فيما مضى، كنتُ أسافرُ خفيفَ الحِمْل، تعودتُ أن أحتقِبَ ما تيسَّر وظهرَ أمامي، نذهبُ في رحلاتٍ وزياراتٍ عدَّة، يأتي كلُّ شخصٍ بشنطةِ سفر، وآتي غالبا بـ “كيس دعاية” أحشرُ فيه حاجاتي وأمضي.
ثم تركتُ هذا الأمر؛ وأصبحتُ ثقيلَ الحِمل، كلما هممتُ بسفر، أجدني بحاجةٍ إلى جهدٍ كبير في التنقُّل بحقيبةِ سفر مرهقة، لم تعد كما كانتْ خفيفة، بل اتسعت بحجمِ شتاتِ الذِّكرياتِ التي سبقتني إلى الاختباءِ فيها!
مؤخرًا؛ أدركتُ أنَّ الذكريات التي تسكنني تشبه حقيبتي.. نجمعُ فيها أوراقنا التي نأبى التخلي عنها.. وبقايا الحنين؛ قبلَ أن تحترقَ في سراديبِ النِّسيان!
يقولونَ إنَّ حقيبتي فيها كل شيء؛ وأدركُ ضعفَ قولٍ كهذا، فأيُّ حقيبةِ سفرٍ تلكَ التي تتسعُ وطنًا!
اللحظةَ مشى من أمامي شاب يقودُ حقيبته الصغيرة بكلِّ يُسْر، شعرتُ بخفةِ روحه! لا أدري لماذا أحسستُ لوهلةٍ أنَّ كِبَر الحقيبة، أو كثرتها منافٍ للحرية؟! كما أنها تكديسٌ لأثقالٍ تقيدُ معصميْك، وتوقعكَ في همٍّ لا ينفكُّ عنك؛ فأنتَ الغريب، الذي لا تعلمُ أينَ يهبطُ بكَ جناح القدر!
أن تعيشَ خفيفًا؛ يعني أن تتمتعَ بحريةٍ أكبر، تساعدكَ على الانطلاق، والتحرر من الارتماءِ في أحضانِ أشياء ألِفْتها، فجلبتها معك، ضنًّا بها من نيْرِ البعدِ والفناء، وإشباعًا لغريزةِ تملُّك ما تنتمي إليه وإليك.
إني أحنُّ إلى الرَّشاقةِ التي كانت تسري في كياني عندما كنتُ أجوبُ المدنَ بكيسٍ صغير، وإذا سافرتُ إلى ما وراءِ المدن؛ أخذتُ شنطةً صغيرة من جارٍ أو صديق، لا تشكِّل حِملًا، ولا تثقلني بتعهدها. كانت يومها الأشياء قليلة، والمعاني مزدحمة، بضع مقتنياتٍ خفيفة تحملها روحٌ مثقلة بالدَّهشة، والتطلعِ إلى الحياة، ثم ارتكسنا، فتزاحمتِ الأشياء، وثقلت الروح، وخَفَت بريقُ المعنى، التفتنا إلى ضخامةِ الحقيبة، وكمِّ الأشياء التي في بطنها، ولم نفكِّر بحقيقةِ الوجهة، وغايةِ السَّفر، ومآل العودة، ومكتسباتِ الطريق!
ما بينَ حينٍ وآخر؛ نحتاجُ إلى سفرٍ بعيدِ الغور، ونحنُ في أماكننا التي نقبعُ فيها، بلا أمتعةٍ ندسُّها في حقيبةِ سفر، بلا أثقالٍ تشدنا إلى الوراء، بلا قيود، بلا حدود، حيثُ لا تذكرةَ سفر، وبلا انتظارٍ محبطٍ لفيزا العبور..!
عندما قررتُ السَّفر وعزمتُ على ذلك؛ كانت ملامحُ الحزنِ لا تفارقُها، كنتُ أختلسُ النَّظر إليها وهي تبكي ما بينَ حينٍ وآخر، ترتِّبُ حقائبي، ترصها بلطفٍ؛ كأنها تدسُّ فيها شيئًا من روحها, لتصحبني إلى حيثُ أمضي!
وعندما حانَ وقتُ الرَّحيل، دَفَقَ ماء عينيها، لم تقو على الوقوف، لم تشأ لحظةً واحدةً أن تصدقَ أني مرتحلٌ عنها.. لقد أُصبتُ بالتبلدِ لحظةَ رأيتها تنتحب، حاولتُ أن أحبسَ دمعي، وأن أُظهرَ قوةً مصطنعة، أن أبقى قويًا ريثما يحول بيننا حاجز الرؤية..!
