فكر وثقافة

حدائق المجاز

«قيل: شيئان لا نهاية لهما: البيان والجمال»

(ابن الأثير ت637هـ)

(1)

ما الشعر؟ هل هو «حدائق خيالية تعجّ بضفادع حقيقية»[1]؟ أو هو «اتحاد كلمتين لم يكن يتوقع المرء بأنه يمكن جمعهما أبداً»[2]؟

سرّ اللذّة في سماع الشعر وقراءته تبدأ من الحروف، يشبّه ابن سنان الخفاجي (ت466هـ) «الحلق والفمّ بالنايْ، لأن الصوت يخرج منه مستطيلًا ساذجًا، فإذا وضعت الأنامل على خروقه ووقعت المزاوجة بينها سمع لكل حرفٍ منها صوت لا يشبه صاحبه، فكذلك إذا قطع الصوت في الحلق والفم بالاعتماد على جهات مختلفة سمعت الأصوات المختلفة التي هي حروف»[3]، فإذا أضفت لهذا “النايْ” الطبيعي عزف الاستعارة، وموسيقى المجازات أمكنك تفهّم حالة التوهّج الانفعالي عند الإنصات لقصيدة فخمة. بل يرى البعض أن روعة الشعر –أو حقيقته- تتحدد بمدى قدرته على توليد هذه الأحاسيس المتدفّقة، تقول الشاعرة الأمريكية إيميلي ديكنسون (ت1886م) «إذا بدأت أقرأ وشعرت أن قمة رأسي قد انتزعت؛ فإنني حينئذٍ أدرك أن ما أقرأه شعر! أهناك -يا ترى- طريقة أخرى؟»[4]، ويفضّل رشيد الخوري (ت1404هـ) «ما عنّف الأسماع لا ما شنّفا» كما يقول، ويذهب ابن الأثير (ت637هـ) إلى أن «خير القول ما أسْكَر السامع حتى ينقله عن حالته»[5]. وهذا يصدق على أبي السائب المخزومي حين سمع مقطوعة عروة بن أذينة المشهورة التي أولها (إن التي زعمتْ فؤادكَ ملّها)، وهي أبيات في غاية الحسن، تكاد تسيل رقّة وعذوبة، فلما بلغ قوله:

منعت تحيّتها، فقلت لصاحبي:
“ما كان أكثرها لنا وأقلّها”!

فدنا، وقال: “لعلَّها معذورةٌ
في بعض رِقْبَتها”، فقلتُ:”لعلَّها”

طَرِبَ لذلك، وقال: «هذا والله الدائم الصبابة، الصادق العهد… إني لأرجو أن يغفر الله لصاحب هذه الأبيات لحسن الظنّ بها، وطلب العذر لها»؛ وعُرض عليه الطعام، فأبى أن يَأكل، وقال: «لا والله، ما كنت لأخلط بهذه الأبيات طعامًا حتى الليل!»[6].

وهذا “الطرب” ينتج عن قدرة القصيدة على كسر التشابه في التلقّي والإنتاج للمعرفة والإحساس، بابتكار روابط وعلاقات وإشارات وتراكيب وصور مختلفة وغريبة وخفية تستدعي أحاسيس ومعرفة جديدة، أو تذكّر بمعارف غائبة، وأحاسيس منسيّة؛ تمتلئ بها الذات، وتغتني بسببها العواطف، كتب الناقد المعروف ماثيو أرنولد (ت1888م) إن «قوة الشعر الكبرى تكمن في قدرته على تناول الأشياء بطريقة توقظ فينا إحساسًا كاملًا، جديدًا، أليفًا بها»[7]، وجاذبية الشعر تتجلّى في رغبة النفس بالتحرّر من إكراهات المكان والزمان، وضرورات الركون لظواهر الأشياء؛ فـ«تصرخ النفس عاليًا لتنفكّ من القيود التي تمنعها من التغيّر –كما يقول الفيلسوف الإنجليزي هوايتهد (ت1947م)-، وهذا الانفكاك هو لبّ الرضى الفني، فهو يضيف إلى الخصب الدائم في التحصيل الذاتي للنفس، ويحقق المتعة، كما ينظّم كيان الإنسان الداخلي»[8].

 (2)

إن «المجاز يتدفّق من أفواه المبدعين مثل الرشح الطبيعي للأحاسيس الحيّة»[9]؛ قيل لبعضهم: لم تصفرّ الشمس عند الغروب؟ قال: من حذر الفراق. هذه صورة شعرية، وإن خلت من الوزن والقافية، فجودة الاستعارة والتشبيه مما يستدل به على «مقدار قوة الطبع، ويُجعل عيارًا في الفرق بين الذهن المستعدّ للشعر وغير المستعد له» كما يشير عبدالقاهر الجرجاني (ت471هـ)[10]، والتشبيه والتمثيل والاستعارة -كما يقول أيضًا- «أصول كبيرة، كأن جلّ محاسن الكلام –إن لم نقل كلّها- متفرعة عنها وراجعة إليها»[11]، بل إنّ النصّ أو البيت من الشعر الذي يخلو من الأوصاف والاستعارة «فإنه –في الغالب- ليس بشعر»[12] كما يرى ابن خلدون (ت808هـ). وقد احتفى كثير من المعاصرين بالصورة الشعرية؛ حتى قال عزرا باوند (ت1972م) -في كلمة ذائعة- «من الأفضل أن تقدم صورة شعرية واحدة طوال الحياة من أن تنتج كتبًا عديدة»[13]، وتوخّوا المتعة الناجمة عن ابتكارها، يقول الشاعر الأمريكي روبرت فروست (ت1963م) «إن التوفيق في التقاط الصور اللفظية لا يقل متعةً عن التوفيق في ابتداعها»[14].

يحكي الفيزيائي الأمريكي المعروف روبرت أوبنهايمر (ت1967م) أن أستاذه بول ديراك(ت1984م)  –وهو فيزيائي انجليزي- قال له مرةً وسط ثلة من الطلاب: «لقد سمعت أنك تجمع بين نظم الشعر ودراسة الفيزياء»، فاعترف أوبنهايمر  بهذه الجريمة، فتنهّد ديراك، وقال: «إنني لا أستطيع أن أفهم المسألة؛ فالمرء في العلم يحاول أن يقول ما لم يقله أحد من قبل، وأن يعبّر عنه بأسلوبٍ يفهمه الجميع، أما في الشعر…»، ولم يتمّ عبارته، بل خرج من المكان مشيعًا بضجيج الطلاب بالضحك والهتاف. بالضبط! في الشعر “يحاول الشاعر يقول ما لم يقله أحد من قبلْ، وأن يعبّر عنه بأسلوبٍ يفهمه الجميع[15].

