- بارعة اليحيى
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، نبينا محمد عليه وعلى آله وصحبه وبعد.
فهذه كلمات مختصرة، بعبارة موجزة حول ما يعتري الباحث من فتور في رحلة البحث ومحاولة لمعالجته، وعرض لوسائل معينة على إنجاز البحث، لا سيما الباحث الذي تخصص في العلوم الشرعية أو بما يوصل لفهمها، ويعين على ضبطها، فالوسائل لها أحكام المقاصد.
ابتداء اجعلونا نتفق على أمرين:
- النجاح الدنيوي والفوز الأخروي لا يتوصل إليه إلا بقدر من الصبر والمجاهدة، ولذلك يقول ابن القيم: “الكمالات كلها لا تُنال إلا بحظ من المشقة، ولا يُعبر إليها إلا على جسر من التعب”(1).
- الضعف الذي يعرض للباحث أمر طبيعي؛ فالفتور يكون في الجوانب التعبدية وفي غيرها من باب أولى!
وقد ورد في الحديث: “لِكُلِّ عملٍ شِرَّةٌ، ولِكُلِّ شرَّةٍ فَترةٌ، فمن كانَت فَترتُهُ إلى سنَّتي، فقد أفلحَ، ومَن كانت إلى غير ذلكَ فَقَد هلَك”(2).
وكما هو معلوم لدى طلبة العلم: أن للعلم لذة حاضرة كما قال ابن تيمية: “ولا ريب أن لذة العلم أعظم اللذات”(3)، ويجسد هذا المعنى ابن الجوزي فيقول: “ولقد كنتُ في حلاوة طلَبِ العلم أَلْقى من الشَّدائد ما هو أحلى عندي من العسَل في سبيل ما أطلبُ وأرجو، وكنت في زمن الصِّبا آخذُ معي أرغفةً يابسة، ثم أذهب به في طلب الحديث، وأقعد على نهر عيسى، ثُم آكل هذا الرَّغيف، وأشرب الماء، فكلَّما أكلتُ لقمةً شربتُ عليها، وعَيْن هِمَّتِي لا ترى إلا لذَّة العلم”(4).
ورفع الهمة لدى الباحث يُستجلب بأمور:
- استحضار أجر طلب العلم؛ فأجر طلب العلم عظيم، وتواترت نصوص الوحيين على بيان مكان العلم وفضل العلماء وطلبة العلم، وطريق الطلب طريق الجنة لمن صحت نيته؛ فكم يقضي الباحث في بحث مسألة وتحريرها أو تتبعها بين كتاب وبحث، وكم تأخذ من وقته وتقطع من ساعاته؟ ماذا لو احتسبها؟ لتلذذ وتمنى أن يمضي يومه كله في الطلب!
- استحضار فضل نشر العلم؛ فالباحث بعد المناقشة يحرص على معالجة النقص وتدارك القصور ثم يستعين بالله ويطبع بحثه، وينشره ورقيا وإلكترونيا؛ فيبقى أثره في الحياة وبعد الممات؛ ففي الحديث: “إِذَا مَاتَ ابنُ آدم انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارٍيَةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ”(5)، فعلمه مما ينتفع به بعد الموت حين انقطاع العمل.
- يستحضر الباحث أنه قد لا يتهيأ له لاحقا الجلوس في بحث لمدة سنتين أو ثلاث؛ فإن هذا مما يساهم في تجويد العلم وتكميله.
- يستحضر الباحث لذة النهايات وحلاوة الإنجاز، وهذا لا ينال بالراحة والدعة؛ فقد قال ابن القيم: “قد أجمع عقلاء كل أمة على أنَّ النعيم لا يُدرك بالنعيم وأن من آثر الراحة فاتته الراحة، وأنه بقدر الأهوال واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة، فلا فرحة لمن لا همَّ له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له”(6).
ومما يعين على إنجاز البحث:
- الاستعانة بالله دون الاتكال على الذكاء والتخطيط الجيد، وبذل الجهد واغتنام الوقت؛ بل إظهار الفقر لله والاعتراف بالضعف له، فإن ذلك سبب لتقوية الله للعبد ومده بالعون؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “قد يكون الرجل من أذكياء الناس وأحدِّهم نظرا ويعميه عن أظهر الأشياء، وقد يكون من أبلد الناس وأضعفهم نظرا ويهديه الله لما اختُلِف فيه من الحق بإذنه، فلا حول ولا قوة إلا به، فمن اتكل على نظره واستدلاله، أو عقله ومعرفته، خُذِل”(7).
- دعاء الله وطلب توفيقه، وفتحه وسداده، وسؤاله بأسمائه الحسنى بما يوافق الحال؛ فتقول يا فتَّاح افتح عليَّ ويا معين أعني، وقد قال الله: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ۖ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ۚ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأعراف: 180].
- الإكثار من الحوقلة فإن لها أثرًا عجيبًا كما قال ابن عثيمين رحمه الله: “كلمة لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة تقولها أيها الإنسان عندما يعييك الشيء ويثقلك وتعجز عنه قل: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ ييسر لك الأمر”(8).
- ديمومة العمل إن قل، وهذه قاعدة نافعة وعظيمة في العبادات فكيف بغيرها؟
وكما قال الشاعر:
اليوم شيء وغدًا مثله
من نخب العلم التي تلتقطْ
يُحَصِّلُ المرء بها حكمة
وإنما السيل اجتماع النقطْ
مع عدم تطلب الكمالات كأن يقول في نفسه: إما أنهي المبحث كاملا في ليلة أو أجلس على بحثي خمس ساعات يوميا.
