عبد الله الفهد
من السمات البارزة المعروفة للقصيدة العربية في طورها الجاهلي هو انقسامها في الأعم الغالب إلى ثلاثة فصول: مقدمة يحكي فيها الشاعر خلجات نفسه ويمهّد فيها إلى غرضه بالرمز والتلميح، ثم فصل يذكر فيه الشاعر رحلته ويصف فيها مركوبه أو ما يقاسيه من المشاق والأهوال أو يصف ما يشاهد من مشاهد الصحراء، ثم فصل يشرع فيه الشاعر في معالجة غرضه المقصود، وكلّ الفصول الثلاثة مرتبطة أيما ارتباط ومتسقةٌ كل الاتساق مع الغرض.
والمقدّمة -وهي شأننا في هذه المقالة- تكون في الغالب نسيبيّةً كما في المعلقات العشر اللهم إلّا ما كان من عمرو بن كلثوم في معلقته، وهذه المقدمة النسيبيّة في الأغلب تكون على ضربين، فهي إمّا طلليّة أو ظعنيّة. وقد تكون طلليةً ظعنية.
فأمّا المقدمة الطلليّة فالشاعر يذكر فيها الرسم والدور والأطلال والنؤي ومخلّفات الأحباب، وهي من مثل قول امرئ القيس:
قِفا نَبكِ مِن ذِكرى حَبيبٍ وَمَنزِلِ
بِسِقطِ اللِوى بَينَ الدَخولِ فَحَومَلِ
فَتوضِحَ فَالمِقراةِ لَم يَعفُ رَسمُه
لِما نَسَجَتها مِن جَنوبٍ وَشَمأَلِ
تَرى بَعَرَ الآرامِ في عَرَصاتِه
وَقيعانِها كَأَنَّهُ حَبُّ فُلفُلِ
وموطن الشاهد هو قوله “ترى بعر الآرام…” إذ أنّ المنازل بعد أن ارتحل أهلها عنها سكنتها الوحوش.
وامرؤ القيس عند الرواة والنقّاد هو أوّل من وقف واستوقف لبكاء الطلل، على أنّه يُروى له من شعره قوله :
عوجا عَلى الطَلَلِ المَحيلِ لِأَنَنا
نَبكي الدِيارَ كَما بَكى اِبنُ خِذامِ
لكنّ ابن خذام هذا مجهول وقد رويت في اسمه كلّ أوجه الإعجام والرسم فقيل حذام وخزام وحزام إلخ إلخ. وللنقّاد في توجيه هذا البيت أوجهٌ كثيرة أكثرها متكلّف.
ومن المطالع الطلليّة قول النابغة:
يا دارَ مَيَّةَ بِالعَلياءِ فَالسَنَدِ
أَقوَت وَطالَ عَلَيها سالِفُ الأَبَدِ
وَقَفتُ فيها أُصَيلاناً أُسائِلُها
عَيَّت جَواباً وَما بِالرَبعِ مِن أَحَدِ
إِلّا الأَوارِيَّ لَأياً ما أُبَيِّنُها
وَالنُؤيَ كَالحَوضِ بِالمَظلومَةِ الجَلَدِ
والأواريّ: جمع آري وهو حبلٌ يُدفن في الأرض تُشدّ فيه الدواب.
وكما كان العرب يقفون عن الأطلال ليبكوها فقد كانوا يمرّون عليها ليحيّوها، فمن ذلك قول عنترة:
هَل غادَرَ الشُعَراءُ مِن مُتَرَدَّمِ
أَم هَل عَرَفتَ الدارَ بَعدَ تَوَهُّمِ
يا دارَ عَبلَةَ بِالجَواءِ تَكَلَّمي
وَعَمي صَباحاً دارَ عَبلَةَ وَاِسلَمي
فَوَقَفتُ فيها ناقَتي وَكَأَنَّها
فَدَنٌ لِأَقضِيَ حاجَةَ المُتَلَوِّمِ
وَتَحُلُّ عَبلَةُ بِالجَواءِ وَأَهلُنا
بِالحَزنِ فَالصَمّانِ فَالمُتَثَلَّمِ
حُيِّيتَ مِن طَلَلٍ تَقادَمَ عَهدُهُ
أَقوى وَأَقفَرَ بَعدَ أُمِّ الهَيثَمِ
ومطلع امرئ القيس:
أَلا عِم صَباحاً أَيُّها الطَلَلُ البالي
وَهَل يَعِمَن مَن كانَ في العُصُرِ الخالي
وَهَل يَعِمَن إِلّا سَعيدٌ مُخَلَّدٌ
قَليلُ الهُمومِ ما يَبيتُ بِأَوجالِ
وَهَل يَعِمَن مَن كانَ أَحدَثُ عَهدِهِ
ثَلاثينَ شَهراً في ثَلاثَةِ أَحوالِ
وامرؤ القيس هنا يحيي الطلل ويسأله.
وأمّا الضرب الثاني من المقدمات فهي المقدمة الظعنيّة وفيها يصف الشاعر مشهد ارتحال الحيّ والظعائن ويذكر ما يكون من نفسه حال ارتحالهم، ومن ذلك مطلع امرئ القيس:
سَما لَكَ شَوقٌ بَعدَما كانَ أَقصَرا
وَحَلَّت سُلَيمى بَطنَ قَوِّ فَعَرعَرا
كِنانِيَّةٌ بانَت وَفي الصَدرِ وُدُّها
مُجاوِرَةٌ غَسّانَ وَالحَيُّ يَعمُرا
بِعَينَيَّ ظَعنُ الحَيِّ لَمّا تَحَمَّلوا
لَدى جانِبِ الأَفلاجِ مِن جَنبِ تَيمَرى
فَشَبَّهتَهُم في الآلِ لَمّا تَكَمَّشوا
حَدائِقَ دومِ أَو سَفيناً مُقَيَّرا
يقول “بعيني ظعن الحي” فهو يراهم راحلين أمام عينيه، فشبههم وهم يختفون في السراب بحدائق الدوم أو بالسفين المطلي بالزفت، وكانت تُطلى إذا قصدت إلى السفر البعيد، وهذا ما يُناسب روح الاغتراب التي صبغت القصيدة بأكملها.
ومن ذلك أيضًا مطلع قافيّته:
أَلا اِنعِم صَباحاً أَيُّها الرَبعُ وَاِنطِقِ
وَحَدِّث حَديثَ الرَكبِ إِن شِئتَ وَاِصدُقِ
وَحَدِّث بِأَن زالَت بِلَيلٍ حُمولُهُم
كَنَخلٍ مِنَ الأَعراضِ غَيرِ مُنَبِّقِ
جَعَلنَ حَوايا وَاِقتَعَدنَ قَعائِدًا
وَخَفَّفنَ مِن حَوكِ العِراقِ المُنَمَّقِ
وَفَوقَ الحَوايا غِزلَةٌ وَجَآذِرٌ
تَضَمَّخنَ مِن مِسكٍ ذَكِيٍّ وَزَنبَقِ
فَأَتبَعتُهُم طَرفي وَقَد حالَ دونَهُم
غَوارِبُ رَملٍ ذي أَلاءٍ وَشَبرَقِ
عَلى إِثرِ حَيٍّ عامِدينَ لِنِيَّةٍ
فَحَلّوا العَقيقَ أَو ثَنِيَّةَ مُطرِقِ
والشاهد قوله: فأتبعتهم طرفي.
وهذا من المطالع التي امتزجت فيها المقدمة الطللية بالظعنيّة لأنّ الشاعر كما يريك انتقال الظعائن فهو أيضًا ينتقل بك عبر الزمان، فيصوّر لك الطلل أوّل الأمر وهو خالٍ ثمّ يجلب لك صورة الحي وهو يرتحل، ولله درّ امرئ القيس من مصوّر ومن مخرج. ومطلع معلقته أيضًا من المطالع التي امتزجت فيها الصورتان، ومن هذا القري أيضًا مطلع معلقة زهير بن أبي سُلمى:
أَمِن أُمِّ أَوفى دِمنَةٌ لَم تَكَلَّمِ
بِحَومانَةِ الدُرّاجِ فَالمُتَثَلَّمِ
وَدارٌ لَها بِالرَقمَتَينِ كَأَنَّها
مَراجِعُ وَشمٍ في نَواشِرِ مِعصَمِ
بِها العَينُ وَالأَرآمُ يَمشينَ خِلفَةً
وَأَطلاؤُها يَنهَضنَ مِن كُلِّ مَجثِمِ
وَقَفتُ بِها مِن بَعدِ عِشرينَ حِجَّةً
فَلَأياً عَرَفتُ الدارَ بَعدَ التَوَهُّمِ
أَثافِيَّ سُفعاً في مُعَرَّسِ مِرجَلٍ
وَنُؤياً كَجِذمِ الحَوضِ لَم يَتَثَلَّمِ
فَلَمّا عَرَفتُ الدارَ قُلتُ لِرَبعِها
أَلا عِم صَباحاً أَيُّها الرَبعُ وَاِسلَمِ
تَبَصَّر خَليلي هَل تَرى مِن ظَعائِنٍ
تَحَمَّلنَ بِالعَلياءِ مِن فَوقِ جُرثُمِ
عَلَونَ بِأَنماطٍ عِتاقٍ وَكِلَّةٍ
وِرادٍ حَواشيها مُشاكِهَةِ الدَمِ
وَفيهِنَّ مَلهىً لِلصَديقِ وَمَنظَرٌ
أَنيقٌ لِعَينِ الناظِرِ المُتَوَسِّمِ
فزهير بعد أن وصف بواقي الطلل وما في الحي من العين والآرام وما كان منه أوّل الأمر من الجهد في معرفتها. وقف بعد ذلك وحيّاها ثمّ ابتدأ في وصف الظعائن. وقوله “تبصّر خليلي” فيه أصداءٌ من قول امرئ القيس المتقدم “فشبّهتهم في الآل”
*****
وقد أصبحت هذه المقدّمات تقليدًا شعريًّا احتذاه الشعراء في غالب قصائدهم. ثم أتى الإسلام والحال على ماهي عليه، ومن ذلك لاميّة كعب بن زهير رضي الله عنه التي أنشدها أمام رسول الله ﷺ واستمرّ على ذلك الشعراء الإسلاميّون والمولّدون.
حتّى أتى أبو نواس الحسن بن هانئ وثار على هذا التقليد ثورة حانقٍ وقيل أنّه أولّ من ثار على المقدمة الطللية وإن كانت له مطالع كثيرة حذا فيها حذو العرب. ومن المطالع التي ثار بها أبو نواس:
عاجَ الشَقِيُّ عَلى رسمٍ يُسائِلُه
وَعُجتُ أَسأَلُ عَن خَمّارَةِ البَلَدِ
وقد مرّ بك سؤال النابغة وامرئ القيس الطلل.
لا يُرقِئُ اللَهُ عَينَي مَن بَكى حَجَراً
وَلا شَفى وَجدَ مَن يَصبو إِلى وَتَدِ
قالوا ذَكَرتَ دِيارَ الحَيِّ مِن أَسَدٍ
لا دَرَّ دَرُّكَ قُل لي مَن بَنو أَسَدِ
وَمَن تَميمٌ وَمَن قَيسٌ وَإِخوَتُهُم
لَيسَ الأَعاريبُ عِندَ اللَهِ مِن أَحَدِ
وفي هذا المطلع ثورة على العرب لا على الأعراب أو التقليد الشعري فحسب، تأمل البيت الاخير.
ومن المطالع قوله:
دَعِ الأَطلالَ تَسفيها الجَنوبُ
وَتُبلي عَهدَ جِدَّتِها الخُطوبُ
وَخَلِّ لِراكِبِ الوَجناءِ أَرضاً
تَخُبُّ بِها النَجيبَةُ وَالنَجيبُ
بِلادٌ نَبتُها عُشَرٌ وَطَلحٌ
وَأَكثَرُ صَيدِها ضَبعٌ وَذيبُ
وَلا تَأخُذ عَنِ الأَعرابِ لَهواً
وَلا عَيشاً فَعَيشُهُم جَديبُ
وفيها يقول:
فَأَينَ البَدوُ مِن إيوانِ كِسرى
وَأَينَ مِنَ المَيادينِ الزُروبُ
وكانت أمّه فارسيّة وكان قد ولد في الأهواز من أرض فارس.
ومن المطالع التي لا يخفي فيها حنقه على العربي:
أَيا باكِيَ الأَطلالِ غَيَّرَها البِلى
بَكَيتَ بِعَينٍ لا يَجِفُّ لَها غَربُ
أَتَنعَتُ داراً قَد عَفَت وَتَغَيَّرَت
فَإِنّي لِما سالَمتَ مِن نَعتِها حَربُ
ومطالعه الثائرة كثيرةٌ بعد، وليست هذه الثورة على ذكر الطلل ثورة تصحّ أن تسلك في ثورات التجديد من حيثُ الباعث وإن صحّ أن تُسلك من حيث النتيجة والمآل، فأبو نواس لم ينعَ على أهل الطلول هذا النعي طلبًا للتجديد والتغيير وإنما أوتي من جهة شعوبيّته وبغضه العرب ومن جهة ضعف نسبه بين العرب إذ كان من المولدين ومن أمٍّ فارسية، ثمّ إنه كان ماجنًا متهتكًا يقدّس الخمر فكأنّ ثورته -إذا جاز لنا القول- ثورة مخمور صار إلى حالٍ لم يطلبها:
أَعرِض عَنِ الرَبعِ إِن مَرَرتَ بِهِ
وَاِشرَب مِنَ الخَمرِ أَنتَ أَصفاها
ويقول:
عَدِّ عَن رَسمٍ وَعَن كُثُبِ
وَالهُ عَنهُ بِابنَةِ العِنَبِ
وابنة العنب هي الخمر.
وإنّي إذ أقول أنّه لم يقصد التجديد فإنّي أقوله على سبيل الترجيح، ولم يكن أبو نواس من الساذجين فقد كان عالمًا بالشعر بصيرًا بمضايقه. ولكن الطبع غلّاب والبغي يُعمي.
*****
وقد كان ممن ثار على هذا التقليد من شعراء العصر الشعبيين أبو فوّاز علي بن حمري وهي ثورةٌ متأخرةٌ كما ترى عزيزي القارئ، وذلك في كلمته -وهي كلمة جيّدة في مجملها-:
لنا ماضي وحاضر ما نبكي على الأطلال
ما يبكي على الأطلال يا كود محرومين
لهم ماضي(ن) حلوى وحاضر(ن) بطّال
وذولا عرب موتى ولو عادهم حيين
كود: أداة استثناء في العاميّة الخليجيّة، ولا أدرى ماذا كان يقصد بالشطر الأخير فإنّ من بكوا على الأطلال لا يزالون أحياءً بيننا وإن كانوا قد ماتوا!
والحقيقة أنّ هذا أمرٌ غريبٌ منه، إذ أنّه في ذات القصيدة كان يتباكى على إرث الأجداد ويتبرّم من تبدّل الأحوال كما في قوله:
تقل العوايد يوم تتقلب الأحوال
وسلوم الرجال الأوله تتعب التالين
ولو نذكر اللي راح يا ويل حالي وال
بعد روحوا شيباننا الزحّل الوافين
يقصد «يا ويل حالي ويل» لكن القافية اضطرته.
ولم تكن هذه الثورة ثورة تجديدٍ ولا تقليد -ولا أدري هل يصحّ أن تُسمى ثورةً أم لا، ولا أحسبها كذلك- وأنا لا أشكُّ لحظةً في أنّ ابن حمري لم يُؤت من شعوبيّة فهو عربيٌّ أصيل شديد الاعتداد بنسبه وبقبيلته قحطان وهو مع ذاك أحسبه من الشعراء المحافظين، ولكن ربما أوتي من قبل المبالغة في تطلّب الحكمة ونشوة الاعتداد الكامنة في طبعه، وربما حرارة الإنشاء فقد كانت قصيدته صادقة الشعور فيها حرارة وتحرّق.