لقد مثلّ الابتكار الشعري أهمية بالغة ينال بها الشاعر مكانة مرموقة فوق عرش البلاغة ومنصة البيان، إلا أن ابتكار المعاني وابتداع الصور بالغ العسر والصعوبة، ولا يكاد يحصّله إلا الأفراد النوادر، ممن هبّت عليهم رياح الإبداع، كما يعبّر عن ذلك الشاعر بيرسي شيلي (ت1822م) بقوله: «يشبه العقل أثناء الإبداع جمرة يكاد بصيصها يخبو، غير أنها بتأثير شيء ما غير مرئي –ربما كانت ريحًا تهبّ من حين إلى آخر- تنبعث فيها الحياة فتتألق لبعض الوقت»[16]، ويتفاقم الأمر إذا علمنا حجم التناقص الذي يجتاح خزّان المعاني الذي ورده ألوف الشعر منذ جرت العربية على الألسنة إلى يوم الناس هذا، وقد سبق الأوائل إلى «إلى كل معنى بديع ولفظ فصيح»[17]، ومن أجل هذا الشحّ في المعنويات الشعرية، اعترف القاضي الجرجاني (ت392هـ) بأن «من تقدمنا قد استغرق المعاني وسبق إليها، وأتى على معظمها، وإنما يحصل على بقايا: إما أن تكون تُركت رغبةً عنها، واستهانة بها، أو لبعد مطلبها، واعتياص مرامها، وتعذر الوصول إليها، ومتى أجهد أحدنا نفسه، وأعمل فكره، وأتعب خاطره وذهنه في تحصيل معنىً يظنّه غريبًا مبتدعًا، ونظمِ بيتٍ يحسبه فردًا مخترعًا، ثم تصفّح عنه الدواوين لم يخطئه أن يجده بعينه، أو يجد له مثالًا يغضّ من حسنه»[18]، بل قيل «ليس لقائل أن يقول إن لأحد من المتأخرين معنىً مبتدعًا، فإن قول الشعر قديم منذ نطق باللغة العربية، وإنه لم يبق معنىً من المعاني إلا وقد طرق مرارًا»[19]، وخالف حازم القرطاجني (ت684هـ) هذا الرأي، وذهب إلى أن المتأخرين ربما أجادوا في الشعر؛ لتبدّل الأزمنة، وتجدّد صور وانكشاف أحوال لم يعهدها الأوائل، وعبارته: «قد يتأخر أهل زمان عن أهل زمان ثم يكونون أشعر منهم؛ لكون زمانهم يحوش عليهم من أقناص المعاني بسفوره لهم عن أشياء لم تكن في الزمان الأول»[20]، فخزّان المعاني يتدفق مع مرور الزمن بصور جديدة، وعلاقات مستحدثة، تنتظر شاعرًا يشرع لها دلوه، ويعبّ. إلا أن مذهب الجرجاني ينمّ عن خبرة راسخة في شعر العرب الأوائل والمولّدين، كما سيأتي بيانه.

ولا يزال الشعر الجيّد –كما كان دائمًا- نادر الوجود، لأن «الهجوم على عذارى المغاني المحميّة بحُجُب البواتر؛ أيسر من الهجوم على عذارى المعاني المحميّة بحُجُب الخواطر»، لا سيما «المعاني التي تستخرج من غير شاهد حال متصوّرة» بخلاف المعاني المشاهدة[21]، فلو حاول إنسان أن يصف حال حسناء باهرة الجمال كاملة الدلال، أكان من اليسير أن يقول كما قال المتنبي:

أتراها لكثرة العشّاق
تحسب الدمع خِلْقةً في المآقي؟

فيتسلّل إلى هذا المعنى من خلف خواطر معظم الناس، ويسوقه لك في صورة تساؤل، وليس في جملة ناجزة، لتدرك من وراء ستار الألفاظ شدة فتنة تلك الساحرة، حيث أوقعت رهطًا في فخ الغرام، وأغرقتهم في لجج الدموع والالآم، وليس ذلك بعجيب؛ فقد قال الفرزدق من قبل:

منع الحياة من الرّجال ونفعها
حَدَقٌ تقلّبها النّساء مراضُ!

ولو عمد نبيهٌ إلى وصف أحداق محموم أو مريض، فهل يتهيأ له أن يقول كما قال بشارة الخوري:

عيناه عالقتان في نفقٍ
كسراجِ كوخٍ نصفِ متّقدِ

فجعلها متأرجحة لا ثابتة، وغائرة وليست على طبيعتها، وهي أيضًا ضعيفة الضوء، بالكاد تبرق، وجمع كل ذلك في ألفاظ قليلة، قوية السبك، متراصة الأجزاء. لا، سيتعذر عليه ذلك. وهل كان من الممكن أن يخطر ببال ذكي أن يلتقط هذه الصورة الشعرية التي قالها رشيد الخوري واصفًا صاحبته:

وأغمضتِ للتذكار عينيك لذةً
وأصغيت إصغاء الضرير إلى لحن

وسرّح ذهنك –إن شئت- في تصوّر “إصغاء الضرير” فإنه لم يصغِ إلا لاستحسانه للحن، وأظنّك ستجيب أنه لن يخطر بباله.

وغالب الظن أنه لا يتيسر لعين بصير أن تلتقط صورة نادرة تجمع الألم والحبّ كما فعل رشيد الخوري أيضًا حين قال:

أبكي وأضحك للعذاب كمرضعٍ
شدّ الوليدُ بشعرها المسترسلِ

فإنك إذا قرأت هذا المعنى انقدح في نفسك صورته القريبة، وتعجبّت كيف صاغ الخوري هذا المعنى بهذه السلاسة.

