محمد مباركي
﴿إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه، وبعد:
إن مما أستشعره أن هناك واجب علمي أدبي، والتزام أخلاقي نحو تراثنا العلمي والفكري على بعض طلبة العلم والمثقفين الذين يُعنون به، وبكل ماله صلة به بوجهٍ من الوجوه، وهذا الواجب هو:
البحث في النتاج والمخزون العلمي والفكري المتقدم والمتأخر والمعاصر، وإعمال كل أدوات التنقيب والاستكشاف الذي يمتلكها المعتني بذلك، بعد تطوير هذه الأدوات ومراجعتها وتحديثها، مستصحبًا في هذه العملية تساؤلات أو موضوعات حسب اهتمامه وتخصصه، وأخص بالذكر من له اشتغال بالمذاهب والأفكار المعاصرة والذي يقصد تقديم أجوبة على ما يصدّرونه من دعاوى وشبهات أو حتى تساؤلات.
ومن خلال ماينتج عن هذه العملية من مناهج ومعلومات وأفكار، يتم بعد ذلك استثمارها والبناء عليها وفقًا للمستجدات المعاصرة في الفضاء العلمي والفكري.
ومن هذه الأدوات تقديم قراءات فاحصة إما:
– لطريقة (منهج) تناول العلماء قديمًا وحديثًا للرد على أبرز الشبهات والدعاوى.
– أو بإبراز كتاباتهم بعد أن يقوم المعتني باستخراج المفاصل الجوهرية منها، ووضعها تحت عناوين تحمل موضوعات ذات صلة بالقضايا العلمية والفكرية المعاصرة ويكون ذلك جوابًا لمعارضةٍ وتساؤلٍ أو مقدمةٍ لجواب يُبنى عليها.
ثم يتم تصنيفها من جهة البناء أو الرد، أو من جهة مستوى الكتابة ومايناسب المتلقي والمستهدف.
ولعل من أسباب كتابة ذلك -والأسباب كثيرة- ما أجده في نفسي ومن بعض طلاب العلم والمثقفين من رغبة ملحة في معرفة المعاني والحِكم وبيان الحق فيما يُبث من معارضات وشبهات حول بعض الأحكام، وتعدت هذه الرغبة إلى الدخول والولوج في الرد، مع ضعف الاطلاع على طريقة العلماء في الرد أو ضعف الاطلاع على أجوبتهم، فنتج من السلبيات والتناقضات أضعاف الإيجابيات.
ومن الحلول لرفع المستوى العلمي والفكري -للمهتمين بذلك خاصة وممن لديهم استعداد- ماذكرته أعلاه من وجوب البحث مع تطوير أدوات التنقيب والاستكشاف والعرض والبيان، ومن هذه الأدوات:
تقديم قراءات كنماذج في كيفية التفاعل والتناول والاستثمار لما قدّمه العلماء والمفكرون من أجوبة على اعتراضات المخالفين.
وأقدم في سبيل ذلك قراءة كنموذج تطبيقي، وهي محاولة متواضعة تبين بعض مقصودي مما سبق، عنوانها: (قراءة في تفسير الأمين لآية ﴿إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإِسۡرَاء الآية 9]، قراءة تستوعب الأجوبة المقدمة على دعاوى ومعارضات معاصرة).
﴿إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَهۡدِي لِلَّتِي هِيَ أَقۡوَمُ﴾
هذه الآية العظيمة تطرق لتفسيرها العلامة الأصولي المفسر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله تعالى-، وقدّم من خلالها وفي هديها أجوبة على دعاوى وتساؤلات كانت ومازالت محل جدل وإثارة من المخالف، يقول -رحمه الله- :
(ولكنَّنا إن شاء الله تعالى سنذكر جملًا وافرة في جهات مختلفة كثيرة مِن هدى القرآن للطريق التي هي أقوم بيانًا لبعض ما أشارت إليه الآية الكريمة، تنبيهًا ببعضه على كله من المسائل العظام، والمسائل التي أنكرها الملحدون من الكفَّار، وطعنوا بسببها في دين الإسلام، لقصور إدراكهم عن معرفة حِكَمها البالغة)[1]
وإذا قدمنا قراءة فاحصة لأهم المضامين الواردة في كلامه فسنخرج بتسعة محاور تقريبًا، عنونتُها من خلال ماسطَره العلامة الأمين -رحمه الله تعالى-، وهي كالتالي:
– المحور الأول: الكلام عن توحيد الله تعالى: وأن استقراء القرآن العظيم دل على أن توحيد الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام.
