- محمد بن عبد الله الحارثي
بسم الله الرحمن الرحيم
لا يزال الإنسان المعاين الكون في جملته وتفصيله، والمطلق لبصره وبصيرته عنان النظر الفاحص المتأمل، يتقلب في أطوار التعجب والاندهاش كلما فتح له باب الفهم في ظاهرة من الظواهر، والتي هي بدورها تفضي به إلى مغاليق يعود أمامها إلى حالة التحير الأولى، محاولاً فيها تحقيق فهم جديد، ولقد عبَر صاحب العقل الأشهر في القرن الفائت ألبرت أينشتاين عن هذه المفارقة بقوله” يكمن الغموض الأبدي الذي يكتنف العالم في القدرة على فهمه.. فحقيقة أنه قابل للفهم معجزة” أو بعبارة أخرى “إن أكثر شيء غير مفهوم عن الكون هو أنه قابل للفهم”[1]
ولا يقل عظم خلق الكون عن عظم خلق الناظر له والمتأمل فيه، فقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان وجعل في خلقه إعجازًا بحد ذاته؛ وذلك بما استودع فيه من أسرار ونظم بالغه التعقيد، بالإضافة إلى ما يحصل له من تقاطعات ومفارقات في تعاطيه مع الطبيعة، والتي تدور بين الصراع ومحاولة التطويع والسيطرة، وبين الانصهار والخضوع للمحددات والنواميس التي تفرضها، وبين التكامل المتصالح وفقاً لأحكام قواعد محايدة ومهيمنة على وجود الطرفين.
لقد كان سجال الإنسان مع الطبيعة (أو مع الأرض بحسب المفهوم الإسلامي)، سجالاً مفترضاً منذ أن أُمر الإنسان بأن ينزل على هذه الأرض خليفة عليها، وكلف بالعمل على عمارتها مسترشداً بالهداية العليا في تجلياتها المتعددة بين الوحي والرسالة والأخلاق والفطرة وغيرها. وهنا يظهر التباين بين جذور التصور الإسلامي لعلاقة الإنسان بالأرض وبين التصور المادي المتخلق عن تمازج بين التراث الإغريقي والتعاليم المسيحية المشوهة، وهذا التباين ناجم عن اعتبار نزول آدم من الجنة إلى الأرض لعنة ضربت عليه وعلى بنيه بسبب الخطيئة التي اقترفها، في حين أن سبب نزول آدم من الجنة في الذهنية الإسلامية بكل بساطة، هو أنه لم يخلق ليبقى فيها أصلاً ، وإنما خلق ليكون خليفة في الأرض قائماً بمهمة العمارة وأعباء الخلافة إلى حين يقدره المولى سبحانه وتعالى، ثم يرجع إلى حيث كان إذا شاء الله عز وجل.
ويتمخض عن هاتين الرؤيتين المتباينتين، الموقع الذي تبوؤه العمل في المجال المفاهيمي لكل منهما، ففي الرؤية الإسلامية يعد العمل حجر الزاوية في مشروع الإنسان الاستخلافي، والوسيلة الأساس التي يصل من خلالها الإنسان إلى تحقيق الهدف المطلوب منه. فالعمل يتغلغل إلى صميم حياته الدنيوية ابتداء من الممارسات العبادية، ووصولاً إلى الواجبات التي تمليها المعيشة ويتطلَّبها البقاء، بخلاف الرؤية المقابلة التي يعبّر فيها العمل عن نفسه كأيقونة للبؤس والشقاء، وأن من سوء قدر الإنسان أن جُعل العمل ضرورة الضروريات إن أراد أن يبقى على قيد الحياة.” كان العمل الغير ذهني عند الإغريق وصمة اجتماعية توجب لصاحبها التحقير، وكانوا يرون أن اضمحلال البدن ناشئ عن هذا العمل، والذي يستتبع انحطاط الروح، … وكانوا يصفون (هيفاستس) إله النار عند الإغريق والداعي للعمال المهرة أنه أعرج أشعث المظهر قبيح المنظر مشوهاً ولم يكن كغيره من الآلة جميلاً سويا أنيقا… وحتى بعد قيام الثورة الصناعية في أوروبا في القرن الثاني عشر ظل بعض الشعراء والقصاصين الغربيبين يحطَّون من شأن المجتمع الصناعي باعتباره يقضي على القيم الإنسانية”[2]
