- عائشة عادل
- تحرير: عائشة ناصر
بينما أتصفح مواقع التواصل ذات ليلةٍ مررتُ بمنشور كتبته صاحبته تحكي فيه مأساة علاقتها الأخيرة، واستطردت حول وصف شعور الخيبة والألم الذي دهمها إثر نهاية العلاقة، ثم تواردت التعليقات مؤيدةً لها ومواسيةً لشعورها، يحكي أصحابها مآسيهم المشابهة، ويسهبون في وصف خيباتهم.
ربما يبدو الأمر لتكراره مقبولًا بل وداعيًا إلى التعاطف والشفقة، يا للمساكين الذين تطاردهم آلامهم أينما ذهبوا!
هذه هي الصورة التي تنطبع في الذهن حتى تكاد أن تكون خلفية لكل شواهد المواقف الحياتية، العادي منها حتى! إنسان بريء مسالم يقنع من الدنيا بيسيرها، ثم تلهث وراءه أحزانه وخيباته، والجميعُ يتبنّى شعار بخيت في قصيدته: “لماذا تلهث الدنيا وراء جراحيَ الأغلى؟!”
وأنا في الحقيقة لا يعنيني هذا المشهد كثيرًا، إنما أنقّب هنا عن أسبابه ودوافعه وملابسات وقائعه؛ لأبحثَ عن جواب سؤال مُلحّ وهو: هل يتّسم العالم بالمبالغة المنفّرة؟ وهل تلك المشاعر على حقيقتها فعلًا؟ أم أنّنا نغرق في أدوار الضحايا لنخرجَ بقيمة ما من حياتنا؟!
هل نحن بصدد عصر رومانسي جديد؟! ثورة “شعورية” أخرى!
بضعةٌ من الرومانسية الأولى
في الكلاسيكيّة الأوروبية القديمة، كان المذهب الأدبي السائد مذهبًا جامدًا قوامه العقل والذوق فقط، متجنّبًا لمتاهة المشاعر والأخيلة الجامحة. كان للعقل السيطرة الكاملة في تسيير مشاعر الأدباء؛ ممّا جعلهم يرزحون تحت ضغوط المنطقية الخانقة لحرية مشاعرهم من جهة، والتزام محاكاة القديم من جهة أخرى (١).
وكنتيجةٍ حتميّة كان لا بد أن يُولَّدَ ردُّ فعلٍ عنيف لهذا الضغط، تمثّل في حركة تمرّد على كل الأدبيات الكلاسيكية، والجنوحِ إلى التحرّر من قيود الجمود، والهربِ بعيدًا عن سلطة العقل الخانقة للخيال.
فكانت الثورة الرومانسية الأولى حركةً داعمة للمشاعر الذاتية، جاعلةً من القلب والشعور محورًا أساسيًا في الإبداع، ومقدِّسةً لأدبيات الحب والفن والوحدة والعزلة.
ولم تقتصر النظرة الرومانسية على الأدبيات -وإن كانت منطلقها- وإنّما انسحبت على شتّى مناحي الحياة فصارت نظرة حياتية شاملة، ترتكز على الرؤية الجمالية الروحانية وتميل إلى التناغم مع الطبيعة والوجود.
لم يكن ما نعايشه الآن إلّا مشهدًا نحاكي به الرومانسية الأولى، فلما تجلّت عصور الحداثة وتجذّرت مفاهيمها في فكر الإنسان وحياته من إغراقٍ في المعقولات الجامدة وتوحيدٍ لرؤية الإنسان عبر زاوية المادة؛ كانت النتيجة ردة فعل عنيفة! هذا البركان الهادر الذي بقي زمنًا يصارع كبته وكتمانه بدأ يهدّد بالانفجار على نحو مقلقٍ لاتّزان الحياة وطبيعتها.
وأخذ مؤشر الميزان يضطرب -كما اضطرب على مرٍّ العصور الغابرة- من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، والإنسان تتلقفه المؤثّرات ونتائجها, فيهيمُ مع الريح حيث هامت، لا ركائز يستندُ عليها, ولا شواطئ آمنة يركنُ إليها حين تهزّه أمواج الحياة.
أسباب ثورة الشعور
على الرغم من تفسير إفراط الإنسان في شعوره كردِّ فعل عكسي نَجمَ عن تقديسه لعقله زمنًا؛ إلا أنّ هناك أسبابًا دفعته إلى تبنّي هذه الرؤية الحياتية بكل تلك القوة، بل وخلق حالة ذهنية أسيرة تمامًا لذلك الإفراط، وأول هذه الأسباب:
المشاعر كأداة للتخدير ووسيلة للهرب
ربما نشهد في واقعنا كثيرًا من محاولات الهروب من المشاعر، إمّا عن طريق الحيل النفسية، من تجاهل أو سخرية أو ادّعاء، أو غيرها من وسائل التورية الشعورية، لكنّني هنا لأسلك مسلكًا آخر في البحث عما وراء هاته الظواهر، وهو اتّخاذ المشاعر نفسها كوسيلة للهرب، مسكّنٍ مؤقت نحتال به على أوجاعنا فنخالها برئت، وما نحن في الحقيقة إلا سذّجٌ نلتصق في جلباب العاطفة خوفًا من مواجهة ما هو أصعب.
في عصر الحداثة المتصلّب، وبين دعاوى تمجيد العقل وفلسفة ادّعاء القوة والسيطرة؛ باتت حاجة الإنسان الروحية أكثر إلحاحًا ولجاجة، وأصبح طريقه للخلاص من قيود العقل عبر بوابة الحسّ، يهرب إليها كلما ضاقت عليه مسالك المنطق، وكلما أدرك أن مشكلات حياته أكبر من أن يستوعبها عقله المحدود، وغدا وعي الإنسان المتزايد بضآلة ذاته وسط فلاة العالم مطّردًا مع انفلات مشاعره.
هذا الإنسان الحديث الذي آمن أنّ العقل وسيلة السيطرة الوحيدة على العالم واغترّ به لحل مشكلات ما يجد، أصبحَ الآن يعي جيدًا أنها وسيلة مهترئة ضحك بها الحداثيون على عقولنا، ولأجل معالجة صدمة إداركنا تلك؛ نبتلع أطنانًا من المسكّنات المؤقتة في صورةٍ منمّقة من فورة العاطفة.
وأمسى هذا الإنسان منهزِمًا، تعرضُ له المشكلة فيهرب من الحلِّ إلى الإغراق في الكآبة والحزن, ويجترُّ آلامه وخيباته، ويرفض مواجهة واقعه بشجاعة كي لا يحتمل مسؤولية هذه المواجهة فيقع في فخ تحميل نفسه كلفة الشعور، ولو علم أنّ كفة الثانية أثقل ما استعاض عن هذه بتلك.
وباتَ أسيرًا من حيث ظنّ أنّه يتحرّر، وضيّقَ الأفق من حيث خالَ أنّه يتوسّع، فهذا الإغراق في عيش العاطفة بمعان واسعة وأدبيات حالمةٍ ليس في الحقيقة إلّا سلسلة من الحيل النفسية يجد فيها المرء سلوى لكل ما يرفض أن يعيشه واقعًا بحجمه الطبيعي. هذه الرومانسية التي نعيشها مجددًا باختلاف مظاهرها ما هي إلا ذلك الغطاء الذي صدّقنا في طفولتنا أنّه يحمينا من الوحوش ليلًا، لكنّ الفارق هذه المرة أنّ الوحوش موجودة فعلًا، لا مجرّد أسطورة.
وفي هذا يقول ميشيل: “وعصرنا كذلك؛ الذي يبحث عن سبيل الهروب إلى الإحساس ويحاول الإفلات من عالم متصلبٍ عن طريق الاهتزازات الداخلية، هو أيضا رومانسي.. نحن ننغرس في رومانسية المشاعر” (٢).
المشاعر كدور تعويضي في مسرح الحياة
هذه الأجيال التي رزحت تحت صخور التهميش وضغوط الواقع وتسارع الأحداث وتغير أنظمة العالم تغيرًا مهولًا؛ فقدت فاعليتها تجاه الحياة. لا توجد آفاق للفعل، ولا مساحات لخدمة فكرة سامية مثلًا، والأمل في تغيير جذري للحياة التي يرفضونها يكاد يكون منعدمًا، ونتيجة لهذا ولمقاومة اليأس الذي اعتراها؛ سخّرت كل طاقاتها لمعالجته بطريقة ملتوية، إذ كان سبيل تفريغها الوحيد: ميادين نفوسها وساحات شعورها، فاتّجهت في سبيل ذلك إلى تحقيق فاعليتها في الحياة عن طريق مشاعرها، تبحث بوعي بالغ في مسالكها وتحترمها وتقدّسها وتصرفها ببذخ في علاقاتٍ مائلة, أو تلقي بها عند أول منعطف بلا أدنى تفكير في العاقبة. يقول ميشيل في تفسيره لأسباب الرجوع إلى المشاعر: “العالم يرفض أن يخضع لسيطرتنا، لكن ولحسن الحظ؛ تبقى ساحة معركة الأحاسيس القويّة متاحة لنا لتفريغ حمولتنا الزائدة من الطاقة” (٣).
إذن، لم يكن تمسّك الإنسان بعاطفته قويّة الاندفاع عنيفة النزعة مجرّد مبالغة مذمومة فقط، إنّما كانت دليل انهزام نفسِي يبحث له عن أي تصريف ولو في حلبة مصارعةٍ للقطط!
المشاعر كورقة رابحة
لم يتوقّف وعي الإنسان بذاته عند حدِّ إقصاء العقل؛ لعدم استقامته بشؤون حياته وحده, بل نمى وتضاعف ليستأثر بالعاطفة لا كوسيلة تخدير فقط, إنّما لاستغلالها كورقة رابحة وحجة مقنعة تمام الإقناع يحتجّ بها لما قد يعرض له من تقصير أمام مسؤولياته. وبات تقديس العاطفة على نحو مبتذلٍ يُضعف من شأنها وينزل بها إلى دركات الشعور، سبوبةً نرددها في كل محفل وكل موطن، وأداةَ تحرّر من ضغوط الحياة الأخرى. وقد وفّر هذا المساحةَ اللازمة لتسيّد الشعور بشتّى صوره والاستئثار بالعاطفة على اختلاف مسالكها، ووفّر أرضًا خصبةً لاختبار الفردانية الذاتية التي قوامها التركيز على شعور الإنسان وحده ورفعه إلى مراتب اهتمامات الحياة الأولى، بغض النظر عن المفردات الحياتية الأخرى. وصار تحسّسه عاليًا تجاه أدنى تهميش لشعوره أو تجاهل له، كطفلٍ مدلّل لا يكفُّ عن البكاء إذا لمسَ أحدهم ألعابه.
ديناميكية الحياة
تقول إيڤا إيلوز في كتابها “لماذا يجرح الحب”: “ويتطلّب المثال الثقافي الأعلى لتحقيق الذات أن تبقى خيارات الفرد مفتوحة إلى الأبد، وهذا يستلزم رصدًا غير مستقر جوهريًا للذات، يتطوّر وينمو بطريقة تعني -ضمنيًا- أن ذات الغد يجب بالضرورة أن تكون مختلفة عن ذات اليوم” (٤).
حول هذا المعنى أستطيع أن أتناول مصطلح: ديناميكية الحياة، تلك التي أفضت إليها حركةُ الحياة المتسارعة في الأزمنة المتأخرة، والتي تقتضي بدورها أن يبقى الإنسان دائمًا متحفزًا على أهبة الاستعداد لشيء لا يعلمه، لكنّه يبقى هكذا واقفًا على رؤوس قدميه مستثارًا مستنفَرًا، وكأنّه في ماراثون تجري خلفه عجلات الحياة لتدهسه.
وهذا المعنى وإن كان سليمًا في إحدى مضامينه إلا أنّه خلقَ صورةً مشوّهة بتأثيره السلبيّ على الإنسان، فدفعه إلى السعي خلف تطوير ذاته وإدراك قيمة حياته عن طريق اللهث المستمر خلف الحركة والتغيير والانتقال كما قالت إيڤا: “أنّ ذات الغد لا بدّ أن تكون مختلفة عن ذات اليوم”.
وإذا انسحب هذا على الشعور الداخلي وميادين الحسّ لدى الإنسان فإنّها ستكون كارثة، لأنّه لن يسعى خلف التغيير الواقعي ليواكب سير الحياة فقط، وإنما سيكون الاهتياج الشعوري غايةً يلهث خلفها، ولن يبقى هناك أي قيمة لاستقرار عاطفته وسكون مشاعره، هذا الذي ذُكر في عبارة شهيرة لإحدى محلات باريس: “لكي نشعر بالحياة نحتاج إلى تجارب عنيفة، إلى اجتياحٍ من مهيّجاتٍ جديدة” (٥).
ربما هذا من أقوى الدوافع التي تجعل شباب اليوم لا يقبلون بعلاقات هادئة تندرج تحت إطار العادية، وهو السبب خلف مشاعر الصدمة الكبيرة التي تعتري أحدهم إذا وجد أنّ شريكه لم يمنحه لذة تُبقي شعوره هائجًا ومتخمًا على الدوام، فالإعلاء من قيمة الشعور مع إخضاعه لديناميكية الحياة يخلق حالة دائمةً من النقمة على معان فطريّة كالسكن والاستقرار.
الاتزان الشعوري: مطلبٌ فعليٌ أم مجرد كذبة؟
قضيت فترة أتساءل: هل باستطاعتنا الموازنة بين كفتي الميزان؟ ألا تتضارب مؤشراتنا وتتطاوح بين تمجيد عقل وتقديس عاطفة؟ وهل يستطيع الإنسان أن يحافظ على رؤيته للحياة من منظورٍ نفسي متزن؟!
لست مثالية تمامًا لأقول بيقين: إننا نستطيع، كما لن أتشاءم لأدّعي أنّ الطريق إلى ذلك مسدود.
لكنّني أقول عن قناعة تامة: إنّ محاولاتنا لإصلاح الخلل كلّما استشرى كافية كخطوة أولية تعتدل بها شقوقنا المائلة.
وفي هذا يلخّص لكروا محاولات علاج المشكلة فيقول: الأمر يتعلّق بالوقت أولًا، فأول فعلٍ يجب القيام به لتغيير الحياة الشعورية هو إعطاء الوقت للذات، وإبطاء وتيرة الحياة. إنّنا نستفيد أكثر من الأشياء عندما نمهلها وقتًا للاستمتاع بها. التمهل يوسع الفضاء الضيق بين الماضي والمستقبل، ويعطي السُمك للحاضر، والإنسان الذي يتمهل يمكنه أن يستخلص العصارة الشعورية في نفس الزمان والمكان، وأن يتذوق من نكهة الحياة ويستفيد من المشاعر الناعمة للحاضر، ويكون أقل عرضة لخطر الإحساس بالإحباط في المساء (٦).
وقد أضيف إلى قول لكروا، أنّنا نحتاج إلى تخفيف حدة انبهارنا بالأشياء التي تتكشف لنا في الحياة، هذا الانبهار الذي انقلب على الإنسان حين اكتشف أن له عقلًا فبالغ فيه، وهو نفسه الذي عاد بسوء العاقبة عليه عندما تعرّف على جوانب شعوره للمرة الأولى. وأنّنا نستطيع أن نتحصّل على الاتّزان إذا وضعنا الأمور في مواضعها، فنجانب التهوين من شأنها والمبالغة فيها، ونتقصد في سبيل ذلك طريق الجادّة والاستقامة, وكما جاء في الأثر: أحبب حبيبك هونًا ما، عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونًا ما، عسى أن يكون حبيبك يومًا ما.
هذه هي كلمة السر: هونًا ما.
المراجع:
(١) من مقال: مقدمة في المذهب الرومانسي الغربي- بتصرف
(٢) عبادة المشاعر ص ٣١
(٣) عبادة المشاعر ص ٢٩
(٤) من مقال: لماذا يجرح الحب للأستاذ عبد الله الوهيبي
(٥) عبادة المشاعر ص ٨
(٦) عبادة المشاعر ص ١٤٥- ١٤٦