- محمد أحمد بارحمة
كنا نلعب كل أربعاء في الملعب الترابي الذي بجانب رابطة العالم الإسلامي
يخرج الواحد من ذاك الملعب برطل تراب قد سد الخيشوم.
يوما.. وفي نصف المعمعة دخل شاب أنيق وهادئ إلى الملعب؛ سلّم عليه البعض بوقار..
تم توزيعه مع أحد الفرق، ولكنه لم يكمل المباراة لإصابة في ركبته!
تعرفت يومها على الشيخ د.عبدالله الشنقيطي..
كانت هذه أول فرصة أراه فيها، ثم أصبح شيخنا في اللغة العربية.
التزمت وصديقاي (ح) و (ع) بدرس أسبوعي نحضره كل ثلاثاء بمنزل الشيخ واستمرينا على هذه العادة أربع سنوات.
وأول ما اخترنا (الآجروميّة) _نظم عبيد ربه.. وتوقعت أن نتمه في شهرين أو ثلاث!
واليوم الأول أعاد لي التوازن.. فقد انقضى ولم يتجاوز بنا الشيخ شطر بيت: (قال عبيد ربه محمد)
لماذا كلمة (قال) بصيغة الماضي، هل كتبها بعد النظم!
وما هي عادة الناظمين في كتابة المتون مع المقدمة؟
والتعريف بعبيد ربه..
ولأحدثكم عن سرّ الاستمرارية في اللقاء:
بكل شفافية (الشاي الأخضر) والمليء بالرغوة الذي يقدمه الشيخ _ونستحي أن نسأله عن كنهه_ واحداً من المثبّتات على إدمان الدرس!
ولم يحدث _إلا قريبا_ أن سألت؛ إذ جالست صديق شنقيطي معه عدّة الشاي،
وهم يحملونها أينما يمّموا!
فمرّة كنا نعمل في اللجنة الثقافية لإحدى الحملات بالحج ومعنا شيخ شنقيطي سمح وفضيل من أهل المدينة،
يقول لا أستطيع الفكاك عن هذا الشاي؛ كلما (برد) الوطيس؛ رأيناه أخرج العدّة؛ وأعدّ الشاي!
أعود لصديقي الذي بذلت عنده ماء الوجه لمعرفة سر الشاي..
فذكرته بالله والموت وخطورة كتم العلم ليعطينا خلطة شنقيط في الشاي الأخضر.
فالعدة يسمونها (الطابلة)، والشاي (أتاي) ويقومون بغسله مرات كثيرة، ومن يقدم لك غسيل الشاي _ويسمونه (التشليلة)_ فهو يقلل منك إذا لم يحترم انتظارك!
ويستغرق تجهيز الكاسة الواحدة وتقليبها في الكؤوس لتظهر (الرغوة) قدر قراءة ربع حزب من القرآن بتحقيق المخارج وإشباع الغنن؛ والطُّول ستاً بالمدود.
وعندهم أن لذّته _أي الشاي_ في ثلاث جيمات (ج): جمر / جماعة / جر_ أي حديث يجر حديث_
أما كيف نقوم بعمله؟ حتى الآن لا أعرف؛ غشّني صديقي بحفنة معلومات نظرية!
ولا بأس فهذه طريقة شنقيط، تحفظ المعلومات ثم يأتي الفهم والتطبيق..
وقد ألزمنا الشيخ عبدالله بحفظ نظم عبيد ربه..
ورغم الانقطاع عن علم النحو منذ أكثر من عشر سنين إلا أن الحفظ يُبقي فيك شيئا من قوة الوجه؛
على الأقل لو سألك أي أحد في تاكسي عن (أخوات إن).. تسرد العائلة الكريمة ودورها!
ونقل ابن جني كلاما_ يرفع فضيلة الحفظ وأنه يقوي على الفهم_ عن أحد الشيوخ:
[إذا لم تفهموا كلامي فاحفظوه، فإنكم إن حفظتموه فهمتموه]
وكانت رغبة شيخ العربية محمود محمد شاكر أن يكون المعتمد في المدارس متن الآجرومية، وهو ليس صعبا يقول:
[ثماني صفحات فيها النحو العربي كله]
ألن يكون هذا نافعاً أكثر لو حفظناه؟
وهذا الآجرّومي لا يعرف عنه إلا متنه، ولو أنه قضى عُمُرَه وعمرا آخر معه؛ يطوف على البيوت؛ يوزع كتابه؛
لمَا وصل لهذا الاشتهار والاهتمام..
ولكنها رياح الله تحمل ما وقَرَ فيه الإخلاص إلى بلاد المستحيل!
وقرأت بأنه رتَّب باب الأفعال: (ماضٍ، فمضارع، فأمر) بهذا الترتيب، لأنه اقتدى بترتيب القرآن في قول الله:
“إنما أمره إذا (أراد) شيئًا أن (يقول) له (كن) فيكون”
وهذا الجمال والذوق الآجرّومي غاية تعلم النحو؛ فلا تقفوا عند الباب!