– المحور الثاني: هدي القرآن في أحكام الأسرة، والعلاقة بين الرجل والمرأة: وفي هذا المحور رد على دعاوى مشهورة فيما يتعلق بالتعدد والميراث ومساواة المرأة بالرجل، ودعوى أن دوام خروج النساء بادية الرُّؤوس والأعناق والمعاصم، والأذرع والسوق، ونحو ذلك يذهب إثارة غرائز الرجال؛ لأن كثرة المساس تذهب الإحساس.
– المحور الثالث: ملك الرقيق: والرد على من يشنع في ذلك، وبيان حكمة الله وهديه وعدله في هذا التشريع.
– المحور الرابع: إقامة الحدود: وبيان حكمة الله وهديه وعدله في هذا التشريع، والرد على بعض الدعاوى المشهورة والمخالفة في تشريع القصاص والرجم وحد السرقة.
– المحور الخامس: التقدم لاينافي التمسك بالدين:
ذكر في هذا المحور أن القرآن الكريم يدعو إلَى التقدم في جميع الميادين التي لها أهمية في دنيا أو دين، وأمر أمرًا جازمًا بمسايرة التطور في الأمور الدنيوية، وعدم الجمود على الحالات الأُول إذا طرأ تطور جديد. وتكلم عن النسبة بين التقدم والتمسك بالدين بالنظر إلى العقل وحده، وكذلك بالنظر إلى نصوص الكتاب والسنة.
– المحور السادس: الحكم بغير ما أنزل الله.
– المحور السابع: كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) ووجوب اعتقاد أنها الرابطة الحقيقية التي تربط بين أفراد المجتمع: وتكلم في هذا المحور عن كيفية الجمع بين منع النداء بالروابط العصبية والانتفاع بها.
– المحور الثامن: هدي القرآن في المصالح التي عليها مدار الشرائع.
– المحور التاسع: هدي القرآن في حل المشاكل العالمية المتعلقة بالمسلمين في أنحاء المعمورة: وتكلم في هذا المحور عن ثلاثة مشاكل متعلقة بالمسلمين، اثنان منها متعلق بعلاقة المسلم مع الكافر من حيث الضعف والنصر، والثالث متعلق بعلاقة المسلمين فيما بينهم، وهي كالتالي:
- المشكلة الأولى: هي ضعف المسلمين في أقطار الدنيا في العدد والعدد عن مقاومة الكفار.
- المشكلة الثانية: هي تسليط الكفار على المؤمنين بالقتل والجراح وأنواع الإيذاء، مع أن المسلمين على الحق، والكفار على الباطل.
- المشكلة الثالثة: هي اختلاف القلوب الذي هو أعظم الأسباب في القضاء على كيان الأمة الإسلامية، لاستلزامه الفشل، وذهاب القوة والدولة، كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [سورة الأنفال: 46]
هذا إجمال الكلام عن المحاور التسعة، وقد هذبت كلام الشيخ الأمين -رحمه الله تعالى- بناءً على هذه المحاور، وهي مرفقة مع هذه القراءة كاملةً في ملف (pdf) في آخر هذه القراءة لمن أراد التوسع أكثر. ومايهمني هنا هو إبراز واستيعاب المحاور التي قدَم فيها أجوبة على أبرز الشبهات أو الدعاوى التي كانت -قديمًا- ومازالت -حديثًا- محل إثارة وجدل، إما:
- من المخالفين دينًا
- أو من المنتسبين إلى الإسلام ولديهم نوع شبهة وشك في معقولية وحكمة هذه الأحكام والشرائع من ناحية، ومن ناحية أخرى مناسبتها لهذا العصر.
- أو من المدعين الإسلام ولكنهم يسيرون به حذو الدين الكنسي في العالم الغربي.
وهذا أوان الشروع في ذلك.
في المحور الثاني وهو المتعلق بأحكام الأسرة، والعلاقة بين الرجل والمرأة، تكلم عن: إباحة تعدد الزوجات إلى أربع، وأن الرجل إذا خاف عدم العدل بينهن، لزمه الاقتصار على واحدة، وذكر ثلاثة أسباب تبين معقولية وحكمة ومعنى هذه الإباحة. ثم أورد مايدّعيه المخالفون في أن التعدد ليس تشريعًا حكيمًا، ورد على ذلك، فقال: (وما يزعمه بعض الملاحدة من أعداء دين الإسلام، من أن تعدد الزوجات يلزمه الخصام والشغب الدائم المفضي إلى نكد الحياة، لأنه كلما أرضى إحدى الضرتين سَخطت الأخرى، فهو بين سخطتين دائماً، وأن هذا ليس من الحكمة.
فهو كلام ساقط، يظهر سقوطه لكل عاقل؛ لأن الخصام والمشاغبة بين أفراد أهل البيت لا انفكاك عنه ألبتة، فيقع بين الرجل وأمه، وبينه وبين أبيه، وبينه وبين أولاده، وبينه وبين زوجته الواحدة.
فهو أمر عادي ليس له كبير شأن، وهو في جنب المصالح العظيمة التي ذكرنا في تعدد الزوجات من صيانة النساء وتيسير التزويج لجميعهن، وكثرة عدد الأمة لتقوم بعددها الكثير في وجه أعداء الإسلام كلا شيء؛ لأن المصلحة العظمى يقدم جلبها على دفع المفسدة الصغرى. فلو فرضنا أن المشاغَبة المزعومة في تعدد الزوجات مفسدة، أو أن إيلام قلب الزوجة الأولى بالضرة مفسدة، لقدمت عليها تلك المصالح الراجحة التي ذكرنا).
ثم تكلم في هذا المحور عن تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث، ورد ضمنًا على التساؤل المعروف: لماذا يُفضل الذكر على الأنثى في الميراث؟ أليس هذا ظلمًا؟! فقال: (لما كانت الحكمة البالغة، تقتضي أن يكون الضعيف الناقص مقوماً عليه من قبل القوي الكامل، اقتضى ذلك أن يكون الرجل ملزماً بالإنفاق على نسائه، والقيام بجميع لوازِمهن في الحياة، كما قال تعالى: ﴿وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ [النِّسَاء الآية34]، واقتضت حكمة الحكيم الخبير أن يؤثر الرجل على المرأة في الميراث وإن أدليا بسبب واحد؛ لأن الرجل مترقب للنقص دائماً بالإنفاق على نسائه، وبذل المهور لهن، والبذل في نوائب الدهر، والمرأة مترقبة للزِّيادة بدفع الرجل لها المهر، وإنفاقه عليها وقيامه بشؤونها. وإيثار مترقب النقص دائماً على مترقب الزيادة دائماً لجبر بعض نقصه المترقب حكمته ظاهرة واضحة، لا ينكرها إلا من أعمى الله بصيرته بالكفر والمعاصي).
ثم أورد أيضًا في هذا المحور دعوى المساواة المطلقة بين المرأة والرجل، فقال: (هذه الفكرة الكافرة، الخاطئة الخاسئة، المخالِفة للحس والعقل، وللوحي السماوي وتشريع الخالق الباريء، من تسوية الأنثى بالذكر في جميع الأحكام والميادين، فيها من الفساد والإخلال بنظام المجتمع الإنساني ما لا يخفى على أحد إلا من أعمى الله بصيرته؛ وذلك لأِن الله جلَّ وعلا جعل الأنثى بصفاتها الخاصة بها صالحة لأنواع من المشاركة في بناء المجتمع الإنساني، صلاحاً لا يصلحه لها غيرها، كالحمل والوضع، والإرضاع وتربية الأولاد، وخدمة البيت، والقيام على شؤونه، وهذه الخدمات التي تقوم بها للمجتمع الإنساني داخل بيتها في ستر وصيانة، وعفاف ومحافظة على الشرف والفضيلة والقِيم الإنسانية لا تقل عن خدمة الرجل بالاكتساب، فزعم أولئك السفلة الجهلة من الكفار وأتباعهم أن المرأة لها من الحقوق في الخدمة خارج بيتها مثل ما للرجل، مع أنها في زمن حملها ورضاعها ونفاسها، لا قدر على مزاولة أي عمل فيه أي مشقة كما هو مشاهد، فإذا خرجت هي وزوجها بقيت خدمات البيت كلها ضائعة: من حفظ الأولاد الصغار، وإرضاع من هو في زمن الرضاع منهم، وتهيئة الأكل والشرب للرجل إذا جاء من عمله،… فلو أجّروا إنسانًا يقوم مقامها، لتعطل ذلك الإنسان في ذلك البيت التعطل الذي خرجت المرأة فرارًا منه، فعادت النتيجة في حافرتها، على أن خروج المرأة وابتذالها فيه ضياع المروءة والدين).
ثم أورد بعد ذلك دعوة متعلقة بماسبق، وهي دعوى: أن دوام خروج النساء بادية الرُّؤوس والأعناق والمعاصم، والأذرع والسوق، ونحو ذلك يذهب إثارة غرائز الرجال؛ لأن كثرة المساس تذهب الإحساس، فرد بقوله: (ودعوى الجهلة السفلة: أن دوام خروج النساء بادية الرُّؤوس والأعناق والمعاصم، والأذرع والسوق، ونحو ذلك يذهب إثارة غرائز الرجال؛ لأن كثرة الإمساس تذهب الإحساس، كلام في غاية السقوط والخسة؛ لأن معناه: إشباع الرَّغبة مما لا يجوز، حتى يزول الأرب منه بكثرة مزاولته..)
ودوام خروج النساء (لا يذهب إثارة الغريزة باتفاق العقلاء؛ لأن الرجل يمكث مع امرأته سنين كثيرة حتى تلد أولادهما، ولا تزال ملامسته لها، ورؤيته لبعض جسمها تثير غريزته، كما هو مشاهد لا ينكره إلا مكابر)
وننتقل الآن للحديث عن المحور الثالث، وهو مايتعلق بملك الرقيق، والرد على من يشنع في ذلك، وبيان حكمة الله وهديه وعدله في هذا التشريع، فقال مبينًا: (سبب الملك بالرق: هو الكُفر، ومحاربة الله ورسوله، فإذا أقدر الله المسلمين المجاهدين الباذلين مهجهم وأموالهم، وجميع قواهم، وما أعطاهم الله لِتكون كلمة الله هي العليا على الكفار، جعلهم ملكاً لهم بالسبي.
وهذا الحكم من أعدل الأحكام وأوضحها وأظهرها حكمة؛ وذلك أن الله جلَّ وعلا خلق الخلق ليعبدوه ويوحدوه، ويمتثلوا أوامره ويجتنبوا نواهيه، كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ﴾ [الذَّارِيَات الآية 56-57]، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة… فتمرد الكفار على ربهم وطغوا وعتوا، وأعلنوا الحرب على رسله لئلا تكون كلمته هي العليا، واستعملوا جميع المواهب التي أنعم عليهم بها في محاربته، وارتكاب ما يسخطه، ومعاداته ومعاداة أوليائه القائمين بأمره، وهذا أكبر جريمة يتصورها الإنسان.
فعاقبهم الحكم العدل اللطيف الخبير – جلَّ وعلا ـ عقوبة شديدة تُناسب جريمتهم، فسلبهم التصرف، ووضعهم من مقام الإنسانية إلى مقام أسفل منه كمقام الحيوانات، فأجاز بيعهم وشِراءهم، وغير ذلك من التصرفات المالية، مع أنه لم يسلبهم حقوق الإنسانية سلباً كلياً، فأوجب على مالكيهم الرفق والإحسان إليهم، وأن يطعموهم مما يطعمون، ويكسوهم مما يلبسون، ولا يكلفوهم من العمل ما لا يطيقون، وإن كلفوهم أعانوهم.
ولو فرضنا ـ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰ أن حكومة من هذه الحكومات التي تنكر الملك بالرق، وتشنع في ذلك على دين الإسلام،–، قام عليها رجل من رعاياها كانت تغدق عليه النعم، وتسدي إليه جميع أنواع الإحسان، ودبر عليها ثورة شديدة يريد بها إسقاط حكمها، وعدم نفوذ كلمتها، والحيلولة بينها وبين ما تريده من تنفيذ أنظمتها، التي يظهر لها أن بهما صلاح المجتمع، ثم قدرت عليه بعد مقاومة شديدة فإنها تقتله شر قتلة.
ولا شك أن ذلك القتل يسلبه جميع تصرفاته وجميع منافعه، فهو أشد سلباً لتصرفات الإنسان ومنافعه من الرق بمراحل.
والكافر قام ببذل كل ما في وسعه ليحول دون إقامة نظام الله الذي شرعه، ليسير عليه خلقه فينشر بسببه في الأرض الأمن والطمأنينة، والرخاء والعدالة، والمساواة في الحقوق الشرعية، وتنتظم به الحياة على أكمل الوجوه وأعدلها وأسماها ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النَّحۡل الآية90] فعاقبه الله هذه المعاقبة بمنعه التصرف ووضع درجته وجريمته تجعله يستحق العقوبة بذلك).
أما المحور الرابع فهو متعلق بإقامة الحدود، وبيان حكمة وعدل هذا التشريع، فقال فيما يتعلق بالقصاص:
(إن الإنسان إذا غضب وهمّ بأن يقتل إنساناً آخر فتذكر أنه إن قتله قُتِلَ به، خاف العاقبة فترك القتل، فحيي ذلك الذي كان يريد قتله، وحيي هو؛ لأنه لم يَقتِل فيُقتَل قصاصاً.
فقتل القاتل يحيا به ما لا يعلمه إلا الله كثرة، قال تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة الآية 179]،… ولذلك يُشاهد في أقطار الدنيا قديماً وحديثاً قلة وقوع القتل في البلاد التي تحكم كتاب الله؛ لأن القصاص رادع عن جريمة القتل.
..وما يزعمه أعداء الإسلام من أن القصاص غير مطابق للحكمة؛ لأن فيه إقلال عدد المجتمع بقتل إنسان ثان بعد أن مات الأول، وأنه ينبغي أن يعاقب بغير القتل فيحْبس، وقد يولد له في الحبس فيزيد المجتمع.
كله كلام ساقط، عار من الحكمة؛ لأن الحبس لا يردع الناس عن القتل، فإذا لم تكن العقوبة رادعة فإن السفهاء يكثر منهم القتل، فيتضاعف نقص المجتمع بكثرة القتل).
وفيما يتعلق بحد السرقة وبيان أن قطع يد السارق تشريع حكيم معقول المعنى، قال الشيخ الأمين -رحمه الله-: (أن هذه اليد الخبيثة الخائنة، التي خلقها الله لتبطش وتكتسب في كل ما يرضيه من امتثال أوامره واجتناب نهيه، والمشاركة في بناء المجتمع الإنساني فمدت أصابعها الخائنة، إلى مال الغير لتأخذه بغير حَق، واستعملت قُوة البطش المودعة فيها في الخيانة والغدر، وأخذ أموال الناس على هذا الوجه القبيح، يد نجسة قذرة، ساعية في الإخلال بنظام المجتمع، إذ لا نظام له بغير المال، فعاقبها خالِقها بالقطع والإزالة، كالعضو الفاسد الذي يجر الداء لسائر البدن، فإنه يزال بالكلية إبقاء على البدن، وتطهيراً له من المرض).
ثم أورد اعتراضًا ورد عليه، وأبان وجه العدالة في قطع يد السارق بربع دينار مع أن اليد فيها نصف الدية، فقال: (عُرِفَ من الشرع أن اليد فيها نصف الدية، ودية الذهب ألف دينار، فتكون دية اليد خمسمائة دينار، فكيف تؤخذ في مقابلة ربع دينار؟ وما وجه العدالة والإنصاف في ذلك؟
فالجواب؛ أن هذا النوع من اعتراضات الملحدين الذين لا يؤمنون بالله ورسوله، هو الذي نظمه المعري بقوله:
يدٌ بِخَمْسِ مِئِين عَسجد فُديت … ما بَالها قُطّعَت في رُبعِ دِينارِ
وللعلماء عنه أجوبة كثيرة نظمًا ونثرًا، منها: قول القاضي عبد الوهاب مجيبًا له في بحره ورويه:
عز الأمانة أغلاها، وأرخصها … ذل الخيانة فافهم حكمة الباري
وقال بعضهم: لما خانت هانت.
ومن الواضح: أن تلك اليد الخسيسة الخائنة لما تحملت رذيلة السرقة وإطلاق اسم السرقة عليها في شيء حقير كثمن المجن والأترجة، كان من المناسب المعقول أن تؤخذ في ذلك الشيء القليل، الذي تحملت فيه هذه الرذيلة الكبرى.
وقال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة: ثم إنا أجبنا عن هذا الطعن، بأن الشرع إنما قطع يده بسبب أنه تحمل الدناءة والخساسة في سرقة ذلك القدر القليل، فلا يبعد أن يعاقبه الشرع بسبب تلك الدناءة هذه العقوبة العظيمة اهـ.
فانظر ما يدعو إليه القرآن: من مكارم الأخلاق، والتنزُّه عما لا يليق، وقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً يدل على أن التشريع السماوي يضع درجة الخائن من خمسمائة درجة إلى ربع درجة، فانظر هذا الحط العظيم لدرجته، بسبب ارتكاب الرذائل).
ثم أورد استشكالًا في قطع يد السارق دون غيرها من الجنايات على الأموال، فقال: (وقد استشكل بعض الناس قطع يد السارق في السرقة خاصة دون غيرها من الجنايات على الأموال، كالغصب، والانتهاب، ونحو ذلك.
قال المازري ومن تبعه: صان الله الأموال بإيجاب قطع سارقها، وخص السرقة لقلة ما عداها بالنسبة إليها، من الانتهاب والغصب، ولسهولة إقامة البينة على ما عدى السرقة بخلافها، وشدد العقوبة فيها ليكون أبلغ في الزجر، ولم يجعل دية الجناية على العضو المقطوع منها بقدر ما يقطع فيه حماية لليد، ثم لما خانت هانت…
وشرح ذلك: أن الدية لو كانت ربع دينار لكثرت الجنايات على الأيدي، ولو كان نصاب القطع خمسمائة دينار لكثرت الجنايات على الأموال، فظهرت الحكمة في الجانبين، وكان في ذلك صيانة من الطرفين).
ثم انتقل للحديث عن حد الزنا للمحصن وهو الرجم، ورد على من اعترض على هذا الحد، وأنه قتل وحشي لايناسب الحكمة، فقال: (والملحدون يقولون: إن الرجم قتل وحشي لا يناسب الحكمة التشريعية، ولا ينبغي أن يكون مثله في الأنظمة التي يعامل بها الإنسان، لقصور إدراكهم عن فهم حكم الله البالغة في تشريعه.
والحاصل: أن الرجم عقوبة سماوية معقولة المعنى؛ لأن الزاني لما أدخل فرجه في فرج امرأة على وجه الخيانة والغدر، فإنه ارتكب أخس جريمة عرفها الإنسان بهتك الأعراض، وتقذير الحُرمات، والسعي في ضياع أنساب المجتمع الإنساني، والمرأة التي تطاوعه في ذلك مثله، ومن كان كذلك فهو نجس قذر لا يصلح للمصاحبة، فعاقبه خالقه الحكيم الخبير بالقتل ليدفع شره البالغ غاية الخبث والخسة، وشر أمثاله عن المجتمع.
ويطهره هو من التنجيس بتلك القاذورة التي ارتكب، وجعل قتلته أفظع قتلة؛ لأن جَرِيمته أفظع جريمة، والجزاء من جنس العمل.
وشدة قبح الزنى أمر مركوز في الطبائع، وقد قالت هند بنت عتبة وهي كافرة: ما أقبح ذلك الفعل حلالاً! فكيف به وهو حرام).
ثم بيّن لما كان عقوبة المحصن الرجم: (وغلظ جلَّ وعلا عقوبة المحصن بالرجم تغليظاً أشد من تغليظ عقوبة البكر بمائة جلدة؛ لأن المحصن قد ذاق عُسَيْلة النساء، ومن كان كذلك يعسر عليه الصبر عنهن، فلما كان الداعي إلى الزنى أعظم، كان الرادع عنه أعظم وهو الرجم. وتشريع الحكيم الخبير -جلَّ وعلا ـ مشتمل على جميع الحكم من درء المفاسد وجلب المصالح، والجري على مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات، ولا شك أن من أقوم الطرق معاقبة فظيع الجناية بعظيم العقاب جزاءً وفاقاً).
وننتقل إلى محور آخر، وهو الخامس المعنون له بـ(التقدم لاينافي التمسك بالدين): تناول الشيخ الأمين -رحمه الله- هذه الثنائية (التقدم والدين)، وهل كل منهما ينافي الآخر، من زاويتين:
- أن هذه الفكرة ماهي إلا من مُتخيلات أعداء الدين، بمعنى: أنها فكرة مستوردة ليست لها أصل في التشريع الإسلامي والحياة الإسلامية. يقول -رحمه الله-: (ومن هدي القرآن للتي هي أقوم: هديه إلى أن التقدم لا ينافي التمسك بالدين، فما خيله أعداء الدين لضعاف العقول ممن ينتمي إلى الإسلام:
من أن التقدم لا يمكن إلا بالانسلاخ من دين الإسلام = باطل لا أَساس له، والقرآن الكريم يدعو إلَى التقدم في جميع الميادين التي لها أهمية في دنيا أو دين، ولكن ذلك التقدم في حدود الدين، والتحلي بآدابه الكريمة، وتعاليمه السماوية، قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾ [الأَنفَال الآية 60]، فهو أمر جازم بإعداد كل ما في الاستطاعة من قوة ولو بلغت القوة من التطور
ما بلغت، فهو أمر جازم بمسايرة التطور في الأمور الدنيوية، وعدم الجمود على الحالات الأُول إذا طرأ تطور جديد، ولكن كل ذلك مع التمسك بالدين).
وأنقل كلامًا مهمًا له متعلق بـ(التقدم والتطور في حدود الدين وأحكامه وحاجة البشرية لتهذيب القوة المادية)
(وقد علمت أن مما ذكرنا أن من المثل العليا في دين الإسلام: مراعاة الروح والجسم معًا، وبه تعلم أن إهمال المسلمين للناحية الجسمية من عنصري الإنسان، وتكاسلهم وتواكلهم وإخلادهم إلى لأرض في عَجْز وضعف حتى احتقرهم عدوهم وأهانهم وصار لا يحسب لهم حسابًا مَثل سُوء لا مَثَل أعلى؛ لأنه مخالف لنظام السماء كما بينا.
وأن إهمال الذين برعوا في خدمة الجسم للناحية الروحية من عنصري الإنسانَ مَثَل سوءٍ أيضًا، بل هو الويلة العظمى والداهية الكبرى عليهم، ولذا تراهم في قلقٍ دائم يعقدون المؤتمر بعد المؤتمر ليتخلصوا من شر تلك القوة التي بذلوا في تحصيلها كل إمكانياتهم، ولو كان كل من الطرفين يعلم أنه إن دَمَّر ما لديه منها أن الآخر يفعل ذلك لبادروا كلهم إلى تدميرها، وما ذلك إلا لأن تلك القوة الهائلة لم تدبرها روح مهذبة مرباة على ضوء نورٍ سماوي.
فالقوة المادية إذا طغت ولم تدبرها روح مهذبة لم يتزن اتجاهها بل قد تتوجه إلى ما فيه الويل والهلاك لبني الإنسان، فأنياب الأسد وأظفاره قوة حيوانية، ولكن الروح التي تديرها روح بهيمية طبيعتها الافتراس والابتزاز والغشم، وبهذا تعلم أن كلًّا من المسلمين اليوم وأعدائهم محتاجون إلى مُثلُ الإسلام العليا.
فالكفار محتاجون إلى تربية أرواحهم على ضوء النور السماوي ليوجِّهوا القوة التي حصَّلوها توجيهًا سديدًا في ضوء إرشاد الحليم الخبير بما أوحي على لسان نبيه – صلى الله عليه وسلم – مما فيه صلاح الدنيا والآخرة.
والمسلمون محتاجون إلى ذلك أيضًا وإلى مواصلة العمل بجد واجتهاد ليقوموا بمتطلباتهم الجسمية ولو كانوا يأخذون ذلك عمن برعوا فيه من الكفار، وهذا العمل المزدوج للروح والجسم مثالٌ أعلى من مُثلُ الإسلام العليا ولو كان حظُّ الجسم مأخوذًا من استنتاج لكافرين، وكذلك كان – صلى الله عليه وسلم – يفعل..
ولما أوضحنا أن من مُثلُ الإسلام العُليا: السعي المزدوج للروح والجسم وللدين والدنيا، وكان في طريق طبيعية ذلك في الظروف الراهنة مشكلة عُظمى وعقبة كؤود أردنا أن نكشف عنها القناع ونبرزها ليتسنَّى علاجُها.
وإيضاح ذلك: أن جميع الطرق والميادين إلى الحصول على ما يتطلَّبه الجسم من المادِّيات بحسب تطوُّر الحياة في أحوالها الراهنة كلها إنما نَظَّمها ومَهَّدها قومٌ غير مسلمين ملأوا كل الطرق إليها من الألغام؛ من العقائد الفاسدة، والنظريات الملحدة، وتصوير الإسلام ورجاله بصورة مشوَّهة منفِّرَة بعيدة عن الحقيقة والواقع بُعْد الشمس عن اللمس، فعلى المسلمين أن يجتهدوا في نزع الألغام من طرق الحياة ليمكنهم أن يعلموا أبناءهم ما يقدرون معه على سدِّ الفراغ المادِّي الذي لا بد من سده في الظروف الراهنة لتطور الحياة البشرية، فيستجلبون بأموالهم الرجال البارعين في العلوم المادية ويجعلون على مناهج تعليمها وفي تطبيق تلك المناهج رقباء من رجال الدين العالمين لكتاب الله وسنة نبيه – صلى الله عليه وسلم -، وبذلك يحصل لهم ما تتطلبه الأجسام البشرية مع المحافظة على التراث الروحي الذي هو علامة الاصطفاء من خالق السموات والأرض)[2]
- الزاوية الثانية تناول النسبة بين التقدم والتمسك بالدين بالنظر إلى:
أ- العقل، فقال: (والتحقيق ـ أن النسبة بين التقدم والتمسك بالدين بالنظر إلى العقل وحده، وقطع النظر عن نصوص الكتاب والسنة = إنما هي تباين المخالفة، وضابط المتباينين تباين المخالفة أن تكون حقيقة كل منهما في حد ذاتها تباين حقيقة الآخر، ولكنهما يمكن اجتماعهما عقلاً في ذات أخرى. كالبياض والبرودة، والكلام والقعود، والسواد والحلاوة.
فحقيقة البياض في حد ذاتها تباين حقيقة البرودة، ولكن البياض والبرودة يمكن اجتماعها في ذات واحدة كالثلج، وكذلك الكلام والقعود فإن حقيقة الكلام تباين حقيقة القعود، مع إمكان أن يكون الشخص الواحد قاعداً متكلماً في وقت واحد، وهكذا.
فالنسبة بين التمسك بالدِّين والتقدم بالنظر إلى حكم العقل من هذا القبيل، فكما أن الجرم الأبيض يجوز عقلاً أن يكون بارداً كالثلج، والإنسان القاعد يجوز عقلاً أن يكون متكلماً، فكذلك المتمسك بالدين يجوز عقلاً أن يكون متقدماً، إذ لا مانع في حكم العقل من كون المحافظ على امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، مشتغلاً في جميع الميادين التقدمية كما لا يخفَى، وكما عرفه التاريخ للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه ومن تبعهم بإحسان.
ب- بالنظر إلى نصوص الكتاب والسنة:
كقوله تعالى: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحَج الآية40]، وقوله:﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم الآية47]، وقوله: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ﴿171﴾ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ ﴿172﴾ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [الصافات الآية171-173]، وقوله: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [المجادلة الآية21]، وقوله: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ [غافر الآية51]، وقوله: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ﴾ [التوبة الآية14]، ونحو ذلك من الآيات وما في معناها من الأحاديث.
فإن النسبة بين التمسك بالدين والتقدم، كالنسبة بين الملزوم ولازمه؛ لأن التمسك بالدين ملزوم للتقدم، بمعنى أنه يلزم عليه التقدم، كما صرحت به الآيات المذكورة.
وهم خيلوا لهم أن الربط بين الملزوم ولازمه كالتنافي الذي بين النقيضين والضدين، وأطاعوهم في ذلك لسذاجتهم وجهلهم وعمى بصائرهم، فهم ما تقولوا على الدين الإسلامي ورموه بما هو منه بريء إلا لينفروا منه ضعاف العقول ممن ينتمي للإسلام ليمكنهم الاستيلاء عليهم، لأنهم لو عرفوا الدِّين حقاً واتبعوه لفعلوا بهم ما فعل أسلافهم بأسلافهم، فالدين هو هو، وصلته بالله هي هي، ولكن المنتسبين إليه في جل أقطار الدنيا تنكروا له، ونظروا إليه بعين المقت والازدراء، فجعلهم الله أرقاء للكفرة الفجرة، ولو راجعوا دينهم لرجع لهم عزهم ومجدهم، وقادوا جميع أهل الأرض، وهذا مما لا شك فيه ﴿ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ﴾ [محمد الآية4]
وآخر هذه المحاور التي أرادت هذه القراءة إبرازها، هو المحور السابع من المحاور التسعة: (كلمة التوحيد ووجوب اعتقاد أنها الرابطة الحقيقية التي تربط بين أفراد المجتمع) وتكلم في هذا المحور عن كيفية الجمع بين منع النداء بالروابط العصبية والانتفاع بها، فقال -رحمه الله-:
(ونحن حين نصرح بمنع النداء بالروابط العصبية والأواصر النسبية، ونقيم الأدلة على منع ذلك، لا ننكر أن المسلم ربما انتفع بروابط نسبِية لا تمت إلى الإسلام بصلة:
- كما نفع الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعمه أبي طالب.
- وقد نفع الله بتلك العصبية النسبية شعيباً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام كما قال تعالى عن قومه: ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا ۖ وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ﴾ [هود الآية91]
- وقد نفع الله بها نبيه صالحاً أيضاً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. كما أشار تعالى لذلك بقوله: ﴿قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ [النمل الآية49]، فقد دلت الآية على أنهم يخافون من أولياء صالح، ولذلك لم يفكروا أن يفعلوا به سوءاً إلا ليلاً خفية.
وقد عزموا أنهم إن فعلوا به ذلك أنكروا وحلفوا لأوليائه أنهم ما حضروا ما وقع بصالح خوفاً منهم.
فيلزم الناظر في هذه المسألة أن يفرق بين الأمرين، ويعلم أن النداء بروابط القوميات لا يجوز على كل حال، ولا سيما إذا كان القصد بذلك القضاء على رابطة الإسلام، وإزالتها بالكلية بدعوى أنه لا يساير التطور الجديد، أو أنه جمود وتأخر عن مسايرة ركب الحضارة -نعوذ بالله من طمس البصيرة-، وأن منع النداء بروابط القوميات لا ينافي أنه ربما انتفع المسلم بنصرة قريبه الكافر بسبب العواطف النسبية والأواصر العصبية التي لا تمت إلى الإسلام بصلة).
تمت… نسأل المولى رحمةً منه ومغفرةً للشيخ محمد الأمين، والحمد لله رب العالمين.
[1] أضواء البيان 3/488، طبعة المجمع لآثار الشيخ الشنقيطي -رحمه الله-. هذه القراءة معتمدة على تفسيره لهذه الآية من هذا الكتاب.
[2] آثار الشيخ الشنقيطي -رحمه الله- المرقم ب(11) المحاضرات، صفحة 142 – 145