تظهر درجة عمق مكانة العمل في الإسلام من خلال رصد النصوص الصريحة في الكتاب والسنة، والتي تؤكد على مركزية العمل وأهميته ضمن التكوين الإنساني، قال تعالى ” وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ ۖ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُون”[3] يقول الإمام القرطبي في تفسيره لهذه الآية” هذه الآية أصل في اتخاذ الصنائع والأسباب وهو قول أهل العقول والألباب لا قول الجهلة الأغبياء القائلين بأن ذلك شرع للضعفاء، فالسبب سنة الله في خلقه فمن طعن في السبب طعن في الكتاب والسنة، ونسب من ذكرنا إلى الضعف وعدم المنَّة، وقد أخبرنا الله تعالى أنه نبيه داود كان يصنع الدروع، وكان أيضاً يصنع الخوص، وكان يأكل من عمل يده، وكان آدم حراثاً، ونوح نجاراً، ولقمان خياطاً وطالوت دباغاً وقيل سقاء، فالصنعة يكف بها الإنسان نفسه عن الناس ويدفع بها عن نفسه الضرر والبأس، وفي الحديث إن الله يحب المؤمن المحترف الضعيف المتعفف، ويبغض السائل الملحف”[4] .
وعليه فقد كان شرف العمل ونفاسته من حيث الأصل محل اتفاق بين فقهاء الإسلام، ولم يكن اختلافهم إلا في المفاضلة بين صنوف الأعمال وأنواع الحرف، فمنهم من قال أن الزراعة هي أفضل الأعمال وكسبها أطيب المكاسب، استنادا على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ” ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة”[5]
ومنهم من ذهب إلى أفضل المكاسب ما كان عن التجارة؛ لكونها من عمل اليد، لقوله صلى الله عليه وسلم ” ما أكل أحد طعاماً قط خير من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده”[6]
والحاصل أن الإسلام بما فيه من حمولة فقيهة كان يتعاطى مع العمل باعتباره وعاء أخلاقياً وقيمة تتضامن مع قيمة أخرى فتأخذ شرفها منها، فكان خليق بالتقدير والإجلال ما لم ينفك عن القيمة التي ارتبط بها . ولقد شنَّ الفقهاء هجوماً ضارياً على الدعوات التي كانت تنادي بترك العمل كونه يتنافى مع حقيقة التوكل على الله، وأن من نقص الإيمان السعي وراء السبب وترك المسبب، ولقد ذُكر هؤلاء للإمام أحمد ابن حنبل فقال في حقهم ” هؤلاء مبتدعة”[7]، باعتبار أن الله سبحانه وتعالى خالق الأسباب ومسبباتها، ولا ينافي طلب الأسباب حقيقة الإيمان، بل هي من جوهره وصميمه.
وعلى هذه الترسية المقدرة للعمل والدافعة إليه نشأت الروابط العمالية بين العمال وبين أصحاب العمل في الحاضنة الإسلامية على قدر عال من التكامل البديع الذي يفضي إلى تحقيق الهدف المترتب على هذه العلاقة، وكانت الروابط القيمية والأخلاقية تربط العمال بأصحاب العمل أكثر من الروابط النفعية والمادية، إذ كان العامل يتعامل مع العمل الذي يسدى إليه من قبل صاحب العمل على أنه أمانة يتعيّن عليه اتخاذ أقصى التدابير للعناية بها ومراعاتها، ولا يخفى عظم شأن الأمانة وما يبنى على التفريط بها أو خيانتها في منظومة الحكم الإسلامي، ولذلك فقد نص الفقهاء على أن الأجير الخاص (أمين) لا يضمن ما لم يتعد أو يفرط، في إشارة واضحة إلى أن الرابطة التي بين الأجير وربّه تتربع في مستوى أخلاقي رفيع عن المستويات العادية التي تنتمي لها الروابط القانونية الأخرى.