وأجزم أن النحو سهل إذا تم تدريسه بغير أسلوب الأحاجي والألغاز؛ وهي طريقة يراد منها تهييب العربية ورفع قيمتها؛ ولكنها تؤدي إلى تهييب الناس من العربية!
وللأديب الشيخ الطنطاوي: موضوع بعنوان (آفة اللغة هذا النحو)
الشاهد فيه قوله:
[وسبب تعقيد النحو _فيما أحسب_ أن النحاة اتخذوا النحو وسيلة إلى الغنى وطريقا إلى المال… فعقّدوه هذا التعقيد وهوّلوا أمره، حتى يعجز الناس عن فهمه إلا بهم…]
وليس مطلوبا منا أن نستوعب كل شاردة في النحو..
فهؤلاء كبار النحاة:
[الكسائي مات ولا يعرف حد نعم وبئس…؛ والخليل لم يكن يحسن النداء؛ وسيبويه لم يدري حد التعجب]
فكر ومباحث/ص16
وحين أكتب عن النحو لا تظنوا أن محدثكم “مُدَرّك النحو”،
بل هذه القطعة تصلح أن يستخدمها معلم في اختباراته ويضع تحتها: (استخرج عشرة أخطاء نحوية)!
وما النحو إلا عتَبة لما بعده؛ فحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق؛ أو كما يقال: رائحة أبو علي ولاعدمه.
أذكر مرة أعطانا الشيخ واجب: إعراب أول عشر أبيات من معلقة امرؤ القيس!
ويكفي أن يقف الواحد عند الكلمة ولا يدري هي أصلاً اسم أم فعل أم حرف.
إلا أنها كانت بادئة علاقة عاطفية بيني وبين المعلقات العشر فحفظت معظمها، ثم نسيت هذا المعظم..
وتطاولت على كتابة الشعر وعرضت عليه أبياتا كتبتها؛ أذكر منها:
يا منية القلب هل ضاق الفضا فينا
أم قد تبلل قلب من نهوى بغسلينا
فأجاب: ما شاء الله تبارك الله دُسْتَ على عظام سيبويه في قبره!
فما تجرأت أن اكتب الشعر بعدها إلا خلسة..
ولما انتهينا من الآجرومية، ذهبت لشيخ شنقيطي آخر يسكن _حي العتيبية_ لدراسة الألفية، وكان حديث عهد بالبادية!
سألني مرّة هل في مكة حمير؟! ولكم الجواب.
ومرة استأذنته في التغيّب لأن لدي اختبارات نهائية في الثانوية، فعذرني؛ وسألني: ماذا تدرس في المدرسة؟
تدرس نحو؟ فقلت أشياء كثيرة: (نحو كيمياء وفيزياء رياضيات انجليزي)
فقال: كل هذا تدرسه؟ هذا ما يصلح!
(من ركب فَرَسَان شُق دبره)
وقيل:
إذْ في ترادف العلوم النهي جاء
إذ التوأمان استبقا لم يخرجا!
فقلت في نفسي: بالعمليات الجراحية يحدث أي شيء ياشيخ!
وسألني مستفسراً ماهي الكيمياء؟ فشرقت بريقي..
والشيخ منصف جداً: قال مرة تعقيبا على نظم (البيقونية) بشرح الشيخ ابن عثيمين: تفوق علينا السعوديون في الحديث والمصطلح وغلبناهم في اللغة!
وأحسبه قمة في التواضع والعبادة، أخذني مرة ماشيا من بيته بالزي الموريتاني إلى منزل يستأجره في الحجون قرب الحرم، وقال لي إذا لم تجدني في بيتي تجدني هنا إن شاء الله.
ولا زلت أذكر في مقدمة الألفية؛ تحفّظه على بيت ابن مالك:
(والله يقضي بهبات وافرة * لي وله في درجات الآخرة)
فقال: لو قال ابن مالك:
(والله يقضي بالرضا والرحمة * لي وله ولجميع الامة)
أو شيئا قريب من هذا؛ لكان أحسن؛ فالدعاء إذا عمّ نفع.
ونقل لي معنى كلمة (نحو) في بيتين:
(نحونا) (نحو) دارك يا حبيبي = الأولى بمعنى القصد والثانية الجهة.
وجدنا (نحو) ألف من رقيب = وهذه بمعنى المقدار.
وجدناهم جياعا (نحو) كلب = وهذه بمعنى مِثل ونظير.
تمنوا منك (نحوا) من شريب= وهذه بمعنى شيئا أو نصيبا.
ومرّة عاشرة: هذا الجمال والذائقة غاية تعلم النحو؛ فلا تقفوا عند الباب.