مجيب الرحمن حامد
ملخص: مسألة تقييم عمل المرأة كانت ولا تزال من القضايا المركزية التي تشعل بال المهتمين بالحقوق العامة -وحقوق النساء على وجه الخصوص- من المشتغلين بالتنمية والفكر السياسي والحقوق، إجمالاً يبرز لنا اتجاهان بخصوص هذه القضية، الأول ينادي بتمثيل أكبر للنساء في سوق العمل، فيما يرى الآخر أن عمل المرأة الذي ظلت تقوم به منذ الأزل يوفر لها الكرامة والعدالة لو قيَّم بصورة أمثل. في الأسطر القادمة، سنستعرض –بإيجاز- آراء ثلاثة من المهتمين بالقضية، ذوي خلفيات وتوجهات فكرية متباينة.
من القضايا التي عادة ما تشغل بال المهتمين بالحقوق العامة،وحقوق المرأة على وجه الخصوص، ما اصطلح على تسميته “مسألة تقييم العمل” أو “مشكلة تقييم عمل النساء”، خلاصة تلك القضية أنَّ ربات البيوت عادة ما يتم إغفال أو تبخيس جهودهن المنصبة في أمور العناية بالمنزل والأسرة، ولا ينلن التقدير والمقابل المادي والمعنوي كما الرجل. لذا تُطرح مقاربات لمعالجة تلك المسألة بصورة مكثفة، البعض ينادي بتحرير المرأة وفتح أبواب سوق العمل مشرعة أمامها، والبعض الآخر -بطبيعة الحال- يقف موازيًا لتلكم الأطروحات ومقومًا لمساراتها.
المفكر الإسلامي والفيلسوف ورئيس جمهورية البوسنة والهرسك السابق علي عزت بيجوفيتش، كان قد أشار لمسألة تقييم العمل في ثنايا كتابه (هروبي إلى الحرية)، بيجوفيتش كان قد أرجع خطاب التيَّار الذي يطالب بضرورة إخراج المرأة من البيت وادخالها في عوالم المال والأعمال إلى عدم الإلمام بالقيمة الحقيقية التي تقدمها المرأة من خلال العمل المنزلي، حيث يقول: “إنه يقوم على عدم معرفة كل تلك القيم الاقتصادية التي تحققها النساء في البيت، بالولادة، وتربية الأطفال، والمحافظة على الأمور البيتية” (1)، ما يحدث أنه يتم أولاً قصر تعريف العمل المنتج على أنه العمل الذي يجلب أرباحاً قابلة للتقييم المادي، ومن ثَمَّ يتم إهدار عمل المنزل بكل صوره وأشكاله الأخرى، ومن ثَمَّ يُنادى بتحرير النساء من قيود الأُسَر، وإدخالهن ضمن منظومة الإنتاج المادي. المفارقة تكمن في أنه عندما قيس عمل المرأة المنزلي وفق اختبارات اقتصادية تجريبية، وجد أنه يعادل ثلث الإنتاج العالمي!(2)، بيجوفيتش رأى أن أحد الحلول لهذه المعضلة يمكن أن تساهم فيه تعاليم الدين الإسلامي؛ وذلك بتوظيف أداة (إعادة التعريف)؛ أي بأنْ يتم إعادة تعريف العمل ابتداءً، بحيث تدخل فيه أعمال ربَّات البيوت دخولاً أولياً، قال بيجوفيتش: “الثقافة الإسلامية يجب حرفها باتجاه آخر، وبداية ذلك بالاعتراف بعمل الأم وربَّة البيت“(3). عليه، يُستفاد من النقل عن بيجوفيتش أن التقسيم الثنائي بوجوب عمل المرأة في الخارج أو وجوب منعها في الخارج، تقسيم غير حاصر ومختل؛ من جهة إمكان القول بآراء أخرى لا تنتمي لهذين الاتجاهين.
في كتابه (قضية المرأة بين التحرير والتمركز حول الأنثى)، يبدأ المفكر عبدالوهاب المسيري بالإشارة إلى خطيئة كبرى تقع عادةً عند تناول القضايا الفكرية في العالم العربي، والتي تتمثل في عدم الانتباه أن ما يستورد من الغرب من قضايا وأطروحات يعكس ابتداءً المنظور والتحيزات الغربية، ومن الخطأ عدم طرح أسئلة تنبع من رؤيتنا وتجربتنا التاريخية والإنسانية في المنطقة.
تناول المسيري المسألة على مستويين؛ مستوى عُني بمساءلة الحداثة كبنية استندت عليها غالب الفلسفات والتيارات الحديثة في أوربا والعالم، والمستوى الآخر، خطاب تيارات التمركز حول الأنثى، ودعواهم حول عمل النساء. فيرى المسيري بأنَّ الحركات التحررية ذات المنشأ الغربي مثل الفيمينيزم Feminism هي امتداد لتيار الحداثة والتنوير المصبوغ بمبدأ الصراع السرمدي، لأنَّها “تؤكد فكرة الصراع بشكل متطرف، فكل شيء إنْ هو إلا تعبير عن موازين القوى وثمرة الصراع المستمر، وأنَّ الإنسان هو مجرد كائن طبيعي يمكن رده إلى الطبيعة/المادة“(4)، وتدعو تلك الحركات لأسبقية الفرد على المجتمع والتسوية بين الإنسان والطبيعة، كما ترفض فكرة الإنسان الاجتماعي، وتنادي إلى قيام إنسان باعتباره “وحدة مستقلة كمية، غير اجتماعية وغير حضارية، لا علاقة لها بأسرة أو مجتمع أو دولة أو مرجعية تاريخية أو أخلاقية؛ هو مجموعة من الحاجات المادية البسيطة المجردة التي تحددها الاحتكارات وشركات الإعلانات والأزياء وصناعات اللذة والإباحية” (5). على ضوء هذا الإطار العام، قام المسيري بتحليل ظاهرة “الفيمينيزم” أو “حركة التمركز حول الأنثى” كما يصفها هو(6).
بزيادة معدلات الترشيد المادي للمجتمع ونزعات التسليع المصاحبة للحداثة الغربية، هيمنت القيم المادية مثل الاهتمام بكفاءة المرأة في العمل الخارجي والإنتاجية، وأُهمل دورها الأمومي وقيمته الأخلاقية والاجتماعية، تلك المادية بلغت ذروتها -حسب المسيري- حين تسللت إلى تعريف العمل ذاته!؛ حيث أصبح العمل الإنساني هو العمل الذي يقوم به المرء نظير أجر نقدي محسوب خاضع لقوانين العرض والطلب، مستبعداً الأمومة وتنشئة الأطفال وبقية الأعمال المنزلية(7)، وهذا المفهوم المغلوط تشربته حتى ربات البيوت، لدرجة أنَّ إحداهن إنْ سئلتْ عن نوعية عملها لقالت: (لا أفعل شيئاً، فأنا أمكث في المنزل)!
في سبيل صياغة حلول لتلك المسألة، رأى المسيري بأنّ أحد البدائل يكون بنبذ النموذج المستورد الذي ينظر للمرأة ككائن مادي لا يرتبط بأسرة أو مجتمع، وأن نتحدث عن حقوق الأسرة ابتداءً، ثم عن حقوق الأفراد الذين ينتمون إليها؛ بعبارة أخرى أنْ نبحث عن تحقيق ذات المرأة في إطار الأسرة (8). وكما بيجوفيتش، يقترح المسيري أيضاً إعادة تعريف العمل؛ بأن يُعاد تعريف العمل بدلاً عن رفع الصوت بحق المرأة في العمل الخارجي؛ وذلك بطرح مفهوم “العمل الإنساني” أي المنتج إنسانياً بما يجعل الأمومة في هرم تلك الأعمال. يقترح المسيري أيضاً تعليم الرجل خبرات الأُبوة والعيش داخل الأسرة ورعاية أفرادها، كي يتناسب إيقاعه مع إيقاع المرأة، بدلاً عن تسليعها هي الأخرى في عالم السوق والاستهلاك (9).
في ورقة له بعنوان (عمل المرأة والمنزل الإفريقي ضمن قضايا الجندر والتنمية) ناقش د. قصي همرور الباحث والمتخصص في قضايا التنمية والحوكمة مسألة تقسيم العمل في خواتيم كتابه (السلطة الخامسة، من أين تأتي التكنولوجيا؟)، ينتقد الكاتب مسلك اختزال مفهوم عمل المرأة بوجوب مشاركتها في سوق العمل، ويرى ضرورة إعادة تقييم حجم مشاركتها التاريخية في الإنتاج. تقوم المرأة الإفريقية في محيط منزلها بمجهود جبار لا يمكن أنْ يقل أهمية بأي صورة من الصور عن عملها خارجه في ظل مناهج وأدوات تقييم نزيهة، ذاك العمل يشمل فيما يشمل:
الحضانة: رعاية الأطفال وتنشئتهم وحمايتهم وتعليمههم مهارات البقاء الأولية، والمهارات الثقافية والتلقينات حول جواز وعدم جواز بعض السلوكيات في الإطار المجتمعي.
التمريض: فنيات الرعاية العامة بكافة أفراد المنزل من توفير للمناخ النموذجي ورعاية المرضى والعاجزين وبعض خبرات الطب الشعبي.
الصيانة: تشمل عموم أنشطة التدبير المنزلي وفنيات النظافة العامة وإدارة احتياجات المنزل وتفاصيل اقتصاده، بجانب توفير المياه من مصادرها البعيدة وجلب الحطب والغزل والحياكة والصناعات اليدوية وفنيات الترتيب والزينة.
الإنتاج الغذائي: يشمل الطبخ والإدارة الغذائية العامة والعمل الزراعي وتربية الدواجن.
الولادة/إعادة الإنتاج البيولوجي: تتمثل في عمليات الحمل والولادة والرضاعة.(10)
يؤسس قصي فرضيته على أنَّ أحد أهم أسباب ضعف تقييم العمل الذي تلعبه المرأة الإفريقية في مجتمعها يعود لضعف تقييم ما تقوم به من أعمال منزلية، والذي بدوره يرجع لسببين ينتميان لوجهتين، الوجهة الأولى هي “الوجهة الثقافية”؛ وتتمظهر في مفهوم “دونية الأنثى”؛ أي اعتبار كل ما يرتبط بالأنثى محل للضعف وقلة الإبداع والضعة، وبهذا يرتبط المنزل وأنشطته بمزايا الأنوثة ومنها الضعف والخضوع والكسل، لذا يتعفف عنه الذكور ويُرى ذا أهمية ضئيلة مقارنة بالعمل الخارجي. الوجهة الثانية هي “الوجهة الاقتصادية” المتمثلة في “قصور النظام الاقتصادي الرأسمالي النقدي العالمي المعاصر” كمعيار مستعمل لتقييم مستحقات العمل الإنتاجي الإنساني، وذلك أنَّ هذا النظام الاقتصادي يعتمد على القيمة التبادلية للمنتجات وليس بالضرورة قيمتها الاقتصادية؛ بمعنى أنَّ المنتج لا يصبح ذا قيمة إلا في حالة استبداله بسعر مقدر بعملة نقدية، إذ في نظام السوق لكل شيء سعر تُقدَّر قيمته بالنقود (11)، ولأنَّ العمل المنزلي عمل تكافلي حيث لا بيع ولا شراء بالنقد، تذهب قيمته هباءً بلا تقييم حقيقي.
ولهذا يتوجه النقد إلى الخطاب المنادي بوجوب إخراج المرأة إلى سوق العمل، وتحقيق المساواة العددية في ذلك السوق؛ لأنه يكرس للحفاظ على مفهوم دونية الأنثى بتشجيع المرأة لأنْ ترى وفق شروط الرجل، وأيضاً لأنَّه يُصِرُ على عدم الالتفات للقيمة الإنتاجية لعمل المرأة المنزلي. البدائل الجيَّدة من وجهة نظر همرور، يمكن أنْ تكون في الجمعيات التعاونية الاقتصادية التي تُدار بواسطة النساء لأجل النساء؛ بحيث يتحصلن على عوائد اقتصادية مجزية ملائمة لأواضعهن، أو في التقانة الملائمة التي تسهل الأعمال المنزلية وتقلل الأضرار الصحية، ثمَّ في العمل المدني المجتمعي الذي يرفع من وعي النساء ويزيد من معدل التنمية البشرية النسوي العام.
عموماً، يتضح من العرض السابق أنَّ مسألة تقييم العمل حظيت وما تزال باهتمام كبير، الآراء التي استُعْرِضت آنفاً، اتفقت على أنَّ مطالبة المرأة بالمزيد من العمل الخارجي، والدخول في معترك العمل العام أسوة بالرجال، مع إغفال أو تبخيس قيمة عملها المنزلي من السوء بمكان، ورغم تعدد بدائل وأطروحات جبر الأضرار، حظي مقترح إعادة طرح أدوات تقييم أكثر عدلاً وفاعلية بقبول واسع.
اقرأ ايضاً: عمل المرأة: لماذا أصبح ضرورة؟
1 علي عزت بيجوفيتش، هروبي إلى الحرية، طبعة دار الفكر، ص ۱۲٦
2 المصدر السابق، ص ۱۳٦
3 المصدر السابق، ص ۱۲٦
4 عبدالوهاب المسيري، قضية المرأة بين التحرير والتمركز حول الأنثى، ص ۹
5 المصدر السابق، ص ۱۱
6 المسيري يفرق بين حركات تحرير المرأة وبين حركات التمركز حول الأنثى “الفيمينيزم”، وبالرغم من أن جركات التحرر تعترف بدور المرأة كأم وعضو في مجتمع إنساني، إلا أن خطاب تلك الحركات فيما يتعلق بالمطالبات الإقتصادية للمرأة لا يخلو من شذوذ يحتاج مراجعة وتقويماً.
7 المصدر السابق، ص ۱۸
8 المصدر السابق، ص ۳۸
9 المصدر السابق، ص ۳۹
10 قصي همرور شيخ الدين، السلطة الخامسة – من أين تأتي التكنولوجيا، أوراق للنشر والتوزيع، ص ۲۱۸
11 الاقتصاد، بول آ. سامويلسون و ويليام د. نوردهاوس. ترجمة هشام عبدالله. الطبعة الثانية. عمان: الدار الأهلية للنشر والتوزيع 2006. ص 50.