ومن جهة صاحب العمل فقد كان دور الإسلام في صياغة نموذج مثالي يتّسم بالمسؤولية الأخلاقية تجاه العمال واضحاً وملموسا في غير موضع، ففي وجوب المسارعة بأداء الحقوق العمالية تجاه العمال يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ” أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه”[8] وقال ” ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِه أَجْرَهُ ” وورد في بعض الأثر أن الرسول صلى الله عليه وسلم صافح رجلاً خشنت يده من كثر العمل فقال” هذه يد يحبها الله ورسوله” وقال صلى الله عليه وسلم في شأن الأرقّاء أدنى فئات العمال “إخوانُكم خَوَلُكُم، جَعَلَهُم اللهُ تحت أيديِكم، فمن كان أخوه تحت يده، فلْيُطْعِمه مما يأكلُ، ولْيَلْبِسُه مما يَلْبَسُ، ولا تكلُفُوهم ما يَغْلِبُهم، فإنْ كَلَفْتُمُوهم فَأَعِيْنُوهُم”[9].
وغير ذلك من النصوص المحددة والراسمة لنموذج صاحب العمل في الإسلام، والتي تجعل السمة الأخلاقية والرابطة الدينية بينه وبين عماله سمة ظاهرة في العلاقة العمالية التي بينهما، فهي وإن كانت علاقة تعاقدية بالمعنى القانوني؛ بحيث يلتقي فيها الإيجاب مع القبول على وجه يراد منه إحداث أثر قانوني معين، ويترتب على ذلك التزامات وحقوق في جانب كلا من طرفي العلاقة ، إلا إنها في المقام الأول علاقة تراحمية بين أخوين في الإسلام تحكم علاقتهما عقدة الولاء للدين أولاً، ثم الأواصر القيمية غير النفعية ثانياً، و لا بأس أن يدور في فلكها التنافع المادي على أساس تحقيق المصلحة لكلا الطرفين.
ولذلك فإن من المعقول جداً في ظل هذه البيئة الصحية أن ينعدم حدوث ما يسمى (بالمسألة العمالية) في السياق التاريخي الإسلامي، كما حدث في السياق الغربي بوصفها مشكلة ظاهرة تستدعي الحل.
لقد نشأت المسألة العمالية في أوروبا أواخر القرون الوسطى ، ولقد ساهمت العديد من العوامل والظروف التاريخية التي مرت بها القارة الأوروبية كتنكر الكنيسة لتعالميها الأصلية وانحيازها إلى التسلط باسم الدين، بالإضافة إلى الظروف الاقتصادية السياسية والفكرية التي تخلق المسألة العمالية، إلا أن الثورة الصناعية كان لها بالغ الأثر في تفجير الأزمة بما كانت تحمله من مفاعلات استئصالية ليس فقط للقوالب التقليدية لعلاقة العمال بأرباب العمل، وإنما على التشكيلات الاجتماعية بشكل عام.
يبدأ الفصل الحاد للرواية من وقت اندلاع الثورة الفرنسية والتي كانت تتبنى قيم مفكري عصر التنوير، كالحرية التعاقدية والحد من تدخل الدول في علاقات الأفراد، والدعوة إلى اقتصاد السوق الحر، وكان من جملة العلاقات المستهدفة بترك صياغتها إلى أطرافها دون التدخل فيها ، علاقة العامل برب العمل على أساس أنه لا مدخل للدولة أو جهات أخرى خارجة عن العلاقة للتحكم فيها، وأن المعول عليه هو إرادة الطرفين فقط، وكانت هذه الدعوة تبشر بمستقبل زاهر للقوى العاملة بتحريرها من بقايا الأنظمة التقليدية البائدة كنظام الطوائف وغيره، إلى أنماط أكثر تطورًا ضمن إطار مشروع الحداثة العام، والذي بدوره كان يعد بحياة أسهل خالية من المشكلات أو ما يعبر عنه بالفردوس الأرضي.