وإن شئت فلترحل إلى صورة متقدمة، وترى الحكم بن قنبر قد ضاقت نفسه، واكفهرّ خاطره، فأنشد:

ولولا اعتصامي بالمنى كلما بدا لي
اليأس منها لم يقم بالهوى صبري

ولولا انتظاري كل يوم جدى غدٍ
لراح بنعشي الدافنون إلى قبري

وقد رابني وهْن المنى وانقباضها
وبسط جديد اليأس كفيه في صدري

فانظر البيت الثالث كيف وقع له؟ فالأمل ضعيف لا يقوى على المصافحة، أما اليأس فقد بسط كفيه على موضع الهمّ ومجتمع الغمّ، وهو مع ذلك مستحدث جديد فلا تقوى النفس على دفعه، كما تقوى على رفع اليأس المستوطن. وقد قرأتُ مؤخرًا نتائج دراسة حديثة (2020م) أجريت على عينة تضم بعض الناجين من الانتحار، حيث توصلت الدراسة إلى أن هناك ثلاثة أسباب رئيسية -ذكرها الناجون- كانت سببًا في نجاتهم من قتل أنفسهم، وهي: (1) العلاقات، ولا سيما الأسرة، وخصوصًا الأطفال. (2) المساهمة في المجتمع من خلال التغيير الإيجابي ومساعدة الآخرين. (3) الأمل بالمستقبل[22]. وهذا السبب الثالث هو ما دعاني للإشارة إلى هذه الدراسة، فقد أشار له الحكم بن قنبر في البيت الثاني من المقطوعة التي نقلتها آنفًا، وإن لم يقصد إزهاق النفس، إلا أنه عبّر عن هذا المعنى الذي تنطوي عليه كثير من النفوس، وتقاوم به ألوان المشاق والأحزان، وهو التعويل على الأمل بالمستقبل.

وانظر في هذه الصور المتلاحقة التي نظمها بعض الشعراء الشباب من معاصرينا، حيث يقول واصفًا حالة التردد: (الشوقُ يزرعهُ واليأسُ يحتطِبُ)، ويكتب مصوّرًا ألم الفراق وبشاعته: (سلَّت كفوفَ وداعِها من غِمْدِها) وتأمل كيف استخلص هذا المعنى، وطابق بين حركة الكفّ الملوّحة وصفحة السيف المنتضى، ليقول لك أن الموت كامن فيهما. ويقول أيضًا واصفًا حسن عبارة أنثاه: (تُنَورِسُ الأحرفَ الخرساءَ إنْ نطَقَتْ بها)، ويعبّر عن الفزع من هوْل الجمال، وتتابع كتائب الحُسْن، فـ(العينُ والكحلُ والأهدابُ…مُحاربٌ جاءَ تتلوهُ عِصابته).

وكتب الشعراء عن تغيّر الزمان، وتبّدل الأحوال؛ فأكثروا، وذهبوا في الشكوى من وهن الشيخوخة، ونفور الحسان من الشيب كل مذهب، وقد عرف عمر أبو ريشة (ت1410هـ) ذلك كلّه، فكتب:

وأتيتُ مرآتي، وعطري في يدي
فبصرتُ ما لا كنت فيها أبصرُ

فخفضتُ طرفي ذاهلًا متوجعًا
ونفرتُ منها عاتبًا أستنكرُ

خانتْ عهود مودتي فتغيّرت
ما كنتُ أحسب أنها تتغيرُ!

فترك كل ما هنالك، ودبّ إلى المعنى دبيبًا خافتًا كما ترى، فاخترع صورة أخّاذة.

ولو تدبّرت تلك الصور المنتشرة في دواوين العرب المعشبة لرأيت أن كثيرًا مما يروعك ويأخذ بجنانك منها ما كان من قبيل عرض الخواطر المعنوية في تكوينات مادية، وتصاوير حسيّة مجسّدة، استعارةً أو تشبيهًا أو تمثيلًا أو مجازًا مرسلًا، وقد ذكر العلامة عبدالقاهر الجرجاني علةً فلسفية حلوة لذلك: «العلم الأول أتى النفس أولًا من طريق الحواسّ والطباع، ثم من جهة النظر والروية، فهو إذن أمسّ بها رحمًا، وأقوى لديها ذممًا، وأقدم لها صحبة، وآكد عندها حرمة؛ وإذ نقلتها في الشيء بمثله عن المدرك بالعقل المحض، وبالفكرة في القلب، إلى ما يُدرك بالحواس، أو يُعلم بالطبْع، وعلى حد الضرورة، فأنت كمن يتوسّل إليها للغريب بالحميم، وللجديد الصحبة بالحبيب القديم»[23]، فنشوة الطرب الناشئ عن تأمل جماليات الصور الشعرية إنما انبعث في النفس لكون الشاعر قد «فتح إلى مكان المعقول من قلبك بابًا من العين»[24]، وهذه الانفعال يكون للناظر في التصاوير المنحوتة، والرسوم المجسّدة، وكذلك الأمر في الشعر، فـ«الاحتفال والصنعة في التصويرات التي تروق السامعين وتروعهم… تفعل فعلًا شبيهًا بما يقع في نفس الناظر إلى التصاوير التي يشكّلها الحذّاق بالتخطيط والنقش»[25]، وقد أشار الفيلسوف الألماني ليسنغ (ت1781م) إلى هذه العلاقة بين الرسم والشعر، وهو يرى أن المحاكاة[26] –كما عند أرسطو- جوهر فن الفنان، فالرسم فن يحاكي المكان، والشعر فن يحاكي الزمان[27].

(3)

لقد تباينت أنظار النظّار في مسالك التعليل لحسن الكلام الحسن، ومواطن الإجادة في الشعر العالي، فذهب القاضي الجرجاني (ت392هـ) إلى المقارنة بين صور المعاني وصور الأجسام، وقرّر أنك قد ترى الصورة بالغة الحسن، ثم ترى غيرها دونها إلا أنك تميل إلى هذه الثانية؛ «ثم لا تعلم –وإن قاسيت واعتبرت ونظرت وفكرت- لهذه المزية سببًا، ولما خصّت به مقتضيًا»[28]. ويرى الصفدي (ت764هـ) أن «لكلام الفصحاء في حالة التركيب خواصّ لا يمكن التعبير عن ذلك الحسن الموجود فيها»[29].

ويتابع الفقيه العلامة أبو الحسن سهل بن مالك (ت640هـ) مقارنة الجرجاني، فيذهب إلى تعذّر الإبانة عن خفايا الحسن في العبارات، وأن ذلك كما يقع في المعنويات يقع –أيضًا- في المحسوسات، ويسوق لذلك حكاية طريفة، يقول: «شهدتُ ذات مرة مناداةً على جارية، وقد بلغت مئتي دينار، فتواقف الناس فيها عن الزيادة، وظهر من الحاضرين فيها بعض زهادة، فدنا إليها سيدها فأسرّ إليه كلامًا، فمالتْ عنه متلفّعة برُدْنها، وازدادت بما فعلتْه حسنًا إلى حسنها، فأبدتْ من الحسن كلّ سرٍ لطيف، واتّقت بأحسن من يد المتجرّدة عند إسقاط النصيف، فَعَلَت بما فَعَلَت قيمتها وزادت، حتى تضاعفت أو كادت، ليس إلا لحسن ذلك الدلّ والإشارة، وذلك شيء -وإن أدركه الحسّ- فغير معربة عن كنهه العبارة»[30]. ولا يعجبني هذا المذهب، والرأي ما قاله العلامة عبدالقاهر في عبارة محكمة، وجملة شريفة: «لابد لكل كلام تستحسنه، ولفظ تستجيده؛ من أن يكون لاستحسانك ذلك جهة معلومة، وعلة معقولة، وأن يكون لنا إلى العبارة عن ذاك سبيل، وعلى صحة ما ادّعيناه من ذلك دليل»[31]، ووقوع نوع من الغموض والاعتياص الذي قد يتخلل طرفًا من علل المعاني يجب أن لا يصرف المتأمل عن تطلب ما سوى ذلك، وأن لا يعوّد نظره الكسل[32]، ودعوى إعواز العبارة عن مكامن الحسن -لاسيما في المعاني المتشابهة- لا تسلّم، وإنما ترجع -غالبًا- إلى القصور في الصناعة، والضعف في البيان، وربما أن تقصير النقّاد في تتبّع وتحليل هذه المضايق، والتعويل على الذوق والدربة الخاصّة؛ هو ما دعا العلامة ابن دقيق العيد (ت702هـ) رحمه الله ليقول: «علم المعاني والبيان إلى الآن بعدُ ما أنضجته الطبيعة»[33].