- ترتيب الوقت وتنظيمه مع مراعاة فقه الأولويات؛ فالحق ليس لدينا إشكالية بالوقت لكن في تنظيمه؛ وكما قال ابن القيم: “إضاعة الوقت أشد من الموت”(9)، وانشغال المرء بالمهام النافعة والأعمال المفيدة خير لها من فراغ يقلق نفسه كما قال الطنطاوي: “لقد جربت زحمة الأعمال فوجدت الفراغ أصعب منها بكثير”(10).
- جدولة المهام وكتابتها مما يعين على إنجازها، والوقت الذي تقضيه في كتابة خططك ومهامك ليس وقتا ضائعا بل هو طريقك للإنجاز، كما قال روبرت بودش: “طور عادة تدوين خطة على الورق لإنجاز المهام، سواء كانت كبيرة أم صغيرة، فالنجاح الذي يتمتع به الكثيرون يرجع إلى دقة تخطيط حياتهم”(11).
- إعطاء النفس حقها من الاسترخاء ومكافأتها بعد الإنجاز لتنشط وتعود، فالنفس لها إقبال وإدبار؛ فاغتنم وقت إقبالها، وروِّح عنها وقت إدبارها، كما في الحديث: “ساعة وساعة”(12).
- التخفف من وسائل التواصل فلها بالغ الأثر في قطع الأوقات وتشتت الأفكار؛ والحل في حذف بعضها أو تحديد ساعة معينة لها.
- التركيز هو سر النجاح؛ فليس العبرة بقضاء وقت طويل في البحث مع ذهن شارد ونفس منهكة أو جسد متعب بل قد يفضل على ذلك ساعة يوميا مع ذهن حاضر واستيعاب للمقروء، وقوة في التركيز.
- مصاحبة ذوي الهمم؛ فإن صحبتهم تعين على اللحاق بهم، ومجالستهم تقوي العزائم، وتشحذ الهمم، والمرء يضعف بنفسه، فإن لم يجد تلك الصحبة واقعا؛ فبقراءة قصص الناجحين وسير العظماء من سبق أو عاصر؛ ممن قاوم الظروف، وجاوز التحديات، ليحقق هدفه، ويصل لمبتغاه، ومن ذلك مثلا: كتاب قيمة الصبر عند العلماء، والبرامج اليومية لأعلام الأمة الإسلامية، أو كتاب صفوة الصفوة وسير أعلام النبلاء وغيرها من المؤلفات التي تسرد قصصا واقعية لأشخاص لديهم 24 ساعة فقط ومع ذلك أدركوا ما أدركوا بهممهم وإصرارهم لا بجودة ظروفهم واتساع أوقاتهم..
- استحضار نعمة الفراغ والصحة والشباب وتداركها فإنها من محفزات الإنجاز، ولا يدري الشخص ما يعرض له مما يمتنع معه إكمال بحثه أو قطع سيره؛ والمؤمن كيِّس فطن، وفي الحديث: ” بادِرُوا بالأَعمَالِ”(13)، وقد عقد الخطيب البغدادي فصلًا في ذمِّ التسويف وأورد فيه: قيل لرجل من عبد القيس: “أوصِ؟ فقال: احذروا سوف”(14).
اقرأ ايضًا: نصائح تحفيزية لإتمام كتابة أطروحتك الأكاديمية
الحاشية:
- ابن القيم، مفتاح دار السعادة.
- صححه الألباني في صحيح الترغيب.
- ابن تيمية، مجموع الفتوى.
- ابن الجوزي، صيد الخاطر.
- رواه مسلم.
- ابن القيم، مفتاح دار السعادة.
- ابن تيمية، درء التعارض.
- ابن عثيمين، شرح رياض الصالحين.
- ابن القيم، الفوائد.
- مجد مكي، مقدمات الشيخ علي الطنطاوي.
- روبرت بودش، كيف تنجز أكثر؟ ترجمة: منال مصطفى محمد.
- هذه الجملة النبوية أوردها الإمام مسلم في صحيحه عن حَنْظَلَةَ الأُسَيِّدي – وكَانَ من كُتَّابِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَليْهِ وسلم قال: لَقِيَنِي أبُو بكرٍ فقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حنْظَلَةُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَافَقَ حنْظَلَةُ قَالَ: سُبْحَانَ الله مَا تَقُولُ؟ قَالَ: قُلْتُ نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَليْهِ وسَلَّم يُذَّكِّرُنَا بالنَّارِ والجَنَّةِ حَتَّى كَأنَّا رَأْيَ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وسَلَّم عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ والأَوْلَادَ والضَّيْعَاتِ فَنَسِيْنَا كَثِيرًا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَالله إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وسَلَّم قُلْتُ: نَافَقَ حنْظَلَةُ يا رَسُولِ اللهِ فقال صَلَّى اللهُ عَليْهِ وسَلَّم (ومَا ذَاكَ؟) قُلْتُ: يا رَسُولِ اللهِ نكون عِنْدِكَ، تُذَّكِّرُنَا بالنَّارِ والجَنَّةِ، حَتَّى كَأنَّا رَأْيَ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ، عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ والأَوْلَادَ والضَّيْعَاتِ فَنَسِيْنَا كَثِيرًا.
فقال رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَليْهِ وسَلَّم: “وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ المَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُم وَفِي طُرُقِكُم وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً” ثَلاثَ مَرَّاتٍ. - رواه مسلم.
- الخطيب البغدادي، اقتضاء العلم العمل.