غيرأن الذي حصل كان خلاف المأمول، فقد جاءت الثورة الصناعية وأجلبت بخيلها ورجلها على نظم الحياة بمختلف مستوياتها، الأمر الذي جعل رأس المال يرحِّل نشاطه من دائرة العمل الزراعي والتي كانت تتخذ من القرى والأرياف مقرًا لها، إلى دائرة العمل الصناعي والتي كانت بطبيعة الحال تتمركز في المدن والحواضر الكبرى، واستتبع هذا بالضرورة نزوح الأيدي العاملة إلى المدن، لاحقة بركب رأس المال.
لقد كان دخول الآلة على خط التعاطي بين رأس المال والقوى العاملة، المفاصلة الباتة التي غيرت وجه علاقتهما ببعضهما، فصاحب العمل الذي كان يجد نفسه مضطراً إلى الأيدي العاملة (والتي غالبا ما تكون من أهل الأرض) في تسيير المشروع الزراعي، قد وجد في الاستثمار الصناعي استثماراً أكثر سخاء وربحية، كما وجد في الآلة غنية عن كثير من الأعمال التي كان يتعين القيام بها باليد البشرية، بالإضافة إلى انعدام الخبرة وقلة الحصيلة الفنية لدى العمال، و والتي كانت لازمة في التعامل مع الآلة، بحيث آل الأمر إلى ازدياد ضعف الموقف الاقتصادي والقانوني للعامل في مواجهة صاحب العمل، الذي كان يملي شروطه المتعسفة دون أدنى معارضة من قبل العمال، تحت وطأة الاضطرار وظروف المعيشة الصعبة، ومن هنا نشأ ما أصبح يعرف لاحقاً بـ( التبعية الاقتصادية) و( التبعية القانونية).
في ظل هذا الوضع الخانق للعمال لم يكن أحد ليتدخل لتنظيم العلاقة وموازنتها بين طرفيها على وجه يحقق العدالة العقدية، وذلك امتثالا للقيم الليبرالية والفردية التي تمنع التدخل في العلاقات التعاقدية الخاصة احتراماً لإرادة أصحابها، “ذلك أن الأخذ بمبدأ الحرية في علاقات العمل يفرض حرية الأفراد في إبرام العقود، ومساواة مطلقة بين إراداتهم عند التعاقد، ولم يكن ذلك متوفراً في علاقات العمال بأصحاب العمل في ظل التفاوت الاقتصادي الجسيم بين الطرفين، فالعامل الذي لم يكن يملك من حطام الدنيا سوى جهده، كان يقبل التعاقد تحت ضغط الحاجة والعوز والخشية من الجوع، أما صاحب العمل فكان دافعه إلى التعاقد حرصه على تنمية ثروته وتحقيق المزيد من المكاسب، في ظل هذه الظروف كان العامل مجبراً على التعاقد بالشروط التي تملى عليه، أما صاحب العمل فلم يكن يتحمل حتى مشقة التريث للعثور على من يقبل بشروطه بسبب كثرة الساعين إلى العمل وبشروط التي تفرض عليهم”[10]
عندئذ بدا أن هنالك معضله كبرى تلوح في الأفق وهو أن القيم الليبرالية لم تف بوعودها في القضاء على مشكلات الطبقة العاملة وحسب، بل عمقتها وزادت من احتقانها أكثر مما كانت عليه في السابق، فالعمال الذين كانوا يحظون ببعض الحقوق التي كان يمنحها لهم نظام الطوائف، باتوا وقد جردوا منها بشكل كامل في ظل النظم الحداثية التنويرية ، الأمر الذي أثبت الفشل الذريع لتلك النظم مما استوجب تدخلا عاجلاً لمعالجة المسألة، ومن هنا ظهر في الأوساط الاقتصادية ما يسمى ( بمذهب تدخل الدولة)، ومفاده أن “تتدخل فيه الدولة في علاقات العمل وعدم تركها تخضع لسلطة أصحاب العمل، ولكنها اختلفت في وسائل هذا التدخل، فبعض هذه المذاهب دعا إجراء هذا التدخل في إطار النظام الرأسمالي عن طريق أنظمة قانونية تكفل تحسين ظروف العمل وحماية العمال، فالعالم الاقتصادي ( سيسموندي) الذي دعا إلى تحقيق العدالة في توزيع الثروة ، وعدم تشغيل النساء والأطفال في ظروف غير ملائمة، وزيادة ساعات العمل، وتخفيض الأجور إلى الحد الأدنى، طالب بتحريم تشغيل الأطفال وتقرير راحة أسبوعية، وتقييد تشغيل المراهقين، وإطلاق تكوين الاتحادات. ولكن البعض رأى أن إصلاح الطبقة العاملة لا يتم إلا بالقضاء على الرأسمالية باعتبار أن النظام الرأسمالي نظام استغلالي يمكن الرأسماليين من استغلال عنصر العمل”[11]