(4)

وقد كثُر في التراث النقدي العربي القديم الكلام والتصنيف عن السرقات الشعرية، وتفنن من صنّف في البلاغة والبديع في التبويب لها، والتنميق لأقسامها، سواء أكانت مسخًا أو نسخًا أو سلخًا، ولو محي هذا الباب من النقد لسقط شطر ما وصلنا في نقد المعاني من كتب التراث، أو كاد، وخَطَر لي أن فهم علة اعتناءهم بباب السرقات وما يتصل بها؛ سيوقف الناظر على فهمٍ أوفى، ويقوده إلى تبصّرٍ أتمّ؛ لبنية الشعر العربي العامة، وذلك أن الشعراء الأوائل –ممن وصل شعرهم كامرئ القيس أو ممن لم يصل- قد افترعوا المعاني، وابتكروا الصور والتشبيهات، وصاغوا القوالب، فاتّبع عامة الشعراء بعدهم طريقتهم، وهذا ما لحظه ابن شرف القيرواني (ت460هـ) حين قال عن امرئ القيس: «مؤسس الأساس، وبنيانه عليه الناس؛ كانوا يقولون: (أسيلة الخد)، حتى قال: (أسيلة مجرى الدمع)، وكانوا يقولون: (تامة القامة) و(طويلة القامة) و(جيداء) و(تامة العنق) وأشباه هذا؛ حتى قال: (بعيدة مهوى القرط). وكانوا يقولون في الفرس السابق: (يلحق الغزال والظليم) وشبهه، حتى قال: (قيد الأوابد)، ومثل هذا له كثير، ولم يكن قبله من فطن لهذه الإشارات والاستعارات غيره، فامتثلوه بعده، وكانت الأشعار قبلُ سواذج، فبقيت هذه جددًا وتلك نواهج؛ وكل شعر بعدما خلاها فغير رائق النسج، وإن كان النهج»[34]، وتدريجيًا ارتسمت خطوط عريضة، وتشكلّت نماذج واضحة، وتبلورت قوالب متماسكة، في مختلف المعاني وشتى الأغراض الشعرية، ولذا غالبًا ما يفتتح النقّاد الكلام عن السرقات بذكر المعاني المشتركة، والتي يقال أنه لا معنى للتهمة بالسرقة فيها، لشيوع استعمالها، ومن هذه المعاني استيقاف الصحب، وتشبيه الجواد بالبحر والشجاع بالأسد، والعاشق بالمخبول، والحسناء بالشمس والقمر، وتشبيهها بالغزال في جيدها وعينيها، والمهاة في حسنها، وتشبيه سواد الشعر بالليل، والخدود بالتفاح، والريق بالخمرة والعسل، والثُديّ بالرمان، والقدود بالغصون، والأرداف بالكثبان والدِّعص، بل ويلحقون بذلك ما هو أخصّ، فيضاف للمشترك العام ما اشتهر من المعاني الشعرية؛ كتشبيه الطلل الذاوي بالخطّ الدارس، وبالوشم في المعصم، ولوم النفس على بكاء الدار، واستبطاء الصبر، وكوصف البرق بقبس النار أو مصباح الراهب[35]، وغير ذلك. وسأعود لاحقًا لبيان سبب تشابه الاستعارات والتشبيهات بين الشعراء، ليس في شعر العرب، بل في شعر سائر الأمم.

وقد صرّحوا بأن الشاعر الأعرابي لا يعوّل إلا على قريحته، أما الشاعر «المتأخر [فهو] يطبع على قوالب، ويحذو على أمثلة، ويتعلّم الشعر تعلمًا، ويأخذه تلقنًا»[36] كما يعبّر الآمدي (ت370هـ) رحمه الله، ويوصي أبو الحسن ابن طباطبا (ت322هـ) من رام نظم الشعر أن يديم النظر في الأشعار العالية للمتقدمين، لترسخ أصولها في قلبه، وتثبت معانيها في نفسه، «فإذا جاش فكره بالشعر أدى إليه نتائج ما استفاده مما نظر فيه من تلك الأشعار»[37]، وبهذا ينشأ المتأخر مكرّسًا لنمط معين من المعاني، وشكل محدد من الأغراض.

ومن هنا يتبين لك أن باب السرقات يندرج ضمن هذا التشكيل العام لبنية القصيدة العربية القديمة، فدراسة كيفيات تعامل الشعراء مع المعاني التي قالها الشعراء من قبلهم تكشف عن جوهر إبداع الشاعر العربي، وتظهر اقتداره البياني، فهو يكتب القريض في هذا السياق المترابط من المعاني المتوارثة ومكمن العبقرية تتجلّى في تطويره لهذه المعاني، أو نقلها من باب إلى آخر، وقد يشارك في اختراع معانٍ لم يسبق إليها، وهي المعاني “العُقْم”، إلا أن هذا في غاية الندرة، وتفرّد الشاعر المتأخر حينها يكون بتفاعله مع التراث والنسق الشعري الذي ورثه، وطبيعة تصرّفه في المعاني المرسومة والتنويع عليها، وتجويد اللفظ وتحسين النظم، وإتقان المطلع والمقطع.