وما إن غابت ملامحها عني؛ فاضت عينيَّ بالبكاء، كنتُ أدركُ أني مقدِمٌ على سفرٍ طويل، لا أستطيعُ أن أتكهَّن ملامحه.. ولا زلتُ أحملُ في نفسي تلكَ الخطيئة، خطيئة الرَّحيل!
لم أتعود أن انفصلَ عنها، كان قَدَرنا مشتركًا مذ وعيتُ على هذه الدنيا، لقد أطعمتني رضًا، وسقتني سلامًا، وأفرشتني طمأنينةً وراحة.
لقد أحبتني كما لم تحبَّ أمٌّ ولدها، وخذلتها كما لم يخذلْ ولد أمَّه.. لقد خذلتها بقرارِ الرحيل، الرحيل الحتمي في لحظةٍ فارقة من عمرِ الزَّمنِ العابر!
كلما تذكرتُ أمي، أسافرُ في ملامحها مثل حمامةٍ لن تعرفَ سماءً أكثر أمانًا من وجهها، ولا روحًا أكثر رحابة من روحها! وكلما استحكمَ البعدُ بيننا، أثرثرُ دمعًا يخففُ عني وعثاء الغياب! فسلامٌ عليكِ، كلما تناثرتِ الوجوه على صَدرِ الصَّباح، سلامٌ عليكِ كلما أسندَ أحدهم رأسه الى صَدرِ أمِّه!
منذُ اليوم الذي تركتكِ فيه، وأنا في اللاحياةِ واللاموت، شيءٌ بينَ الوصفينِ لا يُعرف، أنتظرُ لحظةَ الخلاص، الخلاص من سطوةِ الغياب، من عذاباتِ الفراق.. وقسوةِ الحنين، أنتظرُ بصمتٍ لقاءَ الحياة، إذ لا حياةَ لإنسانٍ تركَ قطعةً من نفسه، ثم أوهمَها أنَّ لديه قدرة للبقاءِ سليمًا من أوضارِ الشوق!
رؤيتكِ ولو للحظةٍ عابرة؛ “كان كافيا بالنسبةِ لي، لأنْ أقطعَ طريقَ الحياة المُفخَّخِ بالرّعب، مُسلَّحًا بسلطةِ الجمال”. لا قدسيةَ للحظةٍ أعظم من لحظةِ لقاءٍ منتَظَر، يأخذُ اللقاء حينها معنىً، بل معانٍ آخرى، إذ يمثلُ في واحدةٍ من أعظمِ تجلياته؛ شكلًا متقدمًا من أشكالِ الحياة!
“يا بدنَ النَّدى،
أيتها النداء المبارك ،
يا مسابقة الجداول مع الفرح ..”
أين أنتِ؟!
كنتُ أراكِ أمامي في كلِّ مكانٍ تقعُ فيه عيني، تذكرتُ وأنا أنظرُ من نافذةِ السَّفر، لأني أيقنتُ بأني أرحلُ عنكِ بعيدًا، كانت النَّافذة علامة الفراق الحتمي.. سألتُ نفسي هل تدركُ ما معنى أن تجلسَ بالقربِ من النَّافذة، حينما تنوي الرحيل، وتترك خلفك بقايا الحنين، وبللَ الدموع التي أغرقت عينَ المحب؟!
لا أدري لماذا أشعرُ أنَّ جلوسي أمامَ النَّافذة؛ يمنحني قوة خفية لمواصلةِ الطريق تارة، أستعيضُ به من وهدةِ الفراق.. ورغبة في البكاء تارة أخرى.. أن تجلسَ إلى النَّافذة يعني أن تراقبَ المدن وهي تزهو، ثم تصغر، وسرعان ما تتلاشى! قربكَ من النَّافذة يخولكَ رؤيةَ ما لا يراه غيرك..!
في نافذةِ الطائرة رأيتُ المدنَ تحتي تتقدُ كالجمر، تسيلُ الأنوار منها إلى البحر، سيل متعرجٍ ومهادن، من بعيدٍ بدا لي البحر لا يشبه بحرَ مدينتنا التي فقدتْ توهجها منذُ اجتياح! ولم يعد بحرها يستقبلُ سيل الأنوار، بل باتَ بقعة ظلام تحيطُ به الأسوار وبقايا الخراب!
في الطريقِ إلى صنعاءَ مثلًا، تمنحكَ النَّافذة فرصةَ مناجاةِ الجبال، التأمل في بنائها، التساؤلُ بدهشة عنِ السَّاكنينَ في شواهقها؟!
