- ريتشارد ويكارت
- ترجمة: أحمد زايد
- تحرير: بلال الخصاونة
قبل عدة سنوات، فاجأني طالبان ذكيان في مناقشة صفّية بدفاعهما عن الافتراض القائل بأن هتلر لم يكن جيدًا ولا شريرًا. رغم أنني حافظت على رباطة جأشي، إلا أنني شعرت بالرعب. لم يكن أحد أسوأ القتلة في التاريخ شريرًا؟ كيف يمكن أن يصدقوا هذا؟ كيف يمكنهم تبرير وجهة النظر هذه؟
لقد فعلوا ذلك من خلال الاحتكام إلى الداروينية. ظهر موقفهم تجاه هتلر عندما كنا نناقش كتاب جيمس راشيلز، “مخلوق من الحيوانات: الآثار الأخلاقية للداروينية” (نشر جامعة أكسفورد، 1990). أخبرنا هذان الطالبان أن الداروينية قوضت كل الأخلاق. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها مثل هذا الرأي. في الواقع، في ذلك الوقت كنت في المراحل الأولى من مشروع بحثي حول تاريخ الأخلاق التطورية، وقد قمت بالفعل بمراجعة عمل بعض العلماء وعلماء الاجتماع الذين اعتقدوا أن الداروينية قوضت حقوق الإنسان والمساواة.
قبل قراءة كتاب راشيلز، لم أفكر كثيرًا فيما إذا كانت الداروينية تقلل من قيمة الحياة البشرية نفسها أم لا. يجادل راشيلز، الفيلسوف بجامعة آلاباما، برمنغهام، المعروف بإسهاماته في نقاش القتل الرحيم، بأن الداروينية تقوض الإيمان اليهودي المسيحي بقدسية الحياة البشرية. يأتي عنوان كتابه من ملحوظة قام بها داروين في دفاتر ملحوظاته عام 1838، ”يعتقد الإنسان بغطرسته أنه عمل عظيم، وأنه يستحق تدخل الإله. لكنني بشكل أكثر تواضعًا، أعتبره مخلوقًا من الحيوانات“. يفترض راشيلز حقيقة الداروينية ويستخدمها كنقطة انطلاق لتبرير القتل الرحيم وقتل الأطفال (للأطفال المعاقين) والإجهاض وحقوق الحيوان. وبتحفيز من كتابه، واصلت بحثي حول الأخلاق التطورية، ولكن الآن مع وضع سؤالين جديدين في الاعتبار: هل تقوض الداروينية الفهم اليهودي المسيحي لقداسة الحياة البشرية؟ هل تضعف الداروينية من التحريم التقليدي لقتل المريض والضعيف؟
عندما قرأت المزيد عن تطور الأخلاق التطورية، اكتشفت أن العديد من العلماء والمفكرين الاجتماعيين، وخاصة الأطباء في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، استخدموا بالفعل الحجج الداروينية لتقليل قيمة الحياة البشرية. في الطبعة الثانية من كتابه الشهير ”التاريخ الطبيعي للخلق“ (1870)، أصبح إرنست هيكل، الدارويني الرائد في ألمانيا، أول عالم ألماني يقترح بجدية قتل الأطفال المعوقين عند الولادة. كان الداروينيون في طليعة حركة علم تحسين النسل (اليوجينيا)، التي غالبًا ما روجت لفكرة أن المعاقين وغير الأوروبيين كانوا أقل شأنا من الأوروبيين الأصحاء. لقد جادلوا بأن الداروينية تعني عدم المساواة البشرية، حيث يجب أن يحدث التباين البيولوجي لدفع عملية التطور. حتى أن هيكل اقترح أن الداروينية كانت عملية ”أرستقراطية“، عملية تفضل أرستقراطية من الموهوبين (وليس الأرستقراطية الأرضية التقليدية، والتي لم يكن هيكل يتعاطف معها). نظرًا لأن الداروينية قدمت تفسيرًا طبيعيًا لأصل الأخلاق، فقد رفض العديد من أتباعها حقوق الإنسان باعتبارها مجرد وهم.