لقد أضحى منهج تدخل الدولة صرخة احتجاج في وجه التغول الرأسمالي الذي ضرب أبشع الأمثلة في استغلال الطبقات الكادحة، كما أنه صار برهان بيناً على سقوط المقولة الحداثية المتخلقة عن جملة القيم التنويرية، فظهر أول تشريع حمائي عمالي في فرنسا عام 1841م يقضي بمنع تشغيل الأحداث ليلاً أو في الأعمال التي لا تتناسب مع طبيعتهم العمرية، ثم تعاقب بعد ذلك صدور التشريعات المنظمة لشروط العمل وظروفه، والمبنية على اعتبارات أخلاقية، كمنع النساء من العمل في أوقات متأخرة من الليل، أو العمل في بيئات فاسدة اخلاقياً، وعلى اعتبارات وطنية مثل قصر بعض المهن على مواطني الدولة دون غيرهم، وعلى اعتبارات اقتصادية كتحديد ساعات العمل، ووضع حد أدنى للأجور وغيرها.
ويرى بعض الباحثين أن منهج تدخل الدولة وإن كان قد ساهم مساهمة فعالة في استنقاذ طبقة العمال من أتون الاستغلال الرأسمالي بضمانه الكثير من الحقوق لهم وبالحد من سلطة صاحب العمل وتنظيمها، إلا أنه بدأ يأخذ طريقه نحو الأفول، فالتشريعات العمالية المستندة في المقام الأول على مقولة أخلاقية صرفة هي في حقيقة الأمر تسبح ضد التيار في مجابهتها لنظام اقتصادي مادي قد تآكلت فيه العناصر الأخلاقية وانسحبت من مشهد التأثير على النشاط الكلي لها، يقول الأكاديمي يوسف إلياس “في هذا العالم الذي اضطرب سياسياً واجتماعياُ واقتصادياً منذ ذلك الوقت ولايزال وسيظل إلى مدى غير منظور على هذه الحال ولدت أزمة قانون العمل المعاصر التي مؤداها أن قانون العمل غدا في بعض أجزائه إن لم يكن الكاملة (غريباً) عن البيئة الاقتصادية والاجتماعية التي هي في طور التلون”[12].
وبحسب رؤية يوسف فإن السبب الذي آل نهج التدخل ممثلا التشريعات العمالية بأن في يكون في طريقها نحو الاضمحلال، هو تعكيرها لصفو المزاج الرأسمالي، وتقاطعها مع تطلعاته في تكديس الثروة من خلال سن القواعد الحمائية للطبقة العاملة ” بدأت الدعوات إلى وقف المنهج التقدمي لقانون العمل، بل مراجعة كثير من أحكامه، بعد أن أصبح البعض يرى فيها سبباً رئيسياً في إعاقة التقدم الاقتصادي، وفي خلق كثير من التشوهات للأداء الاقتصادي، وعرقلة الاستثمار الوطني والتقليل من فرص الاستثمار الأجنبي”[13]
وليس بغريب أن تضيق النظم العلمانية في منعطفها مابعد الحداثي والمتبنية للعقيدة المادية ذرعاً بالتشريعات العمالية ذات البعد الأخلاقي، والرامية إلى تحقيق هدف لا ينتمي بالضرورة إلى المجال المادي، فإذا كانت نواة رؤية الحضارة المهيمنة على العالم في الوقت الحاضر لا تعترف بما هو متجاوز للإطار المادي، ولا تقبل أن يكون ضمن تفسيراتها المعرفية للوجود بأكمله عنصر مفارق للطبيعة، وترفض رفضاً قاطعاً كل السبل العلمية التي لا تكون من جنس الحس والمشاهدة والتجربة، وتدعو إلى التعاطي في الحقل الاجتماعي على أساس النفعية المحضة واستبعاد الدوافع أخرى، فمن المعقول جداً ألا يبقى مكان ليس فقط للتشريعات العمالية بل لكل ما هو معنوي سواء كان ديناً أو قيماً أو أخلاقاً.
