- نشر: philosophynow
- ترجمة: علي نوروز
- تحرير: مصفى بن علي فتحي
(يستعرض فنسنت كفالوسكي في هذا المقال ما يصلح وما لا يصلح من آراء تولستوي).
“نحن نرى أن هذه الحقائق بديهية: إن جميع البشر خُلِقوا مُتساوِين، وأنهم وُهبوا من خالقهم حقوقًا غير قابلة للتصرف، وأن مِن بين هذه الحقوق حق الحياة والحرية والسعي وراء السعادة”.
(إعلان استقلال الولايات المتحدة، 1776)
هل نسعى جميعًا خلف السعادة؟ وهل يجب علينا ذلك؟ وماذا يعني ذلك؟ وهل يمكن السعي خلفها والظفر بها؟ وماذا يعني أن نسعى خلف السعادة؟. تتضمن العبارة: “السعي خلف السعادة” (كما ورد على سبيل المثال في إعلان الاستقلال) فرضيتين: الأولى؛ أن السعادة موجودة ومستقلة عنا في هذا العالم، والثانية؛ أنها صعبة المنال وتحتاج النية والجهد لتحقيقها. فهل هاتان الفرضيتان صحيحتان؟
مفارقة السعادة الشخصية
تستكشف روايات (ليو تولستوي) هذه الفرضيات بطريقة إرشادية عميقة؛ فكُتبه مليئة بشخصيات لديها هوس السعي خلف السعادة بشتَّى الطرق، ولكنّ القليل منهم يستطيع تحقيقها في الواقع. ترى في قصصه وصف المسارات التي تعدنا بالسعادة بطريقة مُغريَة وخدَّاعة في نفس الوقت، وفي نهاية الأمر نجد أنفسنا أمام طريق مسدود أو تحل علينا كارثة.
على سبيل المثال، هناك جنود يبحثون عن نشوة النصر في معركة، وشباب وشابات يافعون يغرقون في الحب المجنون والطائش، و مدمنو الجشع الذين يسعون وراء الثروة والسُّلطة والمكانة الاجتماعية. عادةً ما يسعى هؤلاء وراء نعيم زائل، والذي غالبًا ما يَظهر أنه سراب يُخلِّف وراءه فراغًا روحيًا، إن لم ينتهِ بك الأمر يائسًا.
إن السعادة الحقيقية الدائمة كمقابل للمتعة المؤقتة تعني حالة الراحة وضبط النفس وتناغمها مع جميع جوانب حياة الفرد _وخاصة في العلاقات_. ولكنْ كلما كان سعي شخصيات تولستوي خلف السعادة بجنون ونهم أكبر، كلما تملّصَت منهم واستعصَت عليهم. وهنا تكمن المفارقة: السعي خلف السعادة يؤدي إلى تعاسة حالكة.
ما الخطأ؟
شرح الفيلسوف الروماني الرواقي (سينيكا) _وقبله (أفلاطون)_ المفارقة بهذه الطريقة: السعيُ خلف السعادة الشخصية في جوهره يُعتبر أنانيةً وفوضى عاطفية، أيْ أننا نختزل الحياة في هوس ضيّق يستهدف إشباعًا مباشرًا لشهوات النفس، ومن ثَمّ تُدمِّر هذه النرجسية ارتباطنا الأخلاقيَّ مع الآخرين ومع الطبيعة وذلك بعزل كل شخص في سجن نفسه الوحيد وبإخضاع عقلنا لرغبات ونزوات عارضة ومُتقلِّبة.
لنضرب مثالًا: حسب تولستوي، فإن السعي خلف السعادة من خلال المكانة الاجتماعية يُعرِّضنا للقلق باستمرار، وحسد الناس من الطبقات الأعلى واحتقار مَن دونَنا والخوف من السقوط. أيْ لا توجد راحة نفسية في المدى القريب.
لم تدرِك شخصية (إيفان إيلتش) هذه المخاطرة إلا على سرير الموت بعدما تسببت شخصيته الوصولية في إهمال عائلته وروحه بشكل كارثي.
بوجه عام، يبدو أنّ تولستوي يريد أن يقول لنا أنّ السعي خلف السعادة مباشَرَةً يُعتبر محاولة عقيمة لأنها تُتوّج بالنرجسية، والنرجسية تقيّد بشدة الكون الواسع إلى حدود (الأنا) الضيقة.
يستجيب تولتسوي لهذه المفارقة بشكل افتراضي من خلال جميع أعماله بتقرير أنّ السعادة تتضمن العيش مع الآخرين، وأنّ أكبرَ أخطائنا ومصدرَ بؤسنا افتراضُنا بأنّ السعادة تُنال بإشباع رغباتنا الشخصية: رغبات المتعة والثروة والمكانة الاجتماعية.
يصف تولستوي بشكل واضح في إحدى قصصة الأولى _”السعادة الزوجية” (1859)_ نشوةَ الحب العاطفي الذي يثير مشاعرَ قويةً كالشهوة والغيرة والاستياء، كيف أنه ينزلق إلى سلوك هدّام بما في ذلك هدم الذات. فالحب العاطفي غير مستقر ويُسبّب فوضى عاطفية، ولكن يمكن أن يكون عكس ذلك إذا تحول هذا الهوس الشخصي إلى (حب الأسرة) ونقصد بذلك أن يُحب كلُّ طرف الطرفَ الآخَرَ كشريكٍ عائلي مُحتمَل.
كما يبدو، يُعايِش الملايين من الناس شيئًا من هذا القبيل، فيتطورون من شخص لديه فرط العاطفة وهوس الحب إلى شخص رصين و ناضج مُحِبّ للعائلة، وهذا ما يجلب بعض الاستقرار إلى المجتمع ويضمن تربية الأبناء.
على الرغم من ذلك نما لدى تولستوي بشكل تدريجي خيبةُ أمل في أعماله الأخيرة حتى مع السعادة الزوجية؛ ففي نهاية “الحرب والسلام” (1867) نستطيع رؤية خيبة الأمل هذه حين تجتمع العائلات الرئيسية في القصة في الحياة المُشترَكة بحميميّة في سلامٍ طال أمدُه بعد (حروب نابليون)، لكنْ تحدث المشاجرات والنزاعات والغيرة التي من شأنها أن تُفسد التناغم.
هل يشير تولستوي إلى أن السعادة الزوجية تعتريها فترات شديدة من الصراعات والتعاسة؟ لربما يعبر عن فكرة (نيتشه) بأن السعادة والتعاسة أختان تصطحبان بعضهما دومًا. كانت حياة تولستوي الأُسريّة في انحدار نحو البؤس المُتبادَل في نهاية المَطاف، كما وصف “الزواج الممتاز” ل(نيكولاي) ب(ماريا) بعبارة: “بعض الأحيان وخاصةً بعد فترات السعادة، كان يعرض إليهم فجأة شعور بالنفور والعداوة”، وتدرك (ماريا) أنه حتى في قمة سعادتها الأسرية “أن السعادة صعبة المنال في هذا الحياة.”
تتجسد هذه الرؤية لسعادة روحية لا يمكن تحقيقها في رواية تولستوي التالية “آنا كارنينا” (1877)، التي تحكي قصة امرأة عاطفية وذات مشاعر مُعقَّدة ومُتضارِبة، تتبع شغفها الكبير وتتخلّى عن زواج بارد وابن محبوب من أجل الإشباع الفوري للحب الرومانسي الآسِر، فينتهي بها الأمر بأنْ تُصبح منبوذةً اجتماعيًا، ويتغلغل شغفَها تدريجيًا شعورٌ بالغيرة والضياع، مما يؤدي في النهاية إلى انتحارها تحت عجلات قطار بُخاريّ.
طريق وعرة
يوجد في الكتاب قصة متناقضة عن حب صحي وسعادة نسبية، حيث يتخطى (كيتي) و(ليفن) سوء الفهم والغيرة والمرض والكآبة وموت أفراد العائلة ويسعَون لتحقيق زواج جميل. في نهاية الكتاب يكون لديهم كل ما كانوا يتمنّوَنه. لكن رغم ذلك، (ليفن) _روح تولستوي_ لا زالت تتعذب: “سعيد في حياته الزوجية، غني، إلا أن ليفن كان قريبًا جدًا من الانتحار!”. كتولستوي في منتصف الخمسينيات من عمره، حين كان على زوجته أن تخبئ الحبال والمسدسات، لكن لماذا؟ يقول: “بدون معرفةِ مَن أنا ولماذا أنا هنا، فمن المستحيل أن أطيق العيش.”
ومن خلال صراع (ليفن) الوجودي يبدو أن تولستوي ينتقد السعادة الزوجية كهدف: هل يُعتبَر من قِصَر النظر تضييقُ دائرة الخير والسعادة وحصرُها في الأسرة والأصدقاء؟ إن تربية الأبناء وتنمية الحب الأسري المُعقَّد قد تمتص كل ما في المرء من طاقة، لكن في النهاية يتحول عذاب (ليفن) إلى فرح، لكن ليس بفلسفة جديدة بل عن طريق فلّاح يُذكِّره بما يعرفه مُسبقًا وهو أن الهدف “لا أن نعيش من أجل تحقيق رغباتنا، بل العيش من أجل حياة الروح”.
“حياة الروح” هي التي تنقذ (ليفن) من اليأس القاتل وهذا ما لا يُمكن الإفصاح عنه بالعقل والكلام بشكل وافي.
يقول مبدأ حياة الروح أن العيش بنبذ الجشع والحرب والترف والنفاق والكره والاستئثار بالقوة هو العيش السعيد، و يرى تولستوي أن كل هذه الأشياء تفسد حياة الإنسان. و عِوضًا عن هذا فهي تُشجّع على الكرم والحب والبساطة والسلام والتسامح. وبذلك لخّص تولتسوي فِكرَه لاحقًا: “لايُمكن تحقيقُ السعادة في الحياة بالسعي وراء السعادة الشخصية، بل بالسعي الحثيث من كل إنسان من أجل خير البشرية جمعاء”.
ويعتقد أن هذا يتضمن نبذ طلب السعادة الشخصية، وخاصةً رغباتنا الحيوانية من أجل رغباتنا الجسدية: أيْ أنّ “الحب الحقيقي يتجسد في التضحية بالنفس”، كما لخّص (جون ستوارت ميل) الوضع بأنّ “السعداءُ الحقيقيون هم الذين يسعون خلف أهداف ثابتة، ولا يلتفتون إلى سعادتهم الشخصية.”
ويُتِمّ ذلك باتباع “قانون الخير المُتعدِّي” الذي تكشف عنه كل الأديان. هذا النوع من الإيثار قد لا يجلب السعادة بلمح البصر؛ ولكنه قد يعطي معنىً أخلاقيًا لوجود الشخص، ويُظهِر لنا بأن الحياة ليست فراغًا عبثيًا، بل هي مليئةٌ بالأهداف والغايات السامِيَة، كذلك من الآثار الجانبية للإيثار “سعادة الروح”، أي الامتنان الدائم بهِبة الحياة. وتدعم الأبحاث الجارية في علم النفس الإيجابي فكرةَ أنّ من يعيشون ليعملوا الخير تبدو عليهم السعادة والصحة أكثر من الذين يُدلّلون أنفسهم: انظر على سبيل المثال كتاب “لماذا تذهب الأشياء الجيدة للأشخاص الصالحين؟” للكاتب (جيل نيمارك) و(ستيفن بوست) (2007).
حاول تولستوي بشجاعة تجربة هذا الطريق الثوري في آخر سنوات حياته، ولكنه أقرّ بالفشل الشخصي المتواصل. يَرجع جزء من ذلك الفشل إلى شخصيته الشهوانية، وجزء آخر إلى أنه كان من مُلّاك الأراضي، كما ذكرت زوجته الصبورة: “زوجي الحبيب هو كتلة من التناقضات”. وكانت المحاولة الأخيرة من الهرب من هذه التناقضات في بداية الثمانينيات من عمره أن هجر منزله وعائلته في منتصف الليل وتوجّه نحو دَيْر، ولكنه مرض ومات على خط سكة الحديد؛ وكانت كلماته الأخيرة: “واصل البحث ولا تتوقف”، وهذا هو المبدأ الوحيد الذي جسّدَته حياته بدون تناقض حتى النهاية.
قُطبيّة تولستوي
استكشف تولستوي في حياته وكتاباته قطبَي التناقض وأوجه الترابط بينهما كالحرب والسلام، المتعة وضبط النفس، الفقر والثراء، والسعادة واليأس. ويُعتبَر هذا عاملًا من عوامل عظمته كروائيّ. ولكنْ في كثير من الأحيان تؤدي هذه الثنائية في تعاليمه الأخلاقية إلى مُغالَطة. إما الانغماس في الغرائز الحيوانية (الشهوة، الجشع، السلطة) أو نبذهم جميعًا والعيش كالرهبان. تأرجح في معظم حياته بهوس بين هذين النقيضين، فتغاضَى _على الأقل في أواخر حياته_ عن “الطريق الوسط” الذي درَّسه (أرسطو) و(كونفوشيوس) و(بوذا) والكثير من الحكماء. فعلى سبيل المثال، لا يتمسّك (أفلاطون) بحب الأنا ولا الإيثار، ولكنه يجعل رغباتنا تتناغم من خلال الفضيلة والعقل.
في محاورته المشهورة “بروتاغوراس” يُشبِّه الأنا بعربة يجرّها حصانان يعملان بالتناوب، يُمثِّل الحصانُ الأسودُ الرغباتِ الجسديةَ التي تنازع الحصان الأبيض الذي يُمثِّل بدوره الفضيلة. كلاهما مهم لجَرِّ العربة؛ لذلك تُمثِّل العجلةُ العقلَ الذي يقودهما للعمل مع بعضهما البعض باتجاه الخير. وتتجنب هذه الصورة ثنائية تولستوي وذلك بإقرار وجود التناقضات في النفس البشرية، وتوفر حلًا تنسيقيًا بينهما. يَفترِض بهذا أنْ يكون لدينا باستمرار هذه الدوافع القوية المتناقضة كالرغبة في الطعام والجنس وأيضًا التقبل الاجتماعي. لكنهما يحتاجان إلى السيطرة عليهما بالعقل الذي بإمكانه التمييز بين الأهداف قصيرة المدى من الأهداف بعيدة المدى.
من ناحية أخرى، يبدو أن تولستوي يفتقر إلى قوة العقل المُوجِّهة، وعذّبَ نفسه بتأرجحه بين اثنتين من قُوى البشرية المتضادة: الأرضية مقابل الروحية. حيث كتب: “كان يمكن أن أكون سعيدًا، إذا كنت مختلفًا عمّا أنا عليه”. يالها من بصيرة حزينة!
في الخاتمة، تمكّنَت بصيرة تولستوي من التوصل إلى أنّ السعي خلف السعادة الشخصية يجلب النرجسية والعبودية للرغبات الفوضوية، والتي بدورها تجلب التناقض والإحباط والمشاكل مع الآخرين، وباختصار: لن تؤديَ إلّا إلى التعاسة.
من ناحية أخرى، يعطي السعي وراء هدف أخلاقي أكبر كالسلام والمحبة والإنسانية هدفًا أسمى في الحياة، وبالتالي يعكس شعورًا بالرضا على المدى الطويل. وعلى الرغم من حب تولستوي للشهوات بدأ تدريجيًّا ينتقد الجنس والأكل والغرائز الجسدية الأخرى ووصَفَها بأنها أنشطة “حيوانية دنيئة”. هذه الثنائية الأخلاقية الثورية بين العقل والجسد مثال آخَر على المعضلة الزائفة: إما العيش بروحانية ملائكية أو غرائزية حيوانية.
إنّ عذاب تولستوي في أواخر حياته كان بسبب تأرجحه بين هذين النقيضين مع راحة قليلة أو معدومة في الطريق الوسط. بهذا، هل كان تولستوي في نهاية الأمر ضحية العيش في مدينته الفاضلة وثنائيته؟ ربما، لكننا لا نحتاج اتّباعه إلى هناك.
اقرأ ايضًا: معنى الحياة في العالم الحديث
مقال جميل لكن لم استطع إكماله، للأسف الكاتب يحرق روايات تولستوي دون أي تحذير للقارئ.
أتمنى أن تضعوا تحذيرًا في بداية المقال.
بارك الله فيكم