وتبعًا لهذا التصوّر؛ يرى الناقد الجزائري جمال الدين بن الشيخ (ت1426هـ) أنه «لا وجود لعزلة المبدع في الشعر العربي، بل -أكثر من ذلك- لا يمكن تصور فعل فردي ينبثق بمجهوده الخاص عن حالة شعرية معطاة، إن الشاعر يلتحق بمصيره، ولا يحدده لنفسه. وهو يفرض نفسه بقدر ما ينجز النمط المتولّد عن الشروط التي تملي الإبداع وتهيمن عليه. إنه الشخص الذي يستجيب لتوقّع، ويعبّر عن مثال بشكل أفضل، وتتقاطع تجربته الشعرية -بالضبط- مع تجربة الفئة الاجتماعية المحظوظة التي يكتب لها»[38]، فالجمهور المتلقّي للشعر القديم يتوقّع نوعًا معينًا من النظم والمعنى، بل يتوقّع القوافي أيضًا، وقد ذكر النقّاد من أنواع البديع ما يسمونه “الإرصاد” وبعضهم يسميه “التسهيم[39]“، وحقيقته «أن يبني الشاعر البيت من شعره على قافية قد أرصدها له، أي أعدّها في نفسه، فإذا أنشد صدر البيت عُرف ما يأتي به في قافيته»[40]، قال ابن الأثير: «وذلك من محمود الصنعة؛ فإن خير الكلام ما دلّ بعضه على بعض»[41]، وافتخر ابن نباتة بذلك:

خُذها إذا أنشدتْ في القوم من طربٍ
صدورُها عُلِمَتْ فيها قوافيها

ينسى لها الراكبُ العجلانُ حاجتَه
ويصبحُ الحاسدُ الغضبانُ يطريها

وهذا الاندماج شبه المطلق في “تجربة” الجماعة لا يعني إلغاء الفرد لصالح النسق والبنية -كما يعتقد بن الشيخ على الأقل-، ولا يوجب القول بأن الشعراء ليسوا سوى «وعي مجرد يقتصر على تسجيل ما بخارجهم، ولا يُختزل خيالهم الإبداعي إلى مجرد موضع لأواليات [=ميكانيزمات] عاكسة، إلا أن أمرًا بديهيًا يفرض نفسه، فالإبداع يبدو –مع بعض الاستثناءات القليلة جدًا- ساعيًا إلى تشغيل اللغة واستغلالها أقل مما يكون نزوعًا إلى امتلاك شيء»[42].

إذًا؛ لا يبتكر الشاعر العربي معانيه من تلقاء نفسه، بل هو «يجمع كلمات وصورًا حسب شبكات تحمل في ذاتها مبادئها التنظيمية، وهو لا يجعل الواقع يتجلَّى في اكتماله الأكبر، وفي تنوّع الرؤى التي يفرضها، بل يمتلك ترسانة لغوية –بالمعنى الواسع للكلمة- تسمح له بتناول أي موضوع، لا بالمعرفة المباشرة لهذا الموضوع، بل بمعرفة الألفاظ التي تدلّ عليه، فهو يمكن أن يحبّ دون أن يعرف الهوى، ويمكن أن يبكي دون أن يعاني الألم، ويمكن أن يسكر بدون خمرة»[43]، وهذا ما يفسّر سيادة النماذج والترسيمات –وإن شئت الكليشيهات- في تاريخ الأدب العربي، بل واستمرار القوالب ذات المنزع الصحراوي في التشبيهات والصور والأغراض لدى شعراء المدن والبيئات “البرجوازية”[44].

والخلاصة التي يقررها ابن الشيخ أن «كل اعتراف شخصي يظل ممنوعًا، وكل ذكر لمصير فردي لا يقبل إلا إذا كان قابلًا للتعميم… إن الشاعر يمكنه مثلًا أن يتغنّى بالحب دون أن يحبّ، ويكفيه للتعبير عن الرؤية الغنائية لعالمٍ ما نُبل لغته، وإيقاعه وجلال حليته المعجمية»[45]، لذا فمعظم محاولات الخروج عن النسق الشعري العربي لم تتلقى بالقبول، فقوة النسق تخضع كل محاولات التجديد لمنطقها، إما برفضه وذمّه لخروجه عن المعايير، وإما بإدماجه داخل التنظيم النسقي للنماذج الشعرية المعترف بها[46]. وهذا رأي فيه من تطرّف النظرية وحرفيّة التجريد ما فيه، كما يتضمن تقزيمًا لإمكانات الشاعر العربي، وإلغاءً مطلقًا لفرديته التي تناسب سياقه التاريخي الممتد، وإن كانت لا تنسجم –بالتأكيد- مع فردانية الحداثي، وتقليعاته الذاتية المفرطة.

وأجدني في هذا المقام أميل إلى رأي الناقد السوداني عبدالله الطيب (ت1424هـ) رحمه الله الذي يقرّ بأن «تشابه النماذج مما يخشى معه ضياع الصدق والحرارة اللذين يكونان في تجربة الشاعر الفردية»[47]، إلا أن هذا التشابه في النماذج يتولّد -جزئيًا على الأقل- من التشابه بين الناس في التجربة والشعور، وقبل ذلك من التماثل في الإنسانية والكينونة، وهذا التشابه هو «تشخيص مثل أعلى تضمحل معه أوجه الخلاف بين التجارب الفردية والشاعر، وهو فرد يعمد إلى أن تتّحد تجربته الخاصة مع المثل الأعلى النموذجي، فعلى مقدار صدقه وحرارته ومقدرته على البيان؛ تكون معاني الصدق والحرارة والإبانة في النموذج الذي يعرضه»[48].

وعبدالله الطيّب يذهب إلى أن تشابه النماذج والقوالب الشعرية في باب النسيب والغزل العربي خاصة كان قد لجأ إليه الشعراء للتخفّي عن أعين الرقباء، وقالة السوء، «فمتى تشابهوا في القول أمنوا أن يظنّوا بريبة فيه»[49]، وهذه الممارسة المضمرة أفضت بهم إلى تكريس القوالب من جهة، وإلى تجويدها من جهة أخرى، يقول الطيّب: «لما اتلأبّ بهم التشابه طلبًا للتقية جعلوه طريقة من طرائق الفن والتمسوا له التجويد والإحكام، ثم إن طلب التجويد والإحكام نفسه دفعهم دفعًا إلى التمسك بهذه الطريقة والحرص عليها»[50]، وتتفاوت مقدرة الشعراء في «الإيحاء بالتجارب الغرامية الفردية داخل النموذج النسيبي المتواضع عليه نفسه، أو داخل القصيدة التي يفتتح بها، أو يعنّ فيها»[51]، و«كلما دنت التعمية والإبهام -في شعر النسيب- من شكلية النموذج بالأمر المراد أن يوحي به أو يومأ؛ زادت بعدًا وكثف ظلّها، وكلما ابتعدت عن شكلية النموذج، أو قلْ رامت أن تبتعد؛ إما بتحوير فيه، أو إدخال معنىً جديد عليه، أو ما هو من هذا القبيل أيًا كان؛ فإنها تزداد قربًا منا، ويمتد ظلالها شعاع من الوضوح»[52].