عندما أسافر أحبُّ أن أقعد بجانبِ النَّافذة، أشعرُ بالدفء، تصبحُ لي عين ثالثة، صحيح أنها تشحُّ عليَّ بقليلٍ من الهواء.. لكني أرتوي بلا تنفس.. النظرة البعيدة التي تتحصلُ عليها من نافذةِ السفر؛ ملأ بشواهدِ الوجود!
كنتُ أقعدُ أمامَ النَّافذة؛ وأشعر لحظتها بارتياحٍ لذيذ، رغم الإرهاق الذي هدَّ جسدي.. شرعتُ في إتمامِ كتاب.. كانَ معلقًا ينتظرُ الخلاص، أتصفحُ ما استجدَّ في فضاءاتِ التَّواصل، وبينما أمارسُ كل تلكَ الأنشطة بشكلٍ ديناميكي؛ أشارَ أحدهم إلى المقعد الذي أقبعُ فيه.. أشرتُ إلى تذكرتي؛ عله أن يفهمَ أنَّ هذا مقعدي، ولا ينبغي إلا أن يكون لي. لكنه أكدَّ بصرامةٍ أني أجلسُ في المكانِ الخطأ، قمتُ غاضبًا والصمتُ يغلفني، لا حولَ لي ولا نافذة!
في المقعدِ الملتصقِ بمقعدِ النافذة؛ تشعرُ بوحشةِ السَّفر، وعناء المسافرين.. وإذا ما حاولتَ أن تتلصَّصَ على النافذة هروبًا من الكآبةِ المرتميةِ في أحضانِ الجالسينَ بجوارك؛ ينظرُ إليكَ صاحبها نظرةً غير مريحة، كأنكَ تتلصَّصُ عليه، لا على النافذة التي تبقيكَ في دائرةِ الوصل، والحركة، وتفتحُ لك شيئًا من الملهاة لا يعرفها العابرون معكَ في ذاتِ الطريق! للجلوس قبالة النافذة معنىً آخر، تأخذُ شكلًا من أشكالِ التخلصِ من قيود الذَّاكرة، وحرارةِ الفراق، ولواعج الشوق! فعندما زُحزحتُ عن النَّافذة، هجمت إلى قلبي ذكرى أمي، فمضى طريقي والعبرات تثرثر بصوتٍ مخنوق!
بين الرَّحيل والبقاء، تأخذ النَّافذة معنىً من معاني الالتصاقِ بالذات، إذ من خلالها تنظرُ إلى الحياة، فهي أداة تنقلكَ من الوحدةِ التي تعيشها، إلى النَّظر في الفضاء المزدحم، بدهشةِ الكون والإنسان.
نافذةُ غرفتي تعملُ بشكلٍ مخلص، تؤدِّي دورها بانتظام؛ في الصَّباحِ تتحولُ إلى شاشةٍ كبرىٰ، أرىٰ من خلالها الفَضاءَ المنظور، والجمال المنشور. وفي الليل؛ تستحيلُ إلى مِرآة، تحاولُ جاهدةً أن تُقرِّبَ المسافةَ بيني وبينَ نفسي..!
رؤيتكَ لنفسكَ في اللحظاتِ الأخيرة من اليوم، مخيفة؛ لأنَّ المِرآةَ التي أمامكَ تُعْرَضُ عليها وقائعُ اللحظاتِ المزدحمة، أو هكذا تبدو، فتفِر من تذكُّرها حينًا، وتسعىٰ بلهفةٍ لرؤيةِ ما خلفها؛ إمعانًا في الهروب، لكنَّها تأبىٰ عليكَ ذلك. فما ترىٰ فيها إلا نفسك، ملامحك، وتفاصيل صغيرة تطفو تحتَ حدقةِ العينِ ما بينَ فترةٍ وأخرى، وعينيك؛ تلكَ التي تخفي الحزنَ النبيل, تجْبنُ عن النِّظرِ إليها، تخشىٰ على أسراركَ أن تُبعثَر.. ولا صوْنَ لها إلا بالهروبِ، والنَّظر صباحًا خلفَ زجاجِ النَّافذة!
ما بين حينٍ وآخر، أنظر من النافذة، بدا لي أن السَّماء، تحاولُ أن تُمطِر منذ زمن، أمطرتِ اليوم وأنا غائبٌ عن الوجود، يا لحظي العاثر!
اقرأ ايضًا: الحياة “المعاصرة” لا تحتوينا بل تُلاحقنا!