أعرب داروين عن شكوكه عندما هاجمه النقاد لتقويضه أسس الأخلاق. ومع ذلك، فقد رفض داروين في سيرته الذاتية فكرة المعايير الأخلاقية الموضوعية، مشيرًا إلى أنه ”يمكن للمرء أن يمتلك قاعدة في الحياة، بقدر ما أستطيع أن أرى، هذه القاعدة هي فقط تلك الدوافع والغرائز الأقوى أو التي تبدو للمرء على أنها الأفضل“ روّج فريدريك هيلوالد، وهو عالم إثنولوجي (علم الأعراق) مؤثر، لوجهة نظر داروينية للتطور الاجتماعي في عمله الرئيسي، تاريخ الثقافة (1875). كان هيلوالد راديكاليًا تمامًا في تمجيد العملية الداروينية للنضال من أجل البقاء فوق كل الاعتبارات الأخلاقية. وشدد على أن ”حق الأقوى قانون طبيعي“. أوضح هذه الفكرة أكثر: ”في الطبيعة فقط حق واحد يحكم، حق الأقوى، أو العنف. لكن العنف هو أيضًا في الواقع أعلى مصادر الحق، لأنه من دونه لا يمكن التفكير في أي تشريع. سأثبت في سياق تصويري بسهولة أنه حتى في تاريخ البشرية، احتفظ الأقوى بشكل أساسي بصلاحيته في جميع الأوقات“.
هذا التقويض الدارويني لحقوق الإنسان سيكون مصيريًا للرؤية اليهودية المسيحية لقداسة الحياة البشرية.
إلى جانب التأكيد على عدم المساواة بين البشر، قلل هيكل والعديد من زملائه الداروينيين من قيمة الحياة البشرية من خلال انتقاد المفاهيم اليهودية-المسيحية للإنسانية على أنها قائمة علي ”المركزية البشرية“. فبدلاً من كونهم مخلوقين على صورة الله، كما يجادل اليهود والمسيحيون، فإن البشر في الواقع ينحدرون من القرود. لقد طمسوا الفروق بين البشر والحيوانات، زاعمين أن الخصائص التي كان يُنظر إليها تقليديًا على أنها إنسانية فريدة – العقلانية والأخلاق والدين وما إلى ذلك – كانت موجودة أيضًا في الحيوانات إلى حد ما. وحسب كلمات داروين: الفرق بين الإنسان والحيوان كميٌّ وليس نوعيًا.
كما أن تفسير داروين بأن جميع الخصائص البشرية التي ارتبطت سابقًا بالروح البشرية لم تكن متميزة نوعيًا عن الحيوانات، قوض أيضًا المفهوم اليهودي المسيحي التقليدي عن ثنائية الجسد والروح، والتي أعطت البشر أهمية أخلاقية وروحية أكبر من الكائنات الحية الأخرى. لقد فهم العديد من الداروينيين الآثار المترتبة على ذلك، بما في ذلك هيكل، الذي أسس الرابطة الأحادية (رابطة تدعم الفلسفة المادية التي تقول أن الإنسان مادة فقط) في عام 1906 على وجه التحديد لمحاربة جميع الأديان والفلسفات الثنائية، وخاصة المسيحية (وأيضًا الكانطية). وصف أحد الأعضاء البارزين في الرابطة الأحادية، أوجست فورل، وهو طبيب نفسي مشهور عالميًا بجامعة زيورخ، لقاءه الأول مع الداروينية كنوع من تجربة التحول. وأوضح أن الداروينية قد أقنعته بأن ثنائية الجسد والروح لم تعد ممكنة وأن البشر ليس لديهم إرادة حرة. استنادًا إلى رأيه بأن الوراثة مسؤولة عن جميع سمات الشخصية تقريبًا (ومعظم الأمراض العقلية)، أصبح فورل أحد أكثر الشخصيات تأثيرًا في حركة تحسين النسل الألمانية، حيث دعا إلى القضاء على الأجناس ”الأدنى“ والأطفال المعاقين، ودعم ألفريد بلويتز، الذي أسس أول منظمة ومجلة لعلم تحسين النسل في العالم.
عنصر آخر من عناصر الداروينية ساهم في التقليل من قيمة الحياة البشرية هو تشديدها على النزاع من أجل البقاء. استنادًا إلى مبدأ السكان لمالثوس، أشار داروين إلى أن النسل يتم إنتاجه بمستويات أعلى بكثير مما يمكنه البقاء على قيد الحياة. لذلك يموت الكثير من الناس بالضرورة في الصراع من أجل البقاء. بينما رأى مالثوس أن هذا الاتجاه نحو الزيادة السكانية هو سبب البؤس والفقر، أوضح داروين أنه كان مفيدًا حقًا. في ختام كتابه أصل الأنواع، كتب داروين: ”وهكذا، من حرب الطبيعة، ومن المجاعة والموت، تخرج الحيوانات الأرقى“، بالنسبة لداروين فالموت – وحتى الموت الجماعي – لم يكن حتميًا وحسب بل ضروريٌّ أيضاً. كما أوضح أدريان ديزموند في سيرته الذاتية لـتوماس هكسلي (عالم الأحياء الدارويني الأبرز في أواخر القرن التاسع عشر في بريطانيا، والذي حصل على لقب ”كلب داروين“) ، ”فقط من الموت في الإبادة الجماعية يمكن أن يتقدم القليل المتبقي“، عبر هيلوالد عن نفس الفكرة في تاريخ الثقافة، مدعياً أن ”التقدم التطوري سيحدث عندما يتخطى البشر ”الأنسب“ جثث المهزومين؛ هذا هو القانون الطبيعي“.
في الواقع، ادعى العديد من الداروينيين الرائدين في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين أنه من أجل تعزيز التقدم التطوري، يجب القضاء على العناصر الأقل قيمة للإنسانية، والتي تُعرف عمومًا بالمعاقين وتلك الخاصة بالأجناس غير الأوروبية. كانوا يخشون من أن الأخلاق اليهودية والمسيحية والإنسانية، جنبًا إلى جنب مع تقدم الحضارة الحديثة – وخاصة الطب والنظافة – ستؤدي إلى انحطاط بيولوجي، حيث سيسمح للضعفاء والمرضى بالتكاثر. على الرغم من أن الكثيرين ركزوا على طرق تقييد التكاثر، إلا أن عددًا مفاجئًا من الداروينيين البارزين – وليس فقط هيجل وفوريل – روجوا لقتل ”غير الصالحين“ كوسيلة لتحقيق التقدم البيولوجي. كانت الإبادة العرقية وقتل الأطفال من المكونات الأساسية لبرنامجهم الدارويني للتجديد البيولوجي.
بالنظر إلى الوراء، فإن العلاقة بين هذه الأفكار الداروينية وأيديولوجية هتلر واضحة. من المثير للاهتمام، مع ذلك، أنه عندما بدأت بحثي حول الأخلاق التطورية، لم يكن هتلر موجودًا حتى على شاشة الرادار الخاصة بي. كنت حذرًا من الربط بين داروين وهتلر بسبب محاولة دانيال جاسمان الفاشلة لرسم خط مباشر من هيجل إلى هتلر في كتاب الأصول العلمية للاشتراكية القومية، وهو كتاب يجد معظم المؤرخين أنه خاطيء بشكل صحيح. ومع ذلك، فإن عنوان كتابي – من داروين إلى هتلر: الأخلاق التطورية، وعلم تحسين النسل، والعنصرية في ألمانيا – يشير إلى أنني قمت بالربط مع ذلك، وإن كان بطريقة مختلفة تمامًا عن جاسمان. في الواقع، كلما درست كتبًا ومقالات عن الأخلاق التطورية لعلماء وأطباء ومفكرين اجتماعيين ألمان، اكتشفت أنه لا يمكنني تجنب أوجه التشابه بين الخطاب الدارويني الألماني وأيديولوجية هتلر. ومع ذلك، لا ينبغي أن يكون هذا بمثابة مفاجأة كاملة، لأن جميع من كتبوا سيرة هتلر تقريبًا قد لاحظوا العناصر الاجتماعية الداروينية القوية في أيديولوجيته، كما فعل إيان كيرشو مؤخرًا في سيرته الذاتية المؤلفة من مجلدين.
تأثر هتلر بشدة بالأيديولوجية الداروينية لحركة تحسين النسل، وتعكس كتاباته وخُطبه ذلك بوضوح. في كتابه (كفاحي) أكد هتلر أن فلسفته: هي أنه ”لا يؤمن بأي حال من الأحوال بالمساواة بين الأجناس”، ولكنه يعترف مع اختلافاتهم بقيمتهم الأعلى أو الأدنى، ومن خلال هذه المعرفة يشعر بأنه ملزم، وفقًا للإرادة الأبدية التي تحكم هذا الكون، “بتعزيز انتصار الأفضل والأقوى، والمطالبة بإخضاع الأسوأ والأضعف. وبذلك فهذه الرؤية تتبنى من حيث المبدأ قانون الطبيعة الأرستقراطي وتؤكد صلاحية هذا القانون حتى آخر كائن فردي. إنه لا يعترف بالقيمة المختلفة للأجناس فحسب، بل يعترف أيضًا بالقيمة المختلفة للأفراد … ولكن لا يمكن بأي حال من الأحوال الموافقة على فكرة أخلاقية موجودة، إذا كانت هذه الفكرة تشكل خطرًا على الحياة العرقية لحامل أخلاق أعلى“.
وهكذا برر هتلر آرائه العرقية استنادًا إلى أسس الداروينية. نظرًا لأن آراء هتلر العنصرية كانت معيبة بشكل واضح، فإن بعض العلماء يسمون آراء هتلر ”علم زائف“ أو شكل ”مبتذل“ من الداروينية. ومع ذلك، هذا الحكم على هتلر هو فقط من خلال المعايير اللاحقة للفكر العلمي الحالي. اعتنق العديد من العلماء والأطباء البارزين علم تحسين النسل والعنصرية العلمية في أيام هتلر، وبالفعل صرّح فريتز لينز، الأستاذ الأول لعلم تحسين النسل في إحدى الجامعات الألمانية، في عام 1933 أنه صاغ أساسيات الأيديولوجية النازية حتى قبل أن يبدأ هتلر حياته السياسية.
لم يكن برنامج هتلر للإبادة الجماعية هو النتيجة السلبية الوحيدة لتقليل الداروينية من قيمة الحياة البشرية، ولم تكن ألمانيا الدولة الوحيدة التي تأثرت. يشير الكثير من العمل في تاريخ حركة تحسين النسل في الولايات المتحدة وبريطانيا وأماكن أخرى إلى أن النخب العلمية والطبية في أجزاء كثيرة من العالم قد شربت التقليل الدارويني من قيمة الحياة البشرية. على الرغم من أن هذا لم يؤدِّ إلى إبادة جماعية في هذه البلدان، إلا أنه أدى إلى مظالم أخرى، مثل إجراء عمليات جراحية إجبارية لآلاف الأشخاص المصنفين على أنهم ”أقل لياقة“ لمنعهم من التكاثر، بناءً على حالتهم الوراثية. لعبت أيديولوجية الداروينية الاجتماعية وعلم تحسين النسل أيضًا دورًا مهمًا في الحركة الناشئة لإضفاء الشرعية على الإجهاض في أوائل القرن العشرين.
علاوة على ذلك، جاء التأكيد الأخير لاستنتاجاتي حول التقليل الدارويني لقيمة الحياة البشرية من دراسات إيان دوبيجين ونيك كيمب الجديدة المهمة حول تاريخ حركات القتل الرحيم في الولايات المتحدة وبريطانيا، على التوالي. كلاهما يؤكد على دور الداروينية في تمهيد الطريق أيديولوجياً للقتل الرحيم. وفقًا لدوبيجين، ”كانت نقطة التحول الأكثر أهمية في التاريخ المبكر لحركة القتل الرحيم هي قدوم الداروينية إلى أمريكا“. وهذا صحيح في بريطانيا أيضًا، لأن كيمب يخبرنا: ”بينما يجب أن نكون حذرين من تصوير داروين على أنه الرجل المسؤول عن الدخول في عصر علماني، يجب أن نكون حذرين بالمثل من التقليل من أهمية الفكر التطوري فيما يتعلق بالتشكيك في قدسية الحياة البشرية“ كانت النظرة العالمية لمعظم دعاة القتل الرحيم الأوائل مشبعة بالأيديولوجية الداروينية، واستخدموا بصراحة الأفكار الداروينية لمحاربة المفهوم اليهودي المسيحي لقداسة الحياة البشرية.
وهكذا، فإن الأدلة التاريخية من أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين تدعم بشكل ساحق الأطروحة القائلة بأن الداروينية قللت من قيمة الحياة البشرية. أياً كان ما يفكر فيه المرء فلسفياً حول هذه القضية – وبالطبع بعض الداروينيين يشعرون بالحرج من هذا الارتباط ويحاولون إنكاره – فقد ساهمت الداروينية تاريخياً في التقليل من قيمة الحياة البشرية، وبالتالي وفرت دافعاً للقتل الرحيم، وقتل الأطفال، والإجهاض.
يظهر السؤال الآن: هل هذا كله مجرد حفريات تاريخية؟ ألم نتعلم درسًا من النازية؟ ألا نستخدم الداروينية الاجتماعية لتقليل قيمة البشر؟ ألم نتخلى عن العنصرية البيولوجية؟
نعم، بالفعل، لقد تعلمنا الكثير من الماضي النازي، ولا أعتقد أنه من العدل مقارنة وضعنا الحالي بألمانيا النازية، كما لو أنهما متماثلان تمامًا. نحن لا نعيش في ديكتاتورية قاتلة، أو في عصر يتم فيه الدفاع عن العنصرية، على الأقل في الأوساط الأكاديمية. لهذا يمكننا أن نكون شاكرين. ومع ذلك، في بعض النواحي، أتساءل عما إذا كنا قد تعلمنا ما يكفي، لاسيما عندما أرى الداروينيين المشهورين وعلماء النفس التطوري وعلماء الأخلاقيات البيولوجية يستخدمون الداروينية اليوم لتقويض قدسية الحياة البشرية. سواء كانت الداروينية تقلل من قيمة الحياة البشرية أم لا، فهناك بالتأكيد الكثير من الناس الذين يعتقدون أنها كذلك.
بادئ ذي بدء، فإن الموقف الذي يتبناه راشيلز بشأن قضايا الحياة والموت يشبه إلى حد كبير موقف عالم الأخلاقيات البيولوجية الأسترالي، بيتر سينجر، الذي أثار تعيينه قبل بضع سنوات في كرسي أخلاقيات علم الأحياء في جامعة برينستون جدلًا قويًا. اشتهر سينجر، بتعزيز شرعية وأد الأطفال المعوقين والقتل الرحيم الطوعي، وكذلك الدفاع عن حقوق الحيوان. تلعب الداروينية دورًا رئيسيًا في فلسفة سينجر. يدعي سينجر أن داروين ”قوض أسس الطريقة الغربية بأكملها في التفكير في مكان جنسنا في الكون“. لقد جرد الإنسانية من المكانة الخاصة التي منحها الفكر اليهودي المسيحي. يشكو سينجر من أنه على الرغم من أن داروين ”وجه ما كان يجب أن يكون ضربة نهائية لـ ”وجهة نظر الإنسان للكون“، فإن وجهة النظر القائلة بأن البشر مميزون ومقدسون لم تختفِ بعد. يعمل سينجر الآن على توجيه ضربة قاضية على أخلاقيات قدسية الحياة.
لم يكن سينجر وراشيلز الفلاسفة البارزين الوحيدين الذين يجادلون بأن الداروينية تقوض قدسية الحياة البشرية. في كتاب فكرة داروين الخطيرة، يجادل الفيلسوف المادي دانييل دينيت بأن الداروينية تعمل مثل ”حمض عالمي“، يدمر الأشكال التقليدية للدين والأخلاق. في مواجهة قضية أخلاقيات الطب الحيوي، يسأل دينيت، ”في أي نقطة تبدأ حياة الإنسان أو تنتهي؟ يتيح لنا المنظور الدارويني أن نرى بوضوح لا لبس فيه لماذا لا يوجد أمل على الإطلاق في اكتشاف علامة منبهة، هذا مهم“. ولهذا السبب، يجادل دينيت، هناك ”تدرجات في القيمة في إنهاء حياة الإنسان“، مما يعني أن بعض الأرواح البشرية لها قيمة أكبر من غيرها. بعد استخدام حمضه الدارويني لإذابة أخلاقيات قدسية الحياة، يتساءل دينيت ”أيهما أسوأ؟ اتخاذ إجراءات بطولية لإبقاء رضيع مشوه، أو اتخاذ إجراءات على نفس المستوى من البطولية بجعل هذا الرضيع يموت بأسرع ما يمكن وبدون ألم؟“ يبدو أن فكرة داروين الخطيرة سامّة بشكل خاص للأطفال المعوقين.
عالم النفس التطوري ستيفن بينكر، أستاذ علم النفس في جامعة هارفارد، يربط أيضًا بين الداروينية وقتل الأطفال. بعد حدوث بعض حالات قتل الأطفال البارزة في عام 1997، كتب بينكر مقالًا يزعم أنه يشرح أصوله التطورية. نظرًا لأن بينكر يعتقد أن ”إبقاء ذرية تحمل جيناتنا هي الهدف الكامل لوجودنا“، فإنه بالطبع يحاول تفسير قتل الأطفال على أنه سلوك يمنح بطريقة ما ميزة تكاثرية. يجادل بأن ”الأم الجديدة ستقوم أولاً بتقييم الطفل الصغير بهدوء وتقييم وضعها الحالي وفقط في الأيام القليلة القادمة تبدأ في رؤيته كفرد فريد ورائع“. ووفقًا لبينكر، فإن حب الأم لطفلها سينمو فيما يتعلق ”بالقيمة البيولوجية المتزايدة للطفل (فرصة أن يعيش لينجب أحفادًا“. ينكر بينكر على وجه التحديد أن للأطفال الصغار ”الحق في الحياة“ (لأن الأطفال الصغار، أو الرضع لم يصلوا بعد لمرحلة إدراك معنى الحياة أو الموت، شخصياتهم لم تتطور بعد بما فيه الكفاية)، لذلك، على الرغم من أنه لا يتغاضى تمامًا عن قتل الأطفال، إلا أنه يعتقد أنه لا ينبغي لنا أن نتعامل بقسوة مفرطة مع الأمهات اللائي يقتلن أطفالهن. إن رؤية بينكر لقتل الأطفال الصغار ليست بأي حال من الأحوال غير عادية بين علماء النفس التطوريين. في كتاب مدرسي رائد عن علم النفس التطوري، التطور والسلوك البشري: وجهات نظر داروينية حول الطبيعة البشرية (2000)، يقدم جون كارترايت نفس التفسير الدارويني لقتل الأطفال الصغار مثل بينكر.
ماذا يقول علماء الأحياء الداروينيون عن كل هذا؟ يعتقد البعض أن سينجر ورفاقه يسيرون على الطريق الصحيح. في عام 2001، قدم ريتشارد دوكينز، وهو على الأرجح أشهر علماء الأحياء الداروينيين في العالم اليوم، نداءًا حماسيًا لاستخدام الهندسة الوراثية لإنتاج أسترالوبيثيسين (يُزعم أن بقاياه الأحفورية هي أسلاف الأنواع البشرية). إن إنتاج مثل هذه ”الحلقة المفقودة“، وفقًا لدوكينز، من شأنه أن يوفر ”فوائد أخلاقية إيجابية“، لأنه سيقضي على ”المعايير المزدوجة“ لأولئك الذين يدعون أن كونك إنساناً هو سبب وجيه بما يكفي لكي تتمتع بحقوق أخلاقية أكبر من الحيوانات غير البشرية، يدعي دوكينز على وجه التحديد أن إنتاج مثل هذا الكائن الحي سيظهر ضعف هذا الموقف، لأنه سيظهر أن البشر لا يختلفون عن الحيوانات.
إدوارد ويلسون، رائد علم الأحياء الاجتماعي الحائز على جائزة بوليتزر وأستاذ هارفارد الذي تدور رؤيته الكاملة للطبيعة البشرية حول الداروينية، يجسد أيضًا هذا التقليل من قيمة الحياة البشرية، على الرغم من أنه أكثر دقة في ذلك. في كتابه التوافق: وحدة المعرفة 1998 يجادل بأن رؤيته التجريبية للعالم ”دمرت النظرية القائلة بأننا كائنات خاصة وضعها الإله في مركز الكون لكي نكون بمثابة قمة الخلق لمجد الآلهة“ في إحدى فقرات سيرته الذاتية، يقارن البشر بالنمل، ويخبرنا أننا بشر كثيرون جدًا على الكرة الأرضية، بينما النمل في توازن سكاني مناسب. يوضح ويلسون: ”إذا كنا سنختفي اليوم، فستعود بيئة الأرض إلى التوازن الخصب الذي كان موجودًا قبل الانفجار السكاني البشري“. ولكن إذا اختفى النمل، فإن آلاف الأنواع ستهلك نتيجة لذلك. يبدو أن المعنى هو: النمل أكثر قيمة من البشر، والتنوع البيولوجي له الأسبقية على حياة الإنسان.
لا يتفق العديد من علماء الأحياء بالطبع مع سينجر ودوكينز. منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى اليوم أكدوا لنا أن الداروينية ليس لها آثار على الأخلاق. يزعمون أن أولئك الذين يحاولون تطبيق الداروينية على الأخلاق يرتكبون ”مغالطة الطبيعانية“. عارض صديق داروين والمدافع عنه، توماس هنري هكسلي، بشدة محاولات معاصريه للحصول على إرشادات أخلاقية من عمليات التطور الطبيعي. في الآونة الأخيرة، غالبًا ما كان ستيفن جاي جولد يتعامل مع علماء النفس التطوريين، بحجة أن الأخلاق هي عالم منفصل عن علم الأحياء. من وجهة نظره، ليس لدى الداروينية ما تقوله عن كيفية تصرف البشر.
ومع ذلك، فإن جولد لم يفصل حقًا بين العلم والأخلاق بقدر ما ادعى. بينما كان يجادل بصوت عالٍ بأن العلم الدارويني من جهة والدين والأخلاق من جهة أخرى باعتبارهم ”سلطات غير متداخلة“، مفصولان عن بعضهم البعض بقدر الشرق عن الغرب، فقد أصر على استخلاص استنتاجات من علمه الدارويني. في كتابه حياة رائعة: طفل بورغيس وطبيعة التاريخ فإن بيت القصيد من كتابه هو استخدام طفل بورغس – نتوء صخري محمّل بالحفريات في كندا يعج بالعديد من أشكال الحياة القديمة المنقرضة – كمثال على مصادفة التاريخ، لإثبات أنه لا يوجد هدف حقيقي للوجود البشري. ”قم بإعادة شريط الحياة إلى الأيام الأولى من صخرة بورغيس؛ دعها تُلعب مرة أخرى من نقطة انطلاق متطابقة، وتصبح الفرصة صغيرة جدًا بحيث لا يمكن لأي شيء مثل الذكاء البشري أن يتم منحه إعادة العرض“ من الواضح أن نظرته لصدفة الخلق البشري في العملية التطورية تؤثر على الطريقة التي ينظر بها إلى طبيعة ومكانة البشرية، لأنه يخبرنا أن ”علم الأحياء قد حوّل حالتنا من محاكاة الله إلى قرد عارٍ منتصب“. الكلمات الختامية لهذا الكتاب رائعة لمن يدعي الحفاظ على العلم والدين في أجزاء غير متداخلة: ”وهكذا، إذا كنت ترغب في طرح السؤال الأبدي – لم البشر موجودون؟ – ”فهذا مجرد حدث تاريخي“ لا أعتقد أنه يمكن إعطاء أي إجابة ”أفضل“. نحن نسل التاريخ“.
هل يعتقد جولد حقًا أن هذا الاستنتاج ليس له آثار دينية أو أخلاقية؟ هل يعتقد حقًا أن ادعائه بأن علم الأحياء يحط من قدر البشر من كونهم مخلوقين على صورة الإله إلى قرَدة عارية هو بيان علمي بحت لا علاقة له بالقضايا الأخلاقية، مثل الإجهاض والقتل الرحيم؟
في ضوء كل هذا، هل تقلل الداروينية حقًا من قيمة حياة الإنسان؟ أعتقد أنني أظهرت تاريخياً بشكل قاطع أن الداروينية قد قللت من قيمة الحياة البشرية، مما أدى إلى أيديولوجيات تروج لتدمير الأرواح البشرية التي تعتبر أدنى منزلة من الآخرين. غالبًا ما كان أولئك الذين يتصدرون الترويج للإجهاض، وقتل الأطفال الصغار، والقتل الرحيم، والإبادة العرقية، يعتمدون بشكل علني في آرائهم على الداروينية. كما أوضحت في هذا المقال، فإن أولئك الذين يفضلون التفكيك الدارويني لأخلاقيات قدسية الحياة لديهم قدر كبير من القوة الفكرية، والفكرة أصبحت منتشرة إلى حد ما في الأوساط الأكاديمية اليوم. هناك، بالطبع، العديد من التحركات الدينية والفلسفية التي يمكن للمرء القيام بها لتجنب هذه الاستنتاجات، وقد قام بعض الداروينيين في الماضي وسيستمرون في المستقبل في معارضة مثل هذه التطورات بقوة (من أجل ذلك يمكننا أن نكون شاكرين)، وتفسيرها على أنها الاستقراء الخاطئ من قبل الماديين الداروينيين المتحمسين وحسب. ومع ذلك، يبدو لي أن هناك منطقًا متأصلًا في تحرك الداروينيين لتقويض أخلاقيات قدسية الحياة، مما يجعلها جذابة للغاية لدرجة أنني أشك في أنها ستختفي أبدًا طالما أن الداروينية صاعدة. على أي حال، من المؤكد أن نقول إن الداروينية في المجتمع الحديث قد ساهمت بقوة في تآكل أخلاق قدسية الحياة. إن الداروينية هي في الحقيقة مسألة حياة أو موت.