إن قانون العمل يحتاج لاستمراره في البقاء إلى أساس صلب وقاعدة متينة تتضمن المكونات القيمية التي يسعى إلى تحقيقها، قاعدة ينطلق من خلالها إلى تفعيل الأطروحات القانونية على المخاطبين بها في إطار من الانسجام والتناغم دون أن يشغل عن ذلك بالصدامات المتأزمة مع المنظومة الاقتصادية الرأسمالية، ولا غير الإسلام يمكن أن يقوم بهذا الدور؛ وذلك لعدة أسباب منها:-
أولا: يتميز الإسلام بكونه ديناً شاملاً مستوعباً لمستجدات الحياة متصدياً لجميع المشكلات الطارئة أو ذات الطابع الظرفي، دون أن يتأثر هو بها أو أن تغير في بنيته الجوهرية؛ وذلك لاتسام الإسلام بمساحة مرنة تتفاعل مع المتغيرات وتحكمها محددات صلبة محكمة لا يمكن أن تكسر أو تخترق.
ثانياً: تدهور الحالة الحداثية وفقدانها السيطرة على زمام الأمور، وفشلها في تحقيق ما وعدت به من رفاه للبشرية في ظل تنامي وتيرة الاحتراب العالمي واضطراب الأوضاع العامة بشكل ملحوظ، ولم تكن الحروب العالمية، وانتشار الفقر والمجاعات، وتراكم الثروة الأعمى في يد القلة على حساب الكثرة، وتسليع الانسان والتوحش الاستهلاكي إلا حقائق بينة على سقوط النموذج وتحلحله.
ثالثا: أسبقية الإسلام إلى وضع الركائز الحمائية قبل نشوء المسألة العمالية في القرون الثلاثة الأخيرة، ومعايرته للعلاقة العمالية بين العمال وأصحاب العمل وفق ما تقتضيه مصلحة كل منهما، وذلك في غير موضع من نصوص التشريع الإسلامي، أو الاجتهادات الفقهية اللاحقة التي تسير في ركابها.
رابعاً: انعدام التناغم بين المقاصد النهائية للتشريعات العمالية، وبين البيئة التي تخلقت فيها بحيث آل الأمر بتلك التشريعات إلى أن تبقى في حالة صراع دائم مع محيطها، مما أضعف فاعليتها إزاء الأهداف التي من المفترض أن تحققها للطبقة العاملة,.
وأخيراً فالأمل أن ترى العمالية الإسلامية النور على أيدي فقهاء الأمة وعلمائها الأفذاذ، وأن يُبدأ في صياغة هذا الفقه على ضوء الهدي السماوي بالاستناد على الكتلة الفقهية الضخمة في التراث الإسلامي، والله المسدد بمدد من عنده، وهو سبحانه من وراء القصد.
[1] مقال له بدورية نعهد فراكلين 1936
[2] العمال في رحاب الإسلام، 419.
[3] سورة الأنبياء، 80.
[4] تفسير القرطبي، ص328.
[5] متفق عليه، وأنظر الإنصاف للمرداوي، 411/11.
[6] أخرجه البخاري، وانظر البحر الرائق ، 283/5.
[7] انظر شرح منتهى الإرادات، 411/3.
[8] رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
[9] رواه البخاري ومسلم.
[10] قانون العمل/، حسين حمدان، 47.
[11] قانون العمل، حسين حمدان، 58-59.
[12] أزمة قانون العمل، إلياس يوسف، 87.
[13] أزمة قانون العمل، إلياس يوسف، 34.