاية لا فرق بين المتكلمين ورهبر من هذه الجهة في التأثُّر.

 

2-3- مقاربة الفاروقي (ت: 1986) الحق والخير والجمال:

طرح إسماعيل الفاروقي مسألة الأسماء الحسنى كأساس للقيم ومصدر لها، ومدخل الفاروقي لهذا الباب مدخل كلامي، لقد كانت رسالة الفاروقي للدكتوراه عن القيم بعنوان (حول إثبات الخير 1952، عودة 2013) وأغلب نقاشه في رسالته مقارنة بالفلسفة الغربية، دون أن يتطرَّق لمصدر القيم في الإسلام، إلاّ أنّه عاد وناقَش القيم في الإسلام في بحث مستقل، وهو بحثه الذي نشره في 1962 في كتاب العروبة، وأعاد نشره في بحث له عام 1968.

ناقَش الفاروقي أولًا المدارس الغربية في القيم من ناحية أساس القيم ومرجعها، أو ميتافيزيقيا القيم؛ كما هو عنوان بحثه، فدرس “كانط” وغيره من الفلاسفة الغربيين، ثم عرّج على القيم في الإسلام، وقال: إنّ صفات الله عزَّ وجل هي النموذج المثالي للمسلم، ثم قال: إنّها مرجع الحقّ والخير والجمال، وهذا هو التحديد التقليدي للقيم (,1968 Al farouqi 48-49، إبراهيم زين 2011).

بعد ذلك ناقَش المدارس الكلامية في الصفات؛ من الجهمية، والمعتزلة، ثم الأشاعرة، ثم مال إلى قول ابن تيمية في إثبات الصفات وعلاقتها بالذات (,1968 Al Farouqi 58-60).

أراد الفاروقي أن يبحث عن الأساس الذي تُبْنَى عليه القيم، لذلك يمكن القول إنّ هذا البحث امتداد لرسالته للدكتوراه، فهو جواب إسلامي عن أساس القيم من وجهة نظر الفاروقي، وفي العموم يتبنَّى الفاروقي مذهب الفينومينولوجيا التي تعتمد على الإحساسات والخبرة الداخلية؛ ولذا وجد في فكرة ابن تيمية في الفطرة مدخلًا متميِّزًا لإثبات القيم من خلال تفسير ابن تيمية لصفات الله عزَّ وجل.

أمّا الإضافة التي أضافها الفاروقي لمبحث القيم فهي استخدام مصطلح القيم بدل الأخلاق وإدخالها في المجال الإسلامي، إلاّ أنّه لم يحدّد الفروق بين مصطلح القيم والأخلاق ومبرر إطلاقه القيم على صفات الله عزّ وجل بدل أن تكون الأخلاق، إلاّ أنّه لم يخرج عن التقسيم التقليدي للقيم: الحقّ، والخير، والجمال.

 

2-4- مقاربة فضل الرحمن (ت: 1988) في التقوى:

حاول فضل الرحمن أن يُبرز الجانب الأخلاقي من القرآن في كتاباته، وخاصة في كتابه (المسائل الكبرى في القرآن الكريم)، ذكر فضل الرحمن في هذا الكتاب كثيرًا من القيم، مثل: وحدانية الله عزَّ وجل، والرَّحمة، والعدل، والإيمان، والإسلام، إلاّ أنّ القيمة الأساسية التي يعتبرها فضل الرحمن هي التّقوى، وتكرَّرت كثيرًا في كتاباته، “فهي نبراس في داخليته … يستطيع به تمييز الصواب من الخطأ”، (فضل الرحمن 2013, 37)، “على الإنسان اتباع “التّقوى” بالمعنى الذي يتمتَّع فيه بإحساس خالص يدعوه لأن يكون على الدوام يقظًا، ومحترسًا، (وهو المعنى الحرفي لـ “التّقوى”)”، (فضل الرحمن 2013, 41)، التّقوى “لعله المصطلح الأكثر أهمية في القرآن” (فضل الرحمن 2013, 74).

وبعد أن ناقش معنى “التّقوى” لغويًّا قال: “إنّ التّقوى تعني حماية الشخص من أذى، أو حمايته من عاقبة شرِّ أفعاله، فإذا فهم (الخوف من الله) أنّه خوف من عاقبة أفعال الشخص – سواء في هذه الدنيا، أم في الآخرة- فهو فَهْم صحيح تمامًا”. (فضل الرحمن 2013, 73)

ويستمر فضل الرحمن في شرحه لمفهوم التّقوى بقوله: “يمكن إيصال هذه الفكرة بصورة فعلية بمفهوم (الضمير)، إذا كان موضوع الضمير يتسامى عليه، ولهذا السبب يمكن القول: إنّ (الضمير) محوري في الإسلام كما هو شأن (المحبّة) في المسيحية عندما يتحدث المرء عن استجابة الإنسان للحقيقة المطلقة – والتي يصوغها في الرحمة المقرونة بالعدل، عِوَض الأبوة في المسيحية”، (فضل الرحمن 2013, 74).

والمُتّقون هم الذين سيفوزون حتمًا، والتّقوى “هي الأصل الذي ترتكز عليه النظرة الأخلاقية في القرآن الكريم” (فضل الرحمن 2013, 121)، “كلُّ ما يفعله الشيطان هو تدمير قدرة نظرته الداخلية التي وصفها القرآن الكريم (التّقوى)”، (فضل الرحمن 2013, 252).

لم تكن منهجية فضل الرحمن واضحةً في قراءته للقرآن، بالرغم من أنّه يدعو للقراءة ككل بدل القراءة التجزيئية، ويرفض الإسقاطات على القرآن. (فضل الرحمن 2013, 48)، ومع ذلك فإنّ فضل الرحمن أسقط الأفكار الكانطية على القرآن، ففَهْمُه للتّقوى يقارب جدًّا مفهوم “كانط” للأخلاق، ويتضح تأثُّر فضل الرحمن بأخلاق “كانط” بقوله في كتاب آخر: “إنّ الاهتمام الرئيس للقرآن ينصبّ على سلوك الإنسان، وتمامًا كما تقول لنا الصيغة الكانطية”، (فضل الرحمن 1993, 26).

 

2-5-  مقاربة التّحسين والتّقبيح العقلِيَّين :

في بداية الثمانينات الميلادية تحوَّل تركيز الباحثين من دراسة القيم في القرآن إلى مجال آخر، وهو التّحسين والتّقبيح العقلِيَّين، حاول هؤلاء الباحثون أن يُعيدوا بحث القيم في الإسلام إلى مصدر القيم، وهو مبحث التّحسين والتّقبيح العقلِيَّين، ويُمثِّل هذه المدرسة كثير من الباحثين في الغرب الذين ينطلقون من هذا المبدأ، ويفترقون في جزئية، فبعضهم يدمج البحث الأصولي في التّحسين والتّقبيح العقليين، مثل الواجب قبل نزول الوحي، وغيرها من المسائل الأصولية المبنية على القول بالتّحسين والتّقبيح العقليَّين، ويمثِّل هذا التيّار كيفين رينهارت (Reinhart 1995) وأيمن شحادة (Shihadeh 2006)، وبعضهم لا يتطرق إلى المسائل الأصوليّة، فقط يناقِش مسألة: هل العقل يُحَسِّن ويُقبِّح، أم الشرع هو الذي يُضفِي على الفعل الحُسْن والقُبْح، ويمثِّل هذا التيار جورج حوراني (Hourani 1985)، ومريم العطار (Al-Attar 2010)، وفي العالم العربي يقول بهذا القول محمد السيد الجَلَيَنْد (الجليند 2010)، وغيره.

هذا التيّار يناقِش القيم من جانب واحد، وهو منشأ القيم في الإسلام، وليس تعريف القيم في الإسلام، ولذلك لا تجد في هذه الكتب تعدادًا أو تحديدًا للقيم في الإسلام، إنّما جدلًا عن منشأ القيم، وهذا نقاش جزئي لمبحث القيم، فهو لا يعرِّف القيم ويحدِّدها، إنّما يناقش مسألة كلامية واحدة.