ومع كون تحليلات الطيّب في هذا الموضوع تعتمد جزئيًا على الذوق والإحساس الذاتي إلا أني أجدها أكثر معقولية، وأقرب مأخذًا؛ لفهم التركيبة المعقدة لتشكّلات البنية الشعرية في القصيدة العربية القديمة، وتجاوز الارتكاز على الثنائيات البنيوية التقليدية بين الشاعر/المجتمع، والتجربة الذاتية/الجماعية.

ومما يلتحق بذلك ما يذكر عن شعر العميان كبشار والمعرّي؛ فإنك إذا استحضرت ما أوضحته في هذه الفقرة، بان لك أن شعر المكفوف الجيّد إنما وقع له لكونه «يعتمد “الكليشيهات” ويلِّينها»[53]، ويحسن النقل والتشكيل والتركيب على القوالب والنماذج الشعرية المتوارثة، فيذهب كثير من الانبهار بالصور “البصريّة” التي تجدها في شعر هؤلاء.

(5)

من أين تأتي الاستعارات؟ يسرد الكاتب والناقد الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس (ت1986م) حزمةً من أنماط الاستعارات كالعيون والنجوم، والنساء والأزهار، والحياة والحلم، والأنهار والزمن، والموت والنوم، والمعارك والحرائق، ويتسائل لماذا تتكرر الأنماط نفسها من الاستعارات في دواوين شعراء العالم؟، ويرى أن آلاف الاستعارات «يمكن أن تحال إلى عدد قليل من الأنماط الأساسية»[54]، إلا أنه يقابل هذه المحدودية الشديدة للأنماط ثراءً واتساعًا كبيرًا -يكاد يكون غير متناهٍ- في التنويعات الاستعارية الممكنة داخل هذه الأنماط[55].

يتأسس الجواب عن علة تشابه الاستعارات العالمية بالإقرار بأن «التصورات البشرية ليست انعكاسات لواقع خارجي، بل هي تتشكّل بواسطة أجسادنا وأدمغتنا، وخاصة بواسطة نسقنا الحسي الحركي»[56]، ومن ثمّ فإننا -كما يقول جورج لايكوف ومارك جونسون- «نكتسب نسقًا واسعًا من الاستعارات الأولية آليًا، وبصورة لاواعية، إذ نكتفي بالاشتغال بالطرق العادية التي نشتغل بها في عالمنا اليومي منذ سنواتنا الأولى، وبسبب الكيفية التي تتكوّن بها ترابطاتنا العصبية خلال مرحلة الدمج؛ نفكر كلنا –بصورة طبيعية- مستخدمين مئات من الاستعارات الأولية»[57]، ويورد لايكوف وزميله أمثلة لتوضيح ذلك، فانظر في هذه الاستعارات الأولية: الطفل يشعر بالعاطفة و”يحسّ” بالدفء، أو “الحرارة” في مجاله الحسيّ الحركي، فعندما يعامل بلطفٍ وحنوْ يتحصّل لديه هذا الإحساس وتتكوّن لديه هذه “الاستعارة”. (والتعبير هنا بالدفء لدى الإحساس بالمشاعر اللطيفة؛ تعبير أعجمي، ومبعثه طبيعة البيئة في بلاد المتكلم ونمط الجغرافيا «فالحرارة والدفء هو منبعث اللذة والنعمة في بلادهم الباردة، كما أن البرودة والخصَر[58] منبعث النعمة واللذة في بلاد العرب الحارّة، ومن ثمّ يقولون “عيش بارد”، و”برد الفؤاد والكبد” و”ثلج الفؤاد والصدر”»[59]، وهو معنى مدرك عند المتقدمين، فقد قال البغوي رحمه الله في معنى “قُرَّةَ أَعْيُنٍ”: «القرّة أَصْلُهَا مِنَ الْبَرْدِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَتَأَذَّى مِنَ الْحَرِّ وَتَسْتَرْوِحُ إِلَى الْبَرْدِ، وَتُذْكَرُ قُرَّةُ الْعَيْنِ عِنْدَ السُّرُورِ، وَسُخْنَةُ الْعَيْنِ عِنْدَ الْحُزْنِ»[60]).

ومن الأمثلة أيضًا على الاستعارات الأولية: تجربة الطفل وإحساسه بكبر الحجم وكونه دال على الأهمية، لأنه يرى الأشياء الكبيرة -ومنها والده- مهمة، وقوية، وتهيمن على مجاله البصري، وقسْ على ذلك سائر الاستعارات الأولية، مثل العلاقة بين السعادة والارتفاع، والحميمية والقرب، والصعوبة والثقل، والزمان والحركة، والتحكم والاعتلاء، والمعرفة والرؤية.

وإذا ثبت ذلك تكون الإجابة على سؤال: لماذا تظهر نفس الاستعارات في لغات مختلفة جدًا في العالم كله؟ «لأن هذه الاستعارات تنشأ من تجربة اشتغالنا في العالم، من تجربة التجسيد [أو الخبرة الجسدية] اليومية التي ترتبط بنا أشد الارتباط»[61]، ولأن البشر يملكون الأجساد نفسها، ويعايشون التجارب البدنية ذاتها؛ فلذلك تتوّلد في خواطرهم التشابهات الاستعارية.

(6)

عانى جون ستيوارت ملْ اكتئابًا طويلًا ومزاجًا مكفهرًا في أوائل العشرينات من حياته، وفي خريف 1828م شرع في قراءة الشعر، ووجد في ذلك سلوىً وبهجة كبيرة، وكتب في مذكراته عن هذه التجربة: «كان ما جعل قصائد ووردزورث دواءً شافيًا لحالتي العقلية هو تعبيرها –لا عن الجمال الخارجي وحده بل- عن حالة المشاعر، وعن التفكير الذي تلوّنه المشاعر في ظل ما يثيره الجمال في نفس الإنسان. بدا ذلك لي كأنه تثقيف الإحساس عينه، الثقافة التي كنت أنشدها. وفي تلك القصائد بدا لي أنني أستمد المسرّة من منبع في داخلي: متعة شعورية، ومتعة تأملية يستطيع كل كائن بشري أن يشارك فيها»[62].


[1] تنسب للشاعرة الأمريكي ماريان مور (ت1972م)، انظر: ج.هيليس ميلر، عن الأدب، ص41، ترجمة سمر طلبة، نشر المركز القومي للترجمة، ط1 2015م.

[2] تنسب للشاعر المكسيكي النوبلي وكتافيو باث (ت1998م)، انظر: الشعر بألسنة الشعراء، صحيفة الاتحاد، 12/8/2015م.

[3] ابن سنان، سر الفصاحة، ص18، تحقيق عبدالمتعال الصعيدي، نشر مطبعة محمد علي صبيح، ط1 1372هـ. لا تنفرنّ من التشبيه بالناي، فإن النبي e أجاب عند سؤاله عن كيفية مجيء الوحي بأنه مثل صلصلة الجرس، وقد نهي عن الجرس، وجاء في الحديث أن “الملائكة لا تصحب رفقة فيها جرس”، -واستشكل بعضهم ذلك كما قد تستشكل هنا- والجواب كما يقول السيوطي (ت911هـ) رحمه الله:«لَا يَلْزَمُ فِي التَّشْبِيهِ تَسَاوِي الْمُشَبَّهِ بِالْمُشَبَّهِ بِهِ فِي كُلِّ صِفَاتِهِ، بَلْ يَكْفِي اشْتِرَاكُهُمَا فِي صِفَةٍ مَا، وَالْمَقْصُودُ هُنَا بَيَانُ الْحِسِّ، فَذَكَرَ مَا أَلِفَ السَّامِعُونَ سَمَاعه تَقْرِيبًا لأفهامهم». انظر: سنن النسائي بشرح السيوطي وحاشية السندي، ج1 ص485، نشر دار المعرفة.

[4] ورد في: الزابيث درو، الشعر كيف نفهمه ونتذوقه، ص104، ترجمة محمد الشوش، نشر مكتبة منيمنه-بيروت، ط1 1961م.

[5] ابن الأثير، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، ج1 ص286، تحقيق أحمد الحوفي وبدوي طبانة، نشر دار الرفاعي، ط2 1403هـ.

[6] الحصري القيرواني، زهر الآداب وثمر الآداب، ج1 ص206، تحقيق صلاح الدين الهواري، نشر المكتبة العصرية، ط1 1426هـ.

[7] ورد في: الزابيث درو، مصدر سابق، ص41.

[8] المصدر السابق، ص37. ويقول الشاعر الإنجليزي الفريد هاوسمان (ت1936م): «إن مهمة الشعر تنسيق أحزان العالم!».

[9] سيسل دي لويس، الصورة الشعرية، ص29، ترجمة أحمد نصيف وزملاؤه، منشورات وزارة الثقافة والإعلام بالعراق، ط1 1982م.

[10] عبدالقاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، ص191، تحقيق محمود شاكر، نشر دار المدني، طبعة1 1412هـ.

[11]عبدالقاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، ص27.

[12] ابن خلدون، العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، ج1 ص225، تحقيق إبراهيم شبوح، نشر القيروان للنشر ط1 2007م.

[13] ورد في: سيسل دي لويس، مصدر سابق، ص29.

[14]ورد في: الزابيث درو، مصدر سابق، ص38.

[15] انظر: أرشيبالد مكليش، الشعر والتجربة، ص47-48، ترجمة سلمى الخضراء الجيوسي، نشر دار اليقظة العربية، ط1 1963م.

[16] بيرسي شيلي، دفاع عن الشعر، ص97-98، ضمن: وليام هازلت، مهمة الناقد، ترجمة نظمي خليل، نشر الدار القومية للطباعة والنشر. وقد نقلت العبارة نفسها من ترجمة أوضح: ج.هيليس ميلر، عن الأدب، ص115.

[17] ابن طباطبا، عيار الشعر، ص11، تحقيق عباس عبدالساتر، نشر دار الكتب العلمية، ط2 1426هـ.

[18] القاضي الجرجاني، الوساطة بين المتنبي وخصومة، ص214-215، تحقيق محمد أبوالفضل إبراهيم وعلي البجاوي، نشر مطبعة عيسى البابي الحلبي.

[19] وقد أورد ابن الأثير هذا القول وردّه في: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، ج2 ص24، تحقيق أحمد الحوفي وبدوي طبانة، نشر دار الرفاعي، ط2 1403هـ. وانظر: الحسن بن وكيع، المنصف للسارق والمسروق منه، ج1 ص6، تحقيق محمد يوسف نجم، نشر دار صادر، ط1 1412هـ.

[20] حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص378، تحقيق محمد الحبيب ابن الخوجة، نشر دار الكتب الشرقية.

[21] ابن الأثير، مصدر سابق، ج2 ص24.

[22] Wendy L. Patrick, 3 Reasons for Living Cited by Suicide Survivors, Aug 2020,

وهو متاح على موقع (psychologytoday).

[23]عبدالقاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، ص27.

[24]المصدر السابق، ص129.

[25] المصدر السابق، ص342.

[26] واجه التصور القديم عن الشعر الذي يرى أنه محاكاة أو تقليد للطبيعة، بغرض التثقيف والإعجاب؛ دحضًا واسعًا في العصور الحديثة، أولًا: بتحويل فكرة المحاكاة من حيث علاقة بين العمل الفني والعالم الخارجي، إلى تكريس المحاكاة في “الخلق” نفسه، وقد أفضى ذلك إلى مظاهر تقديس الفن، وتمجيد “الخلق” الإنساني، وتعظيم المبدع باعتباره “خالقًا” لعالم صغير. وثانيًا: بنقل غرض الشعر وجوهره من المحاكاة والتثقيف؛ ليكون هدف الشعر إنتاج الجمال. ثم تطورت هذه التحولات في مسيرة التاريخ النقدي للجماليات الحديثة، ليصعد مفهوم تأمل الجمال، ويتراجع منظور المبدع أو “الخالق”[26]، يشرح الناقد تزفيتان تودروف (ت2017م) تداعيات هذا الانقلاب المعاصر: «كانت البحوث حول الفن تتناول التصنيع والإرشادات الموجهة للشاعر وللرسام وللموسيقي. ثم غدونا من الآن فصاعدًا نتعلق بوصف صيرورة المنظور، ونحلل حكم الذوق، ونثمن القيمة الجمالية… حتى منتصف القرن التاسع عشر كان تعليم الآداب في فرنسا إنتاجًا للبلاغة “كنا نتعلّم كيف نكتب”، [ثم أصبح التعليم عبارة عن] تبنّي منظور للتاريخ الأدبي “صرنا نتعلم كيف نقرأ”». تزفيتان تودروف، الأدب في خطر، ص29، ترجمة منذر عياشي، نشر دار نينوى، ط1 2011م. ولاحظ مفردة “الخلق” التي يستشكلها بعضهم وهو تعبير متداول عند وصف الإنتاج الفني بأنواعه، وهو استشكال صحيح، فقد سَرَت نفحة مارقة في الفكر الغربي الوسيط -فما بعده- تمنح الإنسان صفة الخلق، تضاهى بذلك الفعل الإلهي، وتجعله “إله آخر”، أو “إله فانٍ”. انظر: تزفيتان تودروف، مصدر سابق، ص25.

[27] تزفيتان تودروف، مصدر سابق، ص33.

[28] القاضي الجرجاني، الوساطة بين المتنبي وخصومة، ص312. وهذا المعنى شائع عند شيوخ البلاغة المتأخرين انظر: الآمدي، الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري، ج1 ص411، 414، تحقيق السيد أحمد صقر، نشر دار المعارف، ط6 2017م. و: ابن الأثير، مصدر سابق، ج1 ص425. و: ابن رشيق، العمدة في صناعة الشعر ونقده، ج1 ص191، تحقيق النبوي شعلان، نشر مكتبة الخانجي، ط1 1420هــ.

[29] الصفدي، نصرة الثائر على المثل السائر، ص55، تحقيق محمد سلطاني، نشر مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق. وفي عبارته ركاكة كما ترى.

[30] وردت في: حازم القرطاجني، مصدر سابق، ص372-373. والحقيقة أن الحكاية –على لطفها- تؤكد خلاف ما ذهب إليه، فقد أبان للقارئ عن مشهد الفعل وعلته وأثره وما فيه من الدلال والتغنج، وكل ذلك بواسطة العبارات التي يقول أنها غير معربة.

[31] عبدالقاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص41، تحقيق محمود شاكر، نشر دار المدني، طبعة3 1413هـ

[32] انظر: عبدالقاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص292، ونقل عن الجاحظ عبارة فاضلة للحثّ على النظر في العلم، وترك التواكل على أنظار المتقدمين، وتهم الاكتفاء بذلك، يقول أبو عثمان رحمه الله: «لو أنَّ علماءَ كلِّ عصرٍ ترَكُوا الاستنباطَ لِمَا لَمْ يَنتهِ إِليهم عَمَّن قَبْلَهم، لرأيتَ العِلم مُختلاًّ. واعلمْ أنَّ العلمَ إِنما هو معدِنٌ، فكما أنه لا يمنعك أن ترى ألوف وِقْرِ قد أُخرجَتْ من معدنِ تبْرٍ، أنْ تطلُبَ فيه، وأن تأخُذَ ما تَجد ولو كَقَدْرِ تُومةٍ، كذلكَ، ينبغي أن يكون رأيْكَ في طلبِ العلمِ»، ولم يجد محمود شاكر هذا النص في كتب الجاحظ المطبوعة.

[33] الصفدي، مصدر سابق، ص86-87.

[34] ابن شرف، رسائل الانتقاد، ص243-244، ضمن: محمد كرد علي، رسائل البلغاء، نشر دار الكتب العربية الكبرى، ط1 1331هـ.

[35] الجرجاني، الوساطة، ص184-185. وقارن بـ: كتاب التشبيهات لابن أبي عون، و: كتاب التشبيهات من أشعار أهل الأندلس، لمحمد بن الكتاني.

[36] الآمدي، مصدر سابق، ج1 ص259.

[37] ابن طباطبا، مصدر سابق، ص16.

[38] جمال الدين بن الشيخ، الشعرية العربية، ص293، ترجمة مبارك حنون وزملاؤه، نشر دار توبقال ط2 2008م.

[39] انظر: ابن أبي الأصبع، تحرير التحبير، ص263 وما بعدها، تحقيق حنفي شرف، نشر المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة.

[40] ابن الأثير، مصدر سابق، ج3 ص245. وانظر: الآمدي، مصدر سابق، ج1 ص299، و: السبكي، عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح، ج2 ص235-236، تحقيق عبدالحميد هنداوي، نشر المكتبة العصرية، ط1 1423هـ.

[41] المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

[42] جمال الدين بن الشيخ، مصدر سابق، ص294. بتصرف.

[43] جمال الدين بن الشيخ، مصدر سابق، ص294. بتصرف واختصار.

[44] انظر: المصدر السابق، ص295.

[45] المصدر السابق، ص296. بتصرف.

[46] انظر: المصدر السابق، ص295.

[47] عبدالله الطيب، المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها، ج3 ص289، نشر وزارة الإعلام بالكويت ودار الآثار الإسلامية، ط2 1409هـ.

[48] المصدر السابق، والصفحة نفسها.

[49] المصدر السابق، ج3 ص288.

[50] المصدر السابق، والصفحة نفسها.

[51] المصدر السابق، ج3 ص303.

[52] المصدر السابق، ج3 ص319. بتصرف. وانظر: المصدر نفسه، ج3 ص329.

[53] المصدر السابق، ج3 ص534.

[54]خورخي بورخيس، صنعة الشعر، ص59، ترجمة صالح علماني، نشر دار المدى، ط2 2014م.

[55] المصدر السابق، ص51.

[56]جورج لايكوف ومارك جونسون، الفلسفة في الجسد-الذهن المتجسد وتحديه في الفكر الغربي، ص61، ترجمة عبدالمجيد جحفة، نشر دار الكتاب الجديد، ط1 2016م.

[57] المصدر السابق، ص91.

[58] أي: البرودة أيضًا، والخصر البارد من كل شيء، كما في اللسان.

[59] عبدالقادر المغربي، تعريب الأساليب، ص339، مجلة مجمع اللغة العربية الملكي، ج1، نشر المطبعة الأميرية ببولاق، ط1 1353هـ. وقد دلّني على هذا الموضع أستاذنا فضيلة الدكتور عبدالرحمن بن قايد سلمه الله. وقد ذكر العلامة المغربي –رحمه الله – من الأمثلة على الأساليب الأعجمية المحضة قولهم “قُبلة حارّة”، والوصف بالحرارة في التعبير الأجنبي يراد به فعل القُبلة على جهة التمكّن، وما يخالطها من الرغبة والاشتهاء، وما يصاحب ذلك من “حرارة النفس والجوف” كما يقول الشيخ نفسه، ومن ثمّ فلا يكون هذا التعبير من قبيل الأعجمي المحض.

[60] البغوي، معالم التنزيل، ج6 ص99، تحقيق محمد النمر وآخرين، نشر دار طيبة، ط1 1411هـ.

[61]جورج لايكوف ومارك جونسون، مصدر سابق، ص219.

[62] جون ستيورات مل، سيرة ذاتية، ص117، ترجمة الحارث النبهان، نشر دار التنوير، ط1 2015م.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى