- مروة الشعراوي
ما إن يفصح كتاب “أشقاء الزورق الواحد” عن مضمونه حتى يتلبسك التساؤل طوال عملية التجول في شخصيات هذا الكتاب: ما الشيء المميز في السير الذاتية ليعيش المؤلف متنقلًا بينها متقنًا فلسفتها إلى هذه الدرجة؟
لقد كان سؤالي محاولة جادة في الحفاظ على هويتي من الانصهار مع هذه الشخصيات التي تتدفق في الكتاب، كأني أريد أن أقول: أنا شخص يحب الروايات حباً جماً لكنه معكم هنا، ولا بأس في ذلك أبداً ما دمت أتغذى على القصص. أمضي بينهم ومعي سؤالي الذي يشير إلى وجودي.
أهو الفضول؟ أم الحاجة للتشبع بحيوات عديدة في عمر زمني قصير؟ أم تقصي الحكمة من الحياة؟ أم البحث عن شيء مفقود يمكن إيجاده في التزاحم مع الآخرين؟ أم إعادة البناء الذاتي من حطام الحيوات السابقة للبشر؟
هذه الحيلة التي أستخدمها وأنا أقرأ الكتب هي نتيجة أعراض الانسحاب من الروايات، لذلك أعلمت نفسي عندما استدرجتني الصفحات إلى عالمها بأن هذا الكتاب مليء بالحكايات والقصص، تبدأ قصته عندما ينسحب المؤلف من ذاته ويتداخل مع ذوات أخرى ليخرج منها كنوزه المعرفية الخاصة ومنهجه في تطهير الحياة الآثمة الصاخبة المثيرة للضجر.
تتطلب قراءة الكتب نهماً معرفياً وأما كتب السير الذاتية فتتطلب شجاعة وقوة لأن يدخل المرء أنفاق الكتّاب وسراديبهم المظلمة وهو يحمل كشافه الخاص باكتشاف المعنى، كالجراح الذي يحمل ثقة المريض على عاتقه وهو يقطع أنسجته بمشرط دقيق ليستخرج الألم من باطنه، فيكون الطبيب بهذه الحركة الزمنية التي أحدثها على جسد مريضه قد شكّل لديه عالمين منفصلين: التوحد مع الألم ثم الانفصال عنه. وهذه هي مهنة القارئ الحقيقي داخل صفحات هذا الكتاب.
أكثر ما كان يدهشني هو أن الكاتب يجمع معه الدرر التي التقطها من دروبه ورحلاته داخل الأنفاق، وحينما يكتب في انسيابية يضع كل مقولة في مكانها الملائم مع الفكرة التي يحيط بها النص. أما أنا، فدائماً ما أجد مشقة في محاولة التوفيق بين أفكاري والمقولات التي أحفظها، ولا أستطيع المزج بين ذاتي والآخرين لأخلق حركة جديدة تتضمن مفهوماً أعقد وفكرة أنضج من ذاتية كلٍّ منّا.
تعدى الكتاب مضمونه وتفوق عليه من حيث أنه تخطى حدود السير الذاتية التي ارتحل إليها مؤلفه ثم عاد ليتحدث عنها، فكما يقول رائد العيد: “أنا قارئ أغرته الكتب للتحاور معها”. وكان هذا الحديث مكاناً جلياً لإظهار طلاقة أدبية وقدرة جديرة بالثناء على التحليل والتحلل وهو ما تحدث عنه قائلاً: “أن تفهم النثر معناه أن تُمسك بالأفكار الداعية لكتابته، أما أن تفهم قصيدة فينبغي أن يجتاحك الإلهام المنبعث منها”. وما أن يتصل القارئ بالعمل المقروء ويرى الضوء المنبعث من هذه النقطة حتى تتلبسه البلاغة وتتجلى منه مقامات الأدب. في هذا الكتاب ظللتني العديد من العبارات الشافية التي تُحدث في السماء ضوءاً وفي النفس اندهاشاً، فكانت للبلاغة القصصية والفكر والأدب والتحليل تداخلات قوية أسهمت في إمتاعي وأنا أرتحل على إثر خطواته نحو هذه السير.
ثم أجد إجابة لسؤالي الذي يأتي ويذهب بين الصفحات حينما لا يجد مني التفاتة ولا انتباه ثم يخبرني وسط الطريق أنه ربما كانت محاولة شجاعة أن يقرأ المرء في سير المدافعين على مرمى هذه الحياة بأن يخلد أقوالهم وتجاربهم وينظمها في ذاكرته وفي نسيج الزمن.
إن التشرب من بحار انزلقت فيها أقدام الأسبقين هو إعادة تذوق للمرارة التي أحيطوا بها وخرجوا منها ليكتبوا عنها، وتاريخ الحياة الإنسانية حافل بمشاهد مروعة وعذبة، معقدة ويسيرة، وأن يسبق الإنسان أحداثه الخاصة بالدخول في أحداث الآخرين الكبرى لهو مغامرة في ربوع المستقبل، مليئة بالاكتشافات- تلك التي قام بتصنيفها في أبواب خاصة، ما إن تطرقها أيها القارئ وتدخل إلى عالمها سيقدر لك أنك مررت على عشرات السير خرجت منها مشتت البال، تقضي زمنك اللاحق من بعد الانتهاء من الكتاب تلملم أجزاءك وعناصرك من الوجود، ترتدي ثوب ذاتك متعجباً من تلك الرحلة.
قبل قراءة “أشقاء الزورق الواحد” كنت أقرأ في رواية تتناول سلالات الأنوثة من الجدة الكبرى إلى آخر سلالة من حفيداتها وتتناول قضاياهم عبر الزمن، ورغم اختلاف الزمن الذي ولدت فيه كل واحدة عن الأخرى إلا أن الألم الذي خاضته أولاهن مازال متجذراً في السلالة حتى الأخيرة، حتى لو لم تكن تدركه وتقبض عليه في وعيها، وهذا الكتاب يؤكد ما وصفه كارل يونغ من أن البشرية جميعها كيان واحد؛ فكل ما يعاني منه إنسان ما نجد له مثيلاً في ذاكرتنا الحسية دون أن نعرف ما هو ولا أن نقدر على وصفه. وأن إخفاقاتنا المتتالية في الحياة هي سجل تاريخي كتب علينا أن نخوضه كما الآخرين أو كما قال رائد العيد: “الفشل ليس طريقًا للنجاح، بل نجاح في الحصول على قصة”.