 

2-6- مقاربة المَصلحة للقيم عند فهمي محمد علوان:

من أوائل من حاول تنظير القيم في اللغة العربية هو فهمي علوان وقد ناقشها وحاول أن ينظر لها باستخدام مقاصد الشريعة، فيقول “المصلحة تعادل القيمة من حيث المعنى ومن حيث الواقع الفعلي” (فهمي علوان 1989, 91)، ومن خلال المقارنات التي قدّمها علوان بين المذاهب المعاصرة في القيم يتضح مدى إدراكه لمفهوم القيم، وتشعباته المفاهيمية، فقارن بين قول كانط أنّ القيمة الأعلى هي “الخير الذاتي” وسد جويك وقوله أنّها “اللّذة” (فهمي علوان 1989, 92) أمّا في الفكر الإسلامي فهي المصلحة. ثم عرّف المصلحة معتمدًا على الطوفي في ذلك فقال: “فمن حيث لفظها فهي مَفْعلة من الصلاح وهو كون الشيء على هيئة كاملة بحسب ما يراد ذلك الشيء له كالقلم يكون على هيئته الصالحة للكتابة” (علوان 1989, 93).

ثم انتقل لاستمداد القيم واعتمد في ذلك على الشاطبي- كما يقول- وهو الاستقراء المعنوي وهو “واقعٌ تجريبي علمي” (علوان 1989, 94) فـــ”مجموع الضروريات والحاجات والتحسينات هي قيم وسيلية تهدف إلى تحقيق غاية وهذه الغاية هي حياة صالحة للناس جميعًا للفرد والمجتمع” (فهمي علوان 1989, 94) أراد علوان أن ينقل فكرة المقاصد إلى مفهوم القيم ويجعلها صالحة لجميع الناس مسلمين وغيرهم، وهي مبنية على الضرورات البشرية هي تشمل جميع الناس وليست مبنية على تفسيرات لغوية أو على العقل الخالص.

محاولة علوان رائدة في توظيف معارف شرعية للإجابة عن أسئلة معاصرة، إلاّ أنّه وقع في مشكلة نزع الجانب الديني “علمنة” عن المقاصد، فمصدر القيم ليس الشرع إنّما الاستقراء المعنوي لحاجات الناس الضرورية، حتى أنّه لمّا ناقش الامتثال قال “الامتثال في فكرة المقاصد مقصود به طاعة أمر من شأنه  أن يعمل على حفظ الحياة واستقامتها ودفع ما يفسدها، وبذلك لا يكون الامتثال طاعة لأمر مفروض من الخارج على الإنسان” (علوان 1989, 133) ثم ردّ على اعتراض يفترض أنّ الأحكام الشرعية هي امتثال لأمر الشارع، ثم ردّ على هذا الاعتراض بقوله: “الشارع ليس له مصلحة من شرعية هذه الأحكام وإنّما المقصود هي مصلحة الإنسان” (علوان 1889, 134).

 

2-7 تعقيب

أغلب هذه البحوث المعروضة في هذه الفترة التاريخية أُنجزت بلغات أجنبية، فرنسية وإنجليزية بالخصوص ، وبعضها لم يُترجَم، ويلاحَظ أنّه حدثت انعطافة في البحث الأخلاقي في الغرب خلال الثمانينات في دراسة القيم والأخلاق في الإسلام؛ من دراسة القيم في القرآن، إلى دراسة القيم من خلال مبحث التّحسين والتّقبيح العقلِيَّيْن، وتتفرد مقاربة علوان باللغة العربية للربط بين القيم ومقاصد الشريعة.

 

  • مقاربة القيم في الإسلام في القرن الحادي والعشرين:

في الفترة السابقة – كما مرَّ معنا- كانت البحوث باللغات الأجنبية أهمَّ منها في العربية، إلاّ أنّه في هذه الفترة شارَك العرب في نقاش القيم في الإسلام بأطروحات متعمِّقة وأصيلة، وقد يكون تحوُّل المفكرين للتراث الإسلامي بدلَ البحث التقليدي الغربي سببًا لهذا الجدل العلمي، وصعود الاهتمام في بحث القيم والأخلاق في الإسلام.

 

3-1- المقاربة الصوفية للقيم عند طه عبد الرحمن:

اشتهر طه عبد الرحمن بدراساته للأخلاق، ومن ضمنها القيم، وناقَش طه (القيم) في عددٍ من كُتبه  (الحق العربي في الاختلاف الفلسفي)، و (سؤال الأخلاق)، و (أصول النظر الائتماني).

أولُ كتاب ذكر فيه طه القيم هو كتاب (الحق العربي في الاختلاف الفلسفي 2002)، وبالرغم من أنّ الكتاب لم يكن مخصَّصًا لِنظر القيم في الإسلام، بل ولا يُوحِي الكتاب بالنظرة الإسلامية، إلاّ أنّ دراسة الكتاب مهمة لمعرفة تطوُّر مفهوم القيم عند طه، ورَبْطه مع بقية كتبه.

ففي كتاب (الحق العربي) يبحث طه القيم بنفَسٍ قومي، ويقول: “إنّ ما يميِّز القومية الحيّة ليس هو جملة المعارف والصنائع التي تحدُث في القوم، بقدرِ ما هو جملة  القيم والمعايير التي تحيط بهذه المعارف والصنائع وتُوجِّهها” (طه عبد الرحمن 2002, 68).

ويعرِّف القيم بقوله: “هي جملة المقاصد التي يسعى القوم إلى إحقاقها متى كان فيها صلاحُهم، عاجلًا أو آجلًا، إلى إزهاقها متى كان فيها فسادهم، عاجلًا أو أجلًا”، (طه عبد الرحمن 2002, 68).

أمّا تعريفه للمعايير “فهي جملة الوسائل التي يتوسَّل بها القوم في جَلْب القيم الصالحة، ودَفْع القيم الفاسدة”، (طه عبد الرحمن 2002, 68-69).

ومُنطلق طه في هذه الأفكار هو تأويله لفكرة القومية بالقوام، وليس القوم، فالقوم يستند إلى ماضي عمل القوم، أما القوام فهو يتحدَّد بواجب عمل القوم في المستقبل؛ ولذا ينتهي إلى القول بأنّ “القوام هو مجموعة القيم التي يأخذ بها القوم” (طه عبد الرحمن 2002, 69).

أمّا الفكرة الأخرى لطه عبد الرحمن فهي ذات منطلق إسلامي صريح، وأوّل مرة ورد ذكرها في كتابه (سؤال الأخلاق 2000)، يقول طه: إنّ صفات الله عزَّ وجل بالضرورة هي التي تقود إلى مقصود التقرُّب إلى الله عزَّ وجل، وهي الموسومة (بالأسماء الحسنى)، إلاّ أنّ التخلُّق بهذه الأخلاق لا يكفي فيه قراءة كتب السِّيَر والمواعظ، وإن أفادت علمًا فإنّها لا تفيد عملًا؛ لأنّ العمل من جنس ما يشاهَد بعين البصر، وليس ممّا يُقرأ؛ ولهذا يرى عبد الرحمن مهمة الاقتداء الحي بشيخ صوفي بالسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون “التخلُّق المؤيّد ضاربًا بجذوره في الأخلاق الإلهية”، (طه عبد الرحمن 2000, 85)، ويلاحظ أنّه في هذا الكتاب لم يسمِّ الأخلاق قِيَمًا إلى أن أتت بمسمى قيم في الطور الأخير من الفكرة.

في كتاب عبد الرحمن الأخير (دين الحياء من الفقه الائتماري إلى الفقه الائتماني أصول النظر الائتماني) نضجت فكرته عن القيم، فسمَّى الأسماء الحسنى بأصل القيم الأخلاقية، ثم تطرَّق إلى دليل هذا المبدأ، وناقَش أثر «تخلَّقوا بأخلاق الله»، وأوَّلَه بأنّ المراد بأخلاق الله صفات الله، (طه عبد الرحمن 2017, 68)، ثم ناقَش مسألة التشبيه والتعطيل والتأويل في صفات الله عزَّ وجل مثل نقاش المتكلمين، ثم قال: “فإذا كان التشبيه يَرُد صفات الإله إلى صفات الإنسان، فإن التشبُّه على عكسه؛ يَرُد صفات الإنسان إلى صفات الإله”، (طه عبد الرحمن 2017, 69).

يعرِّف طه عبد الرحمن القيم بقوله: “هي المعاني الروحية التي أُعطيت للإنسان لكي يتمكَّن من العروج بروحه إلى عالم الملكوت”(طه عبد الرحمن 2017, 71) ، و”إنّ الأسماء الحسنى هي خزائن القيم التي بها قوام تخلُّق الإنسان” (طه عبد الرحمن 2017, 72).

وزاد طه عبد الرحمن في توضيح معنى القيم واشتقاقها بقوله: “وقد امتاز اللّسان العربي بكون اللفظ (الاسم) فيه يحتمل أن يكون مشتقًّا من لفظ (السمُوّ)، والسمُوّ إنّما هو الخاصيّة التي تتحدَّد بها القيمة أصلًا؛ فالقيمة هي المعنى الروحي الذي يسمو به الإنسان”، (طه عبد الرحمن 2017, 72)، وفي علاقة هذا الاشتقاق بالأسماء الحسنى يقول: “والأسماء الحسنى عبارة عن تجلِّيات السموِّ المطلَق التي تختصّ به هذه الأسماء، أي: تجليات لقيم الجلال وقيم الجمال”، (طه عبد الرحمن 2017, 73).

 

السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو أنّ طه في تعريف “القيم” في كتابه (الحق العربي) أعطاها بُعدًا اجتماعيًّا، إلاّ أنّه في كتاب (أصول النظر الائتماني) أعطاها بُعدًا فرديًّا، فعرَّفها في كتاب (الحق العربي) بأنّها مقاصد، وفي (أصُول النظر الائتماني) بأنّها معانٍ روحية أُعطِيت للإنسان، ولم يبيِّن الفرق بين هذَين المعنيَيْن، وسبب تخلِّيه عن تعريفها بالمقاصد، وفي الأخير في كتابه (أصول النظر الائتماني) حدَّد مصادر القيم، إلاّ أنّه لم يحدّد في (الحق العربي) مصادر القيم، إنّما عرَّفها وربطها بالصلاح والفساد الذي يعتقده القوم، وكأنّه إشارة إلى أنّ القوم هم مَن يُحدِّد القيم؛ ولذا فإنّ اجتماعهم عليها هو مصدرها.

وفي كتاب (سؤال الأخلاق) قال: التخلُّق بالأسماء الحسنى، وفي (أصول النظر الائتماني) قال: إنّها قيم، ولم يحدِّثنا طه عن العلاقة، أو سبب هذا التطوُّر الدلالي في إطلاقه على الأسماء الحسنى، وقد يكون السبب أنّ التطوُّر هو تسمية الأسماء الحسنى قِيَمًا، أمّا مفهوم التخلُّق فهو على نفس معناه في كتابَيه (سؤال الأخلاق) و(أصول النظر الائتماني).

 

3-1-1- القيم والأحكام الشرعية عند طه عبد الرحمن:

من أهم إضافات طه عبد الرحمن في دراسته لمفهوم القيم هو مناقشته العلاقة بين القيم والأحكام الشرعية؛ ولذا خصَّص لها مبحثًا خاصًّا، في هذه العلاقة يقول: “ما دامت القيم السامية لا منشأ ولا مَوْئِل لها إلاّ الأسماء الحسنى، كما لا بيان لها إلاّ الأحكام الشرعية المنزَّلة، وما دام الانتفاع بهذه القيم لا سبيل إليه إلاّ بتحصيل يقين بهذه الأسماء الإلهية والأحكام  الشرعية يسمو على اليقين بأسمائنا وأحكامنا”، (طه عبد الرحمن 2017, 73).

فرَّق طه بين الفقه الائتماري والفقه الائتماني، وبدأ بالفقه الائتماري، فوصفه بأنّه معتمد على الآمرية الإلهية، فهو أساسًا “معرفة الآمرية الإلهية”، وهو تصوُّر جلالي لله عزَّ وجل، ويقصد طه بهذا المصطلح الفقهَ الإسلامي المعروف بمذاهبه الأربعة، وهذا الفقه الائتماري أصبح يحدِّد “العلاقات بين المسلمين، حتى صار بأْسُهم بينهم أشدُّ من بأسهم بينهم وبين الآخرين”، (طه عبد الرحمن 2017, 91)، وأنّ تصوُّر المسلم الجلالي للألوهية “انعكس على عقله بالضيق، وعلى سلوكه بالتشدُّد”، (طه عبد الرحم2017, 95).

في مقابل هذا الفقه الائتماري الفقهُ الائتماني، ويقصد طه بالفقه الائتماني التصوّف، ويقول: إنه يُبْنَى على اسْمَيِ الله عزَّ وجل “الرحمن والرحيم”، وسبب اختياره لهذَين الاسمَين لأنّهما دلَّانَا على قُرب الله عزَّ وجل من عباده، “حتى إنّ الشيء إذا خلَا منها اجتُثّ من أصله، فلا هو تزكَّى، ولا هو استوى”، (طه عبد الرحمن 2017, 92).

ويقول: “(الرحمة) ليست قيمة كسائر القيم، بل تفضُلها جميعًا؛ إذ إنّها الأصل في وجودها؛ فلولاها ما كانت هناك قيمة، وعليه فإذا وجب أن تتقدَّم معرفة الآمِر على معرفة أمره، فإن تقدُّم معرفة الراحم على معرفة رحمته أوجب، بل أن نقدُّم معرفة الراحم على معرفة الآمر أضحتْ أوجب الواجبات”، (طه عبد الرحمن 2017, 108).

أما عن تمايُز الفقه الائتماني عن الفقه الائتماري فيتجلَّى عند طه عبد الرحمن من خلال آليَّتَيْنِ:

الأولى: آليّة ترحيم الأحكام:

ومجمل هذه الآلية أن يَطلب الفقيه في كل حكم شرعي الأساسَ الرحموتي؛ ليقيس عليه حُكمًا غير منصوص عليه، إذ بالضرورة يوجد في كل حكم شرعي أساس رحموتي. (طه عبد الرحمن 2017، 96).

الثانية: آلية تذييل الأحكام:

يقصد طه بتذييل الأحكام، تذييل الأحكام الشرعية الواردة في القرآن بـ”اسمٍ واحد أو أكثر من أسماء الله الحسنى”، (طه عبد الرحمن 2017, 107).

أمّا الفقيه الائتماري فلم يقتنع بأنّ هذا المجال يخصه في مقابل البلاغيين والمفسرين، “ولو أنهم استجابوا إلى ما اشترطوه في الفقيه؛ من سعة العلم بالخطاب الإلهي، فضلًا عن إحاطته بأسباب الواقع الإنساني، لكان أجدرَ بهم أن يسابقوهم إلى الوقوف على ما لم يقفوا عليه”، (طه عبد الرحمن 2017, 105)، إلاّ أنّ طه لم يربط بين اسم معيَّن من أسماء الله عزَّ وجل، والحكم الذي سِيق قبله، وعلاقة الاسم بالحُكم.

منزع طه عبد الرحمن الصوفي كان واضحًا حتى في تحديده لمفهوم القيم، بالرغم من إشاراته لأهل التشبيه، وأهل التعطيل، وأهل التأويل، وهم فئات المتكلمين، لم يشأ طه أن يدخل أو يناقِش مفاهيم علم الكلام، بل كان دائمًا قريبًا من مرجعيته الصوفية، وهو ما أثَّر على مُجْمَل مفهومه للقيم.

أما تبنِّيه لاسمي الله عزَّ وجل “الرحمن والرحيم” ففيه تحكُّم مثلما فعل رهبر في اسم الله “العادل”، فمنزع طه الصوفي جعله يختار اسم “الرحمن”، والرحمة كأهمّ قيمة شرعية واردة في القرآن، بل ومهيمنة على بقية الأسماء الحسنى والصفات، واستحضار الصراع بين الفقهاء والمتصوّفة قد يكون أثَّر على بناء أفكار طه، مع أنّه يقول بالتكامل بين الفقهَين، أو بالأصح يقول: إنّ الفقه الائتماني مشتمل على الفقه الائتماري، إلاّ أنّ هذا ليس ظاهرًا في مجمل بحثه، فهو فضَّل الفقه الائتماني على الائتماري. (العبودي 2018, 54-55).

 

3-2- المقاربة التُراثية للقيم عند الجابري (ت: 2010)

قد يكون أوسع كِتاب أُلِّف عن الأخلاق والقيم في التُراث الإسلامي هو كتاب الجابري ( العقل الأخلاقي العربي دراسة تحليلية نقدية لنُظُم القيم في الثقافة العربية 2001, 2019)، حيث قسّم الجابري الأخلاق إلى عدّة تيارات: أخلاق فارسية، ويونانية، وعربية، وإسلامية، والذي يهمّنا من بحثه هو نقاشه للأخلاق الإسلامية.

لقد حاول الجابري وقبل نقاشه للأخلاق الإسلامية أن يؤصِّل للقيم في التراث، فناقشها من باب القيمي والـمُثُلي الفقهِيَّيْن، وقال: إنّ القِيَمي هو ما يحدِّده السوق من قيمة الشيء، وليس ما يتَّفق عليه المشتري والبائع كما هو الـمُثُلي؛ ولذلك فالقيمي هو تحديد اجتماعي لقيمة الشيء إلاّ أنّ نقل مصطلح “القيمة” من المعنى التجاري إلى المعنى الأخلاقي قد تمّ في المجال التداولي الغربي، وليس العربي (الجابري 2019, 54).

ثم انتقل إلى تعريف القيم، وأعطاها مصطلح “نظام القيم”، وعرَّفها بقوله: هي “معايير للسلوك الاجتماعي، والتدبير السياسي، ومحدِّدات لرؤية العالم واستشراف المُطلق”، (الجابري 2019, 56).

أمّا فيما يتعلق بنشأتها “فسُلَّم القيم ليس من صنع الفرد، بل ينشأ في المجتمع، ومن المجتمع ككل”، (الجابري 2019, 55).

ولما أراد الجابري أن يحدِّد معنى القيم بناءً على التراث العربي، وبعد أن لخّص أفكار الحارث المحاسبي والماوردي والراغب الأصفهاني والغزالي قال: إنّ هذه الكتب لا تمثِّل “تمثيلًا حقيقيًّا ما يمكن وَصْفُه بأنّه الأخلاق التي تنتسب فعلًا إلى الموروث الإسلامي (الخالص)”، (الجابري2019, 593)، وأنّ قاعدة هذه الموروث الإسلامي هو القرآن، ومن خلال معرفته بالقرآن، وملازمته له – كما يقول- “اعتبر بكيفية تلقائية أن ما يمكن وصفه بأنّه القيمة المركزية في (أخلاق القرآن) هو (العمل الصالح)”، (الجابري 2019, 593).

و”انطلاقًا من أنّ قيمة القيم في كل دين هي (الإيمان) به وبتعاليمه” (الجابري 2019, 593)، ودائمًا ما يرتبط الإيمان بالعمل الصالح في القرآن، (الجابري2019, 593)، ولذا فهي “ترمز حقًّا إلى أنّ العمل الصالح هو محور القيم الإسلامية القرآنية”، (الجابري 2019, 594).

أمّا مَن يمثِّل هذه الأخلاق وكتب عنها في التراث الإسلامي فهو العزّ بن عبد السلام، وأخطأ المحقِّقون في تصنيف كتب ابن عبد السلام أنّها كُتب أصولية؛ لأنّ كتبه “وبتعبير المؤلف داخل المتن، هو (أخلاق القرآن)” (الجابري2019, 595).

بل إنّ العزّ “كان واعيًا تمام الوعي بأنّ المحاولات التي قام بها مَن سبقوه بهدف تأسيس الأخلاق الإسلامية قد ضلَّت كلها السبيل، ولذلك فهو لا يُعِيرها أيّ اهتمام”، (الجابري، 2019, 595)، “وأحدث قطيعةً جذرية ونهائية معها”، (الجابري 2019, 596)، ولا يذكر ابن عبد السلام في تأسيسه لأخلاق القرآن أنّه في معرض الرَّدِّ على أحد، إلاّ أنّ فهمه في سياقه التاريخي، فهو “بمثابة البديل الذي يقدِّمه الإسلام السلفي المنفتح ردًّا على المحاولات السابقة لكتابه (أخلاق إسلامية)”، (الجابري 2019, 597)، ويقصد الجابري هنا في المردود عليهم العلماءَ السالف ذِكْرهم: الحارث المحاسبي، والراغب الأصفهاني، والماوردي، والغزالي.

و الفكرة الأساسية لابن عبد السلام في الأخلاق “هي الفكرة الإسلامية المعبَّر عنها في القرآن بـ (العمل الصالح)، وفي الأدبيات الفقهية بـ (جَلْب المصالح ودَرْء المفاسد)”، (الجابري 2019, 597)، واختار الجابري كتابَي العز بن عبد السلام (القواعد الكبرى) و(شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال)، والكتاب الأول صنَّفه ضمن الأخلاق العملية، والكتاب الثاني ضمن الأخلاق النظرية، وبناءً عليه قال: إنّ كتاب القواعد الكبرى هو في “الأخلاق الاجتماعية التي موضوعها المعاملات بين الناس، وأيضًا البهائم، فهو يعالج كيف ينبغي أن يتعامل الإنسان مع من تقتضي حياتُه ومعاشه التعامُلَ معه”، (الجابري 2019, 597)، ثم ذهب يحلِّل ويناقِش هذا الكتاب بناءً على مفهوم أخلاق المصلحة.

أما الكتاب الثاني (شجرة المعارف) فهو يهمّنا في هذا الباب؛ لأنّه قريب، إن لم يوازِ مفهوم القيم، يقول الجابري: إنّ العزَّ بنَى كتاب (شجرة المعارف) على “محاور علم الكلام الإسلامي، (أو الميتافيزيقيا الإسلامية): الذات، الصفات، والأفعال”، (الجابري 2019, 598)، وينفي كليًّا أنّ الكتاب في التصوُّف، بالرغم من عنوان الكتاب الذي يُفهَم منه ذلك، إنّما استقى الكتاب مادتَه من الموروث الإسلامي: القرآن والحديث. (الجابري 2019, 606)، “أمّا موضوع هذه الأخلاق أو الآداب فهو ما كان يشكِّل موضوع الأخلاق بامتياز في العصور السابقة، أعني بذلك ما كان يعبَّر عنه بــــ (أدب النفس) في الموروث الفارسي، وبـــ (تدبير النفس) في الموروث اليوناني”، (الجابري 2019, 606)، ثم لخَّص أفكار العزّ كما هي في كتابه، وهو رَبْط الأخلاق بصفات الله عزَّ وجل.

قد تكون أهم إضافة للجابري هي اكتشافه للعزّ بن عبد السلام وفكرته بأنّ الأخلاق تُؤخَذ من صفات الله عزَّ وجل، ومن خلال تعريف الجابري للقيم فهو يعتبرها ذاتَ بُعْد اجتماعي، فلم يفرِّق الجابري بين الأخلاق والقيم، وهذه مشكلة توجد عند كثير من الباحثين.

المشكلة الرئيسة لبحث الجابري هي عدم ربطه بين الإيمان كأوّل فكرة أثبتها للقيم الإسلامية، ثم انتقاله للعمل الصالح، بحجة أنّه دائمًا ما يربط بينه وبين الإيمان، ثم المحطة الأخيرة المصلحة، والمنعطف الأخير منعطف متحيِّز لفكرة معينة، فمصطلح “العمل الصالح” في القرآن، والمقصود به الطاعات، غير مفهوم “المصلحة” الذي هو مفهوم أصولي مستحدَث متعلِّق بالعلل والأحكام الشرعية، فمشكلة الجابري الأساسية ضُعْف العلاقة بين الدليل والنتيجة.

 

3-3- التَّأصيل الإسلامي للقيم عند ملكاوي:

حاوَل فتحي ملكاوي من خلال دراسةٍ مصطلحيةٍ للقرآن أن يتتبَّع مصطلح “القيم” ومشتقاته في القرآن، ووجد أنّ مصطلح “القيم” بمجموع مشتقاته وتصريفاته ذُكِر 382 مرة، ثم حَدَّد ستة معانٍ، ولم يذكر لماذا حدَّدها، وماذا تعني، فحدَّد أن الله الحيّ القيوم، والدين القيِّم، والطريق المستقيم، وأنَّ الله يهدي للتي هي أقوم، وخَلَق الإنسان في أحسن تقويم، وكان بين ذلك قوَامًا، أي: توسُّطًا، ثم خرج بنتيجة: “جِماع المعاني اللغوية في أصولها القرآنية تشير إلى أنّ الكون كلُّه قائم على نظام تتقوَّم به أشياؤه، وأنّ حياة الإنسان في الكون تتقوَّم بمنظومة من القيم تحدِّد تصوُّراته، وعلاقاته، وأعماله الظاهرة والباطنة”, (ملكاوي 2008, 7).

ثم عاد ليحدِّد مرةً أخرى أربع دلالات في جذْر “القيم” في القرآن، وهذه الدلالات تتعاون وتتضافر في إعطاء الدلالة الكلية للقيمة والقيم في الاصطلاح القرآني، وهي 1- الوزن، والفائدة، والثمن، والخيرية. 2- الثبات والاستقرار والتماسك. 3- المسؤولية، والرعاية. 4- الاستقامة والصلاح. (ملكاوي 2008, 7).

وقال في موضع آخر: “كثيرةٌ هي المصطلحات القرآنية التي تتعلَّق بالدلالة المعاصرة لمصطلح (القيم)، وأهميتها في الحكم على السلوك البشري”. (ملكاوي 2008, 11)

أمّا مفهوم “القيم” فهو موجود في مصطلحات (الأخلاق، والشمائل، والفضائل) في التراث الإسلامي، (ملكاوي، 2008, 10-8).

أمّا دوافع هذه القيم فهي ترتبط بأركان الإسلام والإيمان، ومفاهيم (التّقوى، والعبادة، والجزاء). (ملكاوي 2008, 9)

ويقول في مكان آخر: إنّه ليس من اهتمامه وَضْع تعريفات لمصطلحات متقاربة مع القيم، وذكرها، وهي: (القيم، والـمُثُل العُليا، والأخلاق، والفضائل)، ثم عاد وعرَّف “القيم والأخلاق” بأنّها “محدِّدات وضوابط لسلوك الناس”، (ملكاوي 2008, 9).

وبعد هذا الكلام عاد ليفرِّق بين مفهومَي “القيم” و”الأخلاق”، فقال: إنّ الأخلاق وصفٌ لسلوك الإنسان”، “والقيم معايير لتقويم هذا السلوك”، (ملكاوي 2008, 11).

ثم ذكر تصنيفًا وتعدادًا لمصطلح “القيم” بمعايير مختلفة، إلاّ أنّه في النهاية حدَّد “التوحيد” بأنّه القيمة العُليا، ويقول: “إنّ نظام الاعتقاد في الإسلام هو الأساس لنظام القيم”، (ملكاوي 2008, 12).

ثم ذكر بعد هذا التحديد ما ذهبت إليه بعض الدراسات الحضارية التي تقول: إنّ القيم الإسلامية هي التوحيد والتزكية والعُمران، (ملكاوي 2008, 19) قبل أن يُفْرِد هذه القيم بكتاب، (ملكاوي 2013)، ولمّا تحدَّث عن منشأ القيم أشار إشارة مقتضَبة لمسألة التّحسين والتّقبيح العقلِيَّيْن، ثم دَوْر المجتمع والأسرة والفطرة في زَرْع القيم في المسلم، (ملكاوي 2008, 13-14).

إنّ تأصيل ملكاوي للقيم من خلال القرآن محاولة جادة، إلاّ أنّه من الصعب ربط مصطلح قرآني يُفْهَم بلغة وسياق مَن نزل عليهم، ويُفسَّر بمعنى “القيم” المعاصر، وهو مصطلح معاصر، (في نفس المنهج راجع سيف الدين عبد الفتاح 1999, 65)، أمّا تحديده لمعنى “القيم”، أو مفهوم “القيم”، فهو غير محدَّد، ومضطرِب؛ فمرة هو مصطلح الأخلاق نفسه، ومرة هو مختلف عنه، وثالثة: القيم هي العقيدة، وفي تحديد القيم يستمر الاضطراب في تحديدها.

 

3-4- مقاربة القيم من علم الكلام إلى القرآن عند رضوان السيد :

ناقش السيد نظريّته للقيم من خلال بحوثٍ نشرها على صفحات مجلة “التّفاهم”؛ ولذا تطوَّرت فكرته عن القيم على مدى عقد من الزمن، ويقول: “كلٌّ من هذه المقولات كانت تتطوَّر وتتعدَّل من مقال إلى آخر، بحسب التأمُّل من جديد، وبحسب النقود (جمع نقد) التي كنت أتلقَّاها، وما أزال”، (السيد 2018, 53).

وفي البحث سنستقصي بعض هذه التطوُّرات؛ في أول بحث كتبه قال: “إنّ القيمة الكبرى والمتفرِّدة بحسب الرؤية القرآنية هي الوجُود الإلهي.. الوحدانية” (السيد 2009, 13)، وتترتب على الوحدانية قِيَمٌ خمس: وحدة الخَلْق، والرّحمة، والعدل، والخير العام، ووقوع الفعل الإنساني بين النيّة والعاقبة، وحاوَل أن يؤصِّل لهذه القيم من القرآن.

لم تكن مسألة أنّ الصفات هي أصل القيم حاضرةً بقوة عنده في هذه المرحلة، وإن استدلَّ بها على بعض هذه القيم، إلاّ أنّه في آخر بحث له ضمَّنها في عنوان البحث، (السيد 2018)، ثم قال: إنّ مبحث القيم يهمّه من مبحث المتكلِّمين أربعُ مسائل: وحدانية الله عزّ وجل، والإيمان وعلاقته بالعمل، والقدَر وعلاقته بفعل الإنسان، والتّحسين والتّقبيح العقليّان. (السيد 2009, 17-18).

ثم أَبْرَزَ تيارَين من المتكلمين، أحدهما يقول: إنّ القيمة الأساسية بين الله وعباده هي العدالة، والآخر يقول: هي الرَّحمة؛ والرأي الأوّل يمثِّله المعتزلة، والرأي الثاني يمثِّله الأشاعرة. (السيد 2009, 20)، ونصر الصوفيةُ الأشاعرةَ في قولهم بأنّ علاقة الله بالإنسان علاقة رحمة ولطف وعناية وحب، أمّا الفقهاء فقد اعتبروا ثلاثة أمور لاستعادة التوازن في منظومة القيم: قيم الاختيار والفعل، والعدل، والرَّحمة. (السيد 2017, 15)، ثمّ درس الأخلاق عند الفقهاء، وانتهى إلى أنّها هي مقاصِد الشريعة (السيد 2009, 22).

وفي بحث آخر وتطوُّر جديد حدَّد هذه القيم بناءً على ثلاثة أسباب: التّكرار، وصيغ الورود، ودرجات التّكرار، أمّا القيم فهي: المساواة، والرَّحمة، والكرامة، والعدل، والتّعارف، والخير العام (السيد 2017, 12).

وفي المرحلة الأخيرة تجاوز نقاش المتكلمين، ورجع إلى ما رجعوا إليه، ألَا وهو القرآن، بناءً على أنّ القرآنَ يحمل منظومة قيمية، وعلى تكرار القرآن لهذه اللفظة؛ أمّا عن تحديد القيم فقد تطوَّرت إلى: المساواة، والرَّحمة، والعدل، والتعارف، والمعروف، والخير العام (السيد 2018, 52).

وبالرغم من تقلُّبات السيد في تصنيفه للقيم والأخلاق، إلاّ أنّ أوّل بحث نشره يوضِّح كثيرًا من رؤيته للقيم، وهي أنّها مرتبطة بعلم الكلام، وبالذات، التوحيد، الإيمان وعلاقته بالعمل، والتّحسين والتّقبيح العقليين، والقدر، وهذه المسائل غير المسألة الأولى؛ فهي ليست من باب الأسماء والصفات، وقد تعود بالتأويل إليها.

حدَّد رضوان السيد هذه القيم، وذكر أنّه اختارها بحسب تِكرارها في القرآن، لكن لم يذكر كم كُرِّرت هذه المفردات، وكأنّها مسلَّمة، وهذه مصادرة، فمن المُمكن أن لا يوافَق على إحصائه، أو يُختلَف معه في عدد المرات، وقد تكون هناك قيم كُرِّرت أكثر، بل هو نفسه غيَّر ولو تغييرًا بسيطًا في القيم، فهل كان عَدُّه السابق خاطئًا؟.

 

3-5- القيم الإسلامية في السياسة عند الحاج:

في دراسته للقيم السياسية في الخطاب القرآني ناقَش عبد الرحمن الحاج القيم في القرآن، عرّف القيم تعريفًا تقريبيًا فجعلها “وصفًا معياريًا وعقليًا للأفعال والأشياء باعتبارها تستحق التّقدير، مرغوبٌ فيها أو غير مرغوبٍ فيها، أو حسنة، أو قبيحة” (الحاج 2012, 249)، وفرّق بين القيم والأخلاق بأنّ الأخلاق متعلِّقة بالتطبيقات. (الحاج 2012, 250) وخرج بنتيجة أنّ القيم في القرآن هي الحق والجمال والخير، وانطلق الحاج من مبدأ منهجي في تحليله للخطاب القرآني – كما يقول- على ما هو الأكثر تكرارًا في القرآن، ثم قال: “إنّ مصدر الإلزام باعتناق هذا المفهوم (التوحيد) ليس هو المفهوم ذاته، بل لأنّه حقٌ بمعنى حقيقة” (الحاج 2012, 262) ، وهو حقٌ بالمعنى الفلسفي الذي يولِّد الحقّ بالمعنى القانوني الفقهي(الحاج 2012, 262), ليخرج بنتيجة أنّ القيمة العليا في القرآن هي الحقُّ، ثم عاد إلى التوحيد ليقول: “يقتضي التوحيدُ الكامل كمالًا مُطلقًا في صفات الذات الإلهية، وهو كمالٌ يستند إلى قيمتَيِ “الخير” و “الجمال”، أو ما يدعوه الخطاب القرآني بالإجمال بـ (الحُسنى)” (الحاج 2012, 263).

في النّهاية أراد الحاج أن يصل إلى التقسيم التقليدي للقيم، وهو الحقُّ والخير والجمال، فتأوَّل التوحيد بالحقّ؛ لأنه حقٌ بذاته، وليس لأنّه التوحيد. (الحاج 2012, 262).

ويستمرّ الحاج في وَصْف القيم وعملها بقوله: “هذه القيم الكُبرى (كما القيم المتفرِّعة عنها) على أنّها رمز، بمعنى أنّها بمنزلة إشارة مُعرِّفة للفاعلين بأنّ الشيء أو الفعل هو أمرٌ مرغوبٌ فيه أو لا، مقبول أو لا، صحيح أو لا، جيّد أو لا … إلخ، وإذا كان عالَم الرمز هو عالم المعنى، فإنّ الرمز القيمي يجب أن يُنظَر إليه باعتباره مطلقًا في جِذْره، ومُحايثًا في فرعه؛ إذ لا يمكن تجسُّده عليه إلاّ عبر إنجازٍ ما (فعل ما، شيء ما) مرئي ومحسوس، وهذه المسافة بين المُطلق والمُحايث التي تتحرَّك فيها القيمة بوصفها رمزًا هو الذي يُمْلِي عليها ظاهرة التفرُّع القيمي، حيث القيم الأساسية هذه لا يمكن أن تبقى متعالية تصنيفها للعالم على صورتها، بل لا بدّ من تفرُّعات تواكب التجسُّدات المحايثة اللانهائية، وإن ظلَّت لها جذرًا”، (الحاج 2012, 269).

يحدِّد هذا المقطع معنى الرّمز، وهو إشارة معرفية للفاعلين، لكن لا يُجسَّد هذا الرمز القيمة في فعلٍ معين، إنّما يبقى مُتعاليًا، إلاّ أنّ تفريعاته القيمية قد تتجسَّد في فِعْل المسلم، والذي أحوجَ الحاج لتفسير القيم بأنّها رمز هو طبيعة تحديدها لها، فالحقُّ والخير والجَمال من الصعب أن تتجسَّد في فعلٍ أو قولٍ معين.

ويزيد الحاج في توضيح مفهوم القيم من خلال مفهوم الرّمز، “على أنّ فاعلية الرّمز القيمي هي التي تحدِّد هويات الفاعلين عبر إنجاز مفعولات مجسَّدة، ويمثِّل (المفعول به)، على أن يَمنح هذه الرمزانية القيمية فرصة للتجسُّد هي جملة القواعد الأخلاقية والتشريعية والمعرفية التي يفترض جزءًا منها الخطابُ القرآني، ويفرض الجزء الآخر الإنسان (الذات والجماعة)، وبين هذَيْن الجزأين تتدخل الثقافات والعناصر المتغيِّرة والمختلفة في تشكيل قواعد عمليّة القيم التي يفترض أنّها لا تعمل خارج إطار البنية العلائقية للمنظومة القيمية الكبرى”، (الحاج 2012, 269).

إنّ القيم وهي تتمثَّل في تجسيد القواعد الأخلاقية والتشريعية والمعرفية تعتبر حاكمًا عليها، فهي الرّمز الذي يجب على ممتثل هذه القواعد أن يقصده، والجزء الآخر يفترض الحاج أنّ مصدر القيم هو القرآن والإنسان بصفته الذاتية والاجتماعية، إلاّ أنّها لا تخرج عن منظومة القيم القرآنية، إلاّ أنّه لم يكمل ويوضِّح معنى أن يكون الإنسان مصدر القيم، ومن داخل منظومة القيم القرآنية، فإذا كانت هذه القيم لا تخرج عن قيم القرآن فليس لذِكْرها معنى، وإمّا أن لها عملًا قد يسمى بتعبير الأصوليين المناسبة، لم يُذكَر في القرآن باعتبار ولا إلغاء.

تابع الحاج الفاروقي في كثير من أفكاره، إلاّ أنّ منطلق الحاج القرآن، وأضاف إليه النقاشات المعاصرة في القيم، وهذه إضافة منهجية مهمة، في المقابل تعسَّف في تأويل التوحيد بالحقّ، لينضوي تحت التقسيم التقليدي للقيم، والتوحيد بحدّ ذاته نتيجة مميَّزة يمكن الانطلاق منها، وبالأخص أنّه بناه على قاعدة منهجية، وهي أنّه الأكثر ورودًا في القرآن، فهناك أساس علمي في بنائه لهذه النتيجة، بغض النظر عن تأويلها بالحقّ.

 

3-6- القرآن والمجتمع العادل عند رامون هارفي:

في دراسة هارفي التي هي عبارة عن رسالة دكتوراه أُنجزت في كلية سواس، وهارفي مسلم بريطاني، هدفُ كتابِه هو بحث رؤية القرآن للمجتمع العادل من عدة أبواب، إلاّ أنّ ما يهمنا في هذه الدراسة هو الفصل المنهجي والفصل الأول اللذان تحدث فيهما عن الأخلاق في القرآن، يقول: إنّه “سيقرأ القرآن ككتاب أخلاق يستنبط منه الإنسان منظومة الأخلاق، وليس بمعنى كتاب أخلاق منهجي”  Harvey)2018, 2)، أمّا منهجيًّا فتأثَّر هارفي بفضل الرحمن وعبد الله سعيد، وبعض أفكار غادامير (3 ,2018 Harvey)، واعتمد منهجيًّا التفسير الموضوعي، معتمدًا على كتاب صلاح الخالدي  (4 ,2018 Harvey).

نظر هارفي إلى مركَزية اسم الله عزَّ وجل “الحاكم”، وصفة “الحكيم”؛ ولذا سنجده يربطهما بأكثر نقاشاته في الكتاب.

بدأ هارفي بتحديد السردية القرآنية للأخلاق، وحدَّد أربع مراحل: 1- الميثاق الذي أخذه الله من بني آدم وهم في ظهر آدم، 2- الفطرة، وهي تقوم بدور وجُودي ومعرفي، 3- النُّبوة يُرْسِل الله إلى أمّة معينة كتابًا فيه الحكمة ليحكم الله على أفعالهم، 4- الآخرة، وهو يوم الحساب والجزاء. (10-23 ,2018 Harvey)

في فصلٍ مستقلٍ ناقَش هارفي الجوانب الكلامية لمبحث الأخلاق في الإسلام، وتبنَّى في مُجمل أفكاره المذهب الماتريدي، وفي المبحث الأول ناقَش العدالة الإلهية من خلال نقاش المتكلمين بمسألة الصّفات وعلاقتها بالذات الإلهية، (28 ,2018 Harvey)، ومسألة القدر والخير والعدل، ثم ربطها بالأخلاق، وفي المبحث الثاني ناقَش مسألة التّحسين والتّقبيح العقلِيَّيْن، ورأي الماتريدي فيه،(33 ,2018 Harvey)، أما في المبحث الثالث فقد ناقَش الأحكام التكليفية الخمسة، وعلاقتها بالأخلاق، ومصدر إلزامها، (38 ,2018 Harvey)، ثم عطف على مقاصد الشريعة، وانتقد عدم إضافة العدل إلى مقاصد الشريعة على أهميته، (40 ,2018 Harvey).

إضافة هارفي هي تحديده للسردية القرآنية للأخلاق، إلاّ أنّه لم يعرِّف الأخلاق ومجالها، وكأن الأخلاق – من وجهة نظره- تشمُل الدين كلَّه، إلاّ أنّه لم يوضِّح أو يدلِّل على هذه الفكرة.

 

  • الخاتمة

اختلفت اصطلاحات الباحثين في الإطلاقات، فبعضهم يُطلق الأخلاق على القيم من دون قيد، وبعضهم يطلق على القيم الأخلاق النظرية، مثل الجابري ودراز، وهناك مَن سمّاها القيم، أو غيَّر من استخدامهُ لها من كتاب لآخر مثل طه عبد الرحمن، وكلُّها استخدامات مستخدمة في اللغة الإنجليزية بالأخص، ومع ذلك فالتفريق بينها بمصطلحين أفضل لأمن اللُّبس ليتضح المقصود، ويلاحظ أنّ أغلب الباحثين باللغة العربية أطلقوا القيم على “أخلاق الخير” مع أنّ أغلبهم لم يحدِّدوا الفرق صراحة، وقد يكون هذا قد أتى من الاعتقاد بوضوح الأمر وأنّه ليس بحاجة إلى تفريق، أو لعلّه أحيانًا من عدم التفكير في تعريف القيم أو الأخلاق بدقة ليتضح الفرق، كان طه عبد الرحمن حريصًا على تعريف مصطلحاته، ومع ذلك اختلفت إطلاقاته على الأخلاق، بل وعلى القيم نفسها، فعرَّفها بتعريفَيْن في كتابَيْن مختلفَيْن، حاول كلٌّ من ملكاوي والحاج التفريق بين القيم والأخلاق. وقال: بأنّ الأخلاق متعلقة بالسلوك والتطبيقات والقيم متعلقة بالغايات والمعايير إلاّ أنّهما لم يُفصِّلا كثيرًا في هذا الفرق، وهذا يستدعي التفكير في ضبط المصطلحات بالذات بين القيم والأخلاق، وأيضًا تتضح الحاجة في دراسة مصطلح الأخلاق بالتراث واستخداماته وعلاقته بالقيم. وأغلب من عرَّف القيم قال إنّها معايير للسلوك إلاّ أنّهم لم يتعمقوا بشرح هذا المصطلح الذي قد يوضِّح معنى القيم أكثر ويكون منطلقًا لمناقشة مواضيع القيم، وعرّفها طه عبد الرحمن في آخر تعريف له للقيم بأنّها معاني رُوحيّة.

من المقاربات السالفة يتَّضح قلَّة اعتمادِ الباحثين على بعضهم، أو على الأقل عدم وضوح ذلك، وقلَّة إشارتهم لمن سبِقهم، كلُّ باحث يناقِش الموضوع بتأسيس جديد ويثبِتُ مقاربته القيم، فمثلًا مقاربة الصفات للقيم، وهذا قول جمهور الباحثين المعروضةِ أقوالهم، لم يُشِر أو يَبْنِ أحد إلى مَن سبقه، باستثناء الحاج فقد أشار إلى إسماعيل الفاروقي، وهذه مشكلة بحثية ومنهجية، وأشار واحد فقط إلى مرجِعية العلماء المتقدِّمين، وهو الجابري في إشارته للعزِّ بن عبد السلام، وهذا أثَّر على المُقاربات والاستدلال عليها، وبناءِ أفكار جديدة بدل إعادة تحديد القيم، ووجه الاستدلال عليها.

اعتمد أغلب الباحثين على مصدرَين بالأساس، هما: القرآن، وعلمُ الكلام، واعتمد طه عبد الرحمن في تحديد وتعريف القيم على التصوُّف، وفهمي علوان على المَقاصد، وتفرَّد الفاروقي بالتأسيس الفلسفي لمبحث القيم مقارنًا بالفلسفات المعاصرة.

أشار أكثر الباحثين إلى أنّ لعلم الكلام دورًا في القيم، وحاوَل بعضهم تجاوزَ عِلم الكلام، مثل رهبر ودراز، إلاّ أنّهم وقعوا تحت تأثير أفكارٍ أخرى، السيد هو من حدَّد أوجه تداخل مبحث القيم بعلم الكلام من خلال أربع مسائل: التوحيد، والإيمان، والقدر، والتّحسين والتّقبيح العقلِيَّيْن، حاول هارفي أيضًا أن يربط القيم بعلم الكَلام، من خلال العَدالة الإلهية، والتّحسين والتّقبيح العقليّين، في المقابل حاوَل طه عبد الرحمن تجاوُز علم الكلام، مع إشارة بسيطة له، و اعتمد على التصوُّف، بالرغم من ذلك رجع أغلب الباحثين إلى القرآن في تأسيسه للقيم، وانفرد هارفي بتأسيسها على القرآن وعلم الكلام مجتمعين، وهذه إضافة مُهمة لمبحث القيم، ولذا أمكن القول: إنّ مرجِع القيم هو القرآن، ثم علم الكلام، ثم التصوُّف والمقاصد، إلاّ أنّه لم يدمج باحث بين هذه المراجع للقيم، ويحدِّد مجال كلِّ مرجعٍ وطريقة عمله وإضافتِه لمبحث القيم في الإسلام.

أمّا بالنسبة لتحديد القيمة الأساسية في الإسلام فقد أبرز رهبر أنّ القيمة الأساسية في القرآن هي العَدالة، أمّا عند طه عبد الرحمن فيرى أنّ القيمة الأساسية في القرآن هي الرحمة، أما عند فضل الرحمن فهي التّقوى، ويرى الحاج أنّها التوحيد، أمّا السيد فيقول: إنّ المعتزلة يرون أنّ العدالة هي القيمة الأساسية، والأشاعرة والمتصوِّفة يرون أنّها الرحمة، أمّا الفقهاء فيقولون بالتوازن بين هذه القيم، وبناءً على هذه التحديدات فإنّ هذا يطرح مشكلة في منهجية البحث التي اعتمدها الباحثون، وسببُ هذا الاختلاف هو عدم وجود أساسٍ منهجي دقيق لتحديد القيم أوقعهم في هذا اللُبس باستثناء الحاج، فقد وضع معيارًا لتحديد القيم في القرآن وهو تكرُر الورود في استنباطهم من القرآن وتأويل الحاج قيمة التوحيد إلى الحقّ والخير والجمال أضعفَ من جدوى منهجيته، وأفرغها من مضمونها، ويسري هذا أيضًا على الجابري، وتحديده للقيمة الأعلى في القرآن بأنّها العمل الصالح، بينما خرج السيد من هذا المأزق، وذكر قيمًا كثيرة، إلاّ أنّه لم يوضِّح ما هي القيمة الحاسمة عند التعارُض، ولم يَبْنِ نظريته في القيم على قول الفقهاء بالتوازن بين قيم الرَّحمة والعدل كما يقول، وهذا كلُّه قد يعود إلى ذهنية التَّفكير المذهبي في التّرجيح فطه عبد الرحمن رجَّح الرحمة بحُكم اعتماده على التصوُّف، ورهبر العدالة واعتماده على المُعتزلة.

أوضحت رؤية بعض الباحثين أنّ القيم ذاتُ بُعْد اجتماعي أو فردي، وهناك آخرون لم تكن هذه المسألة داخل دائرة اهتمامهم، وينفرد طه عبد الرحمن بأنّه ناقشها مرّةً على أنّ القيم ذات بُعْد اجتماعي، ومرةً أنّها ذات بُعْد فردي، إلاّ أنّه لم يُقدِّم أحد رؤية أنّ القيم ذات بُعْد اجتماعي وفردي في الوقت نفسه.

في العلاقة بين الفقه والقِيم أشار بعض الباحثين إلى أنّ المقاصد تُعتبر من القيم، إلاّ أنّ طه عبد الرحمن ناقشها بشكلٍ مختلف، وأراد بناءَ الفقه الائتماني من خلال آلِيَّتَيْ ترحيم الأحكام الشرعية، وتذييل الأحكام الشرعية بأسماء الله وصفاته، وهذه الفكرة موجودة ببعض أدبيات تفسير القرآن وعلوم القرآن، إلاّ أنّ طه عبد الرحمن توسَّع في نقاشها وإبرازها، وما زال الموضوع يحتاج إلى بحثٍ ونقاش، وبالذات في تفريقه بين الفقه الائتمَاري والائتمَاني.

في النهاية لا يزال بحث القيم بحاجةٍ إلى مراجعةٍ وبناء، وربطه بالتراث، فبعض الباحثين حاولوا ربطه بالقرآن، إلاّ أنّ استبعادهم للنظر في التراث والقفز على نقاشاته أوقعهم في مشاكل أخرى، من ضمنها، بل من أهمها، ضَبْط مصطلح الأخلاق والقيم وإطلاقاتها في التراث والعلم الذي يختص بالنظر بها، وعلاقة كلِّ هذا بالقرآن، إلاّ أنّ بعض الباحثين أرجع تأسيس القيم إلى علم الكَلام، وأرجعه آخرون إلى التصوُّف، وركَّز كثيرٌ منهم على دور الأسماء والصفات في بناءِ القيم، مع أنّ المرجع الأساسي في الاستنباط من القرآن هو أصُول الفقه بمنهجيته المتكاملة فلم يحاول أحد من الباحثين تأسيس القيم بناءً على أصُول الفقه أو على الأقل استحضار أصول الفقه بتأسيسه.

أمّا تحديد القيم فمن الصّعب تحديدها قبل التحديد الدقيق لتعريف القيم وآلية تأسيسها؛ لأنّ أيّ تحديد للقيم يحتاج إلى معرفة أولويات القيم عند التعارُض، وبدوره يستلزم معرفة منهجية البناء ليؤسِّس عليها معرفة الأولوية، وأخيرًا تخليق الفقه وتذييل الأحكام يحتاج إلى تفصيلٍ أكثر، وربطها بالـمُنْجَز الفقهي الموجود، واكتشاف طريقة الفقهاء في مُراعاة قيم الأحكام الشرعية في استنباطاتهم، ودورها في تنزيل الأحكام الشَرعية على الوقائع، وكتبُ النوازِل والفتاوى والوقائع مفيدةٌ في هذا الباب.


المراجع:

  • Al-Faruqi, Ismaʼil R. 1952. On Justifying the Good. Thesis (Ph. D.). Indiana University
  • Al-Faruqi, Isma’il, 1968.The Problem of the Metaphysical Status of Values in the Western and Islamic Tradition, Studia Islamica, 28:29-62.
  • Al Fārūqī, Ismāʿīl, 1962 On Arabism: ‘Urubah an Religion, a Study of the Fundamental Ideas of Arabism and of Islam as its Highest Moment of Consciousness, Amsterdam:Djambatan.
  • Attar, Mariam. 2010. Islamic Ethics: Divine Command Theory in Arabo-Islamic Thought. New York: Routledge.
  • Harvey, Ramon. 2018. The Qur’an and the Just Society. Edinburgh: Edinburgh University Press.
  • Hourani, George Fadlo. 1985. Reason and Tradition in Islamic Ethics. Cambridge: Cambridge University Press. Hurka, Thomas. 2006. “Value Theory,” in The Oxford Handbook of Ethical Theory, ed. David Copp. Oxford: Oxford University Press.
  • Rahbar, Daud. 1960. God of justice: A study in the ethical doctrine of the Qurʾān. Leiden: E. J. Brill.
  • Rahman, Fazlur. 1984. Some Key Ethical Concepts of the Qurʾan, Journal of Religious Ethics 11:170–185.
  • Reinhart, A. Kevin. 1995. Before Revelation: The Boundaries of Muslim Moral Thought. Albany, N.Y.: State University of New York Press.
  • Shihadeh, Ayman. 2006. The Teleological Ethics of Fakhr al-Din al-Razi. Brill:Leiden, 2006.
  • إيزوتسو، توشيهيكو. .2008 المفهومات الأخلاقية الدينية في القرآن. ترجمة عيسى علي العاكوب. حلب: دار الملتقى.
  • بلفقيه، محمد. 2007. العلوم الاجتماعية ومشكلة القيم تأصيل الصلة. الرباط: منشورات المعرفة.
  • الجابري، محمد عابد. 2019. العقل الأخلاقي العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.
  • الجليند، محمد السيد، قضيّة الخير والشر لدى مفكري الإسلام. الطبعة السادسة. القاهرة: دار قباء الحديثة.
  • الخطيب، معتز، مدخل إلى دراسة الفكر الأخلاقي في مصر في سياق مشاريع النهضة والإصلاح. مجلة تبين. 7:28 85-109.
  • دراز، محمد عبد الله. دستور الأخلاق في القرآن. القاهرة: دار ابن الجوزي.
  • رشواني، سامر. 2017. الدرس الأخلاقي للقرآن: قراءة في بعض المقاربات الحديثة. مجلة الأخلاق الإسلامية. 2: 158-194.
  • زين، إبراهيم. 2011. نظرية القيم عند الفاروقي وصلتها بالتكامل المعرفي. مجلة تفكر.11: 2: 5-32.
  • السيد، رضوان. 2009. منظومة القيم والحياة الأخلاقية في الرؤية الإسلامية. مجلة التسامح. 28: 12-22.
  • السيد، رضوان. 2017. الخطاب القرآني: الصفات الإلهية لدى المتكلمين والأزمنة الجديدة. مجلة التفاهم. 62: 41-54.
  • السيد، رضوان. 2018.منظومة القيم القرآنية وتأثيرها في المجتمع والدولة- الإعراض عن الإسلام في الأزمنة المعاصرة. مجلة التفاهم 57-58: 11-24.
  • عبد الفتاح، سيف الدين. مدخل القيم إطار مرجعي لدراسة العلاقات الدولية في الإسلام. القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
  • عبد الرحمن، طه، دين الحياء من الفقه الائتماري إلى الفقه الائتماني أصول النظر الائتماني. بيروت: المؤسسة العربية للفكر الإبداع.
  • عبد الرحمن، طه. 2000. سؤال الأخلاقمساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية. بيروت: المركز الثقافي العربي.
  • عبد الرحمن، طه. 2002. الحق العربيفي الاختلاف الفلسفي. بيروت: المركز الثقافي العربي.
  • العبودي، إسماعيل. 2017. العقول الثلاثة بين المتقدمين والمتأخرين ومعضلة التكامل. دورية نماء لعلوم الوحي والدراسات الإنسانية. 6-7: 46-64.
  • علوان، فهمي محمد. 1989. القيم الضرورية ومقاصد التشريع الإسلامي. الهيئة العامة المصرية للكتاب.
  • عودة، جاسر. 2013. قراءة في أطروحة الدكتوراه لإسماعيل الفاروقي حول إثبات الخير، مجلة إسلامية المعرفة. 19: 227:74-237.
  • الرحمن، فضل. 2013. المسائل الكبرى في القرآن الكريم. نقله إلى العربية محمد أعفيف. بيروت: دار جداول.
  • الرحمن، فضل. 1993 الإسلام وضرورة التحديث. ترجمة إبراهيم العريس. بيروت: دار الساقي.
  • ملكاوي، فتحي. التأصيل الإسلامي لمفهوم القيم، مجلة إسلامية المعرفة. 14: 54: 5-22.
  • ملكاوي، فتحي. منظومة القيم العليا في القرآن التوحيد والتزكية والعمران. عمان: المعهد العالمي للفكر